اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قليل. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بل متاع كلّ الدنيا متاع قليل ، ثم يردّون إلى عذاب أليم.

وفي «متاع» وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، و«قليل» خبره.

وفيه نظر ؛ للابتداء بالنّكرة من غير مسوّغ ، فإن ادّعي إضافة نحو : متاعهم قليل ، فهو بعيد جدّا.

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : بقاؤهم ، أو عيشهم ، أو منفعتهم فيما هم عليه.

قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) الآية لما بيّن ما يحلّ وما يحرم لأهل الإسلام ، أتبعه ببيان ما خصّ اليهودية من المحرّمات ، فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وهو المذكور في سورة الأنعام عند قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦].

وقوله : «من قبل» متعلق ب «حرّمنا» أو ب «قصصنا» والمضاف إليه قبل تقديره : من قبل تحريمنا على أهل ملتك.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) فحرّمنا عليهم ببغيهم ، وهو قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) [النساء : ٢٦].

قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) الآية بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره ، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ، ولفظ «السّوء» يتناول كل ما لاينبغي ، وهو الكفر والمعاصي ، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلا ، أما الكفر فلأن أحدا لايرضى به مع العلم بكونه كفرا ؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقّا ، فإنّه لا يختاره ولا يرتضيه ، وأما المعصية ، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشّهوة غالبة للعقل ، فثبت أن كلّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة ، ثم تابوا من بعد ذلك ، أي : من بعد تلك السّيئة.

وقيل : من بعد تلك الجهالة ، ثم إنّهم بعد التوبة عن تلك السّيّئات أصلحوا ، أي : آمنوا وأطاعوا الله.

قوله : (مِنْ بَعْدِها) أي : من بعد عمل السوء والتوبة ، والإصلاح ، وقيل : على الجهالة ، وقيل : على السوء ؛ لأنه في معنى المعصية.

«بجهالة» حال من فاعل «عملوا» ، ثم أعاد قوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) على سبيل

١٨١

التأكيد ، (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة.

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣)

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) الآية.

لما زيّف مذاهب المشركين في مواضع من هذه السورة ، وهي إتيانهم الشّركاء والأنداد لله تعالى ، وطعنهم في نبوّة الأنبياء عليهم‌السلام ، وقولهم : لو أرسل الله إليهم رسولا ، لكان من الملائكة ، وتحليل الأشياء المحرّمة ، وتحريم الأشياء المحللة ، وبالغ في إبطال مذاهبهم ، وكان إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ رئيس الموحّدين ، وهو الذي دعا النّاس إلى التوحيد والشرائع ، وإبطال الشرك ، وكان المشركون يفتخرون به ويعترفون بحسن طريقته ، [ويقرون](١) بوجوب الاقتداء به ، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ، وحكى على طريقته بالتوحيد ؛ ليصير ذلك حاملا لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك.

قوله تعالى : «أمّة» تطلق الأمة على الرّجل الجامع لخصال محمودة ؛ قال ابن هانىء : [السريع]

٣٣٧٢ ـ وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد (٢)

وقيل : «فعلة» تدلّ على المبالغة ، «فعلة» بمعنى المفعول ، كالدّخلة والنّخبة ، فالأمة : هو الذي يؤتم به ؛ قال ـ تعالى ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] قال مجاهد : كان مؤمنا وحده ، والنّاس كلهم كانوا كفّارا (٣) ، فلهذا المعنى كان وحده أمّة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : «يبعثه الله أمّة وحده».

وقيل : إنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو السّبب الذي لأجله جعلت أمّته ممتازين عمّن سواهم بالتّوحيد والدّين الحقّ ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمّاها الله تعالى بالأمة إطلاقا لاسم المسبب على السّبب.

وعن شهر بن حوشب : لم تبق أرض إلّا وفيها أربعة عشر ، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض ، إلّا زمن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنّه كان وحده (٤).

__________________

(١) في ب : ويعترفون.

(٢) البيت لأبي نواس كما ذكر المصنف ينظر : ديوانه ١ / ٣٤٩ وهو بلا نسبة في قطر الندى (١١٤) والأشباه والنظائر للسيوطي في الفقه ص (٤).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٦١).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٦٠).

١٨٢

والأمة تطلق على الجماعة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] وتطلق على أتباع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ؛ كقولك : نحن من أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطلق على الدّين والملّة ؛ كقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٣] وتطلق على الحين والزمان ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] وقوله ـ جل ذكره ـ : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] أي : بعد حين ، وتطلق على القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي : حسن القامة ، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «يبعث زيد بن عمرو بن نفيل يوم القيامة أمّة وحده» (١).

وتطلق على الأم ، يقال : هذه أمة فلان يعني : أمّه ، وتطلق أيضا على كل جنس من أجناس الحيوان ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها» (٢).

وقال ابن عباس : ـ رضي الله عنه ـ : خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البر.

قوله تعالى : (قانِتاً لِلَّهِ) القانت : هو القائم بأمر الله تعالى. وقال ابن عبّاس (٣) : مطيعا لأمر الله تعالى.

قوله تعالى : «حنيفا» : [مائلا](٤) إلى ملّة الإسلام ميلا لا يزول عنه ، وقيل حنيفا : مستقيما على دين الإسلام. وقيل : مخلصا.

قال ابن عباس : إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج (٥) ، وهذه صفة الحنيفيّة.

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : أنّه كان من الموحّدين في الصّغر والكبر ، أما في حال صغره : فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها ، وأما في كبره : فمناظرته لملك زمانه ، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار.

قوله تعالى : «شاكرا» يجوز أن يكون خبرا ثالثا ، أو حالا من أحد الضميرين في «قانتا» و«حنيفا».

__________________

(١) ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (١ / ٢٩٢) وقال : أخرجه النسائي في الكبرى من حديث زيد بن حارثة وأسماء بنت أبي بكر بإسنادين جيدين.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧ والدارمي في السنن ٢ / ٩٠ ، كتاب الصيد : باب في قتل الكلاب ، وأبو داود في السنن ٣ / ٢٦٧ ، كتاب الصيد : باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره الحديث (٢٨٤٥) ، والترمذي في السنن ٤ / ٨٠ ، كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء من أمسك كلبا ما ينقص من أجره الحديث (١٤٨٩) ، وفي ٤ / ٧٨ ، باب ما جاء في قتل الكلاب الحديث (١٤٨٦) والنسائي في المجتبى من السنن ٧ / ١٨٥ كتاب الصيد والذبائح باب الكلاب التي أمر بقتلها وابن ماجه في السنن ٢ / ١٠٦٩ ، كتاب الصيد : باب النهي عن اقتناء الكلب إلّا كلب صيد الحديث (٣٢٠٥).

(٣) ينظر : الرازي ٤٠ / ١٠٨.

(٤) في أ: الخفيف : المائل.

(٥) تقدم.

١٨٣

قوله : «لأنعمه» يجوز تعلقه ب «شاكرا» أو ب «اجتباه» ، و«اجتباه» إما حال وإما خبر آخر ل «كان» و«إلى صراط» يجوز تعلقه ب «اجتباه» وب «هداه» على [قاعدة](١) التنازع.

فإن قيل : لفظ الأنعم جمع قلّة ، ونعم الله على إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كانت كثيرة فلم قال : «شاكرا لأنعمه»؟.

فالجواب : أنه كان شاكرا لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة ، فكيف الكثيرة؟.

ومعنى «اجتباه» : اختاره واصطفاه للنبوة ، والاجتباء : هو أن يأخذ الشيء بالكليّة ، وهو «افتعال» من «جبيت» وأصله جمع الماء في الحوض ، والجابية هي الحوض ، (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى دين الحقّ.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) يعني : الرّسالة والخلّة. وقيل : لسان صدق ، وقال مقاتل بن حيان : هو قول المصلي : اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم.

وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ إن الله حبّبه إلى كل الخلق (٢). وقيل : أولادا أبرارا على الكبر. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : في أعلى مقامات الصّالحين في الجنة (٣).

قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الآية.

لما وصف إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بهذه الصّفات العالية الشريفة ، قال ـ جل ذكره ـ (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ). قال الزمخشري في «ثمّ» هذه : إنها تدلّ على تعظيم منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجلال محله ، والإيذان بأن الشّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامة ، وأجل ما أولي من النّعمة : اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملّته ، من قبل أنّها دلت على تباعد هذا النّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليه بها.

قوله تعالى : (أَنِ اتَّبِعْ) يجوز أن تكون المفسرة ، وأن تكون المصدرية ، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء.

قوله تعالى : «حنيفا» حال ، وتقدم تحقيقه في البقرة [الآية : ١٣٥].

وقال ابن عطية (٤) : قال مكّي : ولا يكون ـ يعني : «حنيفا» ـ حالا من «إبراهيم» عليه‌السلام ؛ لأنه مضاف إليه.

وليس كما قال ؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرّ ، إذا عملت في ذي الحال ؛ كقولك : مررت به قائما.

__________________

(١) في أ: طريقة.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٨٩).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٨).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٣١.

١٨٤

وما ذكره مكّي من امتناع الحال من المضاف إليه ، فليس على إطلاقه ؛ كما تقدم تفصيله في البقرة.

وأما قول ابن عطية (١) ـ رحمه‌الله ـ : إن العامل الخافض ، فليس كذلك ؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض ، وكذلك إذا حذف الخافض ، نصب مخفوضه.

فصل

قال قوم : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على شريعة إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وليس له شرع معيّن ، بل المقصود من بعثته : إحياء [شرع](٢) إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية ، وهذا ضعيف ؛ لأنه ـ تعالى ـ وصف إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين ، فلما قال (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، كان المراد ذلك.

فإن قيل : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد ؛ بناء على الدّلائل القطعية ، وإذا كان كذلك ، لم يكن متابعا له ، فيمتنع حمل قوله : (أَنِ اتَّبِعْ) على هذا المعنى ؛ فوجب حمله على الشّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.

فالجواب : أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيّة الدّعوة إلى التوحيد ؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق ، والسهولة ، وإيراد الدلائل مرّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.

قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ؛ لما يؤدّي إلى الثواب ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وقد أمر بالاقتداء بهم ؛ فقال ـ تعالى ـ : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] ، وقال ـ تعالى ـ هنا : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).

قوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) الآية.

لما أمر محمّدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بمتابعة إبراهيم ـ عليه الصلاة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٣١.

(٢) في ب : ملة.

١٨٥

والسلام ـ وكان محمّد اختار يوم الجمعة ، وهذه المتابعة إنّما تحصل إذا قلنا : إن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة ، وعند هذا القائل أن يقول : فلم اختار اليهود يوم السبت؟.

فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بقوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وفي الآية قولان :

الأول : روى الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «أمرهم موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالجمعة ، وقال : تفرّغوا لله في كل سبعة أيام يوما واحدا ، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق ، وهو يوم السبت ، فجعل الله ـ تعالى ـ السبت لهم ، وشدّد عليهم فيه ، ثمّ جاءهم عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أيضا بالجمعة ، فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، واتخذوا الأحد» (١).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنّ الله كتب يوم الجمعة على من قبلنا ، فاختلفوا فيه وهدانا الله إليه ، فهم لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنّصارى بعد غد» (٢).

واعلم أن أهل الملل اتّفقوا على أنه ـ تعالى ـ خلق العالم في ستّة أيام ، وبدأ ـ تعالى ـ بالخلق والتكوين في يوم الأحد ، وتمّ في يوم الجمعة ، وكان يوم السبت يوم الفراغ ، فقالت اليهود : نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال ، فعيّنوا يوم السبت لهذا المعنى ، وقالت النصارى : مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد ، فنجعل هذا اليوم عيدا لنا.

وأما وجه جعل يوم الجمعة عيدا ؛ فلأنه يوم كمال الخلق وتمامه ، وحصول التّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسّرور العظيم ، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى.

والقول الثاني : اختلافهم في السبت هو أنهم أحلّوا الصيد فيه تارة وحرّموه [تارة](٣).

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما جُعِلَ) العامة على بنائه للمفعول ، وأبو حيوة (٤) على بنائه للفاعل ، و«السّبت» مفعول به.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، أي : يحكم للمحقّين بالثواب ، وللمبطلين بالعقاب.

قوله ـ تعالى ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) الآية لما أمر محمدا

__________________

(١) ذكره البغوي (٣ / ٩٠) والرازي (٢٠ / ١١٠).

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٤١٢ ، كتاب الجمعة : باب فرض الجمعة (٨٧٦) ، ومسلم ٢ / ٥٨٥ كتاب الجمعة : باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (١٩ ـ ٨٨٥).

(٣) في أ: فيه أخرى.

(٤) ينظر : الشواذ ٧٤ ، والإتحاف ٢ / ١٩١ ، والبحر ٥ / ٥٣٠ والدر المصون ٤ / ٣٦٦.

١٨٦

ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ باتّباع إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه ؛ فقال ـ عزوجل ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ).

يجوز أن يكون مفعول «ادع» مرادا ، أي : ادع النّاس ، وألّا يكون مرادا ، أي : افعل ، و«بالحكمة» حال ، أي : ملتبسا بها.

واعلم أنه ـ تعالى ـ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو النّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة ، وهي : (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، والمجادلة بالطريق الأحسن ، وذكر ـ تعالى ـ هذا الجدل في آية أخرى ، فقال ـ تعالى ـ : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولمّا ذكر الله ـ تعالى ـ هذه الطرق الثلاثة ، وعطف ـ تعالى ـ بعضها على بعض وجب أن تكون طرقا متغايرة.

واعلم أن الدّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيّة على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر تلك الحجة : إما تقرير ذلك المذهب ، وذلك على قسمين : لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرّأة عن احتمال النقيض ، أو لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر ، والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة :

أولها : الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة ، وذلك هو المسمّى بالحكمة.

وثانيها : الأمارات الظنية ، والدلائل الإقناعية ، وهي الموعظة الحسنة.

وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود منها : إلزام الخصوم وإقحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين :

أحدهما : أن يكون دليلا مركبا من مقدّمات مسلمة عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم ، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن.

والقسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركبا من مقدمات فاسدة باطلة ، إلّا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين ، بالسّفاهة والشّغب ، والحيل الباطلة ، والطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل [الفضل](١) ، إنما اللائق بهم القسم الأول ، وهو المراد بقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

فصل

قال المفسرون : قوله : «بالحكمة» أي : بالقرآن ، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) يعني : مواعظ القرآن. وقيل (الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) هو الدعاء إلى الله ـ تعالى ـ بالتّرغيب والتّرهيب ، وقيل : بالقول اللّين من غير غلظ ولا تعنيف.

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ناظرهم بالخصومة ، «التي (هِيَ أَحْسَنُ) أي : أعرض عن

__________________

(١) في أ: العقل.

١٨٧

أذاهم ، أي : ولا تقصّر في تبليغ الرسالة ، والدعاء إلى الحقّ ، والآية نسختها آية القتال.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، أي : إنّك يا محمد مكلّف بالدعوة إلى الله ، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو أعلم بالضّالين وأعلم بالمهتدين.

قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا) العامة على «المفاعلة» وهي بمعنى : «فعل» ؛ كسافر ، وابن سيرين (١) : «عقّبتم» بالتشديد بمعنى : قفّيتم [بالانتصار فقفّوا](٢) بمثل ما فعل بكم.

وقيل : تتبّعتم ، والباء معدّية ، وفي قراءة ابن سيرين إمّا للسببية وإما مزيدة.

فصل

قال الواحدي رحمه‌الله : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول ابن عبّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي ـ رضي الله عنهم ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا رأى حمزة وقد مثّلوا به ، قال : «والله لأمثّلنّ بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بخواتيم سورة النحل ، فكفّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمسك عما أراد (٣) ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكيّة إلا هذه الثلاث آيات.

والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسّيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [البقرة : ١٩٠] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلمّا أعزّ الله الإسلام وأهله ، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عبّاس والضحاك.

والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين.

وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصّة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أمر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحقّ بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمّن أمرهم

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ١٣ والبحر ٥ / ٥٣١ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٧.

(٢) زيادة من : ب.

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٥٣١) والترمذي (٣١٢٨) وابن حبان (١٦٩٦ ـ موارد) والحاكم (٢ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩) والبيهقي في «الدلائل» (٣ / ٢٨٩) من حديث أبي بن كعب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

١٨٨

بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدّاعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانيا ، وبالشّتم ثالثا ، ثم إنّ ذلك الدّاعي المحقّ إذا تسمّع تك السّفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ؛ تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.

فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ترك العزم على المثلة ، وكفّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟.

قلنا : لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ.

فصل

في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص ، فمن قتل بحديد قتل بمثلها ، ومن قتل بحجر ، قتل بمثله ، ولا يتعدى قدر الواجب ، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله ، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟.

فقال ابن سيرين ، والنخعي ، وسفيان ، ومجاهد : له ذلك لعموم هذه الآية.

وقال مالك وجماعة : لا يجوز ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (١). رواه الدارقطني.

وقال القرطبي (٢) : «ووقع في مسند ابن إسحاق : أنّ هذا الحديث إنّما ورد في رجل زنا بامرأة آخر ، ثم تمكّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر ، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأمر ، فقال له : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» وعلى هذا يقوى قول مالك ـ رضي الله عنه ـ في المال ؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك».

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣٥٣٤) والترمذي (١٢٦٤) وأحمد (٣ / ٤١٤) والدار قطني (٣ / ٣٥) والحاكم (٢ / ٤٦) وابن الجوزي في «العلل» (٢ / ١٠٢) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وأخرجه الدار قطني (٣ / ٣٥) والحاكم (٢ / ٤٦) والطبراني في «الكبير» (٧٦٠) وابن الجوزي في «العلل» (٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣) من حديث أنس بن مالك.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٣٢.

١٨٩

فصل

اعلم أنه ـ تعالى ـ أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتّب ذلك على أربع مراتب:

الأولى : قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) يعني : إن رغبتم في استيفاء القصاص ، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه ؛ فإن استيفاء الزّيادة ظلم ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته ، وفي قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) دليل على أن الأولى ألا يفعل ؛ كما يقول الطبيب للمريض : إن كنت تأكل الفاكهة ، فكل التفاح ، فإن معناه : الأولى بك ألّا تأكله ، فذكر ـ تعالى ـ بطريق الرّمز والتعريض [على] أن الأولى تركه.

والمرتبة الثانية : الانتقال من التعريض إلى التّصريح ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام ؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة ، والانتفاع أفضل من الإيلام.

المرتبة الثالثة : وهو الأمر بالجزم بالتّرك ، وهو قوله : «واصبر» ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التّرك خير وأولى ، وفي هذه المرتبة الثالثة صرّح بالأمر بالصّبر في هذا المقام ، ولمّا كان الصبر في هذا المقام شديدا شاقّا ، ذكر بعده ما يفيد سهولته ؛ فقال ـ تعالى ـ : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه ومعونته ، وهذا هو السبب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات.

ولما ذكر هذا السبب الكليّ الأصلي ، ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب ؛ فقال ـ جل ذكره ـ : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ؛ وذلك لأنّ إقدام الإنسان على الانتقام ، وعلى [إنزال](١) الضرر بالغير لايكون إلا من هيجان الغضب ، وشدّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين :

أحدهما : فوات نفع كان حاصلا في الماضي ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) قيل : معناه : ولا تحزن على قتلى «أحد» ، أي : ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل : ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك ، ويرجع حاصله إلى فوات النفع.

والسبب الثاني : أن شدّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل ، وإليه الإشارة بقوله : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ، ومن وقف على هذه اللّطائف ، عرف أنّه لا يمكن كلام [أدخل] في الحسن والضبط من هذا الكلام.

قوله : «للصّابرين» يجوز أن يكون عامّا ، أي : الصبر خير لجنس الصّابرين ، وأن

__________________

(١) في ب : ترك.

١٩٠

يكون من وقوع الظّاهر موقع المضمر ، أي : صبركم خير لكم.

قوله : (إِلَّا بِاللهِ) أي : بمعونته ، فهي للاستعانة.

قوله : (فِي ضَيْقٍ) قرأ ابن كثير (١) هنا وفي النّمل : بكسر الضاد ، والباقون : بالفتح ، فقيل : هما لغتان بمعنى في هذا المصدر ؛ كالقول والقيل.

وقيل : المفتوح مخفّف من «ضيق» ؛ ك «ميت» في «ميّت» ، أي : في أمر ضيّق ، فهو مثل هين في هيّن ، و«لين» في «ليّن» ، قاله ابن قتيبة.

وردّه الفارسي (٢) : بأن الصفة غير خاصة بالموصوف ، فلا يجوز ادّعاء الحذف ولذلك جاز: مررت بكاتب ، وامتنع بآكل.

وأما وجه القراءة بالفتح ، قال أبو عبيدة الضّيق بالكسر في قلّة المعاش والمساكن ، وما كان في القلب ، فإنه الضّيق.

وقال أبو عمرو : «الضّيق بالكسر : الشدّة ، والضّيق بالفتح : الغمّ».

قوله تعالى : (مِمَّا يَمْكُرُونَ) متعلق ب «ضيق» و«ما» مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف.

فصل

هذا من الكلام المقلوب ؛ لأن الضّيق صفة ، والصفة تكون حاصلة في الموصوف ، ولا يكون الموصوف حاصلا في الصفة ، فيكون المعنى : فلا يكن الضيق فيك ؛ لأن الفائدة في قوله : (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) هو أنّ الضّيق إذا عظم وقوي ، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب ، وصار كالقميص المحيط به ، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى.

المرتبة الرابعة : قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) المناهي ، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذا يجري مجرى التهديد ؛ لأنه في المرتبة الأولى : رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز ، وفي الثانية : عدل عن الرمز إلى التصريح ، وهو قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ، وفي المرتبة الثالثة : أمر بالصبر على سبيل الجزم ، وفي هذه المرتبة الرابعة : كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام ، فقال : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) عن استيفاء الزيادة ، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) : في ترك أصل الانتقام ؛ فكأنه قال : إن أردت أن أكون

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧٦ ، والحجة ٣٩٥ ، والنشر ٢ / ٣٠٥ ، والإتحاف ٢ / ١٩١ ، والقرطبي ١٠ / ١٣٣ ، والبحر ٥ / ٥٣١ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٧.

ونسبت هذه القراءة إلى نافع ، ولا يصح هذا.

(٢) ينظر : الحجة ٥ / ٨٠.

١٩١

معك ، فكن من المتّقين ومن المحسنين ، وهذه المعيّة بالرحمة والفضل والتربية.

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ اتَّقَوْا) إشارة إلى التعظيم لأمر الله ، وقوله ـ جل ذكره ـ (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، وذلك يدلّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ـ تعالى ـ.

قيل لهرم بن حيّان عند قرب وفاته : أوص ، فقال : إنما الوصيّة في المال ولا مال لي ، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل ، قال بعضهم : إن قوله ـ جل ذكره ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) منسوخ بآية السّيف ، وهذا في غاية البعد ؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيّة الدّعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وترك التّعدي وطلب الزيادة ، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده.

روى أبو أمامة ، عن أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة النّحل ، لم يحاسبه الله ـ تعالى ـ بالنّعيم الذي أنعم عليه في دار الدّنيا ، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصيّة» (١).

__________________

(١) ذكره الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (٢ / ٢٥١) وعزاه للثعلبي عن أبي أمامة عن أبي بن كعب ولابن مردويه والواحدي في الوسيط.

وهو حديث موضوع.

١٩٢

سورة الإسراء

روي عن ابن عباس أنها مكيّة غير قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) [آية : ٧٦] إلى قوله : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) [آية : ٨٠] فإنها مدنيات حين جاء وفد ثقيف (١).

وهي مائة وإحدى عشرة آية ، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، وعدد حروفها ستّة آلاف وأربعمائة وستّون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(١)

قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)(٢) الآية.

قال النحويّون : «سبحان» اسم علم للتّسبيح يقال : سبحت تسبيحا فالتسبيح هو المصدر ، وسبحان اسم علم للتسبيح ؛ كقوله : «كفّرت اليمين تكفيرا وكفرانا» ، وتقدّم الكلام عليه في أول البقرة ، ومعناه تنزيه الله عن كلّ سوء.

والنصب على المصدر ، كأنه وضع موضع «سبّحت الله تسبيحا» وهو مفرد ، إذا أفرد ، وفي آخره زائدتان : الألف والنون ، فامتنع من الصرف ؛ للتقدير والزيادتين.

وعن سيبويه أنّ من العرب من ينكّره ؛ فيقول : «سبحانا» بالتنزيه.

وقال أبو عبيد : لا ينتصب على النّداء ، فكأنه قال : «يا سبحان الله ، يا سبحان الّذي أسرى بعبده».

قال القرطبي (٣) : سبحان ، اسم موضوع موضع المصدر ، وهو غير متمكن ؛ لأنّه لا يجري بوجوه الإعراب ، ولا يدخل فيه الألف واللام ، ولم يجرمنه فعل ، ولم ينصرف ؛ لأنّ في آخره زائدتين ، ومعناه التنزيه ، والبراءة لله ، فهو ذكر ؛ فلا يصلح لغيره ، فأمّا قول من قال : [السريع]

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٦) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٥٧) عن ابن عباس مختصرا وعزاه إلى النحاس وابن مردويه.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٣٤.

١٩٣

٣٣٧٣ ـ أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر (١)

فإنما ذكره على طريق النّادر.

روى طلحة بن عبيد الله أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما معنى سبحان لله» فقال : «تنزيه الله عن كلّ سوء» (٢).

وقال صاحب النظم (٣) : «السّبح في اللغة التباعد ؛ قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل : ٧] أي : تباعدا طويلا فمعنى «سبح» : تنزيهه عمّا لاينبغي».

وللتّسبيح معان أخر ؛ قد يكون بمعنى الصلاة ؛ كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) [الصافات : ١٤٣] أي المصلّين والسبحة : صلاة النافلة ، وإنما قيل للمصلّي : «مسبّح» ؛ لأنه معظم لله بالصلاة ، ومنزّه له عمّا لا ينبغي.

وقد يرد التسبيح (٤) بمعنى الاستثناء ؛ كقوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨] أي تستثنون.

وتأويله أيضا يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته ، وجاء في الحديث : «لأحرقت سبحات وجهه» (٥) قيل : معناه : وجهه وقيل : معناه : نور وجهه الذي إذا رآه الرّائي ، قال : (سُبْحانَ اللهِ). ويكون (سُبْحانَ اللهِ) بمعنى التعجّب.

وقوله : «أسرى» و«سرى» لغتان ، وتقدّم الكلام عليهما في سورة هود [آية : ٨١] ، وأن بعضهم خصّ «أسرى» باللّيل.

قال الزمخشريّ هنا : فإن قلت : الإسراء لا يكون إلّا ليلا ؛ فما معنى ذكر الليل؟.

قلت : أراد بقوله «ليلا» بلفظ التنكير ، تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسري به في بعض

__________________

(١) البيت للأعشى ، وقد تقدم ، وهو في ديوانه ص ١٩٣ ، وأساس البلاغة ص ٢٠ (سبح) ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠٩ ، وجمهرة اللغة ص ٢٧٨ ، وخزانة الأدب ١ / ١٨٥ ، ٧ / ٢٣٤ ، ٢٣٥ ، ٢٣٨ ، والخصائص ٢ / ٤٣٥ ، والدرر ٣ / ٧٠ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٥٧ وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٠٥ ، وشرح المفصل ١ / ٣٧ ، ١٢٠ ، والكتاب ١ / ٣٢٤ ، واللسان (سبح) والخصائص ٢ / ١٩٧ ، ٣ / ٢٩ ، ومجالس ثعلب ١ / ٢٦١ ، والمقتضب ٣ / ٢١٨ ، والمقرب ١ / ١٤٩ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٠ ، ٢ / ٥٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٣) عن موسى بن طلحة مرفوعا.

وأخرجه البزار (٣٠٨٢ ـ كشف) عن طلحة بن عبيد الله وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٩٧ ـ ٩٨) وقال رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي وهو ضعيف بسبب هذا وغيره.

وحديث طلحة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٠) وعزاه إلى الطبري والديلمي والخطيب في «الكفاية» من طرق عنه مرفوعا.

وله شاهد عن ابن عباس موقوفا :

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١١٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم والمحاملي في «أماليه».

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١١٦.

(٤) في أ: يكون.

(٥) تقدم.

١٩٤

الليل ، من «مكّة» إلى «الشام» مسيرة أربعين ليلة ؛ وذلك أنّ التنكير دلّ على البعضيّة ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من اللّيل» ، أي : بعضه ؛ كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) [الإسراء : ٧٩]. انتهى.

فيكون «سرى» و«أسرى» ك «سقى» و«أسقى» والهمزة ليست للتعدية ؛ وإنما المعدّى الباء في «بعبده» ، وقد تقدّم أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور ، في البقرة ، خلافا للمبرّد.

وزعم ابن عطية أنّ مفعول «أسرى» محذوف ، وأن التعدية بالهمزة ؛ فقال : «ويظهر أنّ» «أسرى» معدّاة بالهمزة إلى مفعول محذوف ، أي : أسرى الملائكة بعبده ؛ لأنه يقلق أن يسند «أسرى» وهو بمعنى «سرى» إلى الله تعالى ؛ إذ هو فعل يقتضي النّقلة ؛ ك «مشى ، وجرى ، وأحضر ، وانتقل» فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع وجود مندوحة عنه ، فإذا وقع في الشريعة شيء من ذلك ، تأوّلناه ؛ نحو : أتيته هرولة».

وهذا كلّه إنما بناه ؛ اعتقادا على أن التعدية بالباء تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك ، وتقدّم الردّ على هذا المذهب في أوّل البقرة في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [آية : ٢٠].

ثم جوّز أن يكون «أسرى» بمعنى «سرى» على حذف مضاف ؛ كقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] يعني : فيكون التقدير : الذي أسرى ملائكته بعبده ، والحامل له على ذلك ما تقدّم من اعتقاد المصاحبة. والعبد هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : «ليلا» منصوب على الظرف ، وقد تقدم فائدة تنكيره. و (مِنَ الْمَسْجِدِ) «من» لابتداء الغاية.

فصل في وقت الإسراء

قال مقاتل : «كان قبل الهجرة بستّة عشر شهرا» (١) ، ونقل الزمخشري عن أنس والحسين: كان قبل البعثة ، واختلفوا في المكان الذي أسري به منه ، فقيل : هو المسجد الحرام بعينه ؛ لظاهر القرآن ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «بينا أنا في المسجد الحرام عند البيت بين النّائم واليقظان ، إذ أتاني جبريل عليه‌السلام بالبراق» (٢).

وقيل : أسري به من دار (٣) أمّ هانىء بنت أبي طالب (٤) ، وعلى هذا ، فالمراد بالمسجد الحرام الحرم.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٩٢) ولكن قال : بسنة.

(٢) أخرجه البخاري في «صحيحه» (٣٨٨٧).

(٣) في أ: بيت.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤) عن أم هانىء.

وأخرجه الطبري وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٤ / ٢٧٤) عنها بلفظ آخر.

١٩٥

قال ابن عبّاس : «الحرم كلّه مسجد» (١) ، وهذا قول الأكثرين. وقوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى).

اتفقوا على أنه بيت المقدس ، وسمي بالأقصى ؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام.

وقوله : (بارَكْنا حَوْلَهُ).

قيل : بالأزهار والثمار.

وقيل : لأنه مقرّ الأنبياء ، ومهبط الملائكة.

واعلم أنّ كلمة : «إلى» لانتهاء الغاية ، فمدلول قوله : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أنه وصل إلى ذلك ، فأما أنه دخل المسجد أم لا ، فليس في اللفظ دلالة عليه ، إلّا أنه ورد الحديث أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيه.

قوله : «حوله» فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب على الظّرف ، وقد تقدّم في تحقيق القول فيه أوّل البقرة. والثاني : أنه مفعول. قال أبو البقاء (٢) : «أي : طيّبنا ونمّينا».

يعني ضمّنه معنى ما يتعدّى بنفسه ، وفيه نظر ؛ لأنه لا يتصرّف.

قوله : «لنريه» قرأ العامة بنون العظمة ؛ جريا على «باركنا» وفيهما التفات من الغيبة في قوله (الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) إلى التكلّم في «باركنا» و«لنريه» ، ثم التفت إلى الغيبة في قوله : «إنه هو» إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى ، وهو الصحيح ، ففي الكلام التفاتان.

وقرأ الحسن (٣) «ليريه» بالياء من تحت ، أي : الله تعالى ، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعة التفاتات : وذلك أنّه التفت أوّلا من الغيبة في قوله (الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) إلى التكلّم في قوله «باركنا» ثم التفت ثانيا من التكلّم في «باركنا» إلى الغيبة في «ليريه» على هذه القراءة ، ثم التفت ثالثا من هذه الغيبة إلى التكلم في «آياتنا» ، ثم التفت رابعا من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله (إِنَّهُ هُوَ) على الصحيح في الضمير ؛ أنه لله ، وأمّا على قول نقله أبو البقاء (٤) أنّ الضمير في (إِنَّهُ هُوَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجيء ذلك ، ويكون في قراءة العامة التفات واحد ، وفي قراءة الحسن ثلاثة. وأكثر ما ورد الالتفات فيه ثلاث مرات على ما قاله الزمخشريّ في قول امرىء القيس : [المتقارب]

٣٣٧٤ ـ تطاول ليلك بالأثمد

 ..........(٥)

الأبيات. وتقدّم النزاع معه في ذلك ، وبعض ما يجاب به عنه أوّل الفاتحة.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٧) وقد تقدم تخريجه.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٧.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٩٢ ، والكشاف ٢ / ٦٤٨ ، والبحر ٦ / ٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٩.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٧.

(٥) تقدم.

١٩٦

ولو ادّعى مدّع أنّ هاهنا خمسة التفاتات لاحتيج في دفعه إلى دليل واضح ، والخامس : الالتفات من (إِنَّهُ هُوَ) إلى التكلّم في قوله (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية.

والرؤية هنا بصرية. وقيل : قلبية ، وإليه نحا ابن عطيّة ، فإنه قال : «ويحتمل أن يريد : لنري محمدا للنّاس آية ، أي : يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنيع» فتكون الرؤية قلبية على هذا.

فصل في معنى «لنريه»

معنى الرّؤية هو ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات الدالّة على قدرة الله تعالى.

فإن قيل : قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) يدلّ على أنّه تعالى ما أراه إلّا بعض الآيات ؛ لأن كلمة «من» للتبعيض وقال في حقّ إبراهيم : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أفضل من معراج محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا (١) : فالجواب أن الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض ، والذي رآه محمد بعض آيات الله ، ولا شكّ أن آيات الله أفضل.

ثم قال : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي : السميع لأقوال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : المجيب لدعائه البصير : أي : لأفعاله العالم بكونها خالصة عن شوائب الرياء ، مقرونة بالصّدق والصّفاء.

فصل في كيفية الإسراء

اختلفوا في كيفيّة ذلك الإسراء ، فالأكثرون على أنه أسري بجسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي عن عائشة وحذيفة : أن ذلك كان رؤيا ، قالا : ما فقد جسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنّ الله أسرى بروحه (٢). فالكلام في هذا الباب في مقامين (٣) :

الأول : في إثبات الجواز العقليّ.

والثاني : في الوقوع.

فالمقام الأول ؛ وهو الجواز العقليّ : فنقول : الحركة الواقعة في السّرعة إلى هذا الحدّ ممكنة في نفسها ، والله ـ تعالى ـ قادر على جميع الممكنات ، والدليل على أنّ هذه الحركة السّريعة ممكنة غير ممتنعة تفتقر إلى مقدّمتين :

الأولى : أنّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدّ يدلّ عليها وجوه :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١١٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٦) وذكره ابن إسحق في «السيرة» (٢ / ٣٠٤).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١١٨.

١٩٧

الأول : أنّ الفلك الأعظم يتحرّك من أوّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدّور ، وثبت في الهندسة أنّ نسبة القطر إلى الدّور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبعة فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبعة فبتقدير أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتفع من مكّة إلى ما فوق الفلك الأعظم ، فهو لم يتحرّك إلا مقدار نصف القطر ، فلمّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدّور ، كان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان ، فهذا برهان قاطع على أنّ الارتفاع من مكّة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث اللّيل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك ، كان حصوله في كلّ اللّيل أولى بالإمكان.

الثاني : ثبت في الهندسة أنّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرّة ، وكذا وكذا وكذا ، ثم إنا نشاهد أنّ طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، فدلّ على أنّ بلوغ الحركة في السّرعة إلى هذا الحدّ أمر ممكن في نفسه.

الثالث : أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف عن مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللّطيف الرّوحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اللّيلة الواحدة ممتنعا في العقول ، فإن القول بنزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ من العرش إلى مكّة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع ، كان ذلك طعنا في نبوّة جميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ؛ فيلزم القائل (١) بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحدّ ، القول بامتناع جبريل ـ عليه‌السلام ـ من الانتقال في اللّحظة من العرش إلى مكّة ، ولمّا كان ذلك باطلا ، كان ما ذكروا أيضا باطلا.

فإن قالوا : نحن لا نقول : إنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، وإنما نقول : المراد من نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ هو زوال الحجب الجسمانيّة عن جسم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجلّيا في ذات جبريل ـ عليه‌السلام ـ.

قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، أمّا جمهور المسلمين فيقولون : إنّ جبريل ـ عليه‌السلام ـ جسم ، وأنّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [إلى مكّة] ، وإذا كان كذلك ، كان الإلزام المذكور قويّا.

روي أنه ـ عليه‌السلام ـ لما ذكر قصّة المعراج كذّبه الكلّ ، وذهبوا إلى أبي بكر ، وقالوا له : «إنّ صاحبك يقول كذا وكذا» ، فقال أبو بكر : «إن كان قد قال ذلك ، فهو صادق» ، ثم أتى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، وكلّما ذكر شيئا ، قال أبو

__________________

(١) في ب : القائلين.

١٩٨

بكر ـ رضي الله عنه ـ : «صدقت» ، فلمّا تمّ الكلام ، قال أبو بكر : «أشهد أنّك رسول الله حقّا» ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأشهد أنّك صدّيق حقّا» (١).

وحاصل الكلام أنّ أبا بكر كأنه قال : لمّا سلمت رسالته فقد صدّقته فيما هو أعظم من هذا ، فكيف أكذّبه في هذا؟!.

الرابع : أكثر أرباب الملل والنّحل يسلّمون (٢) وجود إبليس ، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم ، فلما جوّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقّ إبليس ويسلّمون ، فلأن يسلّموا جوازها في حقّ أكابر الأنبياء أولى ، وهذا الإلزام (٣) قوي على من يسلّم أنّ إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان.

وأمّا من يقول : «إنه من الأرواح الخبيثة الشّرّيرة ، وأنّه ليس بجسم ، ولا جسمانيّ ، فلا يرد عليهم هذا الإلزام إلا أن أكثر أرباب الملل والنّحل يوافقون على أنه جسم لطيف ينتقل.

فإن قالوا : إنّ الملائكة والشياطين يصحّ في حقّهم مثل هذه الحركة السّريعة (٤) ، إلّا أنهم أجسام لطيفة ، فلا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أمّا الإنسان فإنّه جسم كثيف ، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال (٥) الملائكة والشّياطين على أن حصول حركة منتهية في السّرعة إلى هذا الحدّ ممكن في نفس الأمر.

فأمّا بيان أنّ هذه الحركة ، لمّا كانت ممكنة الوجود في نفسها ، كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيّ ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى.

الخامس : أنه جاء في القرآن أنّ الرياح كانت تسير بسليمان ـ صلوات الله عليه ـ إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة ؛ قال تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] بل نقول : الحسّ يدل على أنّ الرياح تنتقل عند شدّة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللّحظة الواحدة ، وذلك أيضا يدلّ على أنّ مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة.

السادس : أن القرآن يدلّ على أنّ الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشّام في مقدار لمح البصر ، قال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل : ٤٠].

وإذا كان ذلك ممكنا في حقّ بعض النّاس ، علمنا أنه في نفسه ممكن.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١١٩).

(٢) في ب : يجوزون.

(٣) في أ: الإكرام.

(٤) في أ: الشريفة.

(٥) في أ: بأقوال.

١٩٩

السابع : أن من الناس من يقول : إنّ الحيوان إنما يبصر المرئيّات لأجل أن الشّعاع يخرج من عينيه ويتّصل بالمرئيّات ، فإذا فتحنا العين ، ونظرنا إلى شخص ، رأيناه ، فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللّطيفة ، وذلك يدلّ عن أنّ الحركة الواقعة على هذا الحدّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدّ أمر ممكن الوجود في نفسه.

المقدمة الثانية : في بيان أنّ هذه الحركة ، لمّا كانت ممكنة الوجود في نفسها ، وجب ألّا يمتنع حصولها في جسم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّه ثبت بالدّلائل القطعيّة أنّ الأجسام متماثلة في تمام ماهيّتها ، فلما صحّ حصول مثل هذه الحركة في حقّ بعض الأجسام ، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأنّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه.

وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدّليل أنّ خالق العالم قادر على كلّ الممكنات ، وثبت أنّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدّ في جسد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممكن ؛ فوجب كونه تعالى قادرا عليه ، فلزم من مجموع هذه المقامات : أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه ، أقصى ما في الباب أنّه يبقى التعجّب ، إلّا أن التعجّب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات ، فانقلاب العصا ثعبانا يبلع سبعين ألف حبل من الحبال والعصيّ ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة ، كما كانت أمر عجيب ، وخروج الناقة من الجبل الأصمّ أمر عجيب ، وإظلال الجبل في الهواء أمر عجيب ، وكذا سائر المعجزات ، فإن كان مجرّد التعجب يوجب الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم‌السلام ، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة ، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال ، فكذا هنا.

فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح

قال المحقّقون : إنه تعالى أسرى بروح محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجسده من مكّة إلى المسجد الأقصى ؛ ويدلّ عليه القرآن والخبر : أما القرآن ، فهذه الآية ؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرّوح ، قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ـ ١٠] وقال تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) [الجن : ١٩].

وأما الخبر ، فما روى أنس بن مالك : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكّة ، فنزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ ففرج صدري ، ثمّ غسله بماء زمزم ، ثمّ جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا ، ففرّغه في صدري ، ثمّ أطبقه» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٥٤٧ ـ ٥٤٨) كتاب الصلاة : باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء حديث (٣٤٩)

٢٠٠