اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

عرق راسخ ، وأصل قائم ، وفرع عال ، كذلك الإيمان لا يتمّ إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب وقول باللسان ، وعمل بالأبدان.

ثم قال تعالى ـ جل ذكره ـ (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام ، وتذكير وتصوير للمعاني.

وقوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) قرىء (١) بنصب «مثل» عطفا على : «مثل» الأوّل.

و «اجتثّت» «صفة ل «شجرة» ، ومعنى : «اجتثّت» قلعت جثتها ، أي : شخصها والجثة شخص الإنسان قاعدا أو قائما ويقال : اجتث الشيء أي اقتلعه ، فهو افتعال من لفظ الجثة ، وجثثت الشيء : قلعته.

قال لقيط الإيادي : [البسيط]

٣٢١٧ ـ هذا الجلاء الّذي يجتثّ أصلكم

فمن رأى مثل ذا يوما ومن سمعا (٢)

وقال الراغب (٣) : «جثّة الشيء : شخصه النّاتىء ، والمجثّة : ما يجثّ به والجثيثة لما بان جثّته بعد طبخه ، والجثجاث : نبت».

و «من قرار» يجوز أن يكون فاعلا بالجار قبله لاعتماده على النّفي ، وأن يكون مبتدأ ، والجملة المنفية إمّا نعت ل «شجرة» وإمّا حال من ضمير : «اجتثّت».

فصل في المراد بالشجرة الخبيثة

الكلمة الخبيثة هي الشرك : (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) وهي الحنظل وقيل : هي الثوم.

وقيل : هي الكشوث وهل العسّة ، وهي شجرة لا ورق لها ، ولا عروق في الأرض.

[قال الشاعر :](٤) [البسيط]

٣٢١٨ ـ ...........

وهي كشوث فلا أصل ولا ثمر (٥)

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنّها شجرة لم تخلق على وجه الأرض (٦).

«اجتثّت» اقتلعت من فوق الأرض (ما لَها مِنْ قَرارٍ) ثابت ، أي : ليس لها أصل ثابت في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ، ولا عمل صالح.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٣ والبحر المحيط ٥ / ٤١١ والدر المصون ٤ / ٢٦٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / القرطبي ٥ / ٣٩٦ ، الأغاني ١٢ / ٣٥٦ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٧.

(٣) ينظر : المفردات : ٨٨.

(٤) سقط في ب.

(٥) ينظر : اللسان (كشت) ، والقرطبي ٩ / ٢٣٧ ، وروح المعاني ١٣ / ٢١٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٤١١ ورواية اللسان : هو الكشوت فلا أصل ولا ورق.

(٦) ذكره القرطبي (٩ (٢٣٧) وأخرجه الطبري (٧ / ٤٤٥) عن ابن عباس بمعناه.

٣٨١

فصل

قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) كلمة التوحيد ، وهي قوله : لا إله إلا الله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني قبل الموت ، (وَفِي الْآخِرَةِ) يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين.

وقيل : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) في القبر عند السؤال (وَفِي الْآخِرَةِ) عند البعث ، والأول أصح ، لما روى البراء بن عازب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أنّ لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، فذلك قوله سبحانه (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال حين يقال له : من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول : الله ربّي ، وديني الإسلام ، ونبيّي محمّد» (١). والمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر ، فيلقّن الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال ، ويثبته على الحق.

ومعنى «الثّابت» هو أنّ الله ـ تعالى ـ إنّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول.

قوله : «بالقول» فيه وجهان :

أحدهما : تعلقه ب «يثبّت».

والثاني : أنه متعلق ب «آمنوا».

وقوله تعالى : (فِي الْحَياةِ) متعلق ب «يثبّت» ويجوز أن يتعلق ب «الثّابت».

ثمّ قال تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) أي : لا يهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) من التوفيق ، والخذلان والتثبيت ، وترك التثبيت.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) الآية اعلم أنّه ـ تعالى ـ عاد إلى وصف الكافرين فقال ـ عزوجل ـ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) هم والله كفار قريش «بدّلوا» أي : غيروا «نعمة الله» عليهم في محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حيث ابتعثه الله

__________________

(١) أخرجه البخاري ٣ / ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، في الجنائز : باب ما جاء في عذاب القبر (١٣٦٩) ، (٤٦٩٩) ، ومسلم ٤ / ٢٢٠١ ـ ٢٢٠٢ في الجنة وصفة نعيمها باب عرض مقعد الميت في الجنة أو النار عليه (٧٣ / ٢٨٧١) ، (٧٤ / ٢٨٧١).

٣٨٢

منهم كفروا به : «وأحلّوا» أنزلوا : «قومهم» من تابعهم على كفرهم : (دارَ الْبَوارِ) الهلاك(١).

ثم بيّن دار البوار فقال : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) المستقر ، وقال عليّ : هم كفار قريش نحروا يوم بدر.

وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [مخزوم](٢) ، فأما بنو أمية فمتّعوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم ، [فأهلكوا](٣) يوم بدر قاله علي بن أبي طالب ، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ (٤).

وعن ابن عباس وقتادة ـ رضي الله عنهما ـ : نزلت في متنصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه.

وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : هي عامّة في جميع المشركين (٥).

قوله تعالى : (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) فيه أوجه :

أحدها : أن الأصل : بدلوا شكر نعمة الله كفرا ، كقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٣] أي شكر رزقكم ؛ وجب عليهم الشكر ؛ فوضعوا موضعه الكفر.

والثاني : أنّهم بدلوا نفس النعمة كفرا على أنّهم لما كفروها سلبوها ، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلا لهم ، قالهما الزمخشريّ ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وقد تقدّم أن «بدّل» يتعدى لاثنين :

أولهما : من غير حرف.

والثاني : بالباء ، وأن المجرور هو المتروك والمنصوب هو الحاصل ، ويجوز حذف الحرف فيكون المجرور بالباء هنا هو «نعمة» ؛ لأنها المتروكة.

وإذا عرف أنّ قول الحوفي ، وأبي البقاء : أن «كفرا» هو المفعول الثاني ليس بجيد ؛ لأنه هو الّذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر ، وما كان كذا فهو المفعول الأول.

قوله : (جَهَنَّمَ) فيه ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٥).

(٢) في أ : المغيرة.

(٣) في أ : فكفيتموهم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٥٢) عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٥٦) عن عمر وزاد نسبته للبخاري في «تاريخه» وابن المنذر وابن مردويه.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٥٢) من طريق أبي إسحاق عن عمرو ذي مر عن علي وقال الحاكم : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وتعقبهما الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٤٧) حيث أورد الحديث وقال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو ذو مر لم يرو عنه غير أبي إسحق السبيعي. وأثر علي أورده السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٥٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٥٤) عن مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس بمعناه.

٣٨٣

أحدها : أنه بدل من «دار».

الثاني : أنه عطف بيان لها ، وعلى هذين الوجهين ؛ فالإحلال يقع في الآخرة.

الثالث : أن ينتصب على الاشتغال بفعل مقدر ، وعلى هذا ، فالإحلال يقع في الدّنيا ، لأن قوله : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي : واقع في الآخرة.

ويؤيّد هذا التأويل : قراءة ابن أبي عبلة (١) «جهنّم» بالرفع على أنها مبتدأ ، والجملة بعده الخبر.

وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجها آخر : وهو أن ترتفع على خبر [مبتدأ](٢) مضمر.

و «يصلونها» حال إمّا من : «قومهم» ، وإمّا من «دار» ، وإمّا من : «جهنّم».

وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب ، ولا ما يجعله مساويا والقراء الجماهير على النصب ، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح ؛ إلا لأنّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء ، وهذا الذي ذكرناه أيضا مرجح لنصبه على البدلية أو البيان على انتصابه على الاشتغال.

و «البوار» : الهلاك ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣٢١٩ ـ فلم أر مثلهم أبطال حرب

غداة الرّوع إذ خيف البوار (٣)

وأصله من [الكساد](٤) كما قيل : كسد حتّى فسد ، ولما كان الكساد يؤدّي إلى الفساد والهلاك أطلق عليه البوار.

ويقال : بار يبور بورا وبوارا ، ورجل جائر بائر ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح : ١٢].

ويحتمل أن يكون مصدرا وصف به الجمع ، وأن يكون جمع بائر في المعنى ، ومن وقوع «بور» على الواحد قوله : [الخفيف]

٣٢٢٠ ـ يا رسول المليك إنّ لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (٥)

أي : هالك.

قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا) والمراد بهذا الجعل : الحكم والاعتقاد ، والفعل ، والأنداد الأشباه ، والشركاء.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤١٣ والدر المصون ٤ / ٢٦٨.

(٢) في أ : ابتداء.

(٣) ينظر : القرطبي ٥ / ٣٩٨ ، الألوسي ٣ / ٢١٨ ، فتح القدير ٣ / ١٠٩ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٨.

(٤) في ب : الإكساد.

(٥) ينظر : ديوان ابن رواحة (٦٦١) ، القرطبي ٩ / ٣٦٥ ، روح المعاني ١٣ / ٢١٨ ، الطبري ١٣ / ١٤٥ ، مجاز القرآن ١ / ٣٤٠ ، إصلاح المنطق / ١٤١ ، تاريخ الطبري ٣ / ١٢٢ ، الجمهرة ٢٩٨١ ، اللسان والتاج (بور) ، شواهد المغني للسيوطي / ١٨٨ ، تفسير غريب القرآن ٣١١. سمط اللآلي ٣٨٨ ، ٣٩٠ ، طبقات فحول الشعراء ٢٠٢ ، الدر المصون ٦ / ٨٦٨.

٣٨٤

«ليضلّوا» قرأ ابن كثير (١) وأبو عمرو هنا : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا) بفتح الياء والباقون بضمها من أصله ، واللام هي لام الجر مضمرة : «أن» بعدها ، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجوز أن تكون للتعليل.

وقيل : هي مع فتح الياء للعاقبة فقط ، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم ، وليس كما زعم ، لأن منهم من كفر عنادا واتخذ الآلهة ليضل بنفسه.

قوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا) عيشوا في الدنيا : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ إِلَى النَّارِ) خبر «إنّ» والمصير مصدر ، و «صار» التامة ، أي : فإنّ مرجعكم كائن إلى النّار.

وأجاز الحوفيّ أن يتعلق (إِلَى النَّارِ) ب «مصيركم».

وقد ردّ هذا بعضهم : بأنّه لو جعلناه مصدرا صار بمعنى انتقل ، و (إِلَى النَّارِ) متعلق به ، بقيت «إنّ» بلا خبر ، لا يقال : خبرها حينئذ محذوف ؛ لأنّ حذفه في مثل هذا يقلّ ، وإنّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة ، والخبر ظرفا أو جارّا ، كقوله : [المنسرح]

٣٢٢١ ـ إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

وإنّ في السّفر ما مضى مهلا (٢)

قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتّمتّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال.

وفي «يقيموا» أوجه :

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات ٣٧٨ والإتحاف ٢ / ١٦٩ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٣٨ والبحر المحيط ٥ / ٤١٤ والدر المصون ٤ / ٢٦٨.

(٢) البيت للأعشى. ينظر : ديوانه (١٥٥) ، الكتاب ١ / ٢٨٤ ، المقتضب ٤ / ١٣٠ ، الخصائص ٢ / ٢٧٣ ، المحتسب ١ / ٣٤٩ ، دلائل الإعجاز / ٢١٠ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٣٢٢ ، ابن يعيش ١ / ٣٠ ، ٨ / ٧٤ ، المقرب ٢٠ ، الخزانة ٤ / ٣٨١ ، مغني اللبيب ٨٢ ، شرح شواهد المغني ٢ / ١٦١ ، الهمع ١ / ١٣٦ ، الدرر ١ / ١١٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٩. سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٧١ ، حاشية يس ١ / ١٦٩ ، الشعر والشعراء ص ٧٥ ، لسان العرب (رحل) ، الأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٩ ، أمالي ابن الحاجب ١ / ٣٤٥ ، رصف المعاني ص ٢٩٨ ، الصاحبي في فقه اللغة ص ١٣٠ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٩.

٣٨٥

أحدها : أنه مجزوم بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [الوافر]

٣٢٢٢ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا (١)

يريد : لتفد.

وأنشده سيبويه (٢) إلا أنّه خصه بالشعر.

قال الزمخشري (٣) : «ويجوز أن يكون : «يقيموا» ، و «ينفقوا» بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقول ، قالوا : وإنّما جاز حذف اللّام ؛ لأنّ الأمر الذي هو «قل» عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللّام لم يجز».

ونحا ابن مالك رحمه‌الله إلى قريب من هذا ، فإنّه جعل حذف هذه اللّام على أضرب : قليل ، وكثير ومتوسط. فالكثير : أن يكون قبله قول بصيغة الأمر ، كالآية الكريمة.

والقليل : ألا يتقدم قول ؛ كقوله : [الوافر]

٣٢٢٣ ـ محمّد تفد ...

 ........... (٤)

والمتوسط : أن يتقدّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [الرجز]

٣٢٢٤ ـ قلت لبوّاب لديه دارها

تيذن فإنّي حمؤها وجارها (٥)

الثاني : أن «يقيموا» مجزوم على جواب : «قل» ، وإليه نحا الأخفش والمبرد.

وقد رد النّاس عليهما هذا ؛ بأنه لا يلزم من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر.

وقد أجيب عن هذا : بأنّ المراد بالعباد المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفا والمؤمنون متى أمروا ؛ امتثلوا.

الثالث : أنه مجزوم على جواب المقول المحذوف ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي: يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعة ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسد من وجهين :

أحدهما : أن جواب الشّرط يخالف الشّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٠٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٦.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لمنظور بن مرثد الأسدي.

ينظر : الخزانة ٩ / ١٣ ، المغني ١ / ٢٢٥ ، الهمع ٢ / ٥٦ ، الدرر ٢ / ٧١ ، الأشموني ٤ / ٤ ، روح المعاني ١٣ / ٢٢١ ، شواهد المغني للبغدادي ٤ / ٣٤٠ ، الجنى الداني / ١١٤ ، العيني ٤ / ٤٤٤ ، العقد الفريد ٣ / ٤٦٠ ، الصحاح (حمى) ، الدر المصون ٤ / ٢٦٩.

٣٨٦

فيهما وأمّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قم يقم ، والتقدير على ما ذكره في هذا الوجه : أن يقيموا يقيموا.

والوجه الثاني : أنّ الأمر المقدر للمواجهة ، و «يقيموا» على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا.

قال شهاب الدين (١) : «أمّا الإفساد الأوّل فقريب ، وأمّا الثاني ، فليس بشيء لأنّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال».

الرابع : أن التقدير : أن يقول لهم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني.

الخامس : قال ابن عطية : «يحتمل أن يكون «يقيموا» جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله «قل» وذلك أن تجعل «قل» في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشّريعة يقيموا الصّلاة».

السادس : قال الفراء (٢) : الأمر معه شرط مقدر ، تقول : أطع الله يدخلك الجنّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمين.

السابع : قال الفارسي إنّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا.

وهذا مردود ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالة على إعرابه.

وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يا زيد لوقوعه موضع الضمير.

ولو قيل : بأنّه حذفت نونه تخفيفا على حد حذفها في قوله : «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا» (٣).

وفي معمول «قل» ثلاثة أوجه :

الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيموا يقيموا.

الثاني : أنه نفس «يقيموا» على ما قاله ابن عطية.

الثالث : أنّه الجملة من قوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخره ، قاله ابن عطية.

وفيه تفكيك النّظم ، وجعل الجملة : (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) إلى آخرها مفلتا مما قبله وبعده ، أو يكون جوابا فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدّا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٧٧.

(٣) تقدم تخريجه.

٣٨٧

وقرأ حمزة والكسائي : «لعبادي» بسكون الياء ، والباقون (١) بفتح الياء لالتقاء الساكنين.

قوله : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في نصبهما ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّهما حالان مما تقدم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيد عدل ، أي : ذوي سرّ ، وعلانية ، أو مسرّين ومعلنين ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة.

الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية.

الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرّ ، وإنفاق علانية.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق ب : «يقيموا» و «ينفقوا» أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم.

وقد تقدّم خلاف القراء في : «لا بيع فيه ولا خلال».

والخلال : المخالة ، وهي المصاحبة ، يقال : خاللته خلالا ، ومخالّة ؛ قال طرفة : [السريع]

٣٢٢٥ ـ كلّ خليل كنت خاللته

لا ترك الله له واضحه (٢)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٢٢٦ ـ صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى

ولست بمقليّ الخلال ولا قال (٣)

وقال الأخفش (٤) : خلال جمع ل «خلة» ، نحو «برمة وبرام».

فصل

قال مقاتل : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخاللة ، ولا قرابة. وقد تقدّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [البقرة ٢٥٤].

فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧]؟.

فالجواب : أن الآية الدّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخاللة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، والآية الدّالة على حصول المخاللة ، محمولة على الخلّة الحاصلة بسبب عبودية الله ـ تعالى ـ ومحبّته.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية لما وصف أحوال السعداء ،

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٦٩.

(٢) ينظر : الديوان / ١٥ ، التهذيب ٥ / ١٥٧ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ٤ / ١١٤ ، اللسان (وضح) ، الدر المصون ٤ / ٢٧١.

(٣) ينظر : شرح ديوان الحماسة ٣ / ١٣٢١ ، البحر المحيط ٥ / ٤١٥ ، القرطبي ٩ / ٣٦٦ ، اللسان (خلل) ، إعراب القرآن للنحاس ٢ / ٣٧٠ ، الطبري ١٣ / ١٤٩ ، الدر المصون ٤ / ٢٧١.

(٤) ينظر : معاني القرآن للأخفش ٢ / ٣٧٦.

٣٨٨

وأحوال الأشقياء ، وكانت العمدة العظمى في حصول السّعادة معرفة الله ـ تعالى ـ بذاته وصفاته ، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله ـ تعالى ـ هذين الوصفين بالدّلائل الدالة على وجود الصّانع ، وكمال علمه وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل : أولها : خلق السّموات.

وثانيها : خلق الأرض.

وثالثها : قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

«من السّماء» يجوز أن يتعلق ب «أنزل» ، و «من» لابتداء الغاية ، وأن يتعلق بمحذوف على أنّه حال من «ماء» ؛ لأنه صفته في الأصل ، وكذلك (مِنَ الثَّمَراتِ) في الوجهين.

وجوّز الزمخشري (١) وابن عطية (٢) : أن تكون : «من» لبيان الجنس ، أي : ورزقا هو الثمرات.

ورد عليهما بأن التي للبيان إنّما تجيء بعد المبهم ، وقد يجاب عنهما ؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب ، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة ٢٣ ، ٢٥].

ورابعها : قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) يجوز أن يتعلق «بأمره» ب «تجري» أي : بسببه ، أو بمحذوف على أنّها للحال ، أي : ملتبسة به.

وخامسها : قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ).

وسادسها ، وسابعها : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) دائبين حال من «الشمس والقمر» ، وتقدم اشتقاق الدّأب.

وثامنها وتاسعها : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ).

وعاشرها : قوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) العامة على إضافة : «كلّ» إلى ما. وفي «من» قولان :

أحدهما : أنّها زائدة في المفعول الثاني ، أي : كل ما سألتموه وهذا إنّما يتأتّى على قول الأخفش.

والثاني : أن تكون تبعيضية ، أي : آتاكم بعض جميع ما سألتموه نظرا لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف ، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه ، وهو رأي سيبويه و «ما» يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي : مسئولكم ، فإن كانت مصدرية فالضمير في : «سألتموه» عائد على الله ـ تعالى ـ وإن كانت موصولة ، أو موصوفة كان عائدا عليها ، ولا يجوز أن يكون عائدا على الله تعالى ، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف ، لأنه إما

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٣٩.

٣٨٩

أن يقدر متصلا سألتموهوه ، أو منفصلا سألتموه إيّاه ، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وقرأ ابن عباس ، ومحمد بن علي ، وجعفر (١) بن محمد ، والحسن ، والضحاك ، وعمرو بن فائد وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع ـ رضي الله عنهم ـ في رواية : «من كلّ» منونة ، وفي «ما» على هذه القراءة وجهان :

أحدهما : أنّها نافية ، وبه بدأ الزمخشري ، فقال : و «ما سألتموه» نفي ومحله النّصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين.

قال شهاب الدين (٢) : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله : «من كلّ» كقوله تعالى (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦].

والثاني : أنها موصولة بمعنى الذي ، وهي المفعول الثاني ل «آتاكم».

وهذا التخريج الثاني أولى ؛ لأنّ في الأول منافاة في الظاهر لقراءة العامة.

قال أبو حيّان (٣) : «ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة ، وبين تلك قال: ويجوز أن تكون : «ما» موصولة على : وآتاكم من كلّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه ، وسألتموه بلسان الحال فتأول : «ما سألتموه» بمعنى ما احتجتم إليه».

فصل

اعلم أنّه ـ تعالى ـ بدأ بذكر خلق السموات ، والأرض ، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده.

ثمّ قال : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) فإنّه لو لا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها ، ولو لا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود.

واعلم أنّ الماء إنّما ينزل من السّحاب إلى الأرض ، وسمي السحاب سماء اشتقاقا من السمو ؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب ، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى : (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

قال أبو مسلم ـ رحمه‌الله ـ : لفظ «الثّمرات» يقع في الأغلب على ما يحصل من الأشجار ، ويقع أيضا على الزّرع والنبات ، كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١].

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٤١٦ والدر المصون ٤ / ٢٧٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤١٦.

٣٩٠

ثم قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) [إبراهيم : ٣٢] نظيره (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ).

واعلم أنّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنّما يكمل بوجود الفلك ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك.

فإن قيل : ما معنى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) مع أنّ تركيب السفينة من أعمال العباد؟.

فالجواب : أنّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ عند أهل السّنّة ، فلا سؤال.

وأمّا عند المعتزلة : فلأنه ـ تعالى ـ خلق الأشجار التي تركب منها السّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعة التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقا لجري السفن فيها ، ولو لا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن.

وأضاف التسخير إلى أمره ؛ لأنّ الملك العظيم لا يوصف بأنّه فعل ، وإنّما يقال : أمر ، قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] وسخر الفلك مجازا ؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخّر.

ثم قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) ، لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله ـ تعالى ـ على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضا : فماء البحر لا يصلح للشرب ، وإنّما يصلح له مياه الأنهار.

ثم قال ـ عزوجل ـ (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) والانتفاع بهما عظيم قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦] (وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١] (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، فلو لا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليّة.

ثم قال (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ومنافعهما مذكورة في القرآن ، كقوله (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ، ١١] ، وقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣].

قال المتكلمون : تسخير الليل ، والنهار مجاز ؛ لأنهما عرض ، والأعراض لا تسخّر.

٣٩١

ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم ، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يأتي على بعضها التّعداد.

ثمّ قال (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) قال الواحديّ : «النّعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر ، يقال : أنعم الله عليه ينعم إنعاما ، ونعمة ، أقيم الاسم مقام الإنعام ، كقوله : أنفقت عليك إنفاقا ونفقة شيئا واحدا ، ولذلك يجمع لأنّه في معنى المصدر».

وقال غيره : «النّعمة هنا بمعنى المنعم به».

وختمت هذه الآية ب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) ونظيرها في النحل ب (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل : ١٨] لأن في هذه تقدم قوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] وبعده (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] فجاء قوله (إِنَّ الْإِنْسانَ) شاهدا بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك.

والتي في النّحل ذكر فيها عدة تفضيلات ، وبالغ فيها ، وذكر قوله ـ جلّ ذكره ـ (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء ، فذكر أيضا أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين.

وقال ابن الخطيب (١) : «كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة ؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها ؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوما كفارا ، ولي وصفان عند إعطائها وهما : كوني غفورا رحيما ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : إن كنت ظلوما فأنا غفور ، وإن كنت كفارا فأنا رحيم ، أعلم عجزك ، وقصورك ، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء».

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١)

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) الآية لما استدل على أنّه لا معبود إلا الله ـ تعالى ـ وأنّه لا يجوز عبادة غير الله ـ تعالى ـ ألبتّة ، حكى عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنّه طلب من الله ـ تعالى ـ أشياء :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٠٣.

٣٩٢

أحدها : قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ، وتقدّم تحريره في البقرة «وهذا البلد آمنا» ، ومسول الجعل التّصيير.

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : أي فرق بين قوله : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وبين قوله (هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦].

قلت : قد سأل في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ، ولا يخافون ، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا».

قوله «واجنبني» ، يقال : جنّبه شرّا ، وأجنبه إيّاه ثلاثيا ، ورباعيا ، وهي لغة نجد وجنّبه إيّاه مشدّدا ، وهي لغة الحجاز وهو المنع ، وأصله من الجانب.

وقال الراغب (٢) : قوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) من جنبته عن كذا ، أي : أبعدته منه ، وقيل : من جنبت الفرس ، [كأنّما](٣) سأله أن يقوده عن جانب الشّرك بألطاف منه وأسباب خفيّة».

و «أن نعبد» على حذف الحرف ، أي : عن أن نعبد.

وقرأ الجحدري (٤) وعيسى الثقفي ـ رحمهما‌الله ـ «وأجنبني» بقطع الهمزة من «أجنب».

قال بعضهم : يقال : جنبته الشّيء ، وأجنبته تجنّبا ، وأجنبته إجنابا ، بمعنى واحد.

فإن قيل : ههنا إشكال من وجوه :

أحدها : أن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ دعا ربّه أن يجعل مكّة بلدا آمنا وقد خرب جماعة الكعبة ، وأغاروا على مكّة.

وثانيها : أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ معصومون من عبادة الأصنام ، فما فائدة هذا الدعاء؟.

وثالثها : أنّ كثيرا من أبنائه عبدوا الأصنام ؛ لأنّ كفّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟.

فالجواب عن الأوّل من وجهين :

الأول : أنه نقل عن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة ، وتلك البلدة آمنة من الخراب.

والثاني : أنّ المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] والمراد أهلها ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير ، فالمراد بالأمن ما

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٧.

(٢) ينظر : المفردات ١٠٠.

(٣) في أ : كأنه.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤١ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٠ والدر المصون ٤ / ٢٧٣.

٣٩٣

اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنّ من التجأ إلى مكّة أمن ، وكان النّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكّة لا يخاف بعضهم بعضا ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النّاس إذا كانوا خارج مكّة.

وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثبّتني على اجتناب عبادتها ، كما قال : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] أي : ثبتنا على الإسلام.

ولقائل أن يقول : السؤال باق ، لأنه من المعلوم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدة في هذا السؤال؟.

قال ابن الخطيب (١) : والصحيح عندي في الجواب وجهان :

الأول : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وإن كان يعلم أنّ الله ـ تعالى ـ يعصمه من عبادة الأصنام ، إلّا أنه ذكر ذلك تضعيفا للنفس وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب.

والثاني : أنّ الصوفية يقولون : إنّ الشرك نوعان : شرك ظاهر ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة. والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطا سوى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ فيحتمل أن يكون قوله (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) المراد أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي ، والله تعالى أعلم.

والجواب عن الثالث من وجوه :

أحدها : قال الزمخشري (٢) : «قوله «وبنيّ» أراد بنيه [من صلبه](٣)».

والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : «واجنبني وبنيّ».

وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجودا حال الدّعاء ، ولا شك أنّ دعوته مجابة فيهم.

وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ صنما ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو الوثن ، وكفّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا يعبدون أحجارا مخصوصة.

وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصّنم في ذلك.

ورابعها : أنّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٠٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٨.

(٣) في ب : لصلبه.

٣٩٤

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، وذلك يفيد أنّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، وقوله ـ تبارك وتعالى ـ لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦].

وخامسها : لعلّه ، وإن كان عمّ في الدعاء إلّا أنّه ـ تعالى ـ أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) دليل على أن الكفر ، والإيمان من الله ـ تعالى ـ لأنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ طلب من الله ـ تعالى ـ أن يجنبه ، ويجنب أولاده من الكفر.

والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف ، وهو عدول عن الظّاهر ، وتقدم فساد هذا التأويل.

قوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) الضمير في : «إنّهنّ» و «أضللن» عائد على الأصنام ، لأنها جمع تكسير غير عاقل.

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : من أشياعي ، وأهل ديني.

وقوله : (وَمَنْ عَصانِي) شرط ، ومحل «من» الرفع بالابتداء ، والجواب : (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والعائد محذوف ، أي : له.

فصل

قال السديّ : ومن عصاني ثمّ تاب (١). وقال مقاتل : (وَمَنْ عَصانِي) فيما دون الشرك (٢).

وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنّه لا يغفر الشرك ، وهذه الآية تدلّ على إثبات الشّفاعة في أهل الكبائر ؛ لأنّه طلب المغفرة ، والرّحمة لأولئك العصاة ، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [أو للعصاة ، ولا يجوز أن تكون للكفار](٣) ؛ لأنه تبرّأ منهم بقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) فإنه يدلّ بمفهومه على أنّ من لم يتبعه على دينه ، فليس منه ، والأمة مجتمعة على أنّ الشفاعة في حق الكفّار غير جائزة ؛ فثبت أن قوله : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) شفاعة في العصاة غير الكفّار.

وتلك المعصية : إمّا أن تكون من الصغائر ، أو من الكبائر بعد التّوبة [أو من الكبائر

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٣٧).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط من ب.

٣٩٥

قبل التوبة ، والأول والثاني باطلان ؛ لأن قوله : (وَمَنْ عَصانِي) اللفظ فيه مطلق ، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر ، وأيضا فالصغائر والكبائر بعد التوبة](١) واجبة الغفران عند الخصوم ، فلا يمكن حمل اللفظ عليه ؛ فثبت أنّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التّوبة.

وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثبت حصولها لمحمّد ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ لأنه لا قائل بالفرق ، ولأنّ الشفاعة أعلى المناصب ، فلو حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ مع أنّها لم تحصل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك نقصا في حقّ محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف ، أي : أسكنت ذرية من ذريتي ، ويجوز أن تكون «من» مزيدة عند الأخفش.

«بواد» أي : في واد ، وهو مكّة ؛ لأن مكّة واد بين جبلين.

وقوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) كقوله (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر : ٢٨].

قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) يجوز أن تكون صفة ل «واد».

وقال أبو البقاء (٢) : يجوز أن يكون بدلا منه ، يعني أنّه يكون بدل بعض من كل ؛ لأنّ الوادي أعم من حضرة البيت.

وفيه نظر ، من حيث أن «عند» لا يتصرف.

فصل

سماه محرّما ؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره.

وقيل : لأنّ الله حرم التعرض له ، والتهاون به. وقيل : لأنه لم يزل ممتنعا عزيزا يهابه كل جبّار كالشيء المحرّم الذي يجب أن يجتنب.

وقيل : لأنه حرّم من الطوفان ، أي : منع منه ، كما يسمى عتيقا ؛ لأنه أعتق من الطوفان وقيل : لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات ، والأرض وحفّ بسبعة من الملائكة وجعل مثل البيت المعمور الذي بناه آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فرفع إلى السّماء.

وقيل : إنّ الله حرّم على عباده أن يقربوه الدماء ، والأقذار وغيرها.

قوله «ليقيموا» : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر ، وأن تكون لام علة ، وفي متعلقها

حينئذ [وجهان](٣) :

أحدهما : أنها متعلقة ب «أسكنت» وهو ظاهر ، ويكون النداء معترضا.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٩.

(٣) في أ : قولان.

٣٩٦

الثاني : أنّها متعلقة ب «اجنبني» أي : أجنبهم الأصنام. ليقيموا. وفيه بعد.

قوله (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) العامة على : «أفئدة» جمع فؤاد ، ك «غراب وأغربة» وقرأ هشام عن ابن (١) عامر بياء بعد الهمزة ، فقيل : إشباع ؛ كقوله : [الطويل]

٣٢٢٧ ـ ...........

يحبّك عظم في التّراب تريب (٢)

أي : ترب ؛ وكقوله : [الرجز]

٣٢٢٨ ـ أعوذ بالله من العقراب

الشّائلات عقد الأذناب (٣)

وقد طعن جماعة على هذه القراءة ، وقالوا : الإشباع من ضرائر الشعر ، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟.

وزعم بعضهم : أنّ هشاما إنّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [أنها زائدة](٤) ياء بعد الهمزة ، قال : كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في : «بارئكم» ، و «يأمركم» أنه سكن.

وهذا ليس بشيء ، فإنّ الرّواة أجلّ من هذا.

وقرأ زيد (٥) بن عليّ : «إفادة» بزنة «رفادة» ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون مصدرا ل «أفاد» ك «أقام إقامة» أي : ذوي إفادة ، وهم النّاس الذين ينتفع بهم.

والثاني : أن يكون أصلها : «وفادة» فأبدلت الواو همزة ، نحو : إشاح وإعاء.

وقرأت أم الهيثم (٦) : «أفودة» بكسر الواو وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون جمع : «فؤاد» المسهّل وذلك أنّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قلبها واوا ، نحو «جون» ففعل في : «فؤاد» المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها.

والثاني : قال صاحب اللّوامح ـ رحمه‌الله ـ : هي جمع «وفد».

قال شهاب الدين (٧) : «فكان ينبغي أن يكون اللفظ «أوفدة» يتقديم الواو ؛ إلا أن

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٢ والبحر المحيط ٤٢١ والدر المصون ٤ / ٢٧٣.

(٢) عجز بيت وصدره :

تحبّك نفسي ما حييت ، فإن أمت

ينظر : رصف المباني ١٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٣ ، وفي الأصل «حتى يحبّك» في عجز البيت ، وهي مقحمة وليست خزما ؛ لأنها ليست على قاعدته.

(٣) تقدم.

(٤) في أ : زيادة.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢١ والدر المصون ٤ / ٢٧٣.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢١ والدر المصون ٤ / ٢٧٤.

(٧) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧٤.

٣٩٧

يقال : إنه جمع «وفدا» على «أوفدة» ، ثم قلبه فوزنه «أعفلة» كقولهم : آرام» في «أرآم» وبابه ، إلّا أنّه يقل جمع «فعل» على «أفعلة» نحو : «نجد وأنجدة» و «وهي وأوهية» وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغة.

وقرىء (١) : «آفدة» بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون مقلوبة من «أفئدة» بتقديم الهمزة على الفاء ، فقلبت الهمزة ألفا فوزنه: «أعفلة» ك «آرام» في «أرآم».

والثّاني : أنها اسم فاعل : من «أفد يافد» ، أي : «قرب ودنا». والمعنى : جماعة آفدة أو جماعات آفدة.

وقرىء : «أفدة» (٢) بالقصر ، وفيها وجهان أيضا :

أحدهما : أن تكون اسم فاعل على «فعل» ك «فرح فهو فرح» ، وأن تكون مخففة من «أفئدة» بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحذف الهمزة.

و «من» في «من النّاس» فيها وجهان :

أحدهما : أنها لابتداء الغاية. قال الزمخشريّ : «ويجوز أن يكون «من» لابتداء الغاية ، كقولك : القلب منّي سقيم ، تريد : قلبي ، كأنه قال : أفئدة ناس ، وإنّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل ، لتنكير «أفئدة» لأنّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة».

قال أبو حيّان (٣) : «ولا ينظر كونها للغاية ؛ لأنّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إليها ، إذ لا يصح جعل ابتداء الأفئدة من الناس».

والثاني : أنها للتبعيض ، وفي التفسير : لو لم يقل من النّاس لحج النّاس كلهم.

قوله «تهوي» هذا هو المفعول الثاني للجعل. والعامة على : «تهوي» بكسر العين ، بمعنى تسرع وتطير شوقا إليه ؛ قال : [الكامل]

٣٢٢٩ ـ وإذا رميت به الفجاج رأيته

يهوى مخارمها هويّ الأجدل (٤)

وأصله أن يتعدى باللام ، كقوله : [البسيط]

٣٢٣٠ ـ حتّى إذا ما هوت كفّ الوليد بها

طارت وفي كفّه من ريشها بتك (٥)

وإنّما عدي بإلى ؛ لأنه ضمن معنى تميل ، كقوله : [السريع]

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٩ والبحر المحيط ٥ / ٤٢١ والدر المصون ٤ / ٢٧٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٩ والبحر المحيط ٥ / ٤٢١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢١.

(٤) البيت لأبي كبير الهذلي. ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ٩٤ ، البحر المحيط ٥ / ٤٢٩ ، اللسان (خرم) ، الكشاف ٢ / ٣٨٠ ، شواهد الكشاف ٤٩٢ ، حماسة أبي تمام ١ / ٢١ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٤.

(٥) تقدم.

٣٩٨

٣٢٣١ ـ يهوي إلى مكّة يبغي الهدى

ما مؤمن الجن ككفّارها (١)

وقرأ أمير المؤمنين علي (٢) ، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ بفتح الواو ، وفيه قولان :

أحدهما : أن «إلى» زائدة ، أي : تهواهم.

والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل ، ومصدر الأول على «هوى» ؛ كقوله : [الكامل]

٣٢٣٢ ـ ...........

يهوي مخارمها هوي الأجدل (٣)

ومصدر الثاني على «هوى».

وقال أبو البقاء (٤) : «معناهما متقاربان ، إلا أنّ «هوى» ـ يعني بفتح الواو ـ متعد بنفسه ، وإنّما عدّي ب «إلى» حملا على تميل».

وقرأ مسلمة (٥) بن عبد الله : «تهوى» بضم التاء ، وفتح الواو مبنيا للمفعول ، من «أهوى» المنقول من «هوى» اللازم ، أي : يسرع بها إليهم.

فصل

قال المفسرون : قوله (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أدخل «من» للتبعيض ، والمعنى : أسكنت من ذريتي ولدا : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو مكة ؛ لأنّ مكّة واد بين جبلين : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ).

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أول ما اتّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ اتخذت منطلقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ، وليس بمكّة يومئذ أحد ، وليس فيها ماء ، ووضع عندها إناء فيه تمر ، وسقاء فيه

__________________

(١) البيت لسواد بن قارب. وروي بأربع روايات هي :

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما خير الجن كأنجاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما صادق الجن ككذابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمن الجن ككفارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى

ما مؤمن الجن كأنجاسها

ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٢ ، شرح شواهد المغني للبغدادي ٦ / ٣٧٢ ، ٢٧٣ ، الألوسي ١٣ / ٢٣٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٢ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٢ والدر المصون ٤ / ٢٧٥.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٩.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣٤٢٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٢ والدر المصون ٤ / ٢٧٥.

٣٩٩

ماء ثمّ قال إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ منطلقا ، فتبعته هاجر ، فقالت : يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى الله ، فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثمّ رجعت ، فانطلق إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حتّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثمّ دعا الله بقوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) الآية ثمّ إنها عطشت وعطش الصبي ؛ فجعل يتلوى ، وهي تنظر إليه ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثمّ استقبلت الوادي تنظر أحدا ، فلم تر أحدا ، وهبطت من الصّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثمّ سعت سعي المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلذلك سعى النّاس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا ، فقالت : صه! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ؛ فضرب بعقبه حتّى ظهر الماء ، أو قال : فضرب بجناحه فغارت عينها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله أمّ إسماعيل لو لا أنّها عجلت لكانت زمزم عينا معينا» (١).

ثمّ إنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاد بعد كبر إسماعيل ، وأقرّا هو وإسماعيل قواعد البيت.

قال القاضي (٢) : «أكثر الأمور المذكورة في هذه القصّة بعيدة ؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إنّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام».

وقوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِي) ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه.

(لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) قال المفسرون : جمع ، وقد تهوي : تحن وتشتاق إليهم. قال السدي : معناه : وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع (٣).

قال مجاهد : لو قال : أفئدة النّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند (٤).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧) كتاب أحاديث الأنبياء باب يزفون : النسلان في المشي حديث (٣٣٦٤) من حديث ابن عباس.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٠٨.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٦٥) عن مجاهد وذكره البغوي (٣ / ٣٨) وأخرج مثله عن ابن عباس.

وذكره السيوطي (٤ / ١٦٢) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب بسند حسن.

ومثله عن سعيد بن جبير وسيأتي.

٤٠٠