اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

قال شهاب الدين (١) : «فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك».

وقرأ العامة : «لينذروا» مبنيّا للمفعول. وقرأ مجاهد (٢) وحميد بن قيس : «ولتنذروا» بتاء مضمومة ، وكسر الذال ـ كأن البلاغ للعموم ، والإنذار للمخاطبين ، وقرأ (٣) يحيى بن عمارة الدراع عن أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي «ولينذروا» بفتح الياء والذال من نذر بالشّيء ، أي : علم به فاستعد له.

قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو ك «عسى» ، وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها.

فصل

معنى «لينذروا» أي : وليخوفوا به (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي : يستدلّوا بهذه الآيات على وحدانيّة الله ـ تعالى ـ : (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : يتّعظ أولو العقول.

قال القاضي (٤) : أول هذه السورة ، وآخرها يدلّ على أنّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع ، وإن شاء عصى.

أمّا أوّل هذه السورة فقوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وقد ذكرناه هناك.

وأمّا آخر السورة فقوله تعالى : (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ إنّما أنزل هذه السورة ، وذكر هذه المواعظ ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق ؛ فيصيروا مؤمنين مطيعين ، ويتركوا الكفر والمعصية ، وقد تقدم جوابه.

روى أبو أمامة عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ، ومن لم يعبدها» (٥).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٩ والدر المصون ٤ / ٢٨٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٨ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٩ والدر المصون ٤ / ٢٨٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١١٨.

(٥) ذكره الزيلعي في «تخريج الكشاف» (٢ / ٢٠٥) وعزاه للثعلبي من طريق أبي أمامة عن أبي بن كعب.

ولابن مردويه والواحدي وهو حديث موضوع.

٤٢١

سورة الحجر

سورة الحجر مكية بالإجماع.

وهي تسع وتسعون آية ، وستمائة وأربعة وخمسون كلمة ، وعدد حروفها : ألفان وتسعمائة حرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

قوله تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) تقدّم نظير (تِلْكَ آياتُ) أول الرعد ، والإشارة ب «تلك» إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره.

وقيل : إشارة إلى الكتاب السالف ، وتنكير القرآن للتخفيم ، والمعنى : تلك آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتابا ، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.

والمراد ب «الكتاب» وال «قرآن المبين» : الكتاب الذي وعد به محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، أي : مبين الحلال من الحرام ، والحقّ من الباطل.

فإن قيل : لم ذكر الكتاب ، ثم قال : «وقرءان» ، وكلاهما واحد؟.

قيل : كلّ واحد يفيد فائدة أخرى ؛ فإنّ الكتاب ما يكتب ، والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض.

وقيل : المراد ب «الكتاب» التّوراة والإنجيل ، فيكون اسم جنس ، وبال «قرآن» : هذا الكتاب.

٤٢٢

قوله : (رُبَما يَوَدُّ) في «ربّ» قولان :

أحدهما : أنها حرف جرّ ، وزعم الكوفيّون ، وأبو الحسن ، وابن الطّراوة : أنها اسم ، ومعناها : التّقليل على المشهور.

وقيل : تفيد التكثير في مواضع الافتخار ؛ كقوله : [الطويل]

٣٢٥٣ ـ فيا ربّ يوم قد لهوت وليلة

بآنسة كأنّها خطّ تمثال (١)

وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النّظير.

وفيها سبع عشرة لغة وهي :

«ربّ» بضمّ الراء وفتحها كلاهما مع تشديد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و «رب» بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و «ربّ» بضم الراء والباء معا مشددة ومخففة ، و «ربّت».

وأشهرها : «ربّ» بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية (٢) قرأ عاصم ونافع وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصرف (٣) ، وزيد بن علي : «ربّتما» ، ولها أحكام كثيرة : منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها ؛ وقوله : [الخفيف]

٣٢٥٤ ـ ربّما الجامل المؤبل فيهم

وعناجيج بينهنّ المهاري (٤)

ضرورة في رواية من جرّ «الجامل».

ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه ؛ كقوله : [البسيط]

٣٢٥٥ ـ ...........

وربّه عطبا أنقذت من عطبه (٥)

والمطابقة ؛ نحو : ربّهما رجلين ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : ربّ رجل وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها ؛ ومضيّ ما يتعلق به على

__________________

(١) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه ص (٢٩) ، التصريح : ١٨١٢ المقرب ٢٢١ ، المغني ٢ / ٦٤٩ ، شواهد المغني للسيوطي ٣٩٣ ، الهمع ٢ / ٢٦١ ، الدرر ١٨١٢ ، شواهد المغني للبغدادي ٣ / ١٦١.

(٢) ينظر : السبعة ٣٦٦ والحجة ٥ / ٣٥ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٩ وحجة القراءات ٣٨٠ والإتحاف ٢ / ١٧٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٤٩ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٣ والدر المصون ٤ / ٢٨٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٩ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٣ والدر المصون ٤ / ٢٨٥.

(٤) تقدم.

(٥) عجز بيت وصدره :

واه رأيت وشيكا صدع أعظمه

ينظر الأشموني ٢ / ٤٠٧ ، الكافية الشافية ٢ / ٧٩٤ ، شرح التسهيل ١ / ١٦٢ ، الهمع ١ / ٦٦ ، الألوسي ١٤ / ٥ ، العيني ٣ / ٢٥٧ ، الدرر ١ / ٤٥ ، اللسان : عطب.

٤٢٣

خلاف ، والصحيح عدم ذلك ؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [مجزوء الكامل]

٣٢٥٦ ـ يا ربّ قائلة غدا

يا لهف أم معاويه (١)

ومن مجيء المستقبل ، قوله : [الوافر]

٣٢٥٧ ـ فإن أهلك فربّ فتى سيبكي

عليّ مهذّب رخص البنان (٢)

وقول هند : [مجزوء الكامل]

٣٢٥٨ ـ يا ربّ قائلة غدا

 ........... (٣)

وقول سليم : [الطويل]

٣٢٥٩ ـ ومعتصم بالحيّ من خشية الرّدى

سيردى وغاز مشفق سيئوب (٤)

فإن حرف التنفيس ، و «غدا» خلّصاه للاستقبال.

و «ربّ» تدخل على الاسم ، و «ربّما» على الفعل ، ويقال : ربّ رجل جاءني ، وربّما جاءني.

و «ما» في «ربما» ، تحتمل وجهين :

أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنّ «ربّ» مختصة بالأسماء ، فلما جاءت هنا «ما» هيّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [يونس : ٢٧] في «إنّ» وأخواتها ويكفها أيضا عن العمل ؛ كقوله : [الخفيف]

٣٢٦٠ ـ ربّما الجامل المؤبّل فيهم

 ........... (٥)

في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه.

والثاني : أنّ «ما» نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على «ما» محذوف تقديره : ربّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقع لا محالة ، فعبّر عنه بالماضي ، تحقيقا لوقوعه ؛ كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ونحوه.

قوله : «لو كانوا» يجوز في «لو» وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيّة ، وحينئذ ، يكون

__________________

(١) ينظر : المغني ١ / ١٣٧ ، الهمع ٢ / ٢٨ ، الدرر ٢ / ٢٢ ، البحر ٥ / ٤٣٣ روح المعاني ١٤ / ٦ ، شواهد المغني للبغدادي ٣ / ٢١٢.

(٢) البيت لمحمد بن مالك الضبي. ينظر : أمالي القالي ١ / ٢٧٨١. سمط اللآلي ٦١٧ ، الخزانة ٤ / ٤٨٤ ، الجنى الداني ٤٥٢ ، ٤٥٧ ، المغني ١ / ١٤٦ ، رصف المباني ٢٧١ ، شواهد المغني للسيوطي ٤٠٧ ، شواهد المغني للبغدادي ٣ / ٢٠٣. البحر ٥ / ٤٣٣.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : روح المعاني ١٤ / ٦ ، شواهد المغني للبغدادي ٣ / ٢٠٤.

(٥) تقدم.

٤٢٤

جوابها محذوفا ، تقديره : لو كانوا مسلمين لسرّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول «يودّ» محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودّ الذين كفروا النجاة ، دلّ عليه الجملة الامتناعية.

والثاني : أنّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [البقرة : ٩٦] ؛ وحينئذ يكون هذا المصدر المؤول هو المفعول للودادة ، أي : يودّون كونهم مسلمين ، إن جعلنا «ما» كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت «لو» وما في حيّزها بدلا من «ما».

فصل

المعنى : يتمنّى الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها.

قال الضحاك : حال المعاينة (١).

وقيل : يوم القيامة.

والمشهور : أنه حين يخرج الله المؤمنين من النار.

روى أبو موسى الأشعريّ ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا اجتمع أهل النّار في النّار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفّار لمن في النّار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم ، وأنتم معنا في النّار ، قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، [فيغفر] (٢) الله لهم ، بفضل رحمته ، فيأمر بإخراج كلّ من كان من أهل القبلة في النّار ، فيخرجون منها ، فحينئذ يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين» (٣).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٣).

(٢) في ب : فيتفضل.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨٩) وابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٤٤٢) والحاكم (٢ / ٤٠٥) والطبراني كما في مجمع الزوائد» (٧ / ٤٨) من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وخالد بن نافع فيه ضعف.

فقد ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (٣ / ٣٥٥) ونقل عن أبيه قوله : شيخ ليس بالقوي وقال أبو زرعة ضعيف الحديث.

وذكره ابن حبان في «الثقات».

وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٤٨) : وفيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو داود : متروك ، قال الذهبي : هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره.

وللحديث شاهد عن ابن عباس موقوفا :

أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨٩) والحاكم (٢ / ٣٥٣) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وله شاهد آخر :

أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (٢ / ٤٠٦) رقم (٨٤٤) من طريق أبي الخطاب العتكي عن أنس بن مالك مرفوعا.

٤٢٥

فإن قيل : «ربما» للتقليل ، وهذا التّمني يكثر من الكفار.

فالجواب : أنّ «ربما» يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناء عن التّصريح بالغرض ؛ فيقولون : ربّما ندمت على ما فعلت ، ولعلّك تندم على فعلك ؛ إذا كان العلم حاصلا بكثرة النّدم ، قال : [البسيط]

٣٢٦١ ـ أترك القرن مصفرّا أنامله

 ........... (١)

وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنّ قليل الندم كاف في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثيره؟.

وقيل : إنّ شغلهم بالعذاب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحيانا.

فإن قيل : إذا كان أهل القيامة ، يتمنّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلّ ثوابه عن درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه ، والمتمنّي لما لم يجده يكون في الغصّة وتألّم القلب.

فالجواب : أحوال أهل الآخرة ، لا تقاس بأحوال الدنيا ؛ فإن الله ـ تعالى ـ يرضي كلّ واحد بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزيادات ؛ كما قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الحجر : ٤٧].

قوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [الحجر : ٣] الآية ، أي دع يا محمد ، الكفّار يأخذوا حظوظهم من دنياهم ، فتلك خلاقهم ، ولا خلاق لهم في الآخرة ، (وَيُلْهِهِمُ) : يشغلهم «الأمل» عن الأخذ بحظّهم من الإيمان والطّاعة ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إذا [وردوا] (٢) القيامة ، وذاقوا وبال [صنعهم] (٣) وهذا تهديد ووعيد.

وقال بعض العلماء : «ذرهم» ، تهديد ، و (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ، تهديد آخر ، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتال.

قوله «وذرهم» ، هذا الأمر لا يستعمل له ماض إلا قليلا ؛ استغناء عنه ب «ترك» ، بل يستعمل منه المضارع نحو : (وَيَذَرُهُمْ) [الأعراف : ١٨٦] ، ومن مجيء الماضي قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ذروا الحبشة ما وذرتكم» ، ومثله : دع ويدع ، ولا يقال : ودع إلا نادرا ، وقد قرىء : (ما وَدَّعَكَ) [الضحى : ٣] مخففا ؛ وأنشدوا : [الرمل]

٣٢٦٢ أ ـ سل أميري ما الذي غيّره

عن وصالي اليوم حتّى ودعه؟ (٤)

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : رأوا.

(٣) في أ : سفههم.

(٤) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. ينظر : اللسان «ودع» ، الخصائص ١ / ٩٩ ، المحتسب ٢ / ٣٤ ، الخزانة ٥ / ١٥٠ ، الإنصاف ٢ / ٤٨٥ ، شرح شواهد الشافية ٥٣ والدر المصون ٤ / ٢٨٧.

٤٢٦

و «يأكلوا» مجزوم على جواب الأمر ، وقد تقدم [البقرة : ١٧ ، ٢٧٨] أنّ «ترك» و «وذر» يكونان بمعنى «صيّر» ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفا ، أي : ذرهم مهملين.

قوله تعالى : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) ، يقال : لهيت عن الشّيء ألهى لهيّا ؛ جاء في الحديث : أنّ ابن الزبير ـ رضي الله عنه ـ كان إذا سمع صوت الرّعد لهي عن الحديث» (١).

قال الكسائيّ ، والأصمعيّ : كلّ شيء تركته ، فقد لهيته ؛ وأنشد : [الكامل]

٣٢٦٢ ب ـ صرمت حبالك فاله عنها زينب

أي : اتركها ، وأعرض عنها.

فصل في سبب شقاء العبد

قال القرطبي : أربعة من الشقاء ؛ جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدّنيا.

فطول الأمل : داء عضال ، ومرض مزمن ، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه ، واشتدّ علاجه ، ولم يفارقه داء ، ولا نجع فيه دواء ، بل أعيا الأطبّاء ، ويئس من برئه الحكماء والعلماء.

وحقيقة الأمل : الحرص على الدنيا ، والانكباب عليها ، والحبّ لها ، والإعراض عن الآخرة ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «نجا أوّل هذه الأمّة باليقين والزّهد ، ويهلك آخرها بالبخل والأمل» (٢).

وقال الحسن : ما أطال عبد الأمل ، إلا أساء العمل (٣).

قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) ، أي : من أهل قرية ، (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) فيه أوجه :

أظهرها : أنها واو الحال ، ثم لك اعتباران :

أحدهما : أن تجعل الحال وحدها الجارّ ، ويرتفع «كتاب» به فاعلا.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ٣ / ١١.

(٢) ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤ / ٤٥٤) وقال : أخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

وللحديث لفظ آخر : صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرهم بالبخل والأمل.

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٤) وعزاه إلى أحمد في الزهد والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٨٩) وقال : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ٤).

٤٢٧

والثاني : أن تجعل الجارّ مقدما ، و «كتاب» مبتدأ ، والجملة حال ، وهذه الحال لازمة.

الوجه الثاني : أنّ الواو مزيدة ، ويؤيده قراءة (١) ابن أبي عبلة : «إلّا لها» بإسقاطها ، والزيادة ليست بالسهلة.

الثالث : أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة ؛ تأكيدا ، قال الزمخشريّ : والجملة واقعة صفة ل «قرية» ، والقياس : ألّا تتوسط هذه الواو بينهما ؛ كما في قوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء : ٢٠٨] وإنما توسّطت ، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف ؛ كما تقول : «جاءني زيد عليه ثوبه ، وجاءني وعليه ثوبه».

وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء ، وقد سبق له ذلك ـ أيضا ـ في البقرة عند قوله : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

قال أبو حيّان ـ رحمه‌الله ـ : «ولا نعلم أحدا قاله من النّحويين».

قال شهاب الدين (٢) : «وفي محفوظي أنّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك».

ثم قال أبو حيان (٣) : «وهو مبنيّ على جواز أنّ ما بعد «إلّا» يكون صفة ؛ وقد منعوا ذلك».

قال الأخفش : لا يفصل بين الصفة والموصوف ب «إلا» ، ثم قال : وأما نحو : «ما جاءني رجل إلّا راكب» على تقدير : إلّا رجل راكب ، ففيه قبح ؛ لجعلك الصفة كالاسم.

وقال أبو علي : تقول ما مررت بأحد إلّا قائما ، وقائما حال ، ولا تقول : إلّا قائم ؛ لأنّ «إلّا» لا تعترض بين الصّفة والموصوف.

قال ابن مالك : ـ وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريّ في قوله «ما مررت بأحد إلّا زيد خير منه» : إنّ الجملة بعد «إلّا» صفة ل «أحد» ـ : إنه مذهب لا يعرف لبصريّ ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه ، وأبطل قوله : «إنّ الواو توسّطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف».

قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله ـ : قول الزمخشريّ قويّ من حيث القياس ؛ فإنّ الصفة في المعنى كالحال ، وإن كان بينهما فرق من بعض الوجوه.

فكما أنّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالا ؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة ، ويقويه ـ أيضا ـ [نصره] (٤) به من الآية الأخرى في قوله : (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء : ٢٠٨]. ويقويه ـ أيضا ـ : قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة ، وقال منذر بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ ، هي في الزمن قبل الحالة التي

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٥٠ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٤ والدر المصون ٤ / ٢٨٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣٤.

(٤) في ب : ظهر.

٤٢٨

قبل الواو ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣].

فصل

لما توعد مكذّبي الرسل بقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) الآية أتبعه بما يؤكد الزجر ، وهو قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) في الهلاك والعذاب ، أي : أجل مضروب ، لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ، والمراد بهذا الهلاك : عذاب الاستئصال ، وقيل : الموت.

قال القاضي (١) : والأول أقرب ؛ لأنه أبلغ في الزّجر ، فبيّن ـ تعالى ـ أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترّ به العاقل. وقيل : المراد بالهلاك مجموع الأمرين.

قوله : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) «من أمة» فاعل «تسبق» ، و «من» مزيدة للتأكيد ؛ كقولك : ما جاءني من أحد.

قال الواحدي : «وقيل : ليست بزائدة ؛ لأنّها تفيد التبعيض ، أي : هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة ، فيكون ذلك في إفادة عموم النّفي ، آكد».

قال الزمخشري (٢) : «معنى : «سبق» : إذا كان واقعا على شخص ، كان معناه أنّه [جاز] (٣) ، وخلف ؛ كقولك : سبق زيد عمرا ، أي : جاوزه وخلفه وراءه ، ومعناه : أنه قصّر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعا على زمان ، كان بالعكس في ذلك ؛ كقولك : سبق فلان عام كذا ، معناه : أنه مضى قبل إتيانه ، ولم يبلغه ، فقوله : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) معناه : أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنّما يحصل في ذلك الوقت بعينه».

وحمل على لفظ «أمّة» في قوله : «أجلها» ، فأفرد وأنّث ، وعلى معناها في قوله : (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ، فجمع وذكّر ، وحذف متعلق «يستأخرون» وتقديره : عنه ؛ للدلالة عليه ، ولوقوعه فاصلا.

وهذه الآية تدلّ على أنّ كل من مات أو قتل ، فإنما مات بأجله ، وأنّ من قال : يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء.

قوله : «وقالوا» ، يعنى مشركي مكّة (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ، أي : القرآن ، وأراد به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والعامة على : «نزّل» مشدّدا ، مبنيّا للمفعول ، وقرأ زيد (٤) بن علي : «نزل» ، مخفّفا مبنيّا للفاعل.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٢٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧١.

(٣) في أ : جاوز.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣٤ ، الدر المصون ٤ / ٢٨٨.

٤٢٩

(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وذكروا نزول الذّكر ؛ استهزاء ، وإنما وصفوه بالجنون ، إما لأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان يظهر عليه عند نزول الوحي ، حالة شبيهة بالغشي ؛ فظنّوا أنّها جنون ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤].

وإما لأنهم كانوا يستعبدون كونه رسولا حقّا من عند الله ؛ لأن الرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره ، فربما قال : به جنون.

قوله : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) ، «لو ما» : حرف تحضيض ؛ ك «هلّا» ، وتكون أيضا حرف امتناع لوجود ، وذلك كما أنّ «لو لا» متردّدة بين هذين المعنيين ، وقد عرف الفرق بينهما ، وهو أنّ التحضيضيّة لا يليها إلّا الفعل ظاهرا أو مضمرا ؛ كقوله : [الطويل]

٣٢٦٣ ـ ...........

لو لا الكميّ المقنّعا (١)

والامتناعية لا يليها إلا الأسماء : لفظا أو تقديرا عند البصريين.

وقوله : [الوافر]

٣٢٦٤ ـ ولو لا يحسبون الحلم عجزا

لما عدم المسيئون احتمالي (٢)

مؤول ؛ خلافا للكوفيين.

فمن مجيء «لو ما» حرف امتناع قوله : [البسيط]

٣٢٦٥ ـ لو ما الحياء ولو ما الدّين عبتكما

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري (٣)

واختلف فيها : هل هي بسيطة أم مركبة؟.

فقال الزمخشري (٤) : «لو» ركبت مع «لا» ، ومع «ما» ؛ لمعنيين ، وأمّا «هل» فلم تركّب إلّا مع «لا» وحدها ؛ للتحضيض.

واختلف ـ أيضا ـ في «لو ما» هل هي أصل بنفسها ، أم فرع على «لو لا» وأنّ الميم مبدلة من اللام ، كقولهم : خاللته ، خالمته ، فهو خلّي وخلمي ، أي : صديقي.

وقالوا : استولى على كذا ، [واستوى] (٥) عليه ؛ بمعنى ، خلاف مشهور ، وهذه الجملة من التحضيض ، دالة على جواب الشرط بعدها.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لابن مقبل. ينظر : ديوانه ص ٧٦ ، الهمع ٢ / ٦٧ ، الدرر ٢ / ٨٣ ، اللسان «بعض» ، ورصف المباني ص ٢٤٢ ، وشواهد الكشاف ٤٠٨ ، وشرح شواهد مغني اللبيب للبغدادي ٨ / ١١٨ والكشاف ٢ / ٣٨٧ ، والطبري ١٤ / ٦ ، ومجاز القرآن ١ / ٣٤٦ والشعر والشعراء ١ / ٤٦٣ ، والجنى الداني ص ٥٩٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٣١ ، والقرطبي ١٠ / ٤ ، وروح المعاني ١٤ / ١٢ والدر المصون ٤ / ٢٨٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧١.

(٥) في ب : واستومن.

٤٣٠

فصل في معنى الآية

المعنى : لو كنت صادقا في ادّعائك النّبوّة ، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدّعيه من الرسالة ؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) [الأنعام : ٨] ويحتمل أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا خوّفهم بنزول العذاب ، قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب ، وهو المراد من قوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٣].

ثم إنه ـ تعالى ـ أجاب عن شبهتهم بقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) فإذا كان المراد الأول ، كان تقرير الجواب : أنّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقّ ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار ، أنه لو أنزل عليهم ملائكة ، لبقوا مصرّين على كفرهم ، فيصير إنزالهم عبثا باطلا ، ولا يكون حقّا ، فلهذا السبب ما أنزل الله ـ تعالى ـ الملائكة.

قال المفسرون : المراد بالحق ـ هنا ـ الموت ، أي : لا ينزلون إلا بالموت ، أو بعذاب الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظار ، ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة ؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب : أنّ الملائكة لا تنزل إلّا بعذاب الاستئصال ، ولا تفعل بأمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين.

قوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) ، قرأ أبو بكر (١) ـ رضي الله عنه ـ : «ما تنزّل» بضمّ التاء ، وفتح النون ، والزاي مشدّدة ، مبنيّا للمفعول ، «الملائكة» : مرفوعا لقيامه مقام فاعله ، وهو موافق لقوله تعالى : (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] ؛ لأنها لا تنزل إلّا بأمر من الله ـ تعالى ـ فغيرها هو المنزّل لها ، وهو الله ـ تعالى ـ.

وقرأ الأخوان ، وحفص : بضمّ النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي مشددة مبنيّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري ـ جل ذكره ـ. «الملائكة» ، نصبا : مفعول به ؛ وهو موافق لقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١] ، ويناسب قوله قبل ذلك : (وَما أَهْلَكْنا) ، وقوله بعده : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) [الحجر : ٩] ، وما بعده من ألفاظ التّعظيم.

والباقون من السبعة ما تنزّل بفتح التاء (٢) والنون والزاي مشددة ، و «الملائكة» مرفوعة على الفاعلية ، والأصل : تتنزّل ، بتاءين ، فحذفت إحداهما ، وقد تقدم تقريره في :

__________________

(١) وقرأ بها أيضا يحيى بن وثاب. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣٤ وينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٩.

(٢) ينظر : الحجة ٥ / ٤٢ وإعراب القراءات السبع ٣٤٢ ، ٣٤٣ وحجة القراءات ٣٨١ والإتحاف ٢ / ١٧٤ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٥١ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٤ والدر المصون ٤ / ٢٨٩.

٤٣١

(تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ، ونحوه ، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤].

وقرأ زيد بن علي : «ما نزل» مخففا مبنيّا للفاعل ، و «الملائكة» مرفوعة على الفاعلية ، وهو كقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣].

قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) يجوز تعلقه بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول ، أي : متلبسين بالحق ، وجعله الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ نعتا لمصدر محذوف ، أي : إلّا تنزّلا ملتبسا بالحقّ.

قوله «إذن» قال الزمخشري (١) : «إذن حرف جواب وجزاء ؛ لأنها جواب لهم ، وجزاء الشرط مقدر ، تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم».

قال صاحب النظم : «لفظة «إذن» مركبة من «إذ» ، وهو اسم بمنزلة «حين» ؛ تقول : أتيتك إذ جئتني ، أي : حين جئتني ، ثم ضم إليها «أن» فصار : إذ أن ، ثم استثقلوا الهمزة ؛ فحذفوها ، فصار «إذن» ، ومجيء لفظة «أن» دليل على إضمار فعل بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا».

قوله : «نحن» إما مبتدأ ، وإما تأكيد ، ولا يكون فصلا ؛ لأنه لم يقع بين اسمين ، والضمير «له» للذكر ، وهو الظاهر ، وقيل : للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قاله الفراء ، وقوّاه ابن الأنباري ، قال : لما ذكر الله الإنزال ، والمنزل ، دلّ ذلك على المنزل عليه ، فحسنت الكناية عنه ؛ لكونه أمرا معلوما ، كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] ، فإنّ هذه الكناية عائدة على القرآن ، مع أنه لم يتقدم ذكره ؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم ، فكذا هاهنا ، والأول أوضح».

فإذا قلنا : الكناية عائدة إلى القرآن ، فاختلفوا في أنه ـ تعالى ـ كيف يحفظ القرآن؟.

فقيل : بأن جعله معجزا مباينا لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة ، والنقصان فيه ، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه ، يغير نظم القرآن.

وقيل : صانه ، وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته.

وقيل : قيّض جماعة يحفظونه ، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف.

وقيل : المراد بالحفظ : هو أنّه لو أنّ أحدا حاول بتغيير حرف أو نقطة ، لقال له أهل الدنيا : هذا كذب ، وتغيير لكلام الله ـ تعالى ـ حتى أن الشيخ المهيب لو اتّفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله ـ تعالى ـ ، لقال له كل الصبيان : أخطأت أيّها الشيخ ، وصوابه كذا وكذا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧٢.

٤٣٢

واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف ، والتحريف ، والتغيير ، إما في الكثير منه ، أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصونا عن جميع جهات التّحريف ، مع أنّ دواعي الملاحدة ، واليهود ، والنصارى ، متوفرة على إبطاله وإفساده ، فذلك من أعظم المعجزات.

فإن قيل : لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله ـ عزوجل ـ بحفظه وما حفظ الله ـ عزوجل ـ فلا خوف عليه؟.

فالجواب : أنّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه ، فإنه ـ تعالى ـ لما أراد حفظه ، قيّضهم لذلك ، وفي الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من كل سورة ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظ لا معنى له إلّا أن يبقى مصونا عن التغيير وعن الزيادة ، وعن النقصان فلو لم تكن التسمية آية من القرآن ، لما كان مصونا من التغيير والزيادة (١) ، ولو جاز أن يظنّ بالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنهم زادوا ، لجاز ـ أيضا ـ أن يظنّ بهم النقصان ؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجّة ، وهذا لا دليل فيه ؛ لأن أسماء السور ـ أيضا ـ مكتوبة معهم في المصحف ، وليست من القرآن بالإجماع.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥)

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) مفعوله محذوف ، أي : أرسلنا رسلا (مِنْ قَبْلِكَ) ف (مِنْ قَبْلِكَ) يجوز أن يتعلق ب «أرسلنا» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعت للمفعول المحذوف.

و (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) ، قال الفراء : هو من إضافة الموصوف لصفته ، والأصل : في الشّيع الأوّلين ؛ كصلاة الأولى ، وجانب الغربي وحقّ اليقين ، ودين القيمة.

والبصريون : يؤولونه على حذف [الموصوف] (٢) ، أي : في شيع الأمم الأولين ، وجانب المكان الغربي ، وصلاة السّاعة الأولى.

والشّيع : قال الفراء : الشيّاع واحدهم : شيعة ، وشيعة الرجل : أتباعه ، والشّيعة : هم القوم المجتمعة المتفقة ، سموا بذلك ؛ لأن بعضهم يشايع بعضا ، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) [الأنعام : ٦٥].

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : مضاف.

٤٣٣

قوله : (وَما يَأْتِيهِمْ) قال الزمخشري (١) : «حكاية حال ماضية ؛ لأنّ «ما» لا تدخل على المضارع إلّا وهو في موضع الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال».

وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم ؛ لكنّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال ؛ كقوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) [يونس : ١٥] ، وأنشدوا للأعشى يمدح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الطويل]

٣٢٦٦ ـ له نافلات ما يغبّ نوالها

وليس عطاء اليوم مانعه غدا (٢)

وقال أبو ذؤيب : [الكامل]

٣٢٦٧ ـ أودى بنيّ وأودعوني حسرة

عند الرّقاد وعبرة ما تقلع (٣)

قوله : «إلا كانوا» هذه الجملة يجوز أن تكون حالا من مفعول «تأتيهم» ، ويجوز أن تكون صفة ل «رسول» فيكون في محلّها وجهان : الجرّ باعتبار اللفظ ، والرفع باعتبار الموضع ، وإذا كانت حالا فهي حال مقدّرة.

فصل في معنى الآية

المعنى : أنّ عادة هؤلاء الجهّال مع جميع الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ الاستهزاء بهم ؛ كما فعلوا بك ؛ ذكره تسلية للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

واعلم أنّ السّبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة : إما لأنّ الانتقال من المذاهب يشقّ على الطّباع.

وإمّا لكون الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يكون فقيرا ، وليس له أعوان ، ولا أنصار ؛ فالرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصّفة.

وأمّا خذلان الله تعالى لهم ، فبإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم ، وهذا هو السبب الأصليّ.

قوله : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلّ على خبرها مبتدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك ، و «نسلكه» مستأنف ، ويجوز أن

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧٢.

(٢) ينظر : الديوان ١٠٣ ، المغني ١ / ٢٩٣ ، شواهد المغني (٢٤٠) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٦٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٣٥ وروح المعاني ١٤ / ١٧ والدر المصون ٤ / ٢٩٠ وله أو للنابغة الجعدي في تخليص الشواهد ص ٢٢٧.

(٣) ينظر : ديوان الهذليين ١ / ٢ ، المفضليات ٢ / ٢٢١ ، الأشموني ٢ / ٢٨١ ، التصريح ٢ / ٦١ ، العيني ٣ / ٤٩٨ ، الجمهرة ٢٤١ ، خزانة الأدب ١ / ٤٢٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، لسان العرب «عقب» والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٨ ، أوضح المسالك ٣ / ١٩٧ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٣٥ ، والألوسي (١٤ / ١٧) ، والدر المصون ٤ / ٢٩٠.

٤٣٤

تكون منصوبة المحل ، إمّا نعتا لمصدر محذوف ، أي : مثل ذلك السلك ؛ ويجوز نسلكه ، أي : نسلك الذكر ، إما حالا من المصدر المقدّر ، والهاء في «نسلكه» يجوز عودها للذكر ، وهو الظاهر ، وقيل : يعود للاستهزاء ، وقيل : على الشرك.

والهاء في «به» يجوز عودها على ما تقدم من الثّلاثة ، ويكون تأويل عودها على الاستهزاء والشرك ، أي : لا يؤمنون بسببه.

وقيل : للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وقيل : للقرآن.

وقال أبو البقاء (١) : «ويجوز أن يكون حالا ، أي : لا يؤمنون مستهزئين» كأنه جعل «به» متعلقا بالحال المحذوفة قائمة مقامها.

وهو مردود ؛ لأن الجارّ إذا وقع حالا أو نعتا أو صلة أو خبرا ، تعلّق بكون مطلق لا خاصّ ، وكذا الظرف.

ومحل «لا يؤمنون» النّصب على الحال ، ويجوز ألّا يكون لها محلّ ؛ لأنها بيان لقوله : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) ، وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) استئناف ، والسّلك : الإدخال ، يقال : سلكت الخيط في الإبرة ، والرّمح في المطعون ومنه (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢].

قال أبو عبيدة ، وأبو عبيد : يقال : سلكته وأسلكته ، أي : نظمته ، قال : [الوافر]

٣٢٦٨ ـ وكنت لزاز خصمك لم أعرّد

وقد سلكوك في يوم عصيب (٢)

وقال الآخر في «أسلك» : [البسيط]

٣٢٦٩ ـ حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلّا كما تطرد الجمّالة الشّردا (٣)

فصل في المعنى الإجمالي للآية

قال الزجاج : المعنى : قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضّلال في قلوبهم.

وقيل : إنه تهديد لكفار مكة ، أي : قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية ، والأول أليق بظاهر اللفظ.

قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) الآية ، هذا هو المراد في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) [الأنعام : ٧] الآية يعني : أنّ

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٢.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي. ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ٤٢ ، الإنصاف ٢ / ٤٦١ ، الصاحبي ١٩٣ ، الخزانة ٧ / ٣٩ ، الهمع ١ / ٢٧ ، الدرر ٢ / ١٧٤ ، أمالي المرتضى ١ / ٣ ، الجمهرة ٢ / ٩ ، ابن الشجري ١ / ٣٥٨ ، المقتضب ١ / ٢٣ ، الأزهية ص ٢٠٣ ، ٢٥٠ وشرح أشعار الهذليين ٢ / ٦٧٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٣١ ، والدر المصون ٤ / ٢٩١.

٤٣٥

الذين يقولون : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [الحجر : ٧] ، فلو أنزلنا الملائكة ، «فظلّوا فيه» أي : فظلت الملائكة فيها «يعرجون» ، وهم يرونها عيانا.

و «ظلّ» هذه هي الناقصة ، والضمير في «فظلّوا» يعود على الملائكة ، وهو الصحيح وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : يعود على الكفّار المفتح لهم الباب (١).

وقرأ الأعمش (٢) ، وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء ؛ وهي لغة هذيل في عرج : يعرج ، أي : صعد.

قوله : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قرأ (٣) ابن كثير : «سكرت» مبنيا للمفعول ، مخفّف الكاف ، وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم شدّدوا الكاف ، والزهري : بفتح السين (٤) ، وكسر الكاف خفيفة مبنيا للفاعل.

فأما القراءة الأولى : فيجوز أن تكون بمعنى المشددة ؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير ، وهما مأخوذتان من : السّكر ، بكسر السين ، هو السّدّ.

والمعنى : حبست أبصارنا ، وسدّت ، وقيل : بمعنى : أخذت ، وقيل : بمعنى : سحرت ، وقيل المشدد من : سكر الماء بالكسر ، والمخفف من : سكر الشّراب بالضم.

والمشهور أن «سكر» لا يتعدى فكيف بني للمفعول؟.

فقال أبو علي (٥) : «ويجوز أن يكون سمع متعدّيا في البصر».

والذي قاله المحقّقون من أهل اللغة : أنّ «سكر» إن كان من : «سكر الشّراب ، أو من سكر الرّيح» فالتضعيف فيه للتعدية ، وإن كان من : «سكر الماء» فالتضعيف فيه للتكثير ؛ لأنه متعد مخفّفا ، وذلك أنه يقال : سكرت الرّيح تسكر سكرا ، إذا ركدت ، وسكر الرّجل من الشّراب سكرا ، إذا ركد ، ولم ينقد لحاجته.

فهذان قاصران فالتضعيف فيهما للتعدية ، ويقال : سكرت الماء في مجاريه : إذا منعته من الجري ، فهذا متعدّ ، فالتضعيف فيه للتكثير.

وأما قراءة ابن كثير : فإن كانت من «سكر الماء» فهي واضحة ؛ لأنه متعدّ ، وإن كانت من «سكر الشّراب أو سكر الرّيح» فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازما تارة ، ومتعديا أخرى ، نحو : «رجع زيد ، ورجعه غيره ، وسعد وسعده غيره» وقال الزمخشريّ :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٥).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٣٦ والدر المصون ٤ / ٢٩١.

(٣) ينظر : الحجة ٥ / ٤٣ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٤٣ وحجة القراءات ٣٨٢ والإتحاف ٢ / ١٧٤ ، ١٧٥ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٣٥٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٦ والدر المصون ٤ / ٢٩١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٥٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٣٦ والدر المصون ٤ / ٢٩١.

(٥) ينظر : الحجة ٢ / ٤٤.

٤٣٦

«وسكّرت : حيّرت أو حبست من السّكر أو السّكر ، وقرىء : «سكرت» بالتخفيف ، أي : حبست كما يحبس المهر عن الجري» ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محتملة لمعنى واحد.

وأما قراءة الزهريّ ، فواضحة ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : أسكرت المكان فسكر: أي : سددته فانسدّ.

(بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ، أي عمل فينا السّحر ، وسحرنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ؛ ولو جاز حصول الشكّ في ذلك ، كانت السّفسطة لازمة ، ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة؟.

أجاب القاضي ـ رحمه‌الله ـ : بأنه ـ تعالى ـ ما وصفهم بالشكّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟.

وأجاب : بأنه يصحّ ذلك ، إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجّة أو غلبة خصم ، وأيضا : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألوا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إنزال الملائكة ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساء القوم ، وكانوا قليلي العدد ، وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة ، جائز.

قوله : «فظلّوا» يقال : ظلّ فلان نهاره يفعل كذا : إذا فعله بالنّهار ، ولا تقول العرب : «ظلّ يظلّ» إلّا لكلّ عمل بالنهار ؛ كما لا يقولون : بات يبيت إلا بالليل ، والمصدر الظّلول.

والعروج : الصّعود ، يقال : عرج يعرج عروجا ، ومنه : المعارج ، وهي المصاعد التي يصعد عليها.

فإن قلنا : إن الضمير في : «فظلّوا» للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «فظلّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوت الله ـ سبحانه وتعالى ـ وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته ـ عليهم‌السلام ـ لشكّوا في تلك الرؤية ، وأصرّوا على جهلهم وكفرهم ؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله» (١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٦) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٣٧

وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) الآية ، «جعلنا» : يجوز أن يكون بمعنى «خلقنا» فيتعلق به الجارّ ، وأن يكون بمعنى صيّرنا ؛ فيكون مفعوله الأول : «بروجا» ومفعوله الثاني : الجارّ ، فيتعلق بمحذوف ، و «للنّاظرين» متعلق ب «زينّاها» ، والضمير ل «السّماء» أي : زيّناها بالشّمس ، والقمر ، والنجوم.

وقيل : للبروج : وهي الكواكب ، زيّنّاها بالضوء ، والنظر عينيّ.

وقيل : قلبي وحذف متعلقه ؛ ليعمّ.

فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية

لما أجاب عن منكري النبوة ، وقد ثبت أنّ القول بالنبوة فرع على القول بالتوحيد ، أتبعه ـ تعالى ـ بدلائل التوحيد وهي : منها سماويّة ، ومنها أرضية ، فبدأ بذكر السماوية ، فقال ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ).

قال اللّيث ـ رحمه‌الله ـ : البروج واحدها برج من بروج الفلك ، والبروج : هي النجوم الكبار ، مأخوذة من الظهور ، يقال : برجت المرأة ، أي : ظهرت ، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس ، والقمر ، والكواكب السيارة.

والعرب تعدّ المعرفة بمواقع النّجوم ، وأبوابها من أجلّ العلوم ، ويستدلّون بها على الطّرقات ، والأوقات ، والخصب ، والجدب ، وقالوا : الفلك : اثنا عشر برجا ، كلّ برج ميلان ، ونصف للقمر.

وقال ابن عطية : هي قصور في السماء ، وعليها الحرس.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) مرجوم ، وقيل : ملعون.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات ، وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها ؛ فيلقون على الكهنة ، فلما ولد عيسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السماوات أجمع ، فما منهم من أحد يريد استراق السمع ، إلّا رمي بشهاب (١).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٥) والرازي (١٩ / ١٣٤).

٤٣٨

فلمّا منعوا من تلك المقاعد ، ذكروا ذلك لإبليس ، فقال : حدث في الأرض حدث ، قال : فبعثهم ، فوجد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يتلو القرآن ، فقالوا : والله حدث.

فإن قيل : ما معنى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) والشيطان لا قدرة له على هدم السماء ، فأيّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا : لما منعه من القرب منها ، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان ، فحفظ الله السماء منهم ، كما قد يحفظ منازلنا ممّن يخشى منه الفساد.

والرّمي في اللغة : الرمي بالحجارة ، والرّجم أيضا : السبّ والشتم ؛ لأنه رمي بالقول القبيح ، والرجم : القول بالظنّ ؛ ومنه قوله تعالى : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الكهف : ٢٢] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنّ ، والرجم أيضا : اللّعن ، والطّرد.

قوله (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : في محل نصب على الاستثناء المتصل ، والمعنى : فإنها لم تحفظ منه ؛ قاله غير واحد.

الثاني : منقطع ، ومحله النصب أيضا ، أي : لكن من استرق السمع. قال الزجاج ـ رحمه‌الله ـ : موضع : «من» نصب على التقدير ، قال : «وجاز أن يكون في موضع خفض ، والتقدير: إلا ممّن».

الثالث : أنه بدل من (كُلِّ شَيْطانٍ) فيكون محله الجرّ ، قاله الحوفي ، وأبو البقاء ، وتقدم عن الزجاج ، وفيه نظر ؛ لأن الكلام موجب.

الرابع : أنه نعت ل (كُلِّ شَيْطانٍ) فيكون محله الجر ، على خلاف في هذه المسألة.

الخامس : أنّه في محلّ رفع بالابتداء ، وخبره الجملة من قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ) ، وإنما دخلت الفاء ؛ لأنّ «من» إمّا شرطية ، وإمّا موصولة ، مشبهة بالشرطية. قاله أبو البقاء وحينئذ يكون من باب الاستثناء المنقطع.

والشّهاب : الشّعلة من النّار ، وسمّي بها الكوكب ؛ لشدّة ضوئه ، وبريقه ، وكذلك سمّي السّنان شهابا ، ويجمع على : «شهب» في الكثرة ، و «أشهب» في القلّة ، والشّهبة : بياض مختلط بسواد ؛ تشبيها بالشّهاب ؛ لاختلاطه بالدّخان ، ومنه : كتيبة شهباء لسواد القوم ، وبياض الحديد ، ومن ثمّ غلط الناس في إطلاقهم الشّهبة على البياض الخالص.

وقال القرطبيّ (١) : «أتبعه» أي : أدركه ولحقه ، شهاب مبين ، أي : كوكب مضيء ، وكذلك : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) [النمل : ٧] أي : شعلة نار في رأس عود ، قاله ابن عزيز ؛ وقال ذو الرّمّة : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٩.

٤٣٩

٣٢٧٠ ـ كأنّه كوكب في إثر عفرية

مسوّم في سواد اللّيل منقضب (١)

وسمّي الكوكب شهابا ؛ لأنّ بريقه يشبه النّار.

وقيل : شهاب شعلة من نار تبين لأهل الأرض ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم ، كما إذا أحرقت النار ، لم تعد ، بخلاف الكواكب فإنه إذا أحرق ، عاد إلى مكانه.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «إلّا من استرق السّمع» يريد الخطفة اليسيرة ، وذلك أن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة ، فيرمون من الكواكب ، فلا تخطىء أبدا ، فمنهم من يقتله ، ومنهم من يحرق وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله ؛ فيصير غولا ؛ فيقتل الناس في البراري (٢).

روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا قضى الله الأمر في السّماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صنوان ، فإذا فزع عن قلوبهم ، قالوا : ما ذا قال ربّكم؟ قالوا : الّذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير ، فيسمعها مسترق السّمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ، ووصف سفيان بكفّه فحرّقها وبدّد بين أصابعه ، فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتّى يلقيها على لسان السّاحر ، والكاهن ، وربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها ، وربّما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا اليوم كذا وكذا ، فيصدق بتلك الكلمة الّتي سمعت من السّماء» (٣).

وهذا لم يكن ظاهرا قبل أن يبعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه‌السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساسا لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إنّ أول من قرع للرّمي بالنجوم ، هذا الحيّ من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أميّة ، أحد بني علاج ، وكان أدهى العرب ، فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء من القذف بالنّجوم؟ قال : بلى فانظروا ، فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البرّ ، والبحر ، ويعرف بها الأنواء من الصيف ، والشتاء ، لما يصلح الناس من معايشهم ، هي التي يرمى بها ، فهي ـ والله ـ طيّ الدنيا ، وهلاك الخلق الذين فيها ، وإن كان نجوما غيرها ، وهي ثابتة على حالها ، فهذا الأمر أراد الله لهذا الخلق.

قال معمر : قلت للزهريّ : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، قال :

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٩.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ٩).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٢٣١ ـ ٢٣٢) كتاب التفسير : باب إلّا من استرق السمع حديث (٤٧٠١).

٤٤٠