اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقال المخالف : لو كانت الحامل تحيض مكان ما تراه المرأة من الدّم حيضا ، لما صحّ استبراء الأمة بحيضه ، وهذا بالإجماع.

السابع : أن دم الحيض فضلة تجتمع في [بطن](١) المرأة ، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات ؛ فاضت ، وخرجت ، وسالت من دواخل (٢) تلك العروق ، ثم إذا سالت تلك المواد ، امتلأت تلك العروق مرّة أخرى.

هذا كلّه إذا قلنا : إن «ما» موصولة.

فإذا قلنا : إنّها مصدرية : فالمعنى أنّه ـ تعالى ـ يعلم حمل كلّ شيء ، ويعلم غيض الأرحام ، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ، ولا من أوقاته ، وأحواله.

ثم قال : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) يحتمل أن يكون المراد بالعنديّة : العلم ومعناه : أنّه تعالى يعلم كمية كل شيء ، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ، ويحتمل أن يكون المراد من العنديّة أنه ـ تعالى ـ خصّص كل حادث بوقت معين ، وحال معينة بمشيئته الأزليّة وإرادته السرمدية.

وعند حكماء الإسلام : أنه ـ تعالى ـ وضع أشياء كلّيّة ، وأودع فيها قوى ، وخواصّ ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية متعينة ومناسبات مخصوصة [مقدرة](٣) ، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد ، وأحوالهم ، وخواطرهم ، وهي من أدلّ الدّلائل على بطلان قول المعتزلة.

قوله : «عنده» يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل «شيء» ، أو مرفوعه صفة ل «كلّ» ، أو منصوبة ظرفا لقوله : «بمقدار» ، أو ظرفا للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبرا.

قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) يجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره : «الكبير المتعال» ، وأن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : هو عالم.

وقرأ زيد بن (٤) علي «عالم» نصبا على المدح.

ووقف ابن كثير ، وأبو عمرو (٥) في رواية على ياء «المتعال» وصلا ووقفا ، وهذا هو الأشهر في لسانهم ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا لحذفها في الرّسم.

واستسهل سيبويه (٦) حذفها في الفواصل ، والقوافي ، ولأنّ «أل» تعاقب التنوين ، فحذفت معها إجراء لها مجراها.

__________________

(١) في ب : بدن.

(٢) في أ : فتجف.

(٣) في ب : متعددة.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦٢ والدر المصون ٤ / ٢٣٠.

(٥) ينظر : السبعة ٣٥٨ والحجة ٥ / ١٣ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٥ وحجة القراءات ٣٧٢ والإتحاف ٢ / ١٦١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩٨ والبحر المحيط ٥ / ٣٦٢ والدر المصون ٤ / ٢٣٠.

(٦) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٨٩.

٢٦١

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه (١).

قال الواحديّ : «فعلى هذا «الغيب» مصدر يراد به الغائب ، والشهادة أراد بها الشّاهد».

واختلفوا في المراد بالغائب ، والشّاهد ؛ فقيل : المراد بالغائب : [المعدوم](٢) ، وبالشّاهد: الموجود. وقيل : الغائب ما لا يعرفه الخلق.

واعلم أنّ المعلومات قسمان : المعدومات ، والموجودات.

والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ، ومعدومات لا يمتنع وجودها.

والموجودات قسمان : موجودات يمتنع عدمها ، وموجودات لا يمتنع عدمها ، وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام ، وخواص ، والكل معلوم لله ـ تعالى ـ.

قال إمام الحرمين : لله ـ تعالى ـ معلومات لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها ؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل ، وهو ـ تعالى ـ عالم بكلّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

ثم قال : «الكبير المتعال» وهو ـ تعالى ـ يمتنع أن يكون كبيرا بحسب الجثّة والمقدار ؛ فوجب أن يكون كبيرا بحسب القدرة الإلهيّة ، و «المتعال» المتنزة عن كلّ ما لا يجوز عليه في ذاته ، وصفاته.

قوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ).

في «سواء» وجهان :

أحدهما : أنه خبر مقدم ، و «من أسرّ» ، و «من جهر» هو المبتدأ ، وإنما لم يثن الخبر ؛ لأنّه في الأصل مصدر ، وهو ههنا بمعنى مستو ، و «منكم» على هذا حال من الضمير المستتر في «سواء» ؛ لأنه بمعنى مستو.

قال أبو البقاء (٣) : «ويضعف أن يكون حالا من الضمير في «أسرّ» ، و «جهر» لوجهين :

أحدهما : تقديم ما في الصلة على الموصول ، أو الصّفة على الموصوف.

والثاني : تقديم الخبر على «منكم» وحقّه أن يقع بعده».

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٤).

(٢) في ب : المعلوم.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٢.

٢٦٢

قال شهاب الدّين (١) ـ رحمه‌الله ـ : «وحقّه أن يقع بعده يعني : بعده ، وبعد المبتدأ ، ولا يصير كلامه لا معنى له».

والثاني : أنه مبتدأ ، وجاز الابتداء به لوصفه بقوله : «منكم».

وأعرب سيبويه (٢) : «سواء» عليه الجهر والسّر كذلك ، وقول ابن عطيّة : إنّ سيبويه ضعّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه.

قال ابن الخطيب (٣) : لفظ «سواء» يطلب اثنين ، تقول : «سواء زيد ، وعمرو» ، ثم فيه وجهان :

الأول : أنّ «سواء» مصدر ، والمعنى : ذو سواء ، كما تقول : عدل زيد وعمرو ، أي : ذو عدل.

الثاني : أن يكون «سواء» بمعنى مستو ، وعلى هذا التقدير ، فلا حاجة إلى الإضمار ، إلا أنّ سيبويه يستقبح أن يقول : مستو زيد وعمرو ؛ لأنّ أسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها.

ولقائل أن يقول : بل هذا الوجه أولى ؛ لأنّ حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل.

قوله (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «مستخف» ، ويراد ب «من» حينئذ اثنان ، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ «هو» على لفظها ، فأفرده ، والخبر على معناها فثناه.

والوجه الثاني : أن يكون عطفا على : «من هو» في (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) لا على : «مستخف» وحده.

ويوضح هذين الوجهين ما قاله الزمخشريّ قال : «فإن قلت : كان حق العبارة أن يقال : ومن هو مستخف باللّيل ، ومن هو سارب بالنّهار حتّى يتناول معنى الاستواء المستخفي ، والسارب ، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب.

قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن قوله : «سارب» عطف على : (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) [لا على : «مستخف».

والثاني : أنّه عطف على : «مستخف»](٤) إلا أنّ : «من» في معنى الاثنين ؛ كقوله : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٠.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٩ / ١٥.

(٤) سقط من : ب.

٢٦٣

٣١٦٦ ـ ...........

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)

كأنه قيل : سواء منكم اثنان مستخف بالليل ، وسارب بالنّهار».

قال شهاب الدّين (٢) : وفي عبارته بقوله : كان حق العبارة كذا سوء أدب ، وقوله كقوله : «نكن مثل من يا ذئب» يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئب يخاطبه : [الطويل]

٣١٦٧ ـ تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (٣)

وليس في البيت حمل على اللفظ والمعنى ، إنّما فيه حمل على المعنى فقط ، وهو مقصوده.

وقوله : «وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب» لو قال بهذا قائل لأصاب الصّواب وهو مذهب ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسّارب شخص واحد يستخفي بالليل ، ويسرب بالنّهار ، ليري تصرفه في النّاس (٤).

الثالث : أن يكون على حذف «من» الموصولة ، أي : ومن هو سارب ، وهذا إنّما يتمشى عند الكوفيين ، فإنهم يجيزون حذف الموصول ، وقد تقدّم استدلالهم على ذلك.

والسّارب : اسم فاعل من «سرب ، يسرب» ، أي : تصرف كيف يشاء ؛ قال : [الكامل]

٣١٦٨ ـ أنّى سربت وكنت غير سروب

وتقرّب الأحلام غير قريب (٥)

وقال آخر : [الطويل]

٣١٦٩ ـ وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (٦)

أي : متصرف كيف توجّه ، ولا يدفعه أحد عن مرعى قومه بالمنعة ، والقوة.

فصل

معنى الكلام : أي : يستوي في علم الله المسر في القول ، والجاهر به. وفي المستخفي ، والسّارب وجهان :

الأول : يقال : أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي ، واستخفى فلان من فلان ، أي : توارى واستتر منه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣١.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٩).

(٥) البيت لقيس بن الخطيم ينظر : اللسان (سرب) والبحر المحيط ٥ / ٣٥٢ والطبري ١٦ / ٣٦٧ والألوسي ١٣ / ١١٠ والقرطبي ٩ / ١٩١ والدر المصون ٤ / ٢٣١.

(٦) تقدم.

٢٦٤

والسّارب : قال الفراء والزجاج : أي : ظاهر بالنهار في سربه ، أي : طريقه يقال : خلا له سربه ، أي : طريقه ، والسّرب ـ بفتح السّين ، وسكون الراء ـ الطريق.

وقال الأزهري (١) : «تقول العرب : سربت الإبل تسرب سربا ، أي : مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت».

فمعنى الآية : سواء كان الإنسان مستخفيا في الظّلمات ، وكان ظاهرا في الطرقات فعلم الله تعالى محيط بالكلّ.

قال ابن عباس : «سواء ما أضمرته القلوب ، أو أظهرته الألسنة» (٢).

وقال مجاهد : سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل ، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التّوالي (٣).

وقال ابن عباس أيضا : «هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى النّاس أنه بريء من الإثم» (٤).

والقول الثاني : نقل الواحدي عن الأخفش ، وقطرب قال : المستخفي : الظاهر والسارب : المتواري ، ومنه يقال : خفيت الشيء ، أي : أظهرته ، وأخفيت الشيء أي : استخرجته ، ويسمى النّبّاش : المستخفي ، والسّارب : المتواري ، أي : الداخل سربا ، وانسرب الوحش : إذا دخل في السّرب ، أي : في كناسه.

قال الواحديّ : «وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنّ الأول هو المختار لإطباق أكثر المفسرين عليه ، وأيضا : فالليل يدلّ على الاستتار ، والنهار على الظهور».

قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ) الضمير فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه عائد على «من» المكررة ، أي : لمن أسرّ القول ، ولمن جهر به ولمن استخفى : «معقبات» ، أي : جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضا.

الثاني : أنه يعود على «من» الأخيرة ، وهو قول ابن عبّاس (٥).

قال ابن عطية : والمعقبات على هذا : حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه ، قالوا : والآية على هذا في الرؤساء الكفار ، واختاره الطبريّ وآخرون إلّا أنّ الماوردي ذكر على هذا التأويل: أنّ الكلام نفي ، والتقدير : لا يحفظونه ، وهذا ينبغي ألّا يسمع ألبتة ، كيف يبرز كلام موجب ، ويراد به نفي ، وحذف «لا» إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعا

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١٢ / ٣١٣.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٥).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٥٢).

٢٦٥

في جواب قسم ، نحو (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف : ٨٥] وقد تقدّم تحريره وإنّما معنى الكلام كما قال المهدويّ : يحفظونه من أمر الله في ظنه ، وزعمه.

الثالث : أن الضمير في «له» يعود على الله ـ تعالى ـ وفي «يحفظونه» للعبد أي : لله ملائكة يحفظون العبد من الآفات ، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن ـ رضي الله عنه ـ (١).

الرابع : عود الضميرين على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب ، ولتقدّم ما يشعر به في قوله : «لو لا أنزل عليه».

و «معقّبات» جمع معقب بزنة مفعل ، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر ؛ لأن بعضهم يعقب بعضا ، أو لأنّهم يعقبون ما يتكلّم به.

وقال الزمخشري (٢) : «والأصل : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، كقوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) [التوبة : ٩٠] ، أي : المتعذّرون ، ويجوز «معقّبات» بكسر العين ولم يقرأ به».

وقال أبو حيّان (٣) : «وهذا وهم فاحش ، لا تدغم التّاء في القاف ، ولا القاف في التّاء لا من كلمة ، ولا من كلمتين ، وقد نصّ التصريفيّون على أنّ القاف ، والكاف كلّ منهما تدغم في الأخرى ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يدغم غيرهما فيهما ، وأمّا تشبيهه بقوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) [التوبة : ٩٠] فلا يتعيّن أن يكون أصله «المتعذّرون» وقد تقدّم توجيهه ، وأنه لا يتعيّن ذلك فيه.

وأما قوله : ويجوز «معقّبات» بكسر العين ، فهذا لا يجوز ؛ لأنه بناه على أن أصله : معتقبات ، فأدغمت التاء في القاف ، وقد بيّنا أن ذلك وهم فاحش وفي «معقّبات» احتمالان :

أحدهما : أن يكون معقبة بمعنى معقب ، والتّاء للمبالغة ، كعلّامة ، ونسّابة. أي : ملك معقب ، ثم جمع هذا كعلامات ، ونسّابات.

والثاني : أن يكون معقبة صفة لجماعة ، ثم جمع هذا الوصف ، وذكر ابن جرير : أن معقبة جمع معقب ، وشبه ذلك ب «رجل ، ورجال ، ورجالات». قال أبو حيّان (٤) : وليس كما ذكر ، إنما ذلك ك «جمل ، وجمال ، وجمالات» ومعقب ، ومعقبات إنّما هو كضارب ، وضاربات.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنه يمكن أن يريد بذلك أنّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب ، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث «معقب» ، فصار مثل : «الواردة» للجماعة الذين يردون ، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنّ جموع التّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار ، وعود الضّمير ، ومنه قولهم : الرّجال وأعضادها ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٣٥٠ ـ ٣٥١) عن الحسن ومجاهد وابن عباس وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٩).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦٤.

٢٦٦

والعلماء ذاهبة إلى كذا ، وتشبيهه ذلك برجل ، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة».

وقرأ أبي ، وإبراهيم (١) ، وعبيد الله بن زياد : له معاقيب.

قال الزمخشريّ : «جمع معقب ، أو معقبة ، والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير».

ويوضح هذا ما قاله ابن جنّي ؛ فإنه قال : «معاقيب» تكسير معقب ـ بسكون العين ، وكسر القاف ، ك «مطعم ، ومطاعم» و «مقدم ، ومقاديم» ، فكأن «معقبا» جمع على معاقبة ، ثم جعلت الياء في «معاقيب» عوضا من الهاء المحذوفة في «معاقبة».

فصل

قال : المعقب من كلّ شيء ما خلف يعقب ما قبله ، ويجوز أن يكون عقبه ، إذا جاء على عقب ، والمعنى في كلا الوجهين واحد.

والتّعقيب : العود بعد البدء ، وإنّما ذكر بلفظ التّأنيث ؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات ، كقولك : رجالات مكسر ، وقد تقدّم.

وفي المراد ب «المعقبات» قولان :

أشهرهما : أن المراد الحفظة ، وإنّما وصفوا بالمعقبات ، إما لأجل أن ملائكة اللّيل تعقب ملائكة النّهار ، وبالعكس ، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ ، والكتابة ، وكل من عمل عملا ثم عاد إليه ؛ فقد عقّبه.

فعلى هذا المراد من المعقبات : ملائكة الليل ، والنّهار ، قال ـ تعالى جلّ ذكره ـ (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١١ ، ١٢ ، ١٣].

قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «معقّبات» ويجوز أن يتعلق ب «معقّبات» ، و «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون حالا من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبرا والكلام على هذه الأوجه تام عند قوله : (وَمِنْ خَلْفِهِ).

وقد عبّر أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله ـ عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة ، وهي قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يجوز أن يكون صفة ل «معقّبات» ، وأن يكون ظرفا ، وأن يكون حالا من الضمير الذي فيه ، فعلى هذا يتمّ الكلام عنده «انتهى».

ويجوز أن يتعلق ب «يحفظونه» أي : يحفظونه من بين يديه ، ومن خلفه.

فإن قيل : كيف يتعلّق حرفان متحدان لفظا ومعنى بعامل واحد ، وهما «من» الداخلة على «بين» و «من» الداخلة على : «أمر الله»؟.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٠١ ، والدر المصون ٤ / ٢٣٢ ، ٢٣٣.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٢.

٢٦٧

فالجواب : أنّ «من» الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه.

قوله : «يحفظونه» يجوز أن يكون صفة ل «معقّبات» ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبرا](١) ، و «من أمر الله» متعلق به ، و «من» إمّا للسّبب أي : بسبب أمر الله.

ويدل له قراءة عليّ بن أبي (٢) طالب ، وابن عبّاس ، وزيد بن عليّ ، وعكرمة ـ رضي الله عنهم ـ : بأمر الله.

وقيل : المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله ، فحذف المضاف.

قال ابن الأنباري : كلمة «من» معناها الباء ، وتقديره : يحفظونه بأمر الله وإعانته ، والدّليل عليه : أنه لا بد من المصير إليه ؛ لأنّه لا قدرة للملائكة ، ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحدا من أمر الله ، وممّا قضاه الله عليه ؛ وإمّا أن تكون على بابها.

قال أبو البقاء (٣) : «من أمر الله» من الجنّ ، والإنس ، فتكون «من» على بابها.

«يعني : أن يراد بأمر الله : نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس ، والجن ، فتكون «من» لابتداء الغاية».

ويجوز أن تكون بمعنى «عن» ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه صفة ل «معقّبات» أيضا فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها «من بين يديه ومن خلفه» وبكونها «يحفظه» ، وبكونها «من أمر الله» ولكن يتقدّم الوصف بالجملة على الوصف بالجار ، وهو جائز فصيح ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين :

الأول : أنه على التّقديم ، والتّأخير ، والتقدير : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه.

قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه».

والثاني : أن فيه إضمارا ، أي : ذلك الحفظ من أمر الله ، أي : ممّا أمر الله به ، فحذف الاسم ، وأبقى خبره ، كما يكتب على الكيس : ألفان ، والمراد الذي فيه ألفان.

فصل

ذكر المفسرون : أن لله ملائكة يتعاقبون بالليل ، والنهار ؛ فإذا صعدت ملائكة الليل

__________________

(١) في ب : في الخبر.

(٢) وقرأ بها أيضا جعفر بن محمد ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٧ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٠٢ والبحر المحيط ٥ / ٣٦٤ وينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٣.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٢.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٣.

٢٦٨

جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النّهار ، جاء في عقبها ملائكة الليل ، لما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار يجتمعون عند صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثمّ يعرج الّذين باتوا فيكم ؛ فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : تركناهم ، وهم يصلّون ، وأتيناهم ، وهم يصلّون»(١).

وقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يعني من قدام ، هذا استخفى باللّيل والسّارب بالنّهار ، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذن الله ما لم يجىء القدر ، فإذا جاء القدر خلوا عنه.

وقيل : يحفظونه ممّا أمر الله به من الحفظ عنه.

قال مجاهد : ما من عبد إلا وله ملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس ، والهوام (٢).

وقيل : المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين ، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات «يحفظونه» أي يحفظون عليه ، «من أمر الله» يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨].

وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطّفيل وأربد بن ربيعة ، وكانت قصّتهما على ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : أقبل عامر بن الطّفيل ، وأربد بن ربيعة ، وهما عامريان يريدان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد ، فاستشرف الناس لجمال عامر ، وكان أعور ، وكان من أجمل النّاس ، فقال رجل : يا رسول الله هذا عامر بن الطّفيل قد أقبل نحوك فقال : دعه ؛ فإن يرد الله به خيرا يهده ، فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لك ما للمسلمين ، وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعل لي الأمر بعدك ؛ قال : ليس ذلك إليّ ، إنما ذلك إلى الله ـ عزوجل ـ يجعله حيث يشاء ، فقال : تجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال : لا ، قال : فما تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها قال : أو ليس ذلك لي اليوم ، قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة : إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه ، فاضربه بالسيف ، فجعل يخاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويراجعه ، فدار أربد من خلف النبي ليضربه ، فاخترط من سيفه شبرا ، ثمّ حبسه الله ـ عزوجل ـ عنده ، فلم يقدر على سلّه ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٣٣) كتاب مواقيت الصلاة : باب فضل صلاة العصر (٥٥٥) ومسلم (١ / ٤٣٩) كتاب المساجد : باب فضل صلاة الصبح والعصر (٢١٠ / ٦٣٢) ومالك في الموطأ ١ / ١٧٠ ، كتاب قصر الصلاة في السفر : باب جامع الصلاة (٨٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٩).

٢٦٩

وجعل عامر يومىء إليه ، فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما يصنع بسيفه ، فقال : «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو صائف ؛ فأحرقته ، وولّى عامر بن الطفيل هاربا ، وقال : يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد ، والله لأملأنّها عليك خيلا جردا ، وفتيانا مردا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمنعك الله من هذا ، وأبناء قيلة» يريد الأوس ، والخزرج ؛ فنزل عامر بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح ، ضم عليه سلاحه ، وقد تغير لونه ، فخرج يركض في الصحراء ويقول : ابرز يا ملك الموت ، ويقول الشّعر ، ويقول : واللات لئن أصبح لي محمد وصاحبه ـ يعني ملك الموت ـ لأنفذتهما برمحي ؛ فأرسل الله ـ تبارك وتعالى ـ ملكا فلطمه بجناحه ، فأذراه في التراب ، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة ، فعاد إلى بيت السلولية ، وهو يقول : «غدّة كغدة البعير ، وموت في بيت سلوليّة» ، ثم دعا بفرسه ، فركبه ، ثمّ أجراه حتّى مات على ظهره ، فأجاب الله دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتل عامر بالطعن ، وأربد بالصّاعقة ، وأنزل الله في هذه القصّة : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ) يعني للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله ، يعني : تلك المعقبات من أمر الله ، وفيه تقديم وتأخير (١).

ونقل عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ واختاره أبو مسلم الأصفهاني ـ رحمه‌الله ـ أن المراد يستوي في علم الله السرّ ، والجهر ، والمستخفي في ظلمة اللّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين ، والأنصار (٢) ، وهم الملوك ، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوّت الله سبحانه وتعالى أمره ، ومن سار نهارا بالمعقبات ، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله ـ تعالى ـ والمعقب هو العون ؛ لأنه إذا نصر هذا ذاك ؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا ؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر ؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ، وقدره ، وهم وإن ظنّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ، ومن قضائه ؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتّة.

والمقصود من الكلام : بعث السلاطين ، والأمراء ، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله ، ويعولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ؛ ولذلك قال تعالى ـ جل ذكره ـ بعده : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ).

قال القرطبي (٣) : «قيل : إن في الكلام نفيا محذوفا تقديره : لا يحفظونه من أمر الله ـ تعالى ـ ذكره الماورديّ.

__________________

(١) ينظر : البغوي (٣ / ٩) وأخرجه الطبري (٧ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦) عن ابن زيد.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٨).

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٩٢.

٢٧٠

قال المهدوي : ومن جعل المعقّبات : الحرس ، فالمعنى : يحفظونه من أمر الله على ظنه ، وزعمه.

وقيل : سواء من أسر القول ، ومن جهر ، فله حراس ، وأعوان يتعاقبون عليه ، فيحملونه على المعاصي ، و «يحفظونه» من أن ينجع فيه وعظ.

قال القشيريّ : وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب ، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار ، فيصير ذلك سببا للعقوبة ، فكأنه الذي يحل العقوبة».

وقال عبد الرحمن بن زيد : «المعقّبات : ما تعاقب من أمر الله ـ تعالى ـ وقضائه في عباده» (١).

قال الماورديّ : «ومن قال بهذا القول ، ففي تأويل قوله : «يحفظونه من أمر الله» وجهان :

أحدهما : يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله ، قاله الضحاك (٢).

الثاني : يحفظونه من الجنّ ، والهوام المؤذية ، ما لم يأت قدر ، قاله أبو أمامة ، وكعب الأحبار ـ رضي الله عنهما ـ فإذا جاء القدر خلوا عنه» (٣).

قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) : من العافية والنعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من [الحالة الجميلة](٤) فيعصون ربّهم.

قال الجبائي ، والقاضي : هذه الآية تدلّ على مسألتين :

الأولى : أنّه سبحانه لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ؛ لأنّهم لم يغيّروا ما بأنفسهم من نعمه ، فيغير الله حالهم من النّعمة إلى العذاب.

الثانية : قالوا : الآية تدلّ على بطلان قول المجبرة : إنّه تعالى ابتدأ العبد بالضّلال ، والخذلان أوّل ما يبلغ ؛ لأنّ ذلك أبلغ في العقاب ، مع أنّه ما كان منه تغيير.

قال ابن الخطيب (٥) : «والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد ، وقوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [التكوير : ٢٩] يدلّ على أن فعله مقدم على فعل العبد ، فوقع التّعارض.

وقوله تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) يدلّ على أنّ العبد غير مستقل

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ١٩٣).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٥٥) عن أبي أمامة وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦) عن كعب الأحبار.

(٤) في ب : الحيلة.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٩.

٢٧١

بالفعل ، فلو كان العبد مستقلا بتحصيل الإيمان ، لكان قادرا على ردّ ما أراد الله ـ تعالى ـ من كفره ، وحينئذ يبطل قوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) ؛ فثبت أنّ الآية السابقة ، وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا.

روى الضحاك عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : لم تغن المعقبات شيئا (١) وقال عطاء عنه : لا رادّ لعذابي ، ولا ناقض لحكمي : (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) ، أي : ليس لهم من دون الله من يتولاهم ، ويمنع قضاء الله عنهم ، أي : ما لهم وال يتولّى أمرهم ، ويمنع العذاب عنهم(٢).

قوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ) «العامل في «إذا» محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره : لم يرد أو وقع ، أو نحوهما ، ولا يعمل فيها جوابها ؛ لأنّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ(١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ)(١٥)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) الآية لما خوّف العباد بإنزال ما لا مرد له ، أتبعه بذكر هذه الآيات المشتملة على قدرة الله ـ تعالى ـ وحكمته ، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه ، وتشبه العذاب ، والقهر من بعض الوجوه.

قوله : «خوفا وطمعا» يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف ، أي : يخافون خوفا ، ويطمعون طمعا ، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحال ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان :

أحدهما : أنه مفعول : «يريكم» الأول ، أي : خائفين طامعين ، أي : تخافون صواعقه وتطمعون في مطره ، كما قال المتنبي : [الطويل]

٣١٧٠ ـ فتى كالسّحاب الجون يخشى ويرتجى

يرجّى الحيا منها وتخشى الصّواعق (٣)

والثاني : أنّه البرق ، أي : يريكموه حال كونه ذا خوف وطمع ، إذ هو في نفسه خوف وطمع على المبالغة ، والمعنى كما تقدّم.

ويجوز أن يكونا مفعولا من أجله ، ذكره أبو البقاء ، ومنعه الزمخشريّ لعدم اتّحاد

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٩).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (٦٩) والعمدة ١ / ٣٨ والبحر ٥ / ٣٦٦ والكشاف ٢ / ٥١٨ والرازي ٣٧٣ والمحرر الوجيز ٩ / ٣٧٤ والدر المصون ٤ / ٣٣٤.

٢٧٢

الفاعل ، يعني أنّ فاعل «الإرادة» وهو الله ـ تعالى ـ غير فاعل الخوف ، والطمع ، وهو ضمير المخاطبين ، فاختلف فاعل الفعل المعلل ، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه : بأنّ المفعول في قوّة الفاعل ، فإن معنى «يريكم» يجعلكم رائين ، فتخافون ، وتطمعون. ومثله في المعنى قول النابغة الذبياني : [الطويل]

٣١٧١ ـ وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع

تخال به راعي الحمولة طائرا

حذارا على ألّا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا (١)

ف «حذارا» مفعول من أجله ، فاعله هو المتكلم ، والفعل المعلل الذي هو : «حلّت» فاعله «بيوتي» فقد اختلف الفاعل ، قالوا : لكن لما كان التقدير : وأحللت بيوتي حذارا صحّ ذلك. وقد جوّز الزمخشريّ (٢) ذلك أيضا على حذف مضاف فقال : «إلّا على تقدير حذف مضاف ، أي : إرادة خوف ، وطمع ، وجوّزه أيضا على أن بعض المصادر ناب عن بعض. يعني أن الأصل : يريكم البرق إخافة ، وإطماعا».

فإنّ المرئي ، والمخيف ، والمطمع هو الله ـ تعالى ـ فناب خوف عن إخافة ، وطمع عن إطماع ، نحو : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] على أنه قد ذهب ابن خروف ، وجماعة على أنّ اتحاد الفعل ليس بشرط.

فصل

في كون البرق خوفا وطمعا وجوه :

قيل : يخاف منه نزول الصّواعق ، وطمع في نزول الغيث. وقيل : يخاف المطر من يتضرر به كالمسافر ، ومن في جرابه التمر والزبيب ، والحب ، ويطمع فيه من له فيه نفع.

وقيل : يخاف منه في غير مكانه ، وأمانه ، ويطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه ، ومن البلدان إذا مطروا ، قحطوا ، وإذا لم يمطروا خصبوا.

قال ابن الخطيب (٣) : «البرق جسم مركب من أجزاء رطبة مائية ، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنّ الغالب عليه الأجزاء المائية ، والماء جسم بارد رطب ، والنّار جسم حار يابس فظهور الضدّ من الضد التام على خلاف العقل ، فلا بد من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ».

ثم قال : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) بالمطر ، ويقال : أنشأ الله السحابة ، فنشأت ، أي : أبدأها فبدأت.

قال الزمخشري (٤) : «السّحاب : اسم جنس الواحدة سحابة ، والثقال : جمع ثقيلة ؛

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٢٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٨.

٢٧٣

لأنّك تقول : سحابة ثقيلة وسحاب ثقال ، كما تقول : امرأة كريمة ، ونساء كرام».

وقال البغوي (١) : «السّحاب جمع ، واحدتها : سحابة ، ويقال في الجمع : سحب وسحائب أيضا ، قال عليّ : السحاب غربال الماء».

فصل

قال ابن الخطيب (٢) : «وهذا من دلائل القدرة والحكمة ، وذلك لأنّ هذه الأجزاء المائية إمّا أن يقال : حدثت في جو الهواء أو تصاعدت من وجه الأرض ، فإن كان الأوّل وجب أن يكون [حدوثها](٣) بإحداث محدث حكيم قادر ، وهو المطلوب ، وإن كان الثاني وهو أن يقال: تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض ، فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت ، فثقلت ، فرجعت إلى الأرض.

فنقول : هذا باطل ؛ لأن الأمطار مختلفة ، فتارة تكون القطرات كبيرة ، وتارة تكون صغيرة ، وتارة تكون متقاربة ، وأخرى تكون متباعدة ، وتارة تطول مدة نزول المطر ، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصّفات مع أنّ طبيعة الأرض واحدة ، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار ، وأيضا فالتّجربة دلّت على أنّ للدعاء ، والتّضرع في نزول الغيث أثرا عظيما كما في الاستسقاء ومشروعيته ، فعلمنا أنّ المؤثر فيه [قدرة](٤) الفاعل لا الطبيعة ، والخاصية».

قوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) قال أكثر المفسرين : الرّعد اسم ملك يسوق السّحاب ، والصوت المسموع تسبيحه.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «من سمع صوت الرّعد فقال : سبحان الّذي يسبّح الرّعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كلّ شيء قدير ، فإن أصابه صاعقة فعلى دينه» (٥).

وعن ابن عبّاس : أنّ اليهود سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرّعد ما هو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ملك من الملائكة وكل بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السّحاب حيث شاء الله ، قالوا : فما الصّوت الذي نسمع؟ قال : زجرة السّحاب».

وعن الحسن (٦) : أنّه خلق من خلق الله ليس بملك (٧).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٣ / ١٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٢١.

(٣) في ب : إحداثها.

(٤) في أ : فعل.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١).

(٦) أخرجه أحمد (١ / ٢٧٤) والترمذي (٣١١٧) والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٣٩).

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٩٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل والضياء في المختارة.

(٧) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٢١).

٢٧٤

قال ابن الخطيب (١) : «فعلى هذا القول : الرّعد هو الملك الموكل بالسحاب ، وذلك الصّوت يسمّى بالرّعد ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله ينشىء السّحاب ، فتنطق أحسن النّطق وتضحك أحسن الضّحك فنطقه الرّعد وضحكه برق».

وهذا القول غير مستبعد ؛ لأن ـ عند أهل السنة ـ البنية ليست شرطا لحصول الحياة ، فلا يبعد من الله ـ تعالى ـ أن يخلق الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والنّطق في أجزاء السّحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له ، وكيف يستبعد ذلك ، ونحن نرى أنّ السمندل يتولد في النّار ، والضفادع تتولّد في الماء ، والدّودة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة ، وأيضا : فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولا تسبيح الحصى في زمن محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يبعد تسبيح السّحاب؟.

وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان :

أحدهما : أنه ليس بملك ؛ لأنّه عطف عليه الملائكة فقال : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) والمعطوف عليه مغاير للمعطوف.

والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة ، وإنّما أفرده بالذّكر تشريفا كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨] وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧].

وقيل : الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإنّه يسبح ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤].

وقيل : المراد من كون الرّعد مسبحا ، أن من يسمع الرّعد فإنّه يسبح الله ـ تعالى ـ فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه.

قوله : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) ، أي : والملائكة يسبحون من خيفة الله ، وخشيته ، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله ـ تعالى ـ له أعوانا ، فهم خائفون خاضعون طائعون.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «خائفون من الله لا كخوف بني آدم ، فإنّ أحدهم لا يعرف من على يمينه ، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعام ، ولا شراب ولا شيء» (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : «والمحققون من الحكماء يقولون : إنّ هذه الآثار العلوية إنّما هي تتمّ بقوى روحانية فلكيّة ، فللسّحاب روح معيّن في الأرواح الفلكيّة يدبره ، وكذا الرّياح ، وسائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما قلنا : إنّ الرعد اسم لملك من الملائكة يسبّح الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٢١.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٩ / ٢١).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٢٢.

٢٧٥

فالذي قاله المفسّرون بهذه العبارة ، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟».

قوله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) كما أصاب أربد بن ربيعة.

«الصّواعق» جمع صاعقة ، وهي العذاب المهلك ينزل من البرق ، فتحرق من تصيبه وتقدّم الكلام عليه في أوّل البقرة.

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر بن الطّفيل ، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا.

واعلم أنّ أمر الصاعقة عجيب جدّا ؛ لأنّها نار تتولّد في السّحاب ، وإذا نزلت من السّحاب فربما غاصت في البحر ، وأحرقت الحيتان.

قال محمد بن عليّ الباقر : «الصّاعقة تصيب المسلم ، وغير المسلم ، ولا تصيب الذّاكر».

قوله (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالا.

وظاهر كلام الزمخشري (١) أنّها حال من مفعول «تصيب» فإنّه قال : «وقيل : الواو للحال ، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم» وجعلها غيره : حالا من مفعول «يشاء».

فصل

معنى الكلام : أنه ـ تعالى ـ بيّن دلائل العلم بقوله : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية ، ثم قال تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) يعني أنّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله.

قيل : المراد بها الرّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربّنا ، أهو من نحاس ، أم من حديد ، أم من درّ ، أم من ياقوت ، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته.

وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث ، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات.

وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال.

وسئل الحسن عن قوله : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمد ، هذا الذي تدعوني إليه ، ممّ هو؟ من ذهب ، أو فضة ، أو حديد أو نحاس؟

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٩.

٢٧٦

فاستعظم القوم مقالته ، فانصرفوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجلا أكفر قلبا ، ولا أعتى على الله منه ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ارجعوا إليه» فرجعوا إليه ؛ فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال : أجيب محمدا إلى رب لا أراه ، ولا أعرفه! وانصرفوا ، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى ، وأخبث. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجعوا إليه» ؛ فرجعوا إليه ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة ، إذ ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رءوسهم ، فرعدت ، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر ، وهم جلوس ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : «احترق صاحبكم» فقالوا : من أين علمتم؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ).

قوله : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة ، ويضعف استئنافها.

وقرأ العامة : بكسر الميم وهو القوّة ، والإهلاك.

قال عبد المطلب : [الكامل]

٣١٧٢ ـ لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالك (١)

وقال الأعشى : [الخفيف]

٣١٧٣ ـ فرع نبع يهتزّ في غصن المج

د عظيم النّدى شديد المحال (٢)

والمحال أيضا : أشدّ المكايدة ، والمماكرة ، يقال : ماحله ، ومنه تمحّل فلان بكذا أي : تكلّف له استعمال الحيلة.

وقال أبو زيد : هو النّقمة. وقال ابن عرفة : هو الجدال ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحال.

وقال عليّ ـ رضي الله عنه ـ : شديد الأخذ (٣). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ شديد الحول (٤). وقال الحسن : شديد الحقد (٥).

قالوا : وهذا لا يصلح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله ـ تعالى ـ إلّا أنّه تقدم أنّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقّ الله ـ تعالى ـ فإنّها تحمل على نهايات

__________________

(١) ينظر البيت في اللسان (محل) والبحر ٥ / ٣٥٢ وروح المعاني ١٣ / ١٢٢ والدر المصون ٤ / ٣٣٤ وروي : غدوا بالغين المعجمة.

(٢) ينظر : ديوانه ص ١٤١ ، وتهذيب اللغة مادة (حمل) وفيه «كثير الحمال» بدل «شديد المحال» ، والقرطبي ٥ / ٣٤١ ، واللسان (محل) ، والتاج (محل) ، الكشاف ٢ / ٥٢٠ ، جمهرة أشعار العرب ١ / ٢٢٢ ، وروح المعاني ١٣ / ١٢٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٢) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١).

(٤) انظر المصادر السابقة.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١).

٢٧٧

الأغراض لا على مبادي الأعراض ، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه ـ تعالى ـ يريد إيصال الشّر إليه ، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة.

وقال مجاهد : شديد القوّة (١). وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة.

وقيل : شديد المكر ، والمحال ، والمماحلة ، والمماكرة ، والمغالبة.

واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنّها أصلية من المحل ، وهو المكر ، والكيد ، وزنها فعال: كمهاد.

وقال القتبيّ : إنّه من الحيلة ، وميمه مزيدة ، ك «مكان» من الكون ، ثم يقال : تمكنت ، وقد غلّطه الأزهريّ ، وقال : لو كان «مفعلا» من الحيلة لظهرت الواو ، مثل : مرود ، ومحول ، ومحود. وقرأ الأعرج (٢) والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة ، وهو مذهب ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فإنه فسره بالحول كما تقدم ، وفسره غيره : بالحيلة.

وقال الزمخشري (٣) : «وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من : حال يحول محالا إذا احتال ، ومنه : «أحول من ذئب» أي : أشد حيلة ، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار ، ويكون مثلا في القوة ، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحد ؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتا بشدة القوّة ، والاضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ، وذلك أنّ الفقار عمود الظّهر ، وقوامه».

قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، والأصل له الدعوة الحق ، كقوله (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) [يوسف : ١٠٩] على أحد الوجهين.

وقال الزمخشري فيه وجهان :

أحدهما : أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما يضاف الكلمة إليه في قوله : «كلمة الحقّ».

الثاني : أن تضاف إلى «الحقّ» الذي هو «الله» على معنى : دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب.

قال أبو حيّان (٤) : «وهذا الوجه الثاني لا يظهر ؛ لأنه مآله إلى تقدير : لله دعوة الله ، كما تقول : «لزيد دعوة زيد» ، وهذا التركيب لا يصحّ».

قال شهاب الدين (٥) : «وأين هذا ممّا قاله الزمخشريّ حتى يرد عليه به»؟.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٠٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٦٧ والدر المصون ٤ / ٢٣٥ ، وفي ب : الأعشى.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦٨.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٥.

٢٧٨

فصل

معنى قوله : «دعوة الحقّ» ، أي لله دعوة الصدق.

قال عليّ : دعوة الحقّ : التّوحيد (١). وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ شهادة أن لا إله إلا الله (٢). وقيل : الدّعاء بالإخلاص عند الخوف ، فإنّه لا يدعى فيه إلا إياه» ، كما قال : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].

قال الماورديّ : وهو أشبه لسياق الآية ؛ لأنه قال : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأصنام : (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) ، أي لا يجيبون لهم دعاء ، ولا يسمعون لهم نداء. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ). ضرب الله ـ عزوجل ـ الماء مثلا لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم.

قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) يجوز أن يراد ب «الّذين» المشركون ، فالواو في : «يدعون» عائدة ، ومفعوله محذوف ، وهو الأصنام ، والواو في «لا يستجيبون» عائدة على مفعول «تدعون» المحذوف ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم ، والتقدير : والمشركون الذين يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي : كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه ، والماء جماد ، ولا يشعر ببسط كفيه ، ولا بعطشه ، ولا يقدر أن يجيبه ، ويبلغ فاه. قال معناه الزمخشريّ.

وما ذكره أبو البقاء (٣) قريب من هذا ، وقدر التقدير المذكور ، قال : «والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول ، كقوله : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [فصلت : ٤٩] وفاعل هذا المصدر مضمر ، وهو ضمير الماء أي : لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه ، والإجابة هنا كناية عن الانقياد».

وقيل : ينزلون في قلّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرف الماء بيده ؛ ليشرب ، فيبسطها ناشرا أصابعه ، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ، ولم يبلغ مطلوبه من شربه.

قال الفراء : المراد بالماء هاهنا : البئر ؛ لأنّها معدن الماء ، ويجوز أن يراد ب «الّذين»

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٠١) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٠١) وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢).

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٣.

٢٧٩

الأصنام أي : والآلهة ، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء إلا استجابة ، والتقدير : كما تقدّم في الوجه قبله.

وإنّما جمعهم جمع العقلاء ؛ إمّا للاختلاط ، لأنّ آلهتهم عقلاء وجماد ، وإمّا لمعاملتهم إيّاها معاملة العقلاء في زعمهم ، قالوا : الواو في «يدعون» للمشركين والعائد المحذوف للأصنام ، وكذا واو : «يستجيبون».

وقرأ اليزيديّ (١) عن أبي عمرو : «تدعون» بالخطاب : «كباسط كفّيه» بالتنوين وهي مقوية للوجه الثاني ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره.

قوله «ليبلغ» اللام متعلقة ب «باسط» ، وفاعل : «يبلغ» ضمير الماء.

قوله : (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) في : «هو» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير الماء ، والهاء في : «ببالغه» للفم ، أي : وما الماء ببالغ فيه.

الثاني : أنه ضمير الفم ، والهاء في : «ببالغه» للماء ، أي : وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال ، فنسبة الفعل إلى كل واحد وعدمه صحيحان.

الثالث : أن يكون ضمير الباسط ، والهاء في : «ببالغه» للماء ، أي : وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء.

ولا يجوز أن يكون «هو» ضمير «الباسط» ، وفاعل «ببالغه» مضمرا والهاء في «ببالغه» للماء ؛ لأنّه حينئذ يكون من باب جريان الصّفة على غير من هي له ، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل ، فكان التركيب هكذا : وما هو ببالغ الماء ، فإن جعلنا الضمير في «ببالغه» للماء ؛ جاز أن يكون : «هو» ضمير الباسط كما تقدّم تقريره.

والكاف في «كباسط» إما نعت لمصدر محذوف ، وإما حال من ذلك المصدر ، كما تقدم تقريره.

وقال أبو البقاء : «والكاف في «كباسط» إن جعلتها حرفا كان فيها ضمير يعود على الموصوف المحذوف ، وإن جعلتها اسما لم يكن فيها ضمير».

قال شهاب الدّين (٢) : «وكون الكاف اسما في الكلام ، لم يقل به الجمهور ، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر ، والذي قدره فيما تقدّم».

ثم قال : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) أصنامهم : (إِلَّا فِي ضَلالٍ) يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه ، كقوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ) [فصلت : ٤٨].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) ربهم : (إِلَّا فِي ضَلالٍ) ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله ـ عزوجل (٣).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٠٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٦٨ ، والدر المصون ٤ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢).

٢٨٠