اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

والباقون بهمزتين استفهاما ، وقد تقدّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفا ، وتسهيلا وغير ذلك ، فأمّا قراءة ابن كثير ، فيحتمل أن تكون خبرا محضا واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنّ القائل واحد.

وقد أجيب عن ذلك بأنّ بعضهم قاله استفهاما ، وبعضهم قاله خبرا ، ويحتمل أن يكون استفهاما حذف منه الأداة لدلالة السّياق ، والقراءة الأخرى عليه ، وقد تقدّم نحو هذا في الإعراب(١).

وقرأ أبيّ (أو أنت يوسف) فمن قرأ بالاستفهام قالوا : إنّ يوسف لما قال لهم : (هل علمتم ما فعلتم) تبيّنوا يوسف ، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظوم.

وروى الضحاك عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ لما قال هذا القول تبسّم فرأوا ثناياه كاللّؤلؤ ، فشبهوه بيوسف ، ولم يعرفوه ، فقالوا استفهاما : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) ويدلّ على أنه استفهام قوله : «أنا يوسف» ، وإنّما أجابهم عما استفهموا عنه ، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التّاج عن رأسه ، وكان في قرنه شامة وكان لإسحاق ، ويعقوب مثلها تشبه التّاج عرفوه بتلك العلامة.

وقال ابن إسحاق : «كان يتكلّم من وراء ستر ، فلما قال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) رفع الحجاب فعرفوه» وقيل : قالوه على التّوهّم.

«واللام في : «لأنت» لام الابتداء ، و «أنت» مبتدأ ، و «يوسف» خبره والجملة خبر «إنّ» ويجوز أن تكون «أنت» فصلا ، ولا يجوز أن يكون تأكيدا لاسم «إنّ» لأنّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد».

وقرأ أبي : (أئنك أو أنت يوسف) وفيها وجهان :

أحدهما : قال أبو الفتح : إنّ الأصل : أئنك لغير يوسف ، أو أنت يوسف فحذف خبر «إن» لدلالة المعنى عليه.

والثاني ما قاله الزمخشريّ : المعنى : أئنّك يوسف ، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرّر الاستثبات فقال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) وإنّما صرّح بالاسم تعظيما لما نزل به من ظلم إخوته ، وما عوضه الله من الظّفر والنّصر ، فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه ، والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله ، وإلقاءه في الجبّ ، ثمّ صرت كما ترون ، ولهذا قال : (وَهذا أَخِي) مع أنّهم كانوا يعرفونه ؛ لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت ، ثم إنه صار منعما عليه من قبل الله كما ترون. «قد منّ الله

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٠٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٧٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٧ والدر المصون ٤ / ٢١١.

٢٠١

علينا» قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ بكلّ عزّ في الدنيا والآخرة .. وقيل : بالجمع بيننا بعد الفرقة.

قوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) قرأ قنبل (١) «يتقي» بإثبات الياء وصلا ووقفا ، والباقون بحذفها فيهما.

فأمّا قراءة الجماعة فواضحة ؛ لأنّه مجزوم ، وأمّا قراءة قنبل ، فاختلف فيها النّاس على قولين:

أحدهما : أنّ إثبات حرف العلّة في الجزم لغة لبعض العرب ؛ وأنشدوا : [الوافر]

٣١٤٥ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (٢)

وقول الآخر : [البسيط]

٣١٤٦ ـ هجوت زبّان ثمّ جئت معتذرا

من هجو زبّان لم تهجو ولم تدع (٣)

وقول الآخر : [الرجز]

٣١٤٧ ـ إذا العجوز غضبت فطلّق

ولا ترضّاها ولا تملّق (٤)

وقول الآخر : [الرجز]

٣١٤٨ ـ إنّي إذا ما ما القوم كانوا أنجيه

واضطرب القوم اضطرب الأرشيه

هناك أوصيني ولا توصي بيه (٥)

ومذهب سيبويه : أنّ الجازم بحذف الحركة المقدرة ، وإنّما تبعها حرف العلّة في الحذف تفرقة بين المرفوع ، والمجزوم.

واعترض عليه : بأنّ الجازم يبين أنّه مجزوم ، وعدمه يبيّن أنه غير مجزوم.

وأجيب : بأنه في بعض الصّور يلتبس فاطرد الحذف ، بيانه : أنّك إذا قلت «زرني أعطيك» بثبوت الياء ، احتمل أن يكون «أعطيك» جزاء الزيارة ، وأن يكون خبرا مستأنفا ، فإذا قلت : «أعطك» بحذفها تعين أن يكون جزاء له ؛ فقد وقع اللّبس بثبوت حرف العلّة ،

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٤٤٧ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٦ والإتحاف ٢ / ١٥٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٨ والدر المصون ٤ / ٢١٢.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) البيت لرؤبة ، ينظر : ملحقات ديوانه (١٧٩) ، خزانة الأدب ٨ / ٣٥٩ ، ٣٦٠ ، الدرر ١ / ١٦١ ، المقاصد النحوية ١ / ٢٣٦ ، الإنصاف (٢٦) ، الخصائص ١ / ٣٠٧ ، شرح التصريح ١ / ٨٧ ، شرح شافية ابن الحاجب ٣ / ١٨٥٦ ، شرح شواهد الشافية ص ٤٠٩ ، شرح المفصل ١٠ / ١٠٦ ، اللسان «رضى» ، الهمع ١ / ٥٢ ، أمالي الشجري ١ / ٨٦ ، المنصف ٢ / ٧٨ ، ١١٥ ، الممتع في التصريف ٢ / ٥٣٨ ، شرح ديوان الحماسة ٤ / ١٧٧١ ، الدر المصون ٤ / ٢١٢.

(٥) تقدم.

٢٠٢

وفقد بحذفه ، فيقال : حرف العلّة يحذف عند الجازم لا به.

ومذهب ابن السّراج : أنّ الجازم أثّر في نفس الحرف فحذفه ، وفيه البحث المتقدم.

والثاني : أنّه مرفوع غير مجزوم و «من» موصولة ، والفعل صلتها ؛ فلذلك لم يحذف لامه.

واعترض على هذا بأنّه قد عطف عليه مجزوم وهو قوله : «ويصبر» فإنّ قنبلا لم يقرأ إلا بإسكان الرّاء.

وأجيب عن ذلك : بأنّ التّسكين لتوالي الحركات ، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] ، و (يَأْمُرَكُمْ) [آل عمران : ٨٠] ، وأجيب أيضا : بأنه جزم على التوهم يعني لما كانت «من» الموصولة تشبه «من» الشرطية ، وهذه العبارة فيها غلط على القرآن ، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشّبه اللّفظي ، ولا يقال للتّوهم.

وأجيب أيضا : بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف.

وأجيب أيضا : بأنه إنما جزم حملا ل «من» الموصولة على «من» الشّرطيّة ؛ لأنّها مثلها في المعنى ، ولذلك دخلت [الفاء](١) في خبرها.

قال شهاب الدّين (٢) : وقد يقال على هذا : يجوز أن تكون «من» شرطيّة ، وإنّما ثبتت الياء ، ولم تجزم «من» لشبهها ب «من» الموصولة ثمّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله : «ويصبر» ، فلذلك جزمه ، إلّا أنه يبعد من جهة أنّ العامل لم يؤثر فيما بعده ، ويليه ، ويؤثر فيما هو بعيد منه ، وقد تقدّم الكلام على مثل هذه المسألة أوّل السّورة في قوله : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف : ١٢].

وقوله (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ) الرّابط بين جملة الشّرط ، وبين جوابها : إمّا العموم في «المحسنين» ، وإمّا الضمير المحذوف ، أي : المحسنين منهم ، وإمّا لقيام : «أل» مقامه ، والأصل : محسنيهم ، فقامت «أل» مقام ذلك الضّمير.

فصل

معنى الآية : من يتّق معاصي الله ، ويصبر على أذى النّاس.

وقيل : من يتّق بأداء الفرائض ، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه. وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : يتّقي في الزّنا ، ويصبر على العزوبة ، وقال مجاهد : يتقي المعصية ، ويصبر على السجن.

(فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) قال ابن الخطيب : «واعلم أنّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ وصف نفسه في هذا المقام الشّريف بكونه متقيا ، ولو أنه أقدم على المعصية كما

__________________

(١) في ب : اللام.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

٢٠٣

قالوه في حق زليخا ، لكان هذا القول كذبا منه ، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء».

قوله : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) أي تفضّل عليك ، والإيثار : التفضيل بأنواع جميع العطايا ، آثره يؤثره إيثارا ، وأصله من الأثر ، وهو تتبع الشيء ، فكأنه يستقصي جميع أنواع المكارم ، وفي الحديث : «ستكون بعدي أثرة» أي : يستأثر بعضكم على بعض ، ويقال : استأثر بكذا ، أي : اختص به ، واستأثر الله بفلان ، كناية عن اصطفائه له.

وقال الشاعر : [الرجز]

٣١٤٩ ـ والله أسماك سما مباركا

آثرك الله به إيثاركا (١)

قال الأصمعيّ : يقال : آثرك الله إيثارا ، أي : فضّلك ، والمعنى : لقد فضلك الله علينا بالعلم ، والعمل ، والحسن ، والملك.

فصل

احتجّ بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ؛ لأنّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنّسبة لمنصب النّبوة فلو كانوا شاركوه في منصب النبوة لما قالوا : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) ، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول : آثره عليهم بالملك ، وإن شاركوه في النبوة ؛ لأنّا بيّنا أنّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النّبوّة.

ثم قالوا : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) والخاطىء : هو الذي أتى بالخطيئة عمدا وهذا هو الفرق بين الخاطىء والمخطىء ، ولهذا يقال للمجتهد الذي لم يصب أنّه مخطىء ، ولا يقال : إنه خاطىء.

فصل

أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجبّ وبيعه وتبعيده عن أبيه.

وقال أبو عليّ الجبائيّ : لم يعتذروا من ذلك ؛ لأنّ ذلك كان منهم قبل البلوغ ، فلا يكون ذنبا ، فلا يعتذر منه ، وإنّما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنّه حي ، وأنّ الذّئب لم يأكله.

وأجاب ابن الخطيب عن ذلك : «بأنّه لا يجوز أن يقال : إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصّبا ؛ لأنه من البعيد في [مثل](٢) يعقوب أن يبعثهم جمعا غير بالغين من

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : زمن.

٢٠٤

غير أن يبعث معهم رجلا عاقلا يمنعهم عمّا لا ينبغي ، ويحملهم على ما ينبغي».

قوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) عليكم يجوز أن يكون خبر «لا» و «اليوم» يحتمل أن يتعلق بما تعلّق به هذا الخبر أي : لا تثريب مستقرّ عليكم اليوم ويجوز أن يكون : «اليوم» خبر «لا» ، و «عليكم» متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون : «عليكم» صفة لاسم : «لا» ، و «اليوم» خبرها أيضا ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف ، والجار ب : «تثريب» ؛ لأنه يصير مطولا شبيها بالمضاف ومتى كان كذلك أعرب ونوّن ، نحو : «لا خيرا من زيد عندك» ويزيد عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول ، ومعموله بأجنبي وهو : «عليكم» لأنه إما خبر وإما صفة.

وقد جوّز الزمخشريّ : أن يكون الظّرف متعلقا ب : «تثريب» فقال : فإن قلنا : بم يتعلق «اليوم»؟ قلت : بالتثريب ، أو بالمقدر في «عليكم» من معنى الاستقرار أو ب «يغفر» ، فجعله أنه متعلق ب «تثريب» وفيه ما تقدّم.

وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به ، فنزع ما فيه من تنوين أو نون ؛ وجعل الفارسيّ من ذلك قول الشّاعر : [الطويل]

٣١٥٠ ـ أراني ولا كفران لله أيّة

لنفسي لقد طالبت غير منيل (١)

قال : فأية منصوب ب : «كفران» أي : لا أكفر الله أية لنفسي ، ولا يجوز أن تنصب «أيّة» ب : «أويت» مضمرا ، لئلّا يلزم الفصل بين مفعولي : «أرى» بجملتين أي : ب «لا» ، وما في خبرها ، وب «أويت» المقدرة ، ومعنى «أويت» رققت وجعل منه ابن مالك ما جاء في الحديث : «لا صمت يوم إلى اللّيل» (٢) برفع «يوم» على أنه مرفوع بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ ، وفعل مبني للمفعول وفي بعض ما تقدّم خلاف ، وأمّا تعليقه بالاستقرار المقدّر فواضح ، ولذلك وقف أكثر القراء عليه ، وابتدأ ب : «يغفر الله لكم» وأما تعليقه ب : «يغفر» فواضح أيضا ولذلك وقف بعض القراء على : «عليكم» ، وابتدأ : «اليوم يغفر الله لكم» وجوّزوا أن يكون : «عليكم» بيانا ك «لك» في قولهم : «سقيا لك» فعلى هذا يتعلّق بمحذوف ؛ ويجوز أن يكون خبر : «لا» محذوفا ، و «عليكم» ، و «اليوم» كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلّ عليه : «تثريب» ، والتقدير : لا تثريب يتثرب عليكم اليوم كما قدروا في : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] لا عاصم يعصم اليوم.

قال أبو حيّان (٣) : «لو قيل به لكان قويّا» ، وقد يفرّق بينهما : بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز ، وذلك أنّك تحذف الخبر ، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ١١٥) كتاب الوصايا : باب متى ينقطع اليتم حديث (٢٨٧٣) من حديث علي.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣٩.

٢٠٥

وتنسب الفعل إليه ؛ لأنّ التثريب لا يثرب إلا مجازا ، كقولهم : «شعر شاعر» بخلاف : «لا عاصم يعصم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حذف شيء واحد من غير مجاز ، وهنا حذف شيئين مع مجاز.

والتّثريب : العتب ، والتّأنيب ، وعبّر بعضهم عنه بالتّعيير من عيّرته بكذا إذا عتبته وفي الحديث : «إذا زنت أمة أحدكم ، فليجلدها ، ولا يثرّب» (١) أي : لا يعيّر ، وأصله من الثّرب ، وهو ما تغشى الكرش من الشّحم ، ومعناه : إزالة الثّرب ، كما أنّ التّجليد إزالة الجلد ، فإذا قلت: ثرّبت فلانا ، فكأنّك لشدّة عتبك له أزلت ثربه ، فضرب مثلا في تمزيق الأعراض.

وقال الرّاغب (٢) : «ولا يعرف من لفظه إلّا قولهم : الثّرب ، وهو شحمة رقيقة وقوله تعالى: (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) [الأحزاب : ١٣] يصحّ أن يكون أصله من هذا الباب ، والياء فيه مزيدة».

فصل

قال المفسرون : التّثريب : التّوبيخ ، قال عطاء الخراسانيّ : طلب الحوائج إلى الشّباب أسهل منها إلى الشّيوخ ألا ترى إلى قول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ «لا تثريب عليكم» ، وقول يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام «سوف أستغفر لكم ربّي».

واعلم أنّا إذا جعلنا : «اليوم» متعلّقا ب : «لا تثريب» أي : لا أثرّبكم اليوم وهو اليوم الذي مظنته التّثريب ، فما ظنّكم بسائر الأيّام ، ويحتمل أنّي حكمت في هذا اليوم ألّا تثريب مطلقا ؛ لأنّ قوله : «لا تثريب» نفي للماهيّة ، ونفي الماهيّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية ، فكان ذلك مفيدا للنّفي المتناول لكلّ الأوقات والأحوال.

ثمّ إنّه لمّا أزال عنهم ملامة الدّنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة ، فدعا لهم بقوله : «يغفر الله لكم».

وإن قلنا : «اليوم» متعلق بقوله : «يغفر الله لكم» كأنه لما نفى الذّنب عنهم مطلقا بشّرهم بأنّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم ، وذلك أنّهم لما خجلوا ، واعترفوا وتابوا ، فالله ـ تعالى ـ قبل توبتهم ، وغفر ذنوبهم ؛ فلذلك قال : (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).

روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بعضادتي الكعبة يوم الفتح وقال لقريش : ما ترون؟ قالوا : خيرا أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت ، قال : أقول ما قال أخي يوسف : «لا تثريب عليكم» (٣).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المفردات ٧٩.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٤) بألفاظ مختلفة وعزاه إلى أبي الشيخ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وابن مردويه عن ابن عباس والبيهقي في «الدلائل» عن أبي هريرة.

٢٠٦

وروي أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم ، قال له العبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «إذا أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتل عليه : (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) ففعل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غفر الله لك ولمن علّمك» (١).

وروي : أنّ إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنّا نستحي منك لما صدر منّا من الإساءة إليك ، فقال يوسف : إنّ أهل مصر لو ملكت فيهم ، فإنهم ينظرون إليّ بالعين الأولى ، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت بإتيانكم ، وعظمت في العيون لما جئتم ، علم النّاس أنكم إخوتي ، وأنّي من حفدة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه ؛ فأعطاهم قميصه وقال : (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) (٢) أي يعيده مبصرا ، وقيل : يأتيني بصيرا.

قال الحسن رضي الله عنه : لم يعلم أنه يعود بصيرا إلا بالوحي ؛ لأنّ العقل لا يدلّ عليه (٣) وقال الضحاك : كان ذلك القميص من نسيج الجنّة (٤).

وعن مجاهد : أمره جبريل ـ صلوات الله عليه ـ أن يرسل قميصه ، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وذلك أنه جرّد من ثيابه ، وألقي في النّار عريانا ، فآتاه جبريل بقميص من حرير الجنّة ، فألبسه إياه ، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه‌السلام ورثه إسحاق ، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب ، فلمّا شبّ يوسف ـ عليه‌السلام ـ جعل ذلك يعقوب في قصبة من فضة وسد رأسها ، وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين وكانت لا تفارقه ، فلمّا ألقي في الجبّ عريانا جاءه جبريل ـ عليه‌السلام ـ وعلى يوسف ذلك التّعويذ ؛ فأخرج القميص منه ، وألبسه ، ففي ذلك الوقت جاءه جبريل ، وقال : أرسل ذلك القميص فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتلى ، ولا سقيم إلا عوفي ، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته ، وقال : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) أي : مبصرا وإنّما أفرد بالذّكر تعظيما له ، وقال في الباقين : (وائتوني بأهلكم أجمعين)(٥).

قال ابن الخطيب (٦) : «ويمكن أن يقال : لعلّ يوسف علم أنّ أباه ما صار أعمى إلّا من كثرة البكاء ، وضيق القلب ، وذلك يضعف البصر ، وإذا ألقي عليه قميصه ، فلا بد وأن ينشرح صدره ، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد ، وذلك يقوّي الرّوح ، ويزيل الضّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره ، ويزول عنه ذلك ، فهذا القدر ممّا يمكن معرفته بالقلب فإنّ القوانين الطبيّة تدلّ على صحّة هذا المعنى».

قوله : «بقميصي» يجوز أن يتعلّق بما قبله على أنّ الباء معدّية كهي في : «ذهبت به» وأن

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٨).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : تفسير البغوي (٢ / ٤٤٨).

(٦) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٦٥.

٢٠٧

تكون للحال فتتعلق بمحذوف ، أي : اذهبوا معكم بقميصي ، و «هذا» نعت له ، أو بدل ، أو بيان ، و «بصيرا» حال ، و «أجمعين» توكيد له ، وقد أكد بها دون كل ، ويجوز أن تكون حالا.

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨)

قوله : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) يقال : فصل فلان عن فلان فصولا إذا خرج من عنده ، و «فصل» كذا إذا أنفذ ، و «فصل» يكون لازما ، ومتعدّيا ، فإن كان لازما فمصدره فصولا ، وإن كان متعديا فمصدره فصلا.

قال المفسرون : لما توجّه العير من مصر إلى كنعان ، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال مجاهد : أصاب يعقوب ريح القميص من مسيرة ثلاثة أيام.

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ من مسيرة ثماني ليال (١).

وقال الحسن : كان بينهما ثمانون فرسخا (٢) ، وقال مجاهد : هبّ ريح يوسف فصفق القميص ؛ ففاحت روائح الجنّة في الدّنيا ، واتّصلت بيعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فعلم أنّه ليس في الدنيا من ريح الجنّة إلّا ما كان من ذلك القميص فمن ثمّ قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وروي أنّ ريح الصّبا استأذنت ربّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير (٣).

واعلم أنّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة ، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنّها ليعقوب حيث أخبروه عنه ، ونسبوه إلى ما لا ينبغي ؛ فظهر الأمر كما قال ؛ فكانت معجزة له.

قال أهل المعاني : إنّ الله ـ تعالى ـ أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكان البعيد ، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة ، وذلك يدلّ على أنّ كلّ سهل فهو في زمن المحنة صعب ، وكلّ صعب في زمن الإقبال سهل ، ومعنى : (لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) : أشم ، وعبّر عنه بالوجود ؛ لأنه وجدان له بحاشة الشّمّ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩٣).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٨) وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩٤) عن ابن جريج.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٠٨

قوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) التّفنيد : الإفساد ، يقال : فنّدت فلانا ، أي : أفسدت رأيه ورددته. قال الشاعر : [البسيط]

٣١٥٠ ب ـ يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي

فليس ما فات من أمر بمردود (١)

ومنه : أفند الدّهر فلانا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣١٥١ ـ دع الدّهر يفعل ما أراد فإنّه

إذا كلّف الإفناد بالنّاس أفندا (٢)

والفند : الفساد ؛ قال النابغة : [البسيط]

٣١٥٢ ـ إلّا سليمان إذ قال الإله له

قم في البريّة فاحددها عن الفند (٣)

والفند : شمراخ الجبل ، وبه سمي الرّجل فندا ، والفند الزّماني أحد شعراء الحماسة من ذلك.

وقال الزمخشري (٤) : «يقال : شيخ مفنّد ، ولا يقال : عجوز مفنّدة ؛ لأنّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنّد في كبرها وهو غريب».

وجواب «لو لا» الامتناعية محذوف ، تقديره : لصدّقتموني ويجوز أن يكون تقديره : لأخبرتكم.

قال ابن الأنباريّ : «أفند الرّجل : إذا انحرف ، وتغيّر عقله ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه».

وعن الأصمعيّ قال : إذا كثر كلام الرّجل من خرف فهو الفند والتّفنيد.

فصل

قال المفسرون : «لو لا أن تفنّدون» تسفهون ، وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : تجهلون (٥) ، وقال الضحاك : تهرمون (٦) ، تقولون : شيخ كبير قد خرف ، وذهب عقله.

__________________

(١) البيت لهانىء بن شكيم العدوي ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٨ ظ والقرطبي ٩ / ٢٦٠ الطبري ١٦ / ٢٥٢ الدر المصون ٤ / ٢١٤ روح المعاني ١٣ / ٥٤ البحر المحيط ٥ / ٣٣٥.

(٢) البيت لابن مقبل. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣٦ والطبري ١٦ / ٢٥١ وروح المعاني ١٣ / ٥٤ والقرطبي ٩ / ١٧١ والدر المصون ٤ / ٢١٤.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ص ٣٣ والخزانة ٣ / ٤٠٥ والبحر ٥ / ٣٣٥ وروح المعاني ١٣ / ٥٣ والقرطبي ٩ / ١٧٠ وشرح المعلقات العشر ٢٩٧ وشرح شواهد المغني للبغدادي ٣ / ٨٧ والدر المصون ٤ / ٢١٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٠٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٦) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧) عن مجاهد والحسن.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٨) عن الضحاك.

٢٠٩

«قالوا» : يعني أولاد أولاده (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) أي في ذهاب عن طريق الصّواب.

وقال ابن عبّاس ، وابن زيد : لفي خطئك الماضي من حبّ يوسف لا تنساه (١).

وقال مقاتل الضّلال هنا الشّقاء ، يعني : شقاء الدّنيا ، أي : إنّك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف (٢).

وقال قتادة : لفي حبّك القديم لا تنساه ، ولا تذهل عنه ، قال قتادة : لقد قالوا كلمة [غليظة](٣) لم يجز قولها لنبي الله ـ عليه الصلاة والسلام (٤) ـ.

وقال الحسن : إنّما خاطبوه بذلك ، لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات (٥). (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) وهو المبشّر ، في موضع : «أن» قولان :

أحدهما : لا محلّ لها من الإعراب ، فقد تذكّر تارة كما هنا ، وقد تحذف كقوله : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) [هود : ٧٤].

والثاني : قال البصريّون : هي في موضع رفع بفعل تقديره : فلمّا ظهر أن جاء البشير أي : ظهر على البشير ؛ فأضمر الرّافع.

وقال جمهور المفسّرين البشير هو يهوذا قال : أنا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدّم ، وقلت : إنّ يوسف أكله الذّئب ، فأذهب اليوم بقميصه ، وأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته ، وقيل : البشير مالك بن دعر.

قوله : «ألقاه» الظّاهر أنّ الفاعل هو ضمير البشير ، وقيل : هو ضمير يعقوب وفي «بصيرا» وجهان :

أحدهما : حال ، أي : يرجع في هذه الحال.

والثاني : أنّه خبرها ؛ لأنّها بمعنى صار عند بعضهم ، و «بصيرا» من بصر بالشيء ك «ظريف» من «ظرف».

وقيل : هو مثال مبالغة ، ك «عليم» وفيه دلالة على أنّه لم يذهب بصره بالكلّية ومعنى الارتداد : انقلاب الشّيء إلى حال كان عليها.

وقوله : (فَارْتَدَّ بَصِيراً) أي صيّره الله بصيرا ، كما يقال : طالت النّخلة والله أطالها. قال بعضهم : إنه كان قد عمي بالكلية ، فجعله الله بصيرا في هذا الوقت.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ٢٩٧) عن ابن عباس وابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٧) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٦).

(٣) في ب : عظيمة.

(٤) ينظر : الرازي ١٨ / ١٦٦.

(٥) ينظر : الرازي (١٨ / ١٦٦).

٢١٠

وقال آخرون : بل كان ضعف بصره من كثرة البكاء والحزن ، فلمّا ألقوا القميص على وجهه ، وبشّره بحياة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه فعند ذلك قوي بصره ، وعادت قوّته بعد الضّعف ، وقال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف من جهة رؤياه ، وهو أنّ الله يجمع بيننا ، وهو إشارة إلى قوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

روي أنّه قال للبشير : كيف حاله؟ قال : إنّه ملك مصر ، قال : ما أصنع بالملك ، على أي دين تركته؟ قال : على دين الإسلام ، قال : الآن تمّت النّعمة. ثمّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون ، و (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) فوعدهم بأنه يستغفر لهم (١).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أخّر الاستغفار لهم إلى وقت السّحر ، وهو الوقت الذي يقول الله فيه : (هل من داع فأستجيب له) (٢).

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ رواية أخرى : أنّه أخّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة ؛ لأنّها أوفق الأوقات لرجاء الإجابة (٣).

وقيل : أخّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا؟ وهل أخلصوا في التّوبة أم لا؟.

وقيل : استغفر لهم في الحال ، ومعنى : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) أي أداوم على الاستغفار في المستقبل.

وروي : أنه كان يستغفر لهم في كلّ ليلة جمعة في نيّف وعشرين سنة (٤).

روي أنّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة ، وجهازا كثيرا ، ليأتوا بيعقوب وأهله وولده ، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة ، فلمّا دنا من مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه ، فخرج يوسف ، والملك في أربعة آلاف من الجند ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يعقوب ، وهو يتوكأ على يهوذا ماشيا ؛ فنظر إلى الجبل ، وإلى الناس فقالوا : يا يهوذا : هذا فرعون مصر؟ قال : لا هذا ابنك يوسف ، فلمّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسّلام ، فقال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام ، فقال يعقوب : السّلام عليك (٥).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٧).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٠٠) عن ابن مسعود وإبراهيم التيمي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٨) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٠٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٨) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الأثر السابق.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٩) عن وهب.

٢١١

قال الثوريّ : لما التقى يعقوب ويوسف ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال يوسف : يا أبت! بكيت عليّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال : بلى يا بنيّ ، ولكن خشيت أن تسلب دينك ، فيحال بيني وبينك (١).

قيل : دخل يعقوب وولده مصر ، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل ، وامرأة ، وخرجوا منها مع موسى ، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الصبيان والشيوخ.

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)(١٠١)

قوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) الآية قال أكثر المفسرين المراد : أبوه وخالته «ليّا» وكانت أمه قد ماتت في نفاسها ببنيامين وقال الحسن : أبوه وأمه ، وكانت حية.

وروي : أنّ الله ـ تعالى ـ أحيا أمّه حتّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتّى سجدت له تحقيقا لرؤيا يوسف.

وقيل : إن الخالة أم كما أنّ العم أب ، قال تعالى : (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ، ومعنى (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) ضمهما إليه ، واعتنقهما.

فإن قيل : ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر؟.

فالجواب : أنّه حين استقبلهم أنزلهم في خيمة ، أو بيت هناك ، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) ، أي : أقيموا بها آمنين ، سمّى الإقامة دخولا ؛ لاقتران أحدهما بالآخر.

قال السديّ في هذا الاستثناء قولان :

الأول : أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول ، والمعنى : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ، كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧].

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

٢١٢

وقيل : إنّه عائد إلى الدّخول كما تقدّم.

وقيل «إن» هنا بمعنى : «إذ» يريد : إن شاء الله ، كقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إذ كنتم مؤمنين.

ومعنى قوله : «آمنين» أي على أنفسكم ، وأموالكم ، وأهليكم لا تخافون أحدا ، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر ، وقيل : آمنين من القحط والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف.

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ) من باب التّغليب ، يريد : أباه وأمه ـ أو خالته ـ (عَلَى الْعَرْشِ) قال أهل اللغة : العرش : السّرير الرّفيع ، قال تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣].

والرفع : هو النقل إلى العلو ، و «سجّدا» حال.

قال أبو البقاء (١) : «حال مقدرة ؛ لأنّ السجود يكون بعد الخرور».

فإن قيل : إن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ كان أبا يوسف فحقّه عظيم ، قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] فقرن حق الوالدين بحق نفسه ، وأيضا : فإنّه كان شيخا كبيرا [والشاب](٢) يجب عليه تعظيم الشيخ وأيضا : كان من أكابر الأنبياء ، ويوسف ، وإن كان نبيّا إلا أن يعقوب كان أعلى حالا منه.

وأيضا : فإن جدّ يعقوب ، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف ، واجتماع هذه الجهات الكثيرة يوجب المبالغة في خدمة يعقوب ، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : روى عطاء عن ابن عبّاس : أنّ المراد بهذه الآية أنهم خرّوا سجدا لأجل وجدانه ، فيكون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف (٣) ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً).

وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير ، ثمّ سجدوا لله ، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصّعود على السّرير ؛ لأنّ ذلك أدخل في التّواضع.

فإن قيل : هذا التّأويل لا يطابق قوله : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [يوسف: ٤].

والمراد منه قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) قيل : معناه لأجلي ، لطلب مصلحتي ، وللسعي في إعلاء منصبي ، وإذا احتمل هذا سقط السؤال.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٩.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٦٩).

٢١٣

الثاني : أن يقال : إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا لنعمته.

وهذا تأويل حسن ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليت إلى الكعبة ؛ قال حسّان ـ رحمه‌الله ـ : [البسيط]

٣١٥٣ ـ أليس أوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف النّاس بالآثار والسّنن (١)

فدلّ على أنّه يجوز أن يقال : فلان صلّى للقبلة ، فكذلك يجوز أن يقال : سجد للقبلة.

وقوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي جعلوه كالقبلة ثمّ سجدوا لله شكرا لنعمة وجدانه.

الثالث : التّواضع يسمى سجودا ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٥٤ ـ ...........

ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر (٢)

فالمراد هنا التّواضع ، وهذا يشكل بقوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) والخرور مشعر بالإتيان بالسّجود على أكمل الوجوه.

وأجيب : بأنّ الخرور يعني به المرور فقط ، قال تعالى : (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) [الفرقان : ٧٣] يعني : لم يمروا.

الرابع : أن يقال الضمير في قوله : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التّهنئة ، والتقدير : ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما ، وأمّا الإخوة وسائر الدّاخلين ، فخروا له ساجدين.

فإن قيل : هذا لا يلائم قوله : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ).

فالجواب : أن تعبير الرّؤيا لا يجب أن يكون مطابقا للرّءيا بحسب الصّورة ، والصّفة من كلّ الوجوه ، فسجود الكواكب والشّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النّاس ولا شك أنّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له ، فكفى هذا القدر من صحّة الرّؤيا ، فأمّا كون التّعبير مساويا في الصّورة والصّفة ، فلم يوجبه أحد من العقلاء.

الخامس : لعلّ الفعل الدّال على التّحية في ذلك الوقت ، كان هو السّجود وكان مقصودهم من السجود تعظيمه ، ثمّ نسخ ذلك في شرعنا.

وهذا بعيد ؛ لأنّ المبالغة في التّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب ، فلو كان

__________________

(١) ينظر البيت في حاشية زادة ٣ / ١٠١ والألوسي ١٣ / ٥٨ والرازي ١٨ / ٢١٦ وتفسير أبي السعود ٣ / ١٣٩.

(٢) عجز بيت لزيد الخيل وصدره : بجمع تخيل البلق في حجراته ينظر : اللسان والصحاح (سجد) والكامل ١ / ٣٥٨ والرازي ١٨ / ٢١٦ والأضداد لابن الأنباري ٢٥٧ والطبري ١ / ٢٨٩ والصناعتين ٢٢١ والصاحبي ٢٢٤ وتأويل المشكل ٤١٧ والوساطة ٤٣٥ والأغاني ١٦ / ٥٢.

٢١٤

الأمر كما قلتم ، لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه الصلاة والسلام.

السادس : لعلّ إخوته حملتهم الأنفة ، والاستعلاء على ألّا يسجدوا له على سبيل التّواضع ، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سببا لثوران النّفس ، وظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها ، فيعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع جلالته وعظم قدره ـ بسبب الأبوة والشّيخوخة ، والتّقدّم في الدّين ، والعلم ، والنبوة فعل ذلك السّجود حتّى تصير مشاهدتهم لذلك سببا لزوال تلك الأنفة ، والنفرة عن قلوبهم.

السابع : لعلّ الله ـ تعالى ـ أمر يعقوب بتلك السّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [كما أمر الملائكة بالسجود لآدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لحكمة لا يعلمها إلا هو](١) ، ويوسف ما كان راضيا بذلك في قلبه إلا أنّه لما علم أنّ الله أمره بذلك سكت.

ثم إنّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما رأى هذه الحالة : (قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) ، وهي قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) وهذا يقوّي الجواب السّابع.

والمعنى : أنّه لا يليق بمثلك على حالتك ، في العلم ، والدين ، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنّ هذا أمر أمرت به ، وأن رؤيا الأنبياء حقّ ، كما أنّ رؤيا إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذبح ولده كان سببا لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة ، لذلك صارت هذه الرّؤيا التي رآها يوسف سببا لوجوب السّجود على يعقوب.

قوله : (مِنْ قَبْلُ) يجوز أن يتعلق ب «رؤياي» أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه : «تأويل» ؛ لأن التّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له ، ويجوز أن يكون حالا من : «رؤياي» قاله أبو البقاء.

وقد تقدّم أنّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالا.

قوله : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) حال من : «رؤياي» ، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي «حقّا» وجوه :

أحدها : أنه حال.

والثاني : أنه مفعول ثان.

والثالث : أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى ، أي : حقّقها ربي حقّا بجعله.

قوله : «أحسن بي» «أحسن» أصله أن يتعدّى بإلى ، قال تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) [القصص : ٧٧] فقيل : ضمن معنى : «لطف» متعدّيا بالباء ، كقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وقول كثير عزّة : [الطويل]

__________________

(١) سقط من : ب.

٢١٥

٣١٥٥ ـ أسيئي بنا ، أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (١)

وقيل : بل يتعدى بها أيضا ، وقيل : هي بمعنى «إلى» وقيل : المفعول محذوف. تقديره : أحسن صنعه بي ، ف «بي» متعلقة بذلك المحذوف ، وهو تقدير أبي البقاء.

وفيه نظر ؛ من حيث حذف المصدر ، وإبقاء معموله ، وهو ممنوع عند البصريين.

و «إذ» منصوب ب «أحسن» ، أو المصدر المحذوف ، قاله أبو البقاء (٢) وفيه النظر المتقدّم.

والبدو : ضد الحضارة ، وهو من الظّهور ، بدا يبدو : إذا سكن البادية.

يروى عن عمر رضي الله عنه : «إذا بدونا جفونا» أي : تخلقنا بأخلاق البدويين.

قال الواحديّ : البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد ، وأصله من بدا يبدو بدوا ، ثم سمي المكان باسم المصدر ، ويقال : بدو وحضر ، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبريّة.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : [كان يعقوب قد تحوّل إلى بدا وسكنها](٣) ومنها قدم على يوسف ، وبها مسجد تحت جبلها.

قال ابن الأنباري «بدا» اسم موضع معروف ، يقال : بين شعيب ـ عليه‌السلام ـ وبدا ، وهما موضعان ذكرهما جميعا كثير : [الطويل]

٣١٥٦ ـ وأنت الّتي حبّبت شعبا إلى بدا

إليّ وأوطاني بلاد سواهما (٤)

والبدو على هذا القول معناه : قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا ، يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا ، كما يقال : غار القوم غورا ، إذا أتوا الغور ، وكان معنى الآية : وجاء بكم من قصد بدا ، وعلى هذا القول كان يعقوب ، وولده حضريّين ، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا.

فصل

اعلم أن قوله (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) وهو قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) ، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) أنعم عليّ (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل من الجبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالا للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملا ٢ / ٥٩.

(٣) في أ : وتحول إلى بدو.

(٤) البيت لكثير عزة. ينظر : ديوانه ص ٣٦٣ وخزانة الأدب ٩ / ٤٦٢ ، ٤٦٤ والدرر ٦ / ٨٣ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٨٨ ولسان العرب (بدا) ومعجم ما استعجم ص ٢٣٠ ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص ٢٤٥ وديوانه المعاني ١ / ٢٦٠ ولكثير أو لجميل في شرح شواهد المغني ١ / ٤٦٤ وينظر : مغني اللبيب ١ / ٢٦٢ وهمع الهوامع ٢ / ١٣١.

٢١٦

الْيَوْمَ) ولو ذكر الجبّ كان تثريبا لهم ؛ ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنّه بعد الخروج من الجبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ولأنه لما خرج من الجب (١) وقع في المضار بسبب تهمة المرأة ، ولما خرج من السّجن ، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التّهمة.

وقال الواحديّ : «النّعمة في إخراجه من السجن أعظم ؛ لأنّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب همّ به ، وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ، ورغبة النّفس ، وهذا ـ وإن كان في محل العفو ـ في حقّ غيره إلا أنه كان سببا للمؤاخذة في حقه ؛ لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين».

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ ؛ لأنّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى](٢) ، ومجيئهم من البدو إليه ، وهذا صريح في أن فعل العبد فعل الله ـ تعالى ـ فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنّما حصل بإقدار الله ، وتدبيره ، فذلك عدول عن الظّاهر.

ثم قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ) أفسد وأغوى ، وأصله من نزغ الرّاكض الدّابة حملها على الجري إذا نخسها.

احتجّ الجبائيّ ، والكعبيّ ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية : على بطلان الجبر قالوا لأنه ـ تعالى ـ أخبر عن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه أضاف الإحسان إلى الله ـ تعالى ـ وأضاف النّزغ إلى الشّيطان ، ولو كان ذلك أيضا من الرحمن ، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة.

الجواب : أنّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز ؛ لأنّ عندكم الشّيطان لا يتمكّن من الكلام الخفيّ ، كما أخبرالله عنه ، فقال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك ، وأيضا : فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشّيطان ، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر ؛ لزم التسلسل وهو محال ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر ، فليقل مثله في حق الإنسان ، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسبب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحدا لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق (٣) الذي يوجب وقوعه في الذّم في الدّنيا ، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر ، والفسق لا بد له من موقع ، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال : ذلك من الله ـ تعالى ـ ويؤيد ذلك قوله : (أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) وهذا صريح في أنّ الكل من الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) في ب : نفسه.

(٣) سقط من : ب.

٢١٧

ثم قال : (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) «لطيف» (١) أصله أن يتعدّى بالباء ، وإنّما تعدى باللّام لتضمنه معنى مدبر ، أي : أنت بلطفك لما تشاء.

والمعنى : أنه ذو لطف لما يشاء ، وقيل : بمن يشاء ، وحقيقة اللّطف : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق.

والمعنى : أن اجتماع يوسف ، وإخوته مع الألف ، والمحبّة ، وطيب العيش ، وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول ، إلا أنه ـ تعالى ـ لطيف ، فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه ، فحصل ، وإن كان في غاية البعد عن الحصول.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) يعني أنّ كونه لطيفا في أفعاله إنّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها ، فيكون عالما بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب.

فصل

اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرّؤيا واجتماعهم. فقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون ، وقال الأكثرون : أربعون ، ولذلك يقولون : إنّ تأويل الرّؤيا إنّما صحّت بعد أربعين سنة. وقيل : ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية ، والملك ، والسجن ثمانين سنة ، ثمّ وصل إليه أقاربه ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة. وقال : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة ، ثم مات بمصر ، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ومضى به حتّى دفنه بالشّام ، ثم رجع إلى مصر.

قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصو ، فدفنا في قبر واحد ، وكانا ولدا في بطن واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة ، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة ، وقيل : ستين سنة وات وهو ابن مائة وعشرين سنة ، وفي التوراة مائة وعشرين ، وولد له إفرائيم ، وميشا وولد لإفرائيم نون ، ولاوي ، ويوشع فتى موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ورحمة امرأة أيوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه تمنى الموت. وقيل : ما تمنّاه نبيّ قبله ، ولا بعده فتوفّاه الله طيبا طاهرا ، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبّ أن يدفنه في محلتهم ، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقا من مرمر ، ويجعلوه فيه ، ويدفنوه في النّيل ليمر الماء عليه ، ويصل إلى مصر ، وبقي هناك إلى أن بعث موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فأخرج عظامه من مصر ، ودفنه عند أبيه.

قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) الآية قرأ عبد (٢) الله : (آتيتن وعلمتن) بغير

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٨٣ وقرأ بها أيضا عمرو بن ذر ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٤٣ والدر المصون ٤ / ٢١٦.

٢١٨

ياء فيهما. وحكى ابن عطية أن أبا ذر قرأ : «أتيتني» (١) بغير ألف بعد الهمزة ، و «من» في «من الملك» ، وفي : «من تأويل» للتبعيض والمفعول محذوف أي : عظيما من الملك ، فهي صفة لذلك المحذوف. وقيل : زائدة. وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان. و «فاطر» يجوز أن يكون نعتا ل «ربّ» ويجوز أن يكون بدلا أو بيانا ، أو منصوبا بإضمار أعني أو نداء ثانيا.

فصل

لما جمع الله شمل يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنّ نعيم الدّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة ، فقال : (رب قدءاتيتني من الملك) يعني ملك مصر ، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة ، والتدبير. (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) يعني تعبير الرؤيا.

قوله : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعني : يا فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليّ اعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها.

وقال أهل اللغة : أصل الفطر : الشّقّ ، يقال : فطرت ناب البعير ، إذا بدا ، وفطرت الشّيء ، فانفطر ، إذا شققته ، فانشقّ ، وتفطّرت الأرض بالنّبات والشّجر بالورق ، إذا تصدّعت.

هذا أصله في اللغة ، ثمّ صارت عبارة عن الإيجاد ؛ لأنّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنّه في ظلمة وخفاء ، فلمّا دخل في الوجود ، صار كأنّه انشقّ ، وخرج ذلك الشيء منه.

(تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي : اقبضني إليك مسلما ، وألحقني بالصالحين يريد بآبائي النبيين.

قال قتادة : لم يسأل نبيّ من الأنبياء الموت إلا يوسف ، وبه قال جماعة من المفسرين.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في رواية عطاء : يريد : إذا توفّيتني ، فتوفّني على الإسلام (٢).

فصل

دل قوله (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) على أنّ الإيمان من الله ؛ لأنّه لو كان من العبد ، لكان تديره: كأنّه يقول : افعل يا من لا يفعل.

قالت المعتزلة (٣) : إذا كان الفعل من الله ، فكيف يجوز أن يقال للعبد : افعل مع

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٦.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٥).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٧٦.

٢١٩

أنّك لست فاعلا؟ فيقال لهم : إذا كان تحصيل الإيمان ، وإبقاؤه من العبد لا من الله ، فكيف يطلب ذلك من الله ـ تعالى ـ.

قال الجبائي والكعبي : معناه : أطلب اللّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه ، وهذا الجواب ضعيف ؛ لأن السؤال وقع عن الإسلام ، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر ، وأيضا : فكلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف ، فقد فعله ، كان طلبه من الله محالا.

فإن قيل : الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يعلمون أنّهم يموتون لا محالة على الإسلام ، فكان هذا الدّعاء طلبا لتحصيل الحاصل ، وأنّه لا يجوز.

فالجواب : أن كمال حال المسلم : أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرّ قلبه على ذلك الإسلام ، ويرضى بقضاء الله ، وتطمئن النفس ، وينشرح الصدر في هذا الباب ، وهذه حالة زائدة عن الإسلام الذي هو ضدّ الكفر ، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى.

فإن قيل : إن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان من أكابر الأنبياء ، والصّلاح أول درجات المؤمنين ؛ فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية؟.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ وغيره : يعني ب «آبائه» : إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أجمعين.

والمعنى : ألحقني بهم في ثوابهم ، ودرجاتهم ، ومراتبهم.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عن جبريل ـ عليه‌السلام ـ عن ربّ العزّة قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين» (١).

فلهذا من أراد الدعاء ، لا بدّ وأن يقدّم عليه الثّناء على الله ـ تعالى ـ فههنا يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمّا أراد الدعاء قدّم عليه الثناء ، فقال (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ثم دعا عقبه ، فقال : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) وكذلك فعل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] إلى قوله : (يَوْمَ الدِّينِ) فهذا ثناء ، ثمّ قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) إلى آخر كلامه.

قوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ

__________________

(١) تقدم.

٢٢٠