اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٠٧)

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) الآية «ذلك» : مبتدأ و (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) : خبره ، و «نوحيه» : حال ، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ، أو حالا من الضمير في الخبر ، وجوز الزمخشري : أن يكون موصولا بمعنى : الذي ، وتقدّم نظيره ، والمعنى : ذلك الذي ذكرت من أنباء الغيب نوحيه إليك ، وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب ، (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي : عزموا على إلقاء يوسف في الجبّ ، وما كنت هناك ، ذكره على وجه التّهكّم ، وتقدّم الكلام على هذا اللفظ عند قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) [يونس : ٧١] وقوله : (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي : بيوسف والمقصود من هذا إخبار عن الغيب ، فيكون معجزا ؛ لأنّ محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يطالع الكتب ، ولم يتلمذ لأحد ، وما كانت بلدته بلدة العلماء ؛ فإتيانه بهذه القصّة الطويلة ، على وجه لم يقع فيها تحريف ، ولا غلط من غير مطالعة ، ولا تعلم ، كيف لا يكون معجزا؟.

روي أن اليهود وقريشا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصّة يوسف ؛ فلما أخبرهم على موافقة التّوراة لم يسلموا ، فحزن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل : إنهم لا يؤمنون ، ولو حرصت على إيمانهم (١).

قوله (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) : حال ، (وَلَوْ حَرَصْتَ) معترض بين «ما» وخبرها ، وجواب «لو» محذوف ؛ لدلالة ما تقدّم عليه.

قال أبو بكر الأنباري رحمه‌الله : «جواب «لو» محذوف ؛ لأن جواب «لو» لا يكون مقدّما عليها ، فلا يجوز أن يقال : قمت لو قمت».

وقال الفراء في «المصادر» : حرص يحرص حرصا ، وفي لغة أخرى : حرص يحرص حرصا ، ومعنى الحرص : طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد ، (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) : حال.

قوله (وَما تَسْئَلُهُمْ) على تبليغ الرّسالة ، والدّعاء إلى الله ـ عزوجل ـ «من أجر» جعلوا خبر «إن» هو «ما» أي : القرآن ، «إلّا ذكر» : عظة وتذكير «للعالمين».

ثم قال : «وكأيّن» : وكم ، «من آية» : عبرة ودلالة ، (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون.

واعلم : أن دلائل التّوحيد ، والعلم ، والقدرة ، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة ، وهي : إما الأجرام الفلكيّة ، وإما الأجرام العنصرية.

أما الأجرام الفلكيّة فهي قسمان : إما الأفلاك ، وإما الكواكب.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٥٢).

٢٢١

فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصّانع ، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته ، وقد يستدلّ بحركاتها ، إمّا بسرعة حركتها ، وإمّا باختلاف جهة تلك الحركات.

وأمّا الأجرام الكوكبيّة ، فتارة تدلّ على وجود الصّانع بمقاديرها ، وأجرامها ، وحركاتها في سرعتها وبطئها ، وتارة بألوانها وأضوائها ، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال.

وأما دلائل الأجرام العنصرية : فإمّا أن تكون مأخوذة من بسائطها ، وهو البر والبحر ، وإما مأخوذة من [المواليد] ، وهي أقسام :

أحدها : العلويّة كالرعد ، والبرق ، والسّحاب ، والمطر ، والثلج ، والهواء ، وقوس قزح.

وثانيها : المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها ، وكيفياتها.

وثالثها : النّبات وخاصيّة الخشب والورق بخصوصه.

ورابعها : اختلاف حال الحيوانات في أشكالها ، وطبائعها ، وأصواتها ، وخلقها.

وخامسها : تشريح أبدان الناس ، وتشريح القوى الإنسانية ، وبيان المنافع الحاصلة منها ، ومن هذا الباب أيضا قصص الأوّلين والملوك الذين استولوا على الأرض ، وقهروا العباد ، وخربوا البلاد. ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر ، ثم بقي الوزر والعقاب عليهم ، قال ابن الخطيب (١) : فلهذا ضبط أنواع هذه الدّلائل.

فصل

الجمهور على جر الأرض عطفا على السموات ، والضمير في «عليها» للآية ، فيكون «يمرّون» صفة للآية ، وحالا لتخصّصها بالوصف بالجر.

وقيل : يعود الضمير في «عليها» للأرض فيكون «يمرّون عليها» حالا منها.

وقال أبو البقاء : وقيل : منها ومن السّموات ، أي : يكون الحال من الشيئين جميعا ، وهذا لا يجوز ؛ إذ كان يجب أن يقال : عليهما ، وأيضا : فإنهم لا يمرّون في السّماوات إلا أن يراد : يمرّون على آياتها ، فيعود المعنى على عود الضمير للآية ، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢].

وقرأ السديّ : «والأرض» بالنّصب ، ووجهه أنه من باب الاشتغال ، ويفسّر الفعل بما يوافقه معنى ، أي : يطوفون الأرض ، أو يسلكون الأرض.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٧٨.

٢٢٢

(يَمُرُّونَ عَلَيْها) كقولك : زيدا مررت به ، وقرأ عكرمة (١) ، وعمرو بن فايد : «والأرض» على الابتداء ، وخبره الجملة بعده ، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط.

قوله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والمعنى : أنّهم كانوا مقرّين بوجود الإله ، قال ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر : ٧٨] إلا أنّهم كانوا [يثبتون](٢) له شريكا في العبودية.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : نزلت في تلبية المشركين من العرب ، كانوا يقولون : «لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك».

وعن عطاء ـ رضي الله عنه ـ هذا في الدعاء ، وذلك أن الكفار نسوا ربّهم في الرخاء ؛ فإذا أصابهم البلاء ، أخلصوا في الدعاء ، قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢] (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥].

وعن ابن عبّاس : إن أهل مكة قالوا : الله ربّنا لا شريك له ، والملائكة بناته ، فلم يوحّدوا بل أشركوا ، وقالت اليهود : ربّنا الله وحده ، وعزير ابن الله ، وقالت النصارى : الله وحده ، والمسيح ابن الله.

واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان : عبارة عن الإقرار باللسان فقط ؛ لأنه ـ تعالى ـ حكم بكونهم مؤمنين مع أنّهم مشركون ، وذلك يدلّ على أن الإيمان عبارة عن مجرّد الإقرار ، وجوابه معلوم.

قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) : عقوبة تغشاهم ، وتنبسط عليهم ، وتغمرهم.

(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً).

قرأ أبو حفص ، ومبشر بن (٣) عبد الله : أو يأتيهم الساعة بغتة بالياء من تحت ؛ لأنه مؤنّث مجازي ؛ وللفصل أيضا ، و «بغتة» : نصب على الحال ، يقال : بغتهم الأمر بغتا وبغتة ، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقّعوا.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الناصب لقوله : «بغتة».

قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٨)

قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) الآية.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٤ والدر المصون ٤ / ٢١٧.

(٢) في أ : ينسبون.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٥ والدر المصون ٤ / ٢١٧.

٢٢٣

قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها ، سنّتي ومنهاجي ، وسمّي الدّين سبيلا ؛ لأنه الطّريق الذي يؤدّي إلى الثّواب ، ومثله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل : ١٢٥] والسّبيل في أصل اللغة : الطريق ، ثم شبهوا بها التعبّدات ؛ لأن الإنسان يمر عليها إلى الجنّة.

قوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) يجوز أن يكون مستأنفا ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالا من الياء ، و (عَلى بَصِيرَةٍ) حال من فاعل «أدعوا» أي : أدعوا كائنا على بصيرة.

وقيل : تمّ الكلام عند قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ثم استأنف (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

قوله (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) عطف عليه ، أي : على فاعل «أدعوا» ولذلك أكد بالضمير المنفصل ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : ومن اتّبعني يدعو أيضا ، ويجوز أن يكون (عَلى بَصِيرَةٍ) : خبرا مقدما ، و «أنا» : مبتدأ مؤخر ، و «من اتّبعني» عطف عليه أيضا ، ومفعول «أدعوا» يجوز أن لا يراد ، أي : أنا من أهل الدّعاء إلى الله ، ويجوز أن يقدّر : أن أدعو الناس. وقرأ عبد (١) الله : «هذا سبيلي» بالتّذكير ، وقد تقدّم [الأنعام : ٥٥] أنه يذكّر ويؤنّث.

فصل

والمعنى : أدعو إلى الله على بصيرة على يقين ، والبصيرة : هي المعرفة التي يميز بها بين الحقّ والباطل ، وهي الحجّة والبرهان ، (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) : آمن بي ، وسار في طريقي ، وسيره : اتّباع الدّعوة إلى الله ـ عزوجل ـ.

قال الكلبيّ ، وابن زيد : حقّ على من اتّبعه أن يدعو إلى ما دعى إليه ويذكّر بالقرآن (٢).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : يعني : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا على أحسن طريقة ، وأقصد هداية معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرّحمن (٣).

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «العلماء أمناء الرّسل على عباده ، حيث يحفظون ما يدعون إليه» (٤).

ثم قال «وسبحان الله» أي : وقل : سبحان الله تنزيها عمّا يشركون.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٩ والدر المصون ٤ / ٢١٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣١٥) عن ابن زيد وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٥٣).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٥٣).

(٤) أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١ / ١٨٥) وابن أبي حاتم في «العلل» (١٩٠٦) وقال عن أبيه : هذا حديث منكر.

٢٢٤

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين اتّخذوا مع الله ضدّا وندّا. وهذه الآية تدلّ على أنّ علم الأصول حرفة الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، وأن الله تعالى ـ ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠)

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية : وهذا يدلّ على أنّه ما بعث رسولا إلى الخلق من النّسوان ، ولا من أهل البادية ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من بدا جفا» (١).

قوله «نوحي» العامة على «يوحى» بالياء من تحت مبنيّا للمفعول.

وقرأ (٢) حفص : «نوحي» بالنون ، وكسر الحاء مبنيّا للفاعل ، اعتبارا بقوله : (وَما أَرْسَلْنا) [النحل : ٤٣] وكذلك قرأ ما في النحل ، وأوّل الأنبياء ، ووافقه الأخوان على قوله : (نُوحِي إِلَيْهِمْ) في الأنبياء على ما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ والجملة صفة ل «رجالا» و (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) صفة ثانية ، وكان تقديم هذه الصّفة على ما قبلها أكثر استعمالا ، لأنّها أقرب إلى المفرد ، وقد تقدّم تحريره في المائدة.

فصل

قوله (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل الأمصار دون أهل البوادي ؛ لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.

قال الحسن : لم يبعث الله نبيّا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الملائكة وقيل إنما لم يبعث (٣) من أهل البادية لغلظهم وجفاهم كما تقدّم.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني : [هؤلاء](٤) المشركين المكذبين ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢٨٥٨) وأحمد (٣٣٦٢ ـ شاكر) والترمذي ٢٣٥٧) والنسائي (٧ / ١٩٥ ـ ١٩٦) والطبراني في «الكبير» (١١٠٣٠) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١ / ١٩٨) من حديث ابن عباس.

وأخرجه أحمد (٢ / ٣٧١ ، ٤٤٠) وأبو داود (٢٨٥٩) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٣٣٩) من حديث أبي هريرة.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤٤٠ وإعراب القراآت السبع ١ / ٣١٥ وحجة القراآت ٣٦٥ والإتحاف ٢ / ١٥٥ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٨٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٦ وفيه قرأ بها أيضا أبو عبد الرحمن وطلحة وينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٨.

(٣) سقط من : ب.

(٤) في ب : أهل.

٢٢٥

كانَ عاقِبَةُ) : آخر أمر ، (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : الأمم المكذّبين فيعتبروا ، (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : هذا فعلنا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجّيهم عند نزول العذاب ، وما في الدار الآخرة لهم خير ، فترك ذلك اكتفاء به لدلالة الكلام عليه ، والمعنى : ولدار الحال الآخرة.

وقيل : هو إضافة الشيء إلى نفسه ؛ كقوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥] ، وكقولهم : يوم الخميس ، وربيع الآخر ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتؤمنون ، قرأ نافع ، وابن عامر ، ورواية عن عاصم : «تعقلون» (١) بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) الآية.

ليس في الكلام شيء يكون ، «حتّى» غاية له ؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيء يصحّ جعله مغيّا ب «حتّى».

فقدره الزمخشري (٢) : وما أرسلنا من قبلك رجالا ، فتراخى نصرهم حتّى.

وقدره القرطبيّ (٣) : وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتّى إذا.

وقدره ابن الجوزي : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ، فدعوا قومهم فكذّبوهم ، فطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتّى إذا ، وأحسنها المقدم.

وذكر ابن عطيّة (٤) شيئا من معنى قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) فقال : ويتضمن قوله «أفلم يسيروا» إلى من قبلهم ، أنّ الرّسل الذين بعثهم الله ـ تعالى ـ من أهل القرى دعوهم ، فلم يؤمنوا حتى نزلت بهم المثلاث ، فصبروا في حيّز من يعتبر بعاقبته ؛ فلهذا المضمّن حسن أن تدخل «حتّى» في قوله : «حتّى إذا».

قال أبو حيان (٥) : ولم يتلخّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد «حتّى» غاية له ؛ لأنّه علّق الغاية بما ادّعى أنّه فهم ذلك من قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) ، قال شهاب الدّين (٦) : قوله : «دعوهم فلم يؤمنوا» هو المغيّا (٧).

قوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قرأ الكوفيّون : «كذبوا» بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل.

فأما قراءة التّثقيل ، فاضطربت فيها الأقوال : فروي إنكارها عن عائشة ـ رضي الله

__________________

(١) قرأ بها أيضا أبو جعفر ويعقوب ينظر : الإتحاف ٢ / ١٥٦ وقرأ بها أيضا الحسن وعلقمة والأعرج ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٠.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٨٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٧.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٨.

(٧) ينظر : السبعة ٣٥١ والحجة ٤ / ٤٤١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٧ وحجة القراءات ٣٦٦ ، ٣٦٧ والإتحاف ٢ / ١٥٦ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٨٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٧ والدر المصون ٤ / ٢١٨.

٢٢٦

عنها ـ قالت : «معاذ الله ؛ لم تكن الرسل لتظنّ ذلك بربّها» وينبغي ألّا يصحّ ذلك عنها ؛ لتواتر هذه القراءة ، وقد وجّهت بأربعة [أوجه](١) :

أحدها : أن الضمير في «وظنّوا» عائد على المرسل إليهم ؛ لتقدّمهم في قوله : (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ولأنّ الرسل تستدعي مرسلا إليهم ، والضمير في «أنّهم» و «كذبوا» عائد على الرسل والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، أي : كذّبهم من أرسلوا إليه بالوحي ، وينصرهم عليهم.

الثاني : أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل.

قال الزمخشري (٢) في تقدير هذا الوجه : «حتّى إذا استيئسوا من النّصر ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، أي : كذّبتهم أنفسهم حين حدّثتهم أنهم ينصرون ، أو رجاؤهم ؛ لقولهم : رجاء صادق ، ورجاء كاذب ، والمعنى : أن مدّة التّكذيب والعداوة من الكفّار ، وانتظار النصر من الله ـ تعالى ـ ، وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت ؛ حتى استشعروا القنوط ، وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدنيا ؛ فجاءهم نصرنا» انتهى.

فقد جعل الفاعل المقدر : إما «أنفسهم» ، وإما «رجاؤهم» ، وجعل الظّنّ بمعنى : التّوهّم ، فأخرجه عن معناه الأصليّ ، وهو يرجّح أحد الطرفين ، وعن مجازه ، وهو استعماله في المتيقن.

الثالث : أن الضمائر كلّها عائدة على الرسل ، والظنّ على بابه من التّرجيح ، وإلى هذا نحا ابن عبّاس ، وابن مسعود ، وابن جبير ، وقالوا : والرّسل بشر ؛ فضعفوا ، وساء ظنّهم.

وهذا لا ينبغي أن يصحّ عن هؤلاء : فإنها عبارة غليظة على الأنبياء ، وحاشا الأنبياء من ذلك ، ولذلك ردّت عائشة ، وجماعة كثيرة هذا التأويل ، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك.

قال الزمخشريّ (٣) : «إن صحّ هذا عن ابن عبّاس ، فقد أراد بالظّنّ ؛ ما يخطر بالبال ، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة ، وحديث النّفس على ما عليه البشريّة ، وأما الظنّ الذي هو ترجيح أحد الجائزين على الآخر ؛ فغير جائز على رجل من المسلمين ، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربّهم».

قال شهاب الدّين (٤) : «ولا يجوز أيضا أن يقال : خطر ببالهم شبه الوسوسة ، فإن الوسوسة من الشيطان ، وهم معصومون منه».

وقال الفارسي أيضا : «إن ذهب ذاهب إلى أن المعنى : ظن الرّسل الذين وعد الله

__________________

(١) في ب : أقوال.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٩.

٢٢٧

أممهم على لسانهم قد كذبوا ؛ فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالح عباد الله ، وكذلك من زعم : أنّ ابن عبّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا ، [فظنوا](١) أنهم قد أخلفوا ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدّل لكلماته».

وقد روي عن ابن عباس أيضا ، أنه قال : معناه : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا ؛ أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله به من النصر ، وقال : وكانوا بشرا ؛ وتلا قوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤].

الرابع : أن الضمائر كلّها ترجع إلى المرسل إليهم أي : وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فيما ادّعوه من النبوة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، قالوا : «ولا يجوز عود الضمائر على الرسل ؛ لأنّهم معصومون».

ويحكى : أنّ ابن جبير حين سئل عنها ، فقال : نعم ، حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنّ المرسل إليهم أن الرّسل قد كذبوهم ؛ فقال الضحاك بن مزاحم ـ وكان حاضرا ـ : «لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا».

وأمّا قراءة التشديد فواضحة ، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل ، أي : وظنّ الرّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به ؛ لطول البلاء عليهم.

وفي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّها قالت : «إنّهم أتباع الأنبياء الّذين آمنوا بربهم وصدّقوا ، طال عليهم البلاء واستأخر عنهم النّصر ، حتّى إذا استيأس الرّسل ممّن كذّبهم من قومهم ، وظنّت الرّسل أنّهم قد كذّبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك» (٢).

وبهذا يتّحد معنى القراءتين ، والظّن هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكون بمعنى : اليقين ، وأن يكون بمعنى : التوهّم كما تقدّم.

وقرأ ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ـ رضي الله عنهم ـ (٣) : «كذبوا» بالتخفيف مبنيّا للفاعل ، والضمير على هذه القراءة في «وظنّوا» عائد على الأمم ، في أنّهم قد كذبوا ، عائد على الرسل ، أي : ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النّصر ، أو من العقاب.

ويجوز أن يعود الضمير في «ظنّوا» على الرسل ، وفي «أنّهم قد كذبوا» على المرسل إليهم ، أي : وظنّ الرسل أنّ الأمم كذبتهم فيما وعدهم به من أنّهم لا يؤمنون به ، والظنّ هنا بمعنى : اليقين واضح.

__________________

(١) في ب : وساء ظنهم.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٢١٧) كتاب التفسير : باب حتى إذا استيأس الرسل حديث (٤٦٩٥).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٧ والدر المصون ٤ / ٢١٩.

٢٢٨

ونقل أبو البقاء (١) : «أنه قرىء مشدّدا مبنيّا للفاعل ، وأوله : بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم».

وقال الزمخشري (٢) بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل : «ولو قرىء بها مشددة لكان معناه: وظن الرسل أن قومهم قد كذّبوهم فيما وعدوهم» فلم يحفظها قراة ، وهي غريبة ، وكان قد جوّز في القراءة المتقدمة : أن الضّمائر كلّها تعود على الرّسل ، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل ، فقال : «وقرأ مجاهد : «كذبوا» بالتخفيف على البناء للفاعل ، على : وظنّ الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدّثوا به قومهم من النّصرة : إمّا على تأويل ابن عبّاس ، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثرا ، قالوا لهم : قد كذبتمونا ، فيكونون كاذبين عند قومهم ، أي : وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا».

وقوله «جاءهم» : جواب الشّرط ، وتقدّم الكلام في «حتّى» هذه ما هي؟. أي : لمّا بلغ الحال إلى الحدّ المذكور ؛ جاءهم نصرنا.

فإن قيل : لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق ، فكيف يحسن عود الضّمير إليهم؟.

فالجواب : ذكر الرسل يدلّ على ذكر المرسل إليهم ، أو يقول : إن ذكرهم جرى في قولهم : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ويكون الضمير عائدا على الذين من قبلهم (٣) ، من مكذّبي الرسل.

قوله (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) قرأ عاصم ، وابن عامر بنون واحدة ، وجيم مشددة ، وياء مفتوحة ؛ على أنّه فعل ماض مبنيّ للمفعول ، و «من» : قائمة مقام الفاعل ، والباقون بنونين (٤) ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة ، والياء الساكنة على أنه مضارع أنجى ، و «من» مفعولة ، والفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال ، على معنى : فنفعل بهم ذلك ، وهذه حكاية حال ، ألا ترى أنّ القصّة فيما مضى ، وإنّما حكى الحال ؛ كقوله تعالى (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] إشارة إلى الحاضر ، والقصّة ماضية.

وقرأ الحسن ، والجحدريّ ، ومجاهد (٥) في آخرين كقراءة عاصم ، إلا أنّهم سكّنوا الياء ، والأجود في تخريجها ما تقدّم ، وسكّنت الياء تخفيفا ، كقراءة : (تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة : ٨٩] وقد سكّن الماضي الصّحيح ، فكيف بالمعتلّ؟

كقوله : [مجزوء الرمل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٠.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ٤٤٤ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٧ وحجة القراءات ٣٦٧ ، ٣٦٧ والإتحاف ٢ / ١٥٧ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٨٨ ، ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

٢٢٩

٣١٥٧ ـ ...........

قد خلط بجلجلان (١)

وتقدم من أمثاله.

وقيل : الأصل «ننجي» بنونين ؛ فأدغم النون في الجيم ، وليس بشيء ؛ إذ النون لا تدغم في الجيم على أنّه قد قيل بذلك في قوله : (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] كما سيأتي بيانه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقرأ جماعة كقراءة الباقين (٢) إلا أنّهم فتحوا الياء ، قال ابن عطيّة : «رواها ابن هبيرة ، عن حفص ، عن عاصم ، وهي غلط من ابن هبيرة».

قال شهاب الدّين (٣) : «توهّم ابن عطيّة أنه مضارع باق على رفعه ، فأنكر فتح لامه وغلّط راويها ، وليس بغلط ؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معا مضارع مقرون بالفاء ، جاز فيه أوجه :

أحدها : نصبه بإضمار «أن» بعد الفاء ، وقد تقدّم عند قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٨٤] إلى أن قال : «فيغفر» قرىء بنصبه ، وقد تقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة ، أو غير جازمة كهذه الآية.

وقرأ الحسن (٤) أيضا «فننجّي» بنونين ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة مضارع «نجّى» مشددة للتكثير ، وقرأ هو أيضا ، ونصر (٥) بن عاصم ، وأبو حيوة : «فنجا» فعلا ماضيا مخففا ، و «من» فاعله.

ونقل الدّاني : أنه قرأ لابن محيصن كذلك (٦) ، إلا أنه شدّد الجيم ، والفاعل ضمير النّصر ، و «من» مفعوله ، ورجح بعضهم قراءة عاصم ؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها «فنجّي» بنون واحدة ، نقله الداني ، ونقل مكي : أن أكثر المصاحف عليها ، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرّسم ، ورجّح أيضا : بأنّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية ، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء ، من حيث بناء الفعل [للمفعول](٧).

وقرأ أبو حيوة : «يشاء» بالياء ، وتقدّم أنه قرأ «فنجا» ، أي : فنجا من يشاء الله نجاته ، وهم المؤمنون المطيعون.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : السبعة ٣٥٢ والحجة ٤ / ٤٤٥ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٨ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٧) في ب : للمجهول.

٢٣٠

قوله (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) : عذابنا ، وقرأ الحسن (١) «بأسه» والضمير لله ، وفيها مخالفة للشواذّ ، (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي : المشركين.

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١)

قوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ) أي : في خبر يوسف وإخوته ، «عبرة» : موعظة «لأولي الألباب» (٢).

قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث ، والكسائيّ في رواية الأنطاكي : «قصصهم» بكسر القاف وهو جمع قصّة ، وبهذه القراءة رجّح الزمخشري عود الضمير في «قصصهم» في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم.

وحكى غيره : أنه يجوز أن يعود على الرسل ، وعلى يوسف وإخوته جميعا كما تقدم.

قال أبو حيان (٣) : «ولا ينصره ـ يعني هذه القراءة ـ ؛ إذ قصص يوسف ، وأبيه ، وإخوته تشتمل على قصص كثيرة ، وأنباء مختلفة».

فصل

الاعتبار : عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة ، والمراد منه : التّأمّل والتّفكر ، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور :

أحدها : أنّ الذي قدر على إعزاز يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بعد إلقائه في الجبّ وإعلائه بعد سجنه ، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبّ بعد المدة الطويلة ؛ لقادر على إعزاز محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعلاء كلمته.

وثانيها : أن الإخبار عنه إخبار عن الغيب ، فكان معجزة دالّة على صدق محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وثالثها : أنه قال في أوّل السورة : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] ثم قال هنا : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصّة ، إنّما هو لأجل حصول العبرة منها ، ومعرفة الحكمة والقدرة.

فإن قيل : لم قال : (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) مع أن قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا ذوي عقول وأحلام ، وقد كان الكثير منهم لم يعتبر؟.

فالجواب : أنّ جميعهم كانوا متمكّنين من الاعتبار ، والمراد من وصف هذه القصّة بكونها عبرة كونها بحيث يعتبرها العاقل.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٩.

٢٣١

قوله (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) في «كان» ضمير عائد على القرآن ، أي : ما كان القرآن المتضمن لهذه القصّة الغريبة حديثا مختلقا.

وقيل : بل هو عائد على القصص ، أي : ما كان القصص المذكور في قوله : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ).

وقال الزمخشري (١) : «فإن قلت : فإلام يرجع الضمير في : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) فيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن أي : ما كان القرآن حديثا».

قال شهاب الدين (٢) : «لأنه لو عاد على «قصصهم» بكسر القاف ؛ لوجب أن يكون «كانت» بالتاء» لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث ، وإن كان مجازيّا.

قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ) العامة على نصب «تصديق» والثلاثة بعده ، على أنّها منسوقة على خبر «كان» أي : ولكن كان تصديق.

وقرأ حمران بن أعين ، وعيسى الكوفي ، وعيسى الثقفي (٣) : برفع «تصديق» وما بعده ، على أنّها أخبار لمبتدأ مضمر ، أي : ولكن هو تصديق ، أي : الحديث ذو تصديق ، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع ؛ قال ذو الرمّة : [الطويل]

٣١٥٨ ـ وما كان مالي من تراث ورثته

ولا دية كانت ولا كسب مأثم

ولكن عطاء الله من كلّ رحلة

إلى كلّ محجوب السّرادق خضرم (٤)

وقال لوط بن عبيد الله : [الطويل]

٣١٥٩ ـ وإنّي بحمد الله ـ لا مال ـ مسلم

أخذت ولا معطي اليمين مخالف

ولكن عطاء الله من كلّ فاجر

قصيّ المحلّ معور للمقارف (٥)

يروى : «عطاء الله» في البيتين منصوبا على : «ولكن كان عطاء الله» ومرفوعا على : «ولكن هو عطاء الله».

قال الفراء والزجاج : «ونصب «تصديق» على تقدير : ولكن كان تصديق الذي بين

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٩ والدر المصون ٤ / ٢٢١.

(٤) ينظر البيتان في ديوانه (٧١١) والعمدة ١ / ٨٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٤٩ وروح المعاني ١٣ / ٧٤ والعقد الفريد ١ / ١٨٩ والمحرر الوجيز ٩ / ٣٦٩ والدر المصون ٤ / ٢٢١.

ورواية البيت الأول في الديوان هكذا :

عجائب ليس من مهور أشابتي

ولا دية كانت ولا كسب مأثم

وروي :

نجائب ليست مهورا شابة

(٥) ينظر البيتان في البحر المحيط ٥ / ٣٤٩ والدر المصون ٤ / ٢٢١.

٢٣٢

يديه ، كقوله ـ تعالى ـ : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠] ثم قالا : ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى : ولكن هو تصديق الذي بين يديه ؛ فكأنّهما لم يطّلعا على أنهما قراءة.

فصل

معنى الآية : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصحّ منه أن يفتري هذه القصّة ، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت.

وقيل : إن القرآن ليس بكذب في نفسه ؛ لأنّه لا يصحّ أن يفترى ، ثم أكّد كونه غير مفترى بقوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) وهو إشارة إلى أنّ هذه القصّة وردت موافقة لما في التوراة ، وسائر الكتب الإلهيّة ، ثم وصفه بأن فيه : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ).

قيل : كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه ، وإخوته.

وقيل : يعود على كلّ القرآن ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨].

والأولى : أن يجعل هذا الوصف وصفا لكلّ القرآن ، ويكون المراد ما تضمّنه من الحلال ، والحرام ، وسائر ما يتّصل بالدّين.

قال الواحدي (١) : «وعلى هذين التفسيرين جميعا ؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصّ ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] يريد : وسعت كل شيء أن يدخل فيها ، (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣].

ثمّ وصفه بكونه هدى في الدنيا ، وسببا لحصول الرحمة في القيامة ، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصّهم الله بالذّكر ؛ لأنّهم الذين انتفعوا به ، كقوله ـ تعالى ـ : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

وروى أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم : «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فإنّه أيّما مسلم تلاها ، وعلّمها أهله وما ملكت يمينه ، هوّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما» (٢).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٨٢.

(٢) ذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٩٤).

٢٣٣

سورة الرعد

مكيّة ، إلا قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية : ٣١] وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) [الآية : ٤٣] إلى آخرها. وقال الكلبي ، ومقاتل : هي مدنيّة ، وقال ابن عبّاس والأصم : هي مدنية إلا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ)(١) [الآية : ٣١].

وهي ثلاثة وأربعون آية ، وعدد كلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

قوله تعالى : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال ابن عبّاس : معناه أنا الله أعلم.

وقال أيضا في رواية عطاء : أنا الله الملك الرّحمن. وأمالها أبو عمرو (٢) والكسائي وفخمها عاصم ، وجماعة.

قوله (تِلْكَ آياتُ) يجوز في «تلك» أن تكون مبتدأ ، والخبر «آيات» ، والمشار إليه آيات السّورة ، والمراد ب «الكتاب» : السّورة.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٠) عن ابن عباس وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه.

(٢) ينظر : اختلاف السبعة في هذه القراءة في الإتحاف ٢ / ١٥٩.

٢٣٤

وقيل : إشارة إلى ما قصّ الله عليه من أنباء الرسل ، وهذه الجملة لا محلّ لها إن قيل : إن «المر» كلام مستقل ، أو قصد به مجرّد التنبيه ، وفي محل رفع على الخبر إن قيل : «المر» مبتدأ ، ويجوز أن يكون «تلك» خبرا ل «المر» و (آياتُ الْكِتابِ) بدل ، أو بيان ، وتقدم تقرير هذا أوّل الكتاب.

قوله (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ ، و «الحقّ» خبره.

الثاني : أن يكون مبتدأ و «من ربّك» خبره ، وعلى هذا ف «الحقّ» خبر مبتدأ مضمر ، أي هو الحق.

الثالث : أن «الحقّ» خبر بعد خبر.

الرابع : أن يكون (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) كلاهما خبر واحد ، قاله أبو البقاء ، والحوفيّ وفيه بعد ، إذا ليس هو مثل : حلو حامض.

الخامس : أن يكون «الّذي» صفة للكتاب.

قال أبو البقاء (١) : «وأدخلت الواو في لفظه ، كما أدخلت في «النّازلين والطيبين» يعني أنّ الواو تدخل على الوصف ، والزمخشري يجيزه ، ويجعل الواو في ذلك تأكيدا ، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في الحجر في قوله (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤]. وقوله : (في النازلين والطيبين) يشير إلى بيت الخرنق بنت هفّان في مدحها لقومها : [الكامل]

٣١٦٠ ـ لا يبعدن قومي الّذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيبين معاقد الأزر (٢)

فعطف «الطّيبين» على «النّازلين» وهما صفتان لقوم معينين ، إلّا أن الفرق بين الآية ، والبيت واضح ، من حيث إنّ البيت فيه عطف صفة على مثلها ، والآية ليست كذلك.

وقال أبو حيّان (٣) : أن تكون الآية مما عطف [فيه](٤) وصف على مثله ، فقال : وأجاز الحوفي أيضا أن يكون «والّذي» في موضع رفع عطفا على «آيات» ، وأجاز هو ، وابن عطيّة: أن يكون «والّذي» في موضع خفض ، وعلى هذين الإعرابين ، يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق ، ويكون «والّذي» ممّا عطف فيه الوصف على الوصف ، وهما لشيء واحد ، كما تقول : جاءني الظريف العاقل ، وأنت تريد شخصا واحدا ، ومن ذلك قول الشاعر : [المتقارب]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٣.

(٤) في أ : فيها.

٢٣٥

٣١٦١ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

قال شهاب الدّين (٢) : وأين الوصف المعطوف عليه ؛ حتى نجعله مثل البيت الذي أنشده.

السادس : أن يكون «الّذي» مرفوعا نسقا على «آيات» كما تقدّمت حكايته عن الحوفي. وجوّز الحوفي أيضا : أن يكون «الحقّ» نعتا ل «الّذي» حال عطفه على «آيات الكتاب».

فتلخّص في «الحق» خمسة أوجه.

أنّه خبر أوّل ، أو ثان ، أو هو مع ما قبله ، أو خبرا لمبتدأ مضمر ، أو صفة ل «الّذي» إذا جعلناه معطوفا على «آيات».

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : أراد ب «الكتاب» القرآن ومعناه : هذه آيات الكتاب ، يعني : القرآن ، ثمّ ابتدأ ، وهذا القرآن (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا زجر وتهديد (٣).

وقال مقاتل : نزلت في مشركي مكّة حين قالوا : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله من تلقاء نفسه فردّ قولهم (٤).

فصل

تمسّك نفاة القياس بهذه الآية وقالوا : الحكم المستنبط بالقياس غير ما نزل من عند الله ـ تعالى ـ وإلّا لكان من لم يحكم به كافر ، لقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] ، وبالإجماع لا يكفر ، فثبت أنّ الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله ـ تعالى ـ ، وإذا كان كذلك ، وجب ألّا يكون حقّا ، وإذا لم يكن حقّا ، وجب أن يكون باطلا ، لقوله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] وأجيب : بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضا ؛ لأنّه ـ تعالى ـ أمر بالعمل بالقياس ، فكان الحكم الّذي دلّ عليه القياس نازلا من عند الله ـ تعالى ـ.

قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [الآية : ٢] لما ذكر أنّ أكثر النّاس لا يؤمنون ، ذكر عقبه ما يدلّ على صحّة التّوحيد ، والمعاد ، وهو هذه الآية.

قوله : «الله» قال الزّمخشريّ (٥) : «الله» مبتدأ ، و (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) خبره بدليل

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٣.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٢.

٢٣٦

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ويجوز أن يكون (الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) صفة ، وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) خبرا».

وقوله «بغير عمد» هذا الجار في محلّ نصب على الحال من «السّموات» أي : رفعها خالية من عمد ، ثمّ في هذا الكلام وجهان :

أحدهما : انتفاء العمد ، والرؤية جميعا ، أي : لا عمد ؛ فلا رؤية ، يعني : لا عمد لها ؛ فلا ترى ، وإليه ذهب الجمهور.

والثاني : أنّ لها عمدا ، ولكنها غير مرئيّة.

وعن ابن عبّاس : ما يدريك أنّها بعمد لا ترى (١) ، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم: «ما رأيت رجلا صالحا» ، ونحو : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣] [الطويل]

٣١٦٢ ـ على لاحب لا يهتدى بمناره

 ........... (٢)

وقد تقدّم هذا ، إذا قلنا : إنّ «ترونها» صفة أمّا إذا قلنا : إنّها مستأنفة كما سيأتي ؛ فيتعيّن أن لا عمد لها.

والعامة على فتح العين ، والميم ، وهو اسم جمع ، وعبارة بعضهم : أنه جمع نظرا إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان :

أحدهما : أنّه عماد مثل «إهاب وأهب».

والثاني : أنه عمود ، كأديم وأدم ، وقضيم وقضم ، كذا قاله أبو حيّان : وقال أبو البقاء : «جمع عماد ، أو عمود مثل : أديم وأدم ، وأفيق وأفق ، وإهاب وأهب ، ولا خامس لها» ، فجعلوا فعولا كفعيل في ذلك.

وفيه نظر ؛ لأنّ الأوزان لها خصوصية ، فلا يلزم من جمع «فعيل» على كذا أن يجمع عليه «فعول» ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن : «فعولا» جمع على «فعل» ، ثم قول أبي البقاء «ولا خامس لها» يعني أنه لم يجمع على : «فعل» إلّا هذه الخمسة «عماد وعمود وأديم وأفيق وإهاب».

وهذا الحصر ممنوع لما تقدّم من نحو : قضيم وقضم ، ويجمعان في القلّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة ، ويحيى (٣) بن وثاب : «عمد» بضمتين ، ومفرده يحتمل أن يكون عمادا ، كشهاب ، وشهب ، وكتاب ، وكتب ، وأن يكون عمودا ، كرسول ، ورسل وقد قرىء في السبع : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) [الهمزة : ٩] بالوجهين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩١ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٣ والدر المصون ٤ / ٢٢٣ ، ٢٢٤.

٢٣٧

وقال ابن عطية (١) في «عمد» اسم جمع عمود ، والباب في جمعه «عمد» بضم الحروف الثلاثة ، كرسول ورسل.

قال أبو حيان (٢) : «وهذا وهم ، وصوابه : بضمّ الحرفين ؛ لأنّ الثالث هو حرف الإعراب ، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع».

والعماد والعمود : ما يعمد به ، أي : يسند ، ويقال : عمدت الحائط أعمده عمدا ، أي: أدعمته ، فاعتمد الحائط على العماد ، والعمد : الأساطين قال النابغة : [البسيط]

٣١٦٣ ـ وخيّس الجنّ إنّي قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد (٣)

والعمد : قصد الشيء ، والاستناد إليه ، فهو ضدّ السّهو ، وعمود الصّبح : ابتداء ضوئه تشبيها بعمود الحديد في الهيئة ، والعمدة : ما يعتمد عليه من مال وغيره والعميد : السّيّد الذي يعمده النّاس ، أي : يقصدونه.

قوله «ترونها» في الضّمير المنصوب وجهان :

أحدهما : أنّه عائد على : «عمد» ، وهو أقرب مذكور ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل «عمد» ، ويجيء فيه الاحتمالان المتقدّمان من كون العمد موجودة لكنّها لا ترى ، أو غير موجودة ألبتّة.

والثاني : أنّ الضّمير عائد على «السّموات» ، ثمّ في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنّها مستأنفة لا محلّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها لذلك ، ولم يذكر الزمخشري غيره.

والثاني : أنها في محل نصب على الحال من هاء : «ترونها» وتكون حالا مقدرة ؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين ، والتقدير : رفعها مرئية لكم.

وقرأ أبي (٤) : «ترونه» بالتّذكير مراعة للفظ «عمد» إذ هو اسم جمع ، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل «عمد» ، وزعم بعضهم أن «ترونها» خبر لفظا ، ومعناه الأمر ، أي روها ، وانظروا إليها لتعتبروا بها ، وهو بعيد ؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفا ، لأن الطّلب لا يقع صفة ، ولا حالا.

و «ثمّ» في «ثمّ استوى» لمجرّد العطف لا للترتيب ؛ لأنّ الاستواء على العرش غير مرتب على رفع السموات.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٣.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (١٣) والبحر المحيط ٥ / ٣٥١ والطبري ١٦ / ٣٢٢ وفتح القدير ٣ / ٦٤ ومجاز القرآن ١ / ٣٢٠ وشرح القصائد العشر ١٥٥ وشرح المعلقات العشر ٢٩٧ ، ٢٨٩ واللسان (خيس) والدر المصون ٤ / ٢٢٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩١ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٣ والدر المصون ٤ / ٢٢٤.

٢٣٨

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) علا عليه : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لمنافع خلقه ، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله ـ عزوجل ـ.

قال ابن عبّاس : للشّمس مائة وثمانون منزلا كلّ يوم لها منزل ، وذلك يتمّ في ستّة أشهر ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستّة أشهر أخرى ، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلا ، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

وتحقيقه : أن الله قدّر لكلّ واحد من هذه الكواكب سيرا خاصّا إلى جهة خاصّة بمقدار خاص من السّرعة ، والبطء ، وإذا كان كذلك ؛ لزم أن يكون لها بحسب كلّ لحظة ولمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك (١).

وقيل : المراد بقوله : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) كونهما متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف ـ تعالى ـ في قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة : ٩] كقوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢].

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ) قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جريا على ضمير اسم الله ـ تعالى ـ وفيهما وجهان :

أظهرهما : أنهما مستأنفان للإخبار بذلك.

والثاني : أنّ الأول حال من فاعل «سخّر» ، والثاني حال من فاعل : «يدبّر».

وقرأ النخعي ، وأبان (٢) بن تغلب : (ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما ، والحسن والأعمش (٣) : «نفصّل» بالنون : «يدبّر» بالياء.

قال المهدويّ : لم يختلف في : «يدبّر» يعني أنّه بالياء ، وليس كما ذكر لما تقدّم عن النخعي ، وأبان بن تغلب.

فصل

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) يقضيه وحده ، وحمل كل واحد من المفسرين التّدبير على نوع آخر من أحوال العالم ، والأولى حمله على الكل ، فهو يدبّرهم بالإيجاد ، والإعدام والإحياء ، والإماتة ، والاعدتماد ، والانقياد ، ويدخل فيه إنزال الوحي ، وبعث الرسل وتكليف العباد ، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة ؛ لأنّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثّرى يحتوي على أجناس ، وأنواع لا يحيط بها إلا الله ـ تعالى ـ.

والدليل المذكور على تدبير كلّ واحد بوصفه في موضعه وطبيعته ، ومن المعلوم أنّ

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٧).

(٢) وقرأ بها أيضا أبو رزين ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٤ وينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٤ والدر المصون ٤ / ٢٢٤.

٢٣٩

من اشتغل بتدبير شيء ، فإنّه لا يمكنه تدبير شيء آخر ، فإنه لا يشغله شأن عن شأن ، وإذا تأمّل العاقل في هذه الآية علم أنّه ـ تعالى ـ يدبّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح ، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يمنعه تدبير عن تدبير ، وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ في ذاته ، وصفاته ، وعلمه ، وقدرته غير مشابه للمخلوقات ، والممكنات.

قوله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) يبين الدلالات الدّالة على إلاهيته ، وعلمه ، وحكمه.

واعلم أنّ الدّلائل الدالّة على وجود الصّانع قسمان :

أحدهما : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك ، والشمس ، والقمر ، والكواكب وهذا القسم تقدّم ذكره.

والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة ، وهي الموت بعد الحياة ، والفقر بعد الغنى ، والهرم بعد الصحّة ، وكون الأحمق في أهنأ العيش ، والعاقل في أشد الأحوال ، فهذا النّوع من الموجودات ، والأحوال دلالتها على وجود الصّانع الحكيم ظاهرة.

فقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) إشارة إلى أنّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز ، والتفصيل.

ثم قال : (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لكي توقنوا بوعده ، وتصدّقوا.

واعلم أنّ الدلائل الدالة على وجود الصّانع الحكيم تدلّ أيضا على صحّة القول بالحشر والنشر ؛ لأنّ من قدر على خلق هذه الأشياء ، وتدبيرها على عظمها ، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر ، والنشر أولى.

وروي أنّ رجلا قال لعليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : كيف بحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال : كما يرزقهم الآن دفعة واحدة ، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة (١).

واعلم أنّه ـ تعالى ـ كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيّة ، والنيرات الكوكبية في الجو العالي ، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثّرى لا يشغله شأن عن شأن ، كذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.

واعلم أنّ لفظ «اللّقاء» يدل على رؤية الله ـ تعالى ـ وقد تقدّم تقريره.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [الآية : ٣] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) بسطها ، قال الأصم : المد : البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله : (مَدَّ الْأَرْضَ) ليشعر بأنّه تعالى جعل حجم الأرض حجما عظيما ، لا يقع البصر على منتهاه ، وقال قوم كانت الأرض مكورة فمدّها ، ودحاها من مكّة من تحت

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٧).

٢٤٠