اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقال ابن عطيّة (١) : تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في «موعدهم» ، والعامل فيه معنى الإضافة ، قاله أبو البقاء».

وفي مجيء الحال من المضاف إليه ، خلاف ، ولا يعمل فيها الموعد ، إن أريد به المكان ، فإن أريد به المصدر ، جاز أن يعمل ؛ لأنه مصدر ، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ، أي : مكان موعدهم.

قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة ، وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا ، ولا يجوز أن تكون حالا من «جهنّم» ؛ لأن «إنّ» لا تعمل في الحال ، قاله أبو البقاء. وقياس ما ذكروه في «ليت ، وكأنّ ، ولعلّ» من أخواتها من إعمالها في الحال ؛ لأنّها بمعنى : تمنيّت وشبهت ، وترجيت أن تعمل فيها «إنّ» أيضا ؛ لأنّها بمعنى أكدت ، ولذلك عملت عمل الفعل ، وهي أصل الباب.

فصل

قال عليّ ـ كرم الله وجهه ـ : هل تدرون كيف أبواب النّار؟ ووضع إحدى يديه على الأخرى ، أي : سبعة أبواب ، بعضها فوق بعض ، وإنّ الله ـ تعالى ـ وضع الجنان على العرض ، ووضع النّيران بعضها على بعض.

قال ابن جريج : النار سبع دركات : أولها جهنّم ، ثمّ لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية.

قال الضحاك : الطبقة الأولى : فيها أهل التوحيد ، يعذّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها ، والثانية : لليهود والثالثة : للنّصارى ، والرابعة : للصابئين (٢) ، وروي أن الثانية : للنصارى ، والثالثة : لليهود ، والرابعة : للصابئين ، والخامسة : للمجوس ، والسادسة : للمشركين ، والسابعة : للمنافقين ؛ قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

قوله : «منهم» يجوز أن يكون حالا من «جزء» ؛ لأنّه في الأصل صفة له ، فلما قدمت ، انتصبت حالا ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر في الجارّ ، وهو : «لكلّ باب» ، والعامل في هذه الحال ، ما عمل في هذا الجارّ ، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في : «مقسوم» ؛ لأنّ الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ، ولا يجوز أن تكون صفة ل «باب» ؛ لأنّ الباب ليس من النّاس.

وقرأ أبو جعفر : «جزّ» بتشديد الزّاي من غير همز ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزّاي ، ووقف عليها فشدّدها ؛ كقولك : «خبّ» في «خبء خالد» ثم أجري الوصل مجرى الوقف.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٦٣.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥١) والرازي (١٩ / ١٥١).

٤٦١

والجزء : بعض الشيء ، والجمع : أجزاء ، وجزّأته : جعلته أجزاء. والمعنى : أنه ـ تعالى ـ يجزّىء أتباع إبليس أجزاء ، أي : يجعلهم أقساما ، ويدخل في كل باب من أبواب جهنّم طائفة ؛ والسبب في ذلك : أنّ مراتب الكفر مختلفة بالغلظة والخفة.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(٤٨)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الآيات ، لمّا شرح أحوال أهل العقاب ، أتبعه بصفة أهل الثّواب.

وروي أنّ سلمان الفارسيّ ـ رضي الله عنه ـ لما سمع قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) مرّ ثلاثة أيّام من الخوف لا يعقل ، فجيء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله ، فقال : يا رسول الله ، نزلت هذه الآية : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) : فو الذي بعثك بالحق نبيّا ، لقد قطعت قلبي ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : [أراد](١) بالمتقين : الذين اتقوا الشّرك بالله تعالى ، والكفر به ، وبه قال جمهور الصحابة ، والتّابعين (٢).

وهو الصحيح ؛ لأنّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة ، كما أن الضّارب هو الآتي بالضرب ، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة ، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضاربا ، وقاتلا ، أن يكون آتيا بجميع أنواع الضرب والقتل ، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متّقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى ؛ لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى ، يكون آتيا بالتقوى ؛ لأنّ كل فرد من أفراد الماهية ، يجب كونه مشتملا على تلك الماهيّة ، وبهذا التحقيق استدلّوا على أنّ الأمر لا يفيد التّكرار.

وإذا ثبت هذا فنقول : أجمعت الأمة على أنّ التقوى عن الكفر شرط في حصول الحكم بدخول الجنة.

وقال الجبائي ، وجمهور المعتزلة : المتقين : هم الّذين اتّقوا جميع المعاصي ، قالوا : لأنه اسم مدح ، فلا يتناول إلّا من [كان](٣) كذلك.

واعلم أنّ الجنات أربعة ؛ لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤] ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] فيكون [المجموع](٤) أربعة.

قوله : «وعيون» : قرأ ابن كثير ، والأخوان ، وأبو بكر ، وابن ذكوان : بكسر عين

__________________

(١) في أ : المراد.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٥٢).

(٣) في ب : هو.

(٤) في أ : مجموعها.

٤٦٢

«عيون» منكرا ، والعين معرف حيث وقع ؛ والباقون (١) : بالضمّ ، وهو الأصل.

فصل

الجنّات : البساتين ، والعيون : يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكورة في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] ، ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار.

قوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) العامة على وصل الهمزة من : دخل يدخل ، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين ، لالتقاء السّاكنين في البقرة : [١٧٣].

وقرأ (٢) يعقوب ـ رحمه‌الله ـ بفتح التنوين وكسر الخاء ، وتوجيهها : أنّه أمر من : أدخل يدخل فلما وقع بعد «عيون» ألقى حركة الهمزة على التنوين ؛ لأنها همزة قطع ثمّ حذفها ، والأمر من الله ـ تعالى ـ للملائكة ، أي : أدخلوها إيّاهم.

وقرأ الحسن (٣) ، ويعقوب أيضا : «أدخلوها» ماضيا مبنيا للمفعول ، إلا أنّ يعقوب ضمّ التنوين ووجهه : أنه أخذه من أدخل رباعيا ، فألقى حركة همزة القطع على التنوين (٤) كما ألقى حركة المفتوحة في قراءته الأولى ، والحسن كسره على أصل التقاء الساكنين ، ووجهه : أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط.

وقراءة الأمر على إضمار القول ، أي : يقال لأهل الجنّة : ادخلوها ، أو يقال للملائكة : أدخلوها إياهم ، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفا من غير إضمار ، وقوله «بسلام» حال ، أي : ملتبسين بالسلامة أو مسلما عليكم.

و «آمنين» حال أخرى ، وهي بدل مما قبلها ، إما بدل كلّ من كلّ وإما بدل اشتمال ؛ لأن الأمن مشتمل على التحية أو بالعكس ، والمعنى : آمنين من الموت ، والخروج ، والآفات.

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ [حكم](٥) قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون ، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم : «ادخلوها»؟.

فالجواب : أنّهم لما ملكوا جنات كثيرة ، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم: (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) الغلّ : الشّحناء ، والعداوة والحقد الكامن

__________________

(١) ينظر : التيسير ١٣٦ ، والنشر ٢ / ٢٢٦ ، والإتحاف ٢ / ١٧٦ ، والبحر ٥ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٨.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٨.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٧٦ ، البحر ٥ / ٤٤٥ ، والقرطبي ١٠ / ٢٣ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٨.

(٤) سقط من : ب.

(٥) في ب : حكى.

٤٦٣

في القلب ، مأخوذ من قولهم : أغلّ في جوفه ، وتغلغل.

قوله : «إخوانا» يجوز أن يكون حالا من «هم» في «صدورهم» ، وجاز ذلك ؛ لأنّ المضاف جزء المضاف إليه.

وقال أبو البقاء (١) : والعامل فيها معنى الإلصاق ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل «ادخلوها» على أنها حال مقدرة ، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة.

ويجوز أن يكون حالا من الضمير في قوله : «جنّات».

قوله «على سرر» ، يجوز أن يتعلق بنفس «إخوانا» ، لأنه بمعنى متصافين ، أي : متصافين على سرر ، قاله أبو البقاء ؛ وفيه نظر ؛ حيث تأويل جامد بمشتقّ ، بعيد منه.

و «متقابلين» على هذا حال من الضمير في «إخوانا» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف (٢) ، على أنه صفة ل «إخوانا» ، وعلى هذا ف «متقابلين» حال من الضمير المستكنّ في الجارّ ، ويجوز أن يتعلق ب «متقابلين» ، أي : متقابلين على سرر ، وعلى هذا ف «متقابلين» حال من الضمير في «إخوانا» أو صفة ل «إخوانا».

ويجوز نصبه على المدح ، يعني : أنه لا يمكن أن يكون نعتا للضمير فلذلك قطع.

والسّرر : جمع سرير ، وهو معروف ، ويجوز في «سرر» ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغة من مضاعف «فعيل» فتح العين ؛ تخفيفا ؛ وهي لغة بني كلب وتميم ، فيقولون : سرر وجدد ، وذلك في جمع سرير وجديد.

قال المفضل : لأنّهم يستثقلون الضمتين المتواليتين في حرفين من جنس واحد.

فصل

قال بعض أهل المعاني : السّرير : مجلس رفيع مهيّأ للسّرور ، وهو مأخوذ منه ؛ لأنه مجلس سرور. متقابلين : يقابل بعضهم بعضا ، لا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه ، والتّقابل : التواجه ، وهو نقيض التّدابر.

قوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) يجوز أن تكون هذه مستأنفة ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير في «متقابلين».

والنّصب : التّعب ، يقال منه : نصب ينصب فهو نصب وناصب ، وأنصبني كذا ، قال : [الطويل]

٣٢٧٨ ـ تأوّبني همّ مع اللّيل منصب

 ........... (٣)

وهمّ ناصب ، أي : ذو نصب ، كلابن وتامر ؛ قال النابغة : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٥.

(٢) سقط من : ب.

(٣) صدر بيت لأبي طالب. ينظر : اللسان «نصب» ، والدر المصون ٤ / ٢٢٩.

٤٦٤

٣٢٧٩ ـ كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (١)

و «منها» متعلق «بمخرجين».

وهذه الآية أنصّ آية في القرآن على الخلود.

قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٥٠)

قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أثبتت الهمزة الساكنة في «نبّىء» صورة ، وما أثبتت في قوله : «دفء» ؛ لأنّ ما قبلها ساكن ، فهي تحذف كثيرا ، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف «نبّىء» في الخط على تحقيق الهمزة ، وليس قبل همزة «نبّىء» ساكن ؛ فأخّروها على قياس الأصل.

وقوله «أنا الغفور» يجوز في «أنا» أن يكون تأكيدا ، وأن يكون فصلا.

وقوله (هُوَ الْعَذابُ) يجوز في «هو» الابتداء ، والفصل ، ولا يجوز التوكيد ؛ إذ المظهر لا يؤكّد بالمضمر.

فصل

ثبت في أصول الفقه أنّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب يشعر بغلبة ذلك الوصف ، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده ، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفورا رحيما ، وهذا يدلّ على أنّ كلّ من اعترف بالعبودية ، كان في حقّه غفورا رحيما ، ومن أنكر ذلك ، كان مستوجبا للعذاب الأليم.

وفي الآية لطائف : أولها : أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله : «عبادي» وهذا تشريف عظيم ، ويدل عليه قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١].

وثانيها : أنه لما ذكر المغفرة ، والرحمة بالغ في التّأكيدات بألفاظ ثلاثة :

أولها : قوله : «أنّي».

وثانيها : أنا».

وثالثها : إدخال الألف واللام على قوله : «الغفور الرّحيم» ، ولما ذكر العذاب ، لم يقل: إني أنا المعذب ولم يصف نفسه بذلك ، بل قال عزوجل : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ)(٢).

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ أمر رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يبلغ إليهم هذا المعنى ، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة ، والرحمة.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ لمّا قال : (نَبِّئْ عِبادِي) كان معناه : كلّ من اعترف

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط من : ب.

٤٦٥

بعبوديّتي ، وهذا يشمل المؤمن ، والعاصي ، وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله ـ تعالى ـ.

قال قتادة : بلغنا أن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع عن حرام ، ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه» أي : قتلها (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه مرّ بنفر من أصحابه ، وهم يضحكون ، فقال : أتضحكون وبين أيديكم النّار؟ فنزل جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بهذه الآية ، وقال : «يقول لك يا محمّد : لم تقنط عبادي» (٢).

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : معنى : (أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لمن تاب منهم(٣).

قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧)

قوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) القصّة : لما قرّر أمر النبوة ، وأردفه بدلائل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٠) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٢).

(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٤٩) وقال : رواه الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٠) وعزاه إلى البزار والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٢).

٤٦٦

التوحيد ، ثمّ عقبه بذكر أحوال القيامة ، وصفة الأشقياء ، والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، ليكون سماعها مرغّبا للعبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ، ومحذرا عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء.

فقوله : «ونبّئهم» ، هذا الضمير راجع إلى قوله عزوجل : «عبادي» ، أي : ونبّىء عبادي ، يقال : أنبأت القوم إنباء ونبّأتهم تنبئة إذا أخبرتهم.

قوله : «عن ضيف» ، أي [أضياف إبراهيم](١) ، والضّيف في الأصل مصدر ضاف يضيف : إذا أتى إنسانا يطلب القرى ، وهو اسم يقع على الواحد ، والاثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنّث.

فإن قيل : كيف سمّاهم ضيفا ، مع امتناعهم من الأكل؟.

فالجواب : لمن ظنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنّهم إنّما دخلوا عليه لطلب الضّيافة ، جاز تسميتهم ذلك.

وقيل : من دخل [دار](٢) إنسان ، والتجأ إليه سمّي ضيفا ، وإن لم يأكل ، وكان إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يكنّى أبا الضيفان (٣) ، وكان لقصره أربعة أبواب ، لكي لا يفوته أحد.

وسمّي الضيف ضيفا ؛ لإضافته إليك ، ونزوله عليك.

قال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ : «ضافه مال إليه ، وأضافه : [أماله](٤) ، ومنه الحديث : حين تضيف الشّمس للغروب. وضيفوفة السّهم ، والإضافة النّحوية».

قوله : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) في «إذ» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول لفعل مقدر ، أي : اذكر إذ دخلوا.

والثاني : أنه ظرف على بابه ، وفي العامل فيه وجهان :

أحدهما : أنه محذوف ، تقديره : خبر ضيف.

والثاني : أنه نفس «ضيف» ، وفي توجيه ذلك وجهان :

أحدهما : أنه لما كان في الأصل مصدرا اعتبر ذلك فيه ، ويدلّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به : عدم مطابقته لما قبله تثنية ، وجمعا ، وتأنيثا في الأغلب ، ولأنه قائم مقام وصف ، والوصف يعمل.

والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : أصحاب ضيف إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدر باق على حاله ، فلذلك عمل.

__________________

(١) في ب : ضيافة.

(٢) في ب : بيت.

(٣) في ب : الأضياف.

(٤) في ب : أمال إليه.

٤٦٧

قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضيافته : والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول (١).

قال شهاب الدّين : وفيه نظر ، إذ الظّاهر إضافته لفاعله ؛ لأنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً) ، أي نسلّم لك سلاما أو سلّمت سلاما ، أو سلموا سلاما ، قاله القرطبي (٢) رحمه‌الله تعالى.

قال : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي : خائفون ؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه ، وقيل : لأنهم دخلوا بغير إذن ، وبغير وقت.

قوله : «لا توجل» العامة على فتح التاء من «وجل» ك : «شرب» يشرب ، والفتح قياس «فعل» إلا أن العرب آثرت [يفعل بالكسر](٣) في بعض الألفاظ إذا كانت واوا ، نحو : «نبق» وقرأ الحسن (٤) : «لا توجل» مبنيا للمفعول من الإيجال.

وقرىء (٥) : «لا تأجل» ، والأصل : «توجل» كقراءة العامة ، إلّا أنه أبدل من الواو ألفا لانفتاح ما قبلها ، وإن لم تتحرّك كقولهم : «تابة» ، و «صامة» في «توبة» ، و «صومة» وسمع : اللهم تقبّل تابتي ، وصامتي. وقرىء أيضا : «لا تواجل» من المواجلة.

ومعنى الكلام : لا تخف ؛ «إنّا نبشّرك» ، قرأ حمزة (٦) : «إنّا نبشرك» بفتح النون وتخفيف الباء ، والباقون بضم النون ، وفتح الباء ، و «إنّا نبشّرك» استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى إنّك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل.

واعلم أنّهم بشروه بأمرين :

أحدهما : أنّ الولد ذكر ، والثاني : أنه عليم.

فقيل : بشّروه بنبوته بعده. وقيل : عليم بالدّين ، فعجب إبراهيم أمره و (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) قرأ الأعرج : «بشّرتموني» بإسقاط (٧) أداة الاستفهام ، فيحتمل الإخبار ، ويحتمل الاستفهام ، وإنما حذفت أداته للعلم به.

و «على أن مسّني» في محل نصب على الحال.

وقرأ (٨) ابن محيصن : «الكبر» بزنة «فعل». قوله : «فبم تبشّرون» «بم» متعلق ب «تبشّرون» ، وقدم وجوبا ؛ [لأنه](٩) استفهام وله صدر الكلام.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٢٤.

(٣) في ب : بفتح الكسر.

(٤) ينظر : الإتحاف : ٢ / ١٧٧ ، البحر ٥ / ٤٤٦ ، والمحتسب ٢ / ٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

(٥) قرأ بها أبو معاذ ينظر : الشواذ ٧١ ، والبحر ٥ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٨٠.

(٧) ينظر : البحر ٥ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

(٨) ينظر : السابق نفسه.

(٩) في ب : لأن ما.

٤٦٨

وقرأ (١) العامة : بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع ، ولم يذكر مفعول التبشير ، وقرأ نافع بكسرها ، والأصل : تبشروني فحذف الياء مجتزئا عنها بالكسرة.

وقد غلطه أبو حاتم ، وقال : هذا يكون في الشعر اضطرارا.

وقال مكي : «وقد طعن في هذه القراءة قوم لبعد مخرجها في العربيّة ؛ لأنّ حذف النون التي تصحب الياء لا يحسن إلّا في الشّعر ، وإن قدّر حذف النون الأولى حذفت [علم](٢) الرفع من غير ناصب ، ولا جازم ؛ ولأنّ نون الرفع كسرها قبيح ، إنّما حقّها الفتح».

وهذا الطعن لا يلتفت إليه ، لأنّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءا عنها بالكسرة ، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي) [الزمر : ٦٤] كما سيأتي بيانه إن شاء الله ـ تعالى ـ.

ووجهه : أنّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع ، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ ، فمنهم من أدغم ، ومنهم من حذف ، ثم اختلف في المحذوفة ، هل هي الأولى ، أو الثانية ، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام : ٨٠].

وقرأ ابن كثير (٣) بتشديدها مكسورة ، أدغم الأولى في الثانية ، وحذف ياء الإضافة ، والحسن : أثبت الياء مع تشديد النون ، ورجح قراءة من أثبت مفعول : «يبشّرون» وهو الياء.

قوله : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) «بشّرناك» ، و «بالحقّ» متعلق بالفعل قبله ، وضعف أن يكون حالا ، أي : قالوا بشّرناك.

ومعنى : «بالحقّ» هنا استفهام بمعنى التعجّب ، كأنه قيل : بأيّ أعجوبة تبشروني؟.

فإن قيل : كيف استبعد قدرة الله ـ تعالى ـ على خلق الولد منه في زمان الكبر؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشّروا به؟.

فأجاب القاضي : بأنه أراد أن يعرف أنه ـ تعالى ـ هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة ، أو يقلبه شابّا ، ثم يعطيه الولد؟.

وسبب هذا الاستفهام : أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامّة ، وإنما يحصل في حال الشّباب.

فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم ، فلم قالوا : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)؟.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٦٧ ، والنشر ٢ / ٣٠٢ ، والتيسير ١٣٦ ، والحجة ٣٨٣ ، والبحر ٥ / ٤٤٧ والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

(٢) في أ : على.

(٣) ينظر : النشر ٢ / ٣٠٢ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٧٧ ، والوسيط ٣ / ٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

٤٦٩

قلنا : إنهم بيّنوا أنه ـ تعالى ـ بشّره بالولد مع إبقائه على صفة الشّيخوخة ، وقولهم (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ)(١) لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرّح في جوابهم بما يدلّ على أنّه ليس كذلك فقال : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).

وأجاب غيره : بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنّه حصول المراد فيه ، فإذا بشّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه ، وسروره ، ويصير ذلك الفرح القويّ كالمدهش له ، والمزيل لقوّة فهمه ، وذكائه ، فربّما تكلم بكلمات مضطربة في ذلك الوقت.

وقيل أيضا : إنه يستطيب تلك البشارة ، فربّما يعيد السؤال ليسمع تلل البشارة مرّة أخرى ومرتين وأكثر طلبا للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، أو طلبا لزيادة الطمأنينة والوثوق ، كقوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] وقيل أيضا : استفهم : أبأمر الله تبشروني ، أم من عند أنفسكم ، واجتهادكم؟.

قوله : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يريد بما قضى الله تعالى (٢).

وقوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) نهي لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن القنوط ، وقد تقدّم أنّ النهي لإنسان عن الشّيء لا يدل على كون المنهي فاعلا للمنهيّ عنه ، كقوله ـ جلّ وعزّ ـ (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ٤٨] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [القصص : ٨٧].

قوله : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) هذا استفهام معناه النفي ، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب «إلّا».

وقرأ أبو عمرو (٣) ، والكسائي : «يقنط» بكسر عين هذا المضارع حيث وقع ، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها ، وفي الماضي لغتان «قنط» بكسر النون ، «يقنط» بفتحها ، وقنط «يقنط» بكسرها ، ولو لا أن القراءة سنة متبعة ، لكان قياس من قرأ : «يقنط» بالفتح أن يقرأ ماضيه «قنط» بالكسر ، لكنهم أجمعوا على فتحه في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨] والفتح في الماضي هو الأكثر ، ولذلك أجمع عليه.

قال الفارسي : فتح النون في الماضي ، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات ، ويرجح قراءة «يقنط» بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات «فلا تكن من القنطين» كفرح يفرح فهو فرح.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : السبعة ٣٦٧ ، والحجة ٣٦٧ ، والتيسير ١٣٦ والاتحاف ٢ / ١٧٧ ، ٥ / ٤٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٠.

٤٧٠

والقنوط : شدّة اليأس من الخير ، وحكى أبو عبيدة : «قنط» يقنط بضمّ النون.

قال ابن الخطيب (١) : «وهذا يدلّ على أنّ «قنط» بفتح النون أكثر ؛ لأن المضارع من «فعل» يجيء على «يفعل ويفعل» مثل : فسق : يفسق ، ويفسق ، لا يجيء مضارع فعل على يفعل».

فصل

جواب إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حق ؛ لأنّ القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلّا عند الجهل بأمور :

أحدها : أن يجهل كونه ـ تعالى ـ قادرا عليه.

وثانيها : أن يجهل كونه ـ تعالى ـ عالما باحتياج ذلك العبد إليه.

وثالثها : أن يجهل كونه ـ تعالى ـ منزّها عن البخل ، والحاجة.

والجهل بكلّ هذه الأمور سبب للضّلال ، والقنوط من رحمة الله كبيرة ، كالأمن من مكره.

قوله تعالى : (فَما خَطْبُكُمْ) الخطب : الشأن ، والأمر ، سألهم عمّا لأجله أرسلهم الله ـ تعالى ـ.

فإن قيل : إنّ الملائكة لما بشّروه بالولد الذّكر العليم ، كيف قال لهم بعد ذلك «فما خطبكم»؟.

فالجواب : قال الأصم : معناه : ما الذي وجهتم له سوى البشرى؟.

وقال القاضي (٢) : إنه علم أنه لو كان المقصود أيضا البشارة ، لكان الواحد من الملائكة كافيا ، فلمّا رأى جمعا من الملائكة ؛ علم أنّ لهم غرضا آخر سوى إيصال البشارة ، فلا جرم قال: «فما خطبكم»؟.

قيل : إنّهم قالوا : إنّا نبشّرك بغلام عليم لإزالة الخوف ، والوجل ، ألا ترى أنّه لما قال : «إنا منكم وجلون» قالوا له : «لا توجل إنّا نبشرك بغلام عليم» (٣) ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة ؛ كانوا ذكروا البشارة في أوّل دخولهم ، فلمّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنّ مجيئهم ما كان لمجرّد البشارة ، بل لغرض آخر ، فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض ، قال : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) مشركين ، وإنّما اقتصروا على هذا القدر ، لعلم إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأنّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين ، كان ذلك لإهلاكهم.

ويدل على ذلك قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) قوله «إلا آل لوط» فيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٥٧.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٥٨.

(٣) سقط من : ب.

٤٧١

أحدهما : أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في : «مجرمين» بمعنى أجرموا كلهم إلّا آل لوط ؛ فإنّهم لم يجرموا ، ويكون قولهم «إنّا لمنجوهم» استئناف إخبار بنجاتهم ، لكونهم لم يجرموا (١) ولكون الإرسال حينئذ شاملا للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وإنجاء هؤلاء.

والثاني : أنه استثناء منقطع ؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين ألبتّة.

قال أبو حيان : وإذا كان استثناء منقطعا ، فهو مما يجب فيه النصب ؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجه العامل إلى المستثنى منه ؛ لأنهم لم يرسلوا إليهم ، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصّة ، ويكون قوله : «إنّا لمنجّوهم» جرى مجرى خبر لكن في اتّصاله ب : «آل لوط» ؛ لأن المعنى : لكنّ آل لوط منجوهم ، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدّر بلكن ، إذا لم يكن بعده ما يصحّ أن يكون خبرا : أنّ الخبر محذوف ، وأنه في موضع رفع لجريان : «إلّا» ، وتقديرها ب «لكن».

قال شهاب الدّين (٢) : «وفيه نظر ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أي : لا يمكن ، نحو : ضحك القوم إلا حمارهم ، وصهلت الخيل إلا الإبل. وأمّا هذا ، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع ، وأمّا قوله : لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح ؛ لأنّ حكم الاستثناء كلّه هكذا ، وهو أن يكون خارجا عمّا حكم به على الأوّل ، لكنّه لو سلط عليه لصحّ ذلك بخلاف ما تقدّم من أمثلتهم».

قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) قرأ الأخوان (٣) : «لمنجوهم» مخففا ؛ وكذلك خففا أيضا فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [العنكبوت : ٣٢] ؛ وكذلك خففا أيضا قوله فيها : (إِنَّا مُنَجُّوكَ) [العنكبوت : ٣٣] فهما جاريتان على سنن واحد.

وقد وافقهما ابن كثير ، وأبو بكر على تخفيف : «منجوك» كأنهما جمعا بين اللغتين ، وباقي السبعة بتشديد الكل. والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من : نجّى وأنجى ، وأنزل ، ونزّل ، وقد نطق بفعلهما ، قال : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ) [العنكبوت : ٦٥] وفي موضع (أَنْجاهُمْ) [يونس : ٢٣].

قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء من «آل لوط». قال أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ : «والاستثناء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافا إلى المبتدأ كقولك : «له عندي عشرة إلا

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٠١.

(٣) ينظر : الحجة ٣٨٤ ، الاتحاف ٢ / ١٧٨ ، والحجة للفارسي ٥ / ٤٨ ، والقرطبي ١٠ / ٢٥ ، والتيسير ١٣٦ ، والبحر ٥ / ٤٤٨.

٤٧٢

أربعة إلا درهما» فإن الدرهم يستثنى من الأربعة ، فهو مضاف إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشر إلّا أربعة ، أو عشرة إلّا ثلاثة».

والثاني : أنها مستثناة من الضمير المجرور في قوله «لمنجوهم».

وقد منع الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ الوجه الأول ، وعيّن الثاني فقال : «فإن قلت : قوله : «إلا امرأته» ممّ استثني؟ وهل هو استثناء من استثناء؟.

قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله : «لمنجّوهم» ، وليس من الاستثناء في شيء ؛ لأن الاستثناء من الاستثناء إنّما يكون فيما اتّحد الحكم فيه ، وأن يقال : أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته ، كما اتّحد في قول المطلّق : أنت طالق ثلاثا إلا اثنين إلا واحدة ، وقول المقرّ : لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما ، وأما الآية فقد اختلف الحكمان ؛ لأنّ : «آل لوط» متعلق ب «أرسلنا» أو ب : «مجرمين» ، و «إلّا امرأته» قد تعلّق بقوله : «لمنجوهم» فأنّى يكون استثناء من استثناء».

قال أبو حيّان (١) : ولما استسلف الزمخشري أنّ «امرأته» استثناء من الضمير في «لمنجّوهم» أبى أن يكون استثناء من استثناء ، ومن قال : إنه استثناء من استثناء ، فيمكن [تصحيح قوله](٢) بأحد وجهين :

أحدهما : أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في «لمنجوهم» ، وهو عائد على «آل لوط» صار كأنّه مستثنى من : «آل لوط» ؛ لأنّ المضمر هو الظاهر.

والوجه الآخر : أن قوله «إلّا أل لوط» لمّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين ، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله : (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) تأكيدا لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب ، ونجاتهم مرتبة على [عدم](٣) الإرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظير ذلك : قام القوم إلّا زيدا لم يقم أو إلّا زيدا فإنه لم يقم ، فهذه الجملة تأكيد لما تضمّنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلّا بضدّ الحكم السّابق على المستثنى منه ، ف : «إلّا امرأته» على هذا التقدير الذي قرّرناه مستثنى من : «آل لوط» ؛ لأنّ الاستثناء ممّا جيء به للتّأسيس أولى من الاستثناء ممّا جيء به للتأكيد.

قوله «قدّرنا» قرأ أبو بكر (٤) ههنا ، وفي سورة النمل بتخفيف الدّال ، والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قدّر ، وقدر.

قوله : «إنّها» كسرت من أجل اللّام في خبرها ، ولولاها [لفتحت](٥) ، وهي معلقة

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٤٨.

(٢) في ب : تأويله.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : الاتحاف ٢ / ١٧٨ ، والحجة ٣٨٤ ، والنشر ٢ / ٣٠٢ ، والبحر ٥ / ٤٤٨ ، والوسيط ٣ / ٤٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٥) في ب : لخففت.

٤٧٣

لما قبلها ؛ لأنّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمّا لكونه بمعناه ، وإمّا لأنه مترتب عليه.

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم».

قال أبو حيّان (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ «وكسرت «إنّها» إجراء لفعل التقدير مجرى العلم».

وهذا لا يصحّ علة لكسرها ، إنّما يصحّ علة لتعليقها الفعل قبلها.

فصل

معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدّر الله ـ سبحانه ـ الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقدر عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر. وقيل : معنى : «قدّرنا» كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. فإن [قيل](٣) لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزوجل؟

فالجواب : إنّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [وأمرنا بكذا](٤) ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا.

قوله تعالى : (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتّى يهلك ، فتلحق بالهالكين.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) القصة لما بشروا إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالولد ، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه‌السلام ، وإلى آله ، وإنّ لوطا ، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله.

فقالوا : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ؛ لأنهم لما هجموا عليه ؛ استنكرهم ، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه.

وقيل : خاف ؛ لأنهم كانوا شبايا مردا حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم ، فقال هذه الكلمة.

وقيل : إنّ النكرة ضدّ المعرفة ، فقوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، أي : لا أعرفكم ، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم عليّ ، فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٨٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٤٨.

(٣) في أ : قلت.

(٤) سقط من : ب.

٤٧٤

قوله : (بَلْ جِئْناكَ) إضراب عن الكلام المحذوف ، تقديره : ما جئناك بما ينكر ، (بَلْ جِئْناكَ بِما [كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ)](١).

وقد تقدّم الخلاف في قوله : «فأسر» قطعا ووصلا في هود : [٨١].

وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية (٢) ، وصاحب اللوامح : «فسر» من السير. وقرأت (٣) فرقة بفتح الطاء ، وقد تقدّم في يونس أنّ الكسائي (٤) ، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله «قطعا» والباقون بالفتح.

قوله : قالت الملائكة (بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يشكون أنه نازل بهم ، وهو العذاب ؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب ، فلا يصدقونه ، ثمّ أكدوا ذلك بقولهم : (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) قال الكلبيّ : بالعذاب ، [وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب](٥) ثم أكدوا هذا التّأكيد بقولهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ).

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) والقطع والقطع : آخر الليل ؛ قال : [الخفيف]

٣٢٨٠ ـ افتحي الباب وانظري في النّجوم

كم علينا من قطع ليل بهيم (٦)

(وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) ، أي سر خلفهم (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب.

وقيل : معناه الإسراع ، وترك الاهتمام لما خلف وراءه ، كما يقول : امض لشأنك ، ولا تعرج على شيء.

وقيل : المعنى لو بقي [منه] متاع في ذلك الموضع ، فلا يرجعن بسببه ألبتّة.

وقيل : جعل الله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوط.

(وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يعني «الشّام» (٧).

وقال المفضل : حيث يقول لكم جبريل. وقال مقاتل : يعني زغر (٨). وقيل : «الأردن».

قوله : (حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) «حيث» على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ، ولإبهامها

__________________

(١) في أ : فيه سرورك وفرحك.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٤٨ ، والدر المصون ٥ / ٣٠٢.

(٣) ينظر : السابق نفسه.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٥.

(٥) سقط من : ب.

(٦) البيت لعبد الرحمن بن الحكم بن العاصي وقيل لزياد الأعجم بمدح معاوية. ينظر : الرازي ١٩ / ٢٠٥ ، الكشاف ٢ / ٢٩٤ ، الألوسي ١٤ / ٦٨ ، وتفسير أبي السعود ٣ / ٣١٩ ، شواهد الكشاف ص ٥٢٨ ، والصحاح واللسان والتاج «قطع».

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٤) والرازي (١٩ / ١٦٠) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩١) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٨) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٤).

٤٧٥

تعدى إليها الفعل من غير واسطة ، على أنه قد جاء في الشّعر تعديته إليها ب «في» كقوله : [الطويل]

٣٢٨١ ـ فأصبح في حيث التقينا شريدهم

طليق ومكتوف اليدين ومزعف (١)

وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمان ، مستدلا بقوله : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ثم قال (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي : في ذلك الزّمان.

وهو ضعيف ، ولو كان كما قال ، لكان التركيب وامضوا حيث أمرتم على أنه لو جاء التّركيب كذا لم يكن فيه دلالة.

قوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ) ضمّن القضاء معنى الإيحاء ؛ فلذلك تعدّى تعديته ب «إلى» ، ومثله (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٤].

و «ذلك الأمر» «ذلك» مفعول القضاء ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاك قومه ، و «الأمر» إمّا بدل منه ، أو عطف بيان له.

قوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) العامة على فتح «أنّ» وفيها أوجه :

أحدها : أنها بدل من «ذلك» إذا قلنا : «الأمر» عطف بيان.

الثاني : أنّها بدل من «الأمر» سواء قلنا : إنه بيان أو بدل مما قبله.

الثالث : أنه على حذف الجار ، أي : بأنّ دابر ، ففيه الخلاف المشهور.

وقرأ زيد بن (٢) علي ، والأعمش بكسرها ؛ لأنه بمعنى القول.

وعلّله أبو حيان : بأنه لمّا علق ما هو بمعنى العلم ؛ كسر.

وفيه النظر المتقدم.

ويؤيّد إضمار القول قراءة ابن مسعود : وقلنا إنّ دابر هؤلاء.

ودابرهم : آخرهم «مقطوع» مستأصل ، يعني مستأصلون عن آخرهم ؛ حتى لا يبقى منهم أحد «مصبحين» ، أي في حال ظهور الصبح ، فهو حال من الضمير المستتر في : «مقطوع» ، وإنّما جمع حملا على المعنى ، وجعله الفرّاء ، وأبو عبيدة خبرا لكان المضمرة ، قالا : تقديره : إذا كانوا مصبحين ، نحو «أنت ماشيا أحسن منك راكبا».

وهو تكلف ، و «مصبحين» داخلين في الصّباح.

قوله : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) ، أي : مدينة لوط ، يعني : «سدوم» «يستبشرون» حال ، أي : يستبشرون بأضياف لوط ، يبشر بعضهم بعضا في ركوب الفاحشة منهم.

__________________

(١) البيت للفرزدق. ينظر : ديوانه ٢ / ٢٩ ، الكتاب ٢ / ١٠ ، الخزانة ٥ / ٣٦ ، جمهرة أشعار العرب ص ٨٨٨ ، البحر المحيط ٥ / ٤٤٨ ، روح المعاني ١٤ / ٦٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٠٣ ، ومزعف ، بفتح العين وكسرها : الصريع.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٨٤ ، والبحر ٥ / ٤٤٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٣.

٤٧٦

قيل : إنّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم.

وقيل : أخبرتهم امرأة لوط بذلك ؛ فذهبوا إلى دار لوط ؛ طلبا منهم لأولئك المرد.

فقال لهم لوط ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «هؤلاء ضيفي» وحق على الرجل إكرام ضيفه ، «فلا تفضحون» فيهم.

يقال : فضحه يفضحه فضحا ، وفضيحة ، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار ، والفضيح والفضيحة : البيان ، والظّهور ، ومنه : فضيحة الصّبح ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٣٢٨٢ ـ ولاح ضوء هلال اللّيل يفضحنا

مثل القلامة قد قصّت من الظّفر (١)

إلا أنّ الفضيحة اختصت بما هو عار على الإنسان عند ظهوره.

ومعنى الآية : أن الضيف يجب إكرامه ، فإذا قصدتموه بالسّوء كان ذلك إهانة بي ، ثمّ أكد ذلك بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) ولا تخجلون ، فأجابوه بقولهم : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) ، أي عن أن تضيّف أحدا من العالمين.

وقيل : ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة ؛ فإنا نركب منهم الفاحشة.

قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون (هؤُلاءِ بَناتِي) مفعولا بفعل مقدر ، أي : تزوّجوا هؤلاء ، و «بناتي» بدل ، أو بيان.

الثاني : أن يكون (هؤُلاءِ بَناتِي) مبتدأ وخبرا ، ولا بدّ من شيء محذوف تتمّ به الفائدة، أي : فتزوّجوهنّ.

الثالث : أن يكون «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» بدل ، أو بيان والخبر محذوف ، أي : هنّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها.

وتقدّم الكلام على هذه المعاني في هود.

قوله (لَعَمْرُكَ) مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ، ومثله : لا يمن الله ، و «إنّهم» ، وما في حيزه جواب القسم ، تقديره : لعمرك قسمي ، أو يميني إنهم ، والعمر والعمر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنّهم التزموا الفتح في القسم.

قال الزجاج (٢) : لأنه أخفّ عليهم ، وهم يكثرون القسم ب «لعمري ولعمرك».

وله أحكام كثيرة :

منها : أنه متى اقترن بلام الابتداء ؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء ، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدّه.

__________________

(١) البيت لابن المعتز. ينظر : ديوانه ٢٤٧ ، البحر المحيط ٥ / ٤٤٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٠٤.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ١٨٣.

٤٧٧

ومنها : أنه يصير صريحا في القسم ، أي : يتعيّن فيه ، بخلاف غيره نحو : عهد الله وميثاقه.

ومنها : أنه يلزم فتح عينه.

فإن لم يقترن به لام الابتداء ، جاز نصبه بفعل مقدر ، نحو : عمر الله لأفعلنّ ، ويجوز حينئذ في الجلالة وجهان :

النّصب والرفع فالنصب على أنه مصدر مضاف لفاعله ، وفي ذلك معنيان :

أحدهما : أن الأصل : أسألك بعمرك الله ، أي : بوصفك الله ـ تعالى ـ بالبقاء ، ثم حذف زوائد المصدر.

والثاني : أن المعنى : بعبادتك الله ، والعمر : العبادة.

حكى ابن الأعرابي : إنّي عمرت ربّي ، أي : عبدته ، وفلان عامر لربّه ، أي : عابده.

وأمّا الرفع : فعلى أنه مضاف لمفعوله.

قال الفارسي رحمه‌الله : معناه : [عمّرك](١) الله تعميرا ، وقال الأخفش : أصله : أسألك بيعمرك الله ، فحذف زوائد المصدر ، والفعل ، والياء ، فانتصب ، وجاز أيضا ذكر خبره ، فتقول: عمرك قسمي لأقومن ، وجاز أيضا ضمّ عينه ، وينشد بالوجهين قوله : [الخفيف]

٣٢٨٣ ـ أيّها المنكح الثّريّا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان

هي شاميّة إذا ما استقلّت

وسهيل إذا استقل يماني (٢)

ويجوز دخول باء الجر عليه ؛ نحو : بعمرك لأفعلنّ ؛ قال : [الوافر]

٣٢٨٤ ـ رقيّ بعمركم لا تهجرينا

ومنّينا المنى ثمّ امطلينا (٣)

وهو من الأسماء اللازمة للإضافة ، فلا يقطع عنها ، ويضاف لكل شيء ، وزعم بعضهم : أنه لا يضاف إلى الله ـ تعالى ـ.

قيل : كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا في الانقطاع ، وقد سمع إضافته للباري تعالى. قال الشاعر : [الوافر]

٣٢٨٥ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

لعمر الله أعجبني رضاها (٤)

ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلّم ، قال لأنه حلف بحياة المقسم ، وقد ورد ذلك ، قال النابغة : [الطويل]

__________________

(١) في ب : يعمرك.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر : ديوانه (١٣٧) ، المحتسب ١ / ٤٣ ، الهمع ٢ / ٤١ ، الدرر ٢ / ٤٦ ، والأغاني ٤ / ١٦٤ ، تذكرة النحاة ص ٤٣٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٤.

(٤) تقدم.

٤٧٨

٣٢٨٦ ـ لعمري وما عمري عليّ بهيّن

لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع (١)

وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه ، فقالوا : وعملي ، وهي رديئة.

«إنّهم» العامة على كسر «إنّ» لوقوع اللام في خبرها ، وقرأ أبو عمرو (٢) في رواية الجهضمي له «أنّ» بفتحها ، وتخريجها على زيادة اللام ، وهي كقراءة ابن جبير (ألا أنهم ليأكلون الطعام) بالفتح.

وقرأ الأعمش : «سكرهم» بغير تاء (٣) ، وابن أبي عبلة (٤) «سكراتهم» جمعا ، والأشهب (٥) : «سكرتهم» بضم السين.

و «يعمهون» حال إمّا من الضمير المستكن في الجار ، وإمّا من الضمير المجرور بالإضافة ، والعامل إمّا نفس سكرة ، لأنّها مصدر ، وإمّا معنى الإضافة.

فصل

قيل : إن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ قالت للوط ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) : يتحيّرون.

وقال قتادة : يلعبون (٦) فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك؟.

وقيل : إنّ الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد.

روى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال ما خلق الله نفسا أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أقسم بحياة أحد إلّا بحياته (٧).

قال ابن العربي : قال المفسرون بإجماعهم : أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص ٣٤ ، الكتاب ٢ / ٧٠ ، ابن الشجري ١ / ٣٤٤ ، المغني ٢ / ٣٩٠ ، شواهد المغني ٢٧٦ ، خزانة الأدب ٢ / ٤٤٧ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٤٤٦ ، جمهرة اللغة ص ١٣٠٨ ، البحر المحيط ٥ / ٤٥٠ ، والألوسي ١٤ / ٧٣ ، والقرطبي ١٠ / ٤١ والدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٢) ينظر : الشواذ ٧١ ، والبحر ٥ / ٤٥٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٣) السابق نفسه ، والمحرر ٨ / ٣٤١.

(٤) ينظر : البحر ٥ / ٤٥٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٥) ينظر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٦) وأبو يعلى (٥ / ١٣٩) رقم (٢٧٥٤) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٤٨٨).

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٤٩) ، وقال : رواه أبو يعلى وإسناده جيد وذكره أيضا ابن حجر في : «المطالب العالية» (٣ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) رقم (٢٥٣٦ ، ٢٥٣٧) وعزاه إلى أبي يعلى والحارث بن أسامة.

والأثر في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في «دلائل النبوّة».

٤٧٩

تشريفا له ، أنّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون ، وقال القاضي عياض : اتفق أهل التفسير في هذا : أنّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصله ضمّ العين من العمر ، ولكنها فتحت بكثرة.

قال ابن العربي : ما الذي يمنع أن يقسم الله ـ تعالى ـ بحياة لوط ، ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكلّ ما يعطيه الله للوط من فضل ، يعطي ضعفه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّه أكرم على الله منه ؛ أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلّة ، وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أقسم بحياة لوط ، فحياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرفع ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة.

قال القرطبيّ (١) : ما قاله حسن ، فإنّه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كلاما معترضا في قصّة لوط.

قال القشيريّ : يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوط ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون ، أي لمّا وعظ لوط قومه وقال : هؤلاء بناتي ، قالت الملائكة : يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولا يدرون ما يحلّ بهم صباحا.

فإن قيل : فقد أقسم الله تعالى بالتّين ، والزّيتون ، وطور سنين ، وما في هذا من الفضل؟ قيل له : ما من شيء أقسم الله به ، إلّا وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده ، فكذلك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية (٢) دليل على أنه جاءتهم صيحة مهلكة.

قوله «مشرقين» «حال من مفعول «أخذتهم» ، أي داخلين في الشروق ، أي : بزوغ الشّمس.

يقال : شرق الشارق يشرق شروقا لكل ما طلع من جانب الشرق ، ومنه قوله : ما ذرّ شارق ، أي : طلع طالع فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا.

والضمير في : «عاليها وسافلها» للمدينة. وقال الزمخشريّ : «لقرى قوم لوط».

ورجح الأول بأنه تقدّم ذكر المدينة في قوله (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني ، فإنه لم يتقدّم لفظ القرى.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً) تقدم الكلام على ذلك كله في هود : [٨٢].

قوله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «آيات» وأجود أن يتعلق بنفس «آيات» ؛ لأنّها بمعنى العلامات.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٢٧.

(٢) سقط من : ب.

٤٨٠