اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

قال الزمخشري (١) : «كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا ، وتفريطكم من قبل في يوسف» وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضا.

قال أبو حيّان (٢) : «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيّد ؛ لأنّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد ، وبين المعطوف ؛ فصار نظير : ضربت زيدا ، وبسيف عمرا ، وقد زعم الفارسيّ أنه لا يجوز ذلك إلّا في ضرورة الشّعر».

قال شهاب الدّين (٣) : هذا الرّدّ سبقه إليه أبو البقاء ، ولم يرتضه وقال : «وقيل : هو ضعيف ؛ لأنّ فيه الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد بينا في سورة النّساء أن هذا ليس بشيء».

قال شهاب الدين (٤) : «يعني أنّ منع الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ليس بشيء ، وقد تقدّم إيضاح هذا ، وتقريره في سورة النساء ، كما أشار إليه أبو البقاء».

ثمّ قال أبو حيّان (٥) : «وأمّا تقدير الزمخشري : وتفريطكم من قبل في يوسف ؛ فلا يجوز ؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري ، والفعل عليه ، وهو لا يجوز».

وقال شهاب الدّين : «ليس في تقدير الزمخشريّ شيء من ذلك ؛ لأنّه لمّا صرح بالمقدر أخّر الجارين ، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدّر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطه ، فأين تقديم المعمول على المصدر ولو رد عليه ، وعلى ابن عطيّة بأنه يلزم من ذلك تقديم معمول الصّلة على الموصول لكان ردّا واضحا ، فإنّ : «من قبل» متعلق ب «فرّطتم» ، وقد تقدّم الكلام على ما المصدرية ، وفيه خلاف مشهور».

الخامس : أن تكون مصدرية أيضا ، ومحلها النصب عطفا على اسم : «أنّ» أي : ألم تعلموا أنّ أباكم ، وأن تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذ يكون في خبر «أنّ» هذه المقدرة وجهان :

أحدهما : هو : «من قبل».

والثاني : هو «في يوسف» واختاره أبو البقاء (٦) ، وقد تقدّم ما في كلّ منهما ، ويردّ على هذا الوجه الخامس ما ردّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد عرف ما فيه.

السادس : أن تكون موصولة اسمية ، ومحلّها الرفع ، والنّصب على ما تقدّم في المصدريّة.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣١.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٧.

١٨١

قال الزمخشريّ (١) : بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه ، أي : قدّمتموه في حقّ يوسف من الجناية ، ومحلّها الرّفع ، أو النّصب على الوجهين.

يعني بالوجهين رفعها بالابتداء ، وخبرها «من قبل» ، ونصبها على مفعول «ألم تعلموا» ، فإنّه لم يذكر في المصدرية غيرهما ، وقد تقدّم ما اعترض به عليهما ، وما قيل في جوابه.

فتحصل في «ما» ثلاثة أوجه :

الزيادة ، وكونها مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وأن في محلها وجهين : الرفع ، أو النصب.

قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) برح هنا تامة ، ضمنت معنى أفارق ف : «الأرض» مفعول به ، ولا يجوز أن تكون تامّة من غير تضمين ؛ لأنها إذا كانت كذلك ؛ كان معناها :ظهر أو ذهب ، ومنه : برح الخفاء ، أي : ظهر ، أو ذهب ، ومعنى الظهور لا يليق ، والذهاب لا يصل إلى الظّرف المخصوص إلّا بواسطة «في» : تقول : «ذهبت في الأرض» ولا يجوز ذهبت الأرض ، وقد جاء شيء لا يقاس عليه (٢).

وقال أبو البقاء : «ويجوز أن يكون ظرفا».

قال شهاب الدّين (٣) : «يحتمل أن يكون سقط من النّسخ لفظ «لا» ، وكان : «ولا يجوز أن يكون ظرفا».

واعلم أنه لا يجوز في «أبرح» هنا أن تكون ناقصة ؛ لأنّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها ، و «من الأرض» مبتدأ أو خبر ، ألا ترى أنّك لو قلت : أنا الأرض لم يجز من غير «في» بخلاف «أنا في الأرض وزيد في الأرض».

قوله : (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ) في نصبه وجهان :

أظهرهما : عطفه على : «يأذن».

والثاني : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النّفي ، وهو قوله : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي : لن أبرح الأرض إلّا أن يحكم ، كقولهم : لالزمنّك أو تقضيني حقّي ، أي : إلا أن تقضيني.

قال أبو حيّان (٤) : «ومعناه ومعنى الغاية متقاربان».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٥.

(٢) قال سيبويه ١ / ٣٥ : «وقال بعضهم : ذهبت الشّام ، يشبهه بالمبهم إذا كان مكانا يقع عليه المكان والمذهب ، وهذا شاذ ؛ لأنه ليس في «ذهب» دليل على الشّام ، وفيه دليل على المذهب والمكان ، ومثل : ذهبت الشّام دخلت البيت». ينظر التصريح ١ / ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، والهمع ١ / ٢٠٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣٢.

١٨٢

قال شهاب الدّين (١) : «وليس المعنى على الثّاني ، بل سياق المعنى على عطفه على «يأذن» فإنه غيّا الأمر بغايتين : إحداهما خاصة ، وهي إذن أبيه والثانية عامة ؛ لأنّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله ـ عزوجل».

فصل

اعلم أنّهم لما أيسوا من تخليصه ، وتناجوا فيما بينهم ، قال كبيرهم : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) أي : عهدا (مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ) هذا فرّطتم في شأن يوسف ، ولم تحفظوا عهد أبيكم ، (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) التي أنا بها ، وهي أرض مصر ، فلن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الانصراف إليه والخروج منها (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بالخروج منها بردّ أخي إليّ ، أو خروجي ، وترك أخي ، أو بالانتصاف ممّن أخذ أخي.

وقيل : أو يحكم الله لي بالسّيف ، وأقاتلهم واسترد أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل ، والحق ، فحينئذ تفكّروا في الأصوب ما هو؟ فظهر لهم أنّ الأصوب هو الرّجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة ، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ) بنيامين «سرق» (٢).

قرأ العامة : «سرق» مبنيّا للفاعل مخففا ، وابن عباس ، وأبو رزين ، والضحاك ، والكسائي في رواية «سرّق» بضمّ السّين ، وكسر الرّاء مشددا مبنيّا للمفعول يعني : نسب إلى السّرقة ، كما يقال : خوّنته ، أي : نسبته إلى الخيانة ، قال الزجاج : «سرّق» يحتمل معنيين :

أحدهما : علم منه السرقة ، والآخر : اتهم بالسّرقة.

قال الجوهريّ : «والسّرق والسّرقة ـ بكسر الراء فيهما ـ هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر : سرق ، يسرق ، سرقا ـ بالفتح».

وقرأ الضحاك (٣) : «سارق» جعله اسم فاعل.

(وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) فإنّا رأينا إخراج صاع من متاعه. وقيل : معناه (وَما شَهِدْنا) أي : ما كانت منّا شهادة في عمرنا على الشّيء إلّا بما علمنا ، وليست هذه الشّهادة منّا ، إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم.

فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنّه سرق من غير بينة ، لا سيّما وقد أجابهم بالنّفي فقال : الذي جعل الصّواع في رحلي ، هو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أنهم شاهدوا أنّ الصواع كان موضوعا في [محلّ](٤) لم يدخله غيرهم ،

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٢ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٢ والدر المصون ٤ / ٢٠٨.

(٤) في أ : موضع.

١٨٣

فلمّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله ؛ غلب على ظنهم أنّه هو الذي أخذ الصواع.

وأما قوله : «وضع الصّواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم» فالفرق ظاهر ؛ لأنهم لمّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأمّا الصّواع ، فلم يعترف أحد بأنه هو الذي وضع الصّواع ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق ؛ فشهدوا بناء على غلبة الظّنّ ، ثمّ بينوا أنهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم : (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ).

وثانيها : تقدير الكلام : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) في قول الملك ، وأصحابه ، ومثله كثير في القرآن ، قال تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] أي : عند نفسك وأمّا عندنا فلا فكذا هاهنا.

وثالثها : أنّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السّرقة ، ومثل هذا المعنى قد يسمّى سرقة ، فإن إطلاق أحد الشّيئين على الشبيه الآخر جائز ، ومثله في القرآن (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠].

ورابعها : أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فلا يبعد أن يقال (١) : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة ، لا سيّما ، وقد شاهد سائرهم ذلك.

وخامسها : قراءة ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ المتقدمة «سرّق» أي : نسب إلى السّرقة ، فهذه لا تحتاج إلى تأويل ، إلّا أنه تقدّم أنّ أمثال هذه القراءة لا تدفع السّؤال ؛ لأنّ الإشكال إنّما يندفع إذا كانت القراءة الأولى باطلة ، وهذه القراءة حقّ أمّا إذا كانت الأولى حقّ ، كان الإشكال باقيا صحّت القراءة ، أو لم تصحّ ، فلا بدّ من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة.

فصل

دلّ قولهم : (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) على أنّ الشّهادة غير العلم ؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشّهادة مغايرة للعلم ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا علمت مثل الشّمس فاشهد» ... وليست الشّهادة عبارة عن قوله «اشهد» ؛ لأنه إخبار عن الشّهادة ، والإخبار عن الشّهادة غير الشهادة.

وإذا ثبت هذا ؛ فنقول : الشّهادة عبارة عن الحكم الذّهنيّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب «الكلام النفسي» (٢).

فصل

قال القرطبيّ (٣) : تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [وجه](٤) حصل العلم بها

__________________

(١) في ب : يقال لهم.

(٢) في ب : حديث النفس.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٩ / ١٥١.

(٤) في أ : شيء.

١٨٤

فإنّ الشّهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، فلا تسمع إلّا ممّن علم ، ولا تقبل إلّا منهم ، وهذا هو الأصل في الشّهادات.

ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزة ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشّهادة على الخطّ ـ أي : إذا تبيّن أنه خطّه ، أو خطّ فلان ـ صحيحة ، فكلّ من حصل له العلم بشيء ؛ جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهده المشهود عليه. قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٦] وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ألا أخبركم بخير الشّهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» (١).

قوله تعالى : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال مجاهد وقتادة : وما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ، ويصيّر أمرنا إلى هذا ، ولو علمنا بذلك ما ذهبنا به معنا ، وإنّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل (٢).

وقال عكرمة : لعلّ الصّواع دفن في اللّيل ، فإنّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات(٣).

وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله ، أمّا حقيقة الحال ، فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ما كنا لليله ، ونهاره ، ومجيئه ، وذهابه حافظين.

وقيل : إنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لهم : فهب أنه سرق ، ولكن كيف علم الملك أن شرع بني إسرائيل أنّه من سرق يسترقّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند ذلك : إنّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها ، فقوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصيبنا.

فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟.

فالجواب : لعلّ ذلك الحكم كان مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما ، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنّه كافرا.

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٧٢٠) كتاب الأقضية باب ما جاء في الشهادات (٣) ، ومسلم (٣ / ١٣٤٤) كتاب الأقضية : باب بيان خير الشهود (١٩ ـ ١٧١٩) وأبو داود (٣ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) كتاب الأقضية : باب في الشهادات (٣٥٩٦) والترمذي (٤ / ٤٧٢) كتاب الشهادات باب ما جاء في الشهداء أيهم خير (٢٢٩٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٧٢) عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٥) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٣).

١٨٥

قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يحتمل ثلاثة أوجه :

أشهرها : أنه على حذف مضاف ، أي : واسأل أهل القرية ، وأهل العير ، وهو مجاز شائع ، قاله ابن عطيّة (١) وغيره.

وقال أبو عليّ الفارسي : ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضّرورات ، وجاحد المحسوسات ، وهذا على خلاف في المسألة ، هل الإضمار من باب المجاز ، أو غيره؟ المشهور أنه قسم منه ، وعليه أكثر النّاس.

قال أبو المعالي : قال بعض المتكلمين : «هذا من الحذف ، وليس من المجاز إنّما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له ، قال : وحذف المضاف هو عين المجاز وعظمه ، هذا مذهب سيبويه وغيره ، وحكي أنّه قول الجمهور».

وقال ابن الخطيب : إن الإضمار ، والمجاز [قسمان لا قسيمان](٢) ، فهما متباينان.

الثاني : أنّه مجاز ، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالراوية.

الثالث : أنّه حقيقة لا مجاز فيه ، ولذلك قال أبو بكر الأنباري :

المعنى : واسأل القرية والعير ؛ فإنّها تجيبك ، وتذكر لك صحّة ما ذكرنا ؛ لأنك من أكابر الأنبياء ، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد ، والبهائم.

وقيل : إنّ الشيء إذا ظهر ظهورا تامّا كاملا فقد يقال فيه : سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه ، والمراد أنه بلغ في الظّهور إلى الغاية حتّى لم يبق للشكّ فيه مجال ، والمراد من القرية : مصر ، وقيل : قرية على باب مصر قال ابن عباس رضي الله عنه : هي قرية من قرى مصر ، كانوا ارتحلوا منها.

وأما قوله : (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي القافلة التي كنّا فيها.

قال المفسّرون : كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب.

قال ابن إسحاق : عرف الأخ المحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه‌السلام ، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم.

ثم إنّهم لما بالغوا في التّأكيد ، والتقرير قالوا : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يعني سواء نسبتنا إلى التّهمة ، أم لم تنسب ؛ فنحن صادقون ، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم ؛ لأنّ هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، بل الإنسان ، إذا قدم ذكر الدّليل القاطع على صحّة الشيء ، فقد يقول بعده : وأنّا صادق في ذلك ، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدّلائل ، والبينات.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧١.

(٢) في ب : قسيمان لا قسمان.

١٨٦

فصل

قال القرطبي (١) : «دلّت هذه الآية على أنّ كل من كان على حقّ ، وعلم أنه قد يظن به أنّه على [خلاف](٢) ما هو عليه ، أو يتوهم أن يرفع التّهمة ، وكلّ ريبة عن نفسه ويصرّح بالحق الذي هو عليه ، حتّى لا يبقى متكلّم ، وقد فعل هذا نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله للرجلين اللّذين مرّا ، وهو قد خرج مع صفيّة بنت حييّ من المسجد : «على رسلكما ، إنّما هي صفيّة بنت حييّ» ؛ فقالا : سبحان الله! وكبر عليهما ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم ، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شرّا ، أو قال : شيئا» متفق عليه.

فإن قيل : كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه ، ولم يخبره بمكانه ، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه ، ففيه معنى العقوق ، وقطيعة الرّحم ، وقلّة الشّفقة؟.

فالجواب : أنّه فعل ذلك بأمر الله ـ عزوجل ـ أمره به ليزيد في بلاء يعقوب ، فيضاعف له الأجر ، ويلحقه في الدّرجة بآبائه الماضين.

وقيل : إنّه لم يظهر نفسه لإخوته ؛ لأنّه لم يأمن أن يدبّروا في أمره تدبيرا ، فيكتموه عن أبيه ، والأول أصح.

قوله تعالى : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٨٧)

قوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) هذا الإضراب لا بدّ له من كلام قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه ، والتقدير : فرجعوا إلى أبيهم ، وذكروا له ما قال كبيرهم ، فقال يعقوب : ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة ، (بل سولت) : زيّنت (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي حمل أخيكم إلى مصر ، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف.

وقيل : (سولت لكم أنفسكم) أنّه سرق ، وما سرق.

(فصبر جميل) وتقدّم الكلام على نظيره ، وقال هناك : (والله المستعان على ما تصفون) وقال ههنا (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٦١.

(٢) سقط من : ب.

١٨٧

قال بعضهم : يعني يوسف ، وبنيامين ، وأخاهم المقيم بمصر.

وإنّما حكم بهذا الحكم ؛ لأنّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنّ الله سيجعل له فرجا ومخرجا عن قريب ، فقال ذلك على سبيل حسن الظنّ برحمة الله تعالى.

وقيل : لعلّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي ، أو ظهرت له علامات على ذلك.

ثم قال (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) العليم بحقائق الأمر ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل ، والإحسان.

وقيل : العليم بحزني ، ووجدي على فقدهم ، الحكيم في تدبير خلقه.

قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) الآية.

لما سمع يعقوب كلام بنيه ، ضاق قلبه ، وهاج حزنه على يوسف ، فأعرض عنهم : (وقال يا أسفى على يوسف) يا حزنا على يوسف.

والأسف : أشدّ الحزن ، وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه :

الأول : أنّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع ، قال متمّم بن نويرة : [الطويل]

٣١٣٣ ـ فقال أتبكي كلّ قبر رأيته

لميت ثوى بين اللّوى والدّكادك

فقلت له : إنّ الأسى يبعث الأسى

فدعني فهذا كلّه قبر مالك (١)

وذلك ؛ لأنه كلما رأى قبرا تجدّد عليه حزنه على أخيه مالك ، فلاموه ؛ فأجاب : إنّ الأسى يبعث الأسى.

الثاني : أنّ بنيامين ، ويوسف كانا من أمّ واحدة ، وكانت المشابهة بينهما في الصّفة متقاربة ، فكان يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه‌السلام ، فلما وقع ما وقع ، زال ما يوجب السّلوة ، فعظم الألم.

الثالث : أنّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الّتي عليها ترتب سائر المصائب ، فكان الأسف عليه أسفا على الكلّ.

الرابع : أنّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومة ، فلم يبحث

__________________

(١) ينظر البيتان في : الكامل ١ / ١٥٢ ، حماسة أبي تمام ١ / ٣٣١ ، الرازي ١٨ / ١٩٧.

وروي : إن الشجا يبعث الشجا.

وروي : إن الأسى يبعث البكا.

١٨٨

عنها ، وأمّا واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه‌السلام كان يعلم كذبهم في السّبب الذي ذكروه ، وأما السّبب الحقيقي ، فلم يعلمه.

وأيضا : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يعلم حياة هؤلاء ، وأمّا يوسف فما كان يعلم أنّه حي ، أو ميت ، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته.

قوله : (يا أَسَفى) الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، وإنّما قلبت ألفا ؛ لأنّ الصّوت معها أتم ، ونداؤه على سبيل المجاز ، كأنّه قال : هذا أوانك فاحضر ، نحو : «يا حسرتا». وقيل هذه ألف الندبة ، وحذفت هاء السّكت وصلا.

قال الزمخشريّ : والتّجانس بين لفظتي الأسف ، ويوسف ممّا يقع مطبوعا غير متعمل فيملح ، ويبدع ، ونحوه : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) [التوبة : ٣٨] (يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ) [الكهف : ١٠] (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) [النمل : ٢٢].

قال شهاب الدّين (١) : ويسمّى هذا النّوع تجنيس التّصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى ، وقد تقدّم [الأنعام : ٢٦].

وقرأ ابن عباس (٢) ، ومجاهد «من الحزن» بفتحتين ، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون.

فالحزن ، والحزن ، كالعدم ، والعدم ، والبخل والبخل ، وأمّا الضمتان فالثانية إتباع.

وقال الواحديّ : اختلفوا في الحزن ، والحزن ، فقال قوم : الحزن : البكاء والحزن ضد الفرح ، وقال قوم : هما لغتان ، يقال : أصابه حزن شديد وحزن شديد ، إذا كان في مواضع النّصب ، فتحوا الحاء ، والزّاي كقوله : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) [التوبة : ٩٢] ، وإذا كان في موضع الرفع (٣) ، والخفض فبضم الحاء ، كقوله : (مِنَ الْحُزْنِ) وقوله : (أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) قال : هما في موضع رفع بالابتداء.

و «كظيم» يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل ، وأن يكون بمعنى مفعول ، كقوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ) [القلم : ٤٨] وبه فسّره الزمخشريّ ، فإن كان بمعنى الكاظم فهو الممسك على حزنه فلا يظهره ، وإن كان بمعنى المكظوم ، فقال ابن قتيبة : «معناه المملوء من الهمّ ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور ، من كظم السّقاء ، إذا اشتدّ على ملئه ، ويجوز أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده».

فصل

تقدّم الكلام على الأسف ، وأمّا قوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) فقيل : إنّه لما قال :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧٢ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٣ والدر المصون ٤ / ٢٠٩.

(٣) في ب : الضم.

١٨٩

(يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) غلبة البكاء ، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين ، فتصير العين كأنها ابيضّت من بياض ذلك الماء ، فقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) كناية عن غلبة البكاء. رواه الواحدي عن ابن عبّاس. وقال مقاتل : كناية عن العمى ، فلم يبصر بهما شيئا حتى كشفه الله ـ تعالى ـ بقميص يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) ، وقال : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) ؛ ولأنّ الحزن الدّائم ، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى ؛ لأنّه يوجب كدورة على سواد العين.

وقيل : ما عمي ، ولكنّه صار بحيث يدرك إدراكا ضعيفا ؛ كما قال : [الطويل]

٣١٣٤ ـ خليليّ إنّي قد غشيت من البكا

فهل عند غيري مقلة استعيرها

قيل : ما صحّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ، وتلك المدة ثمانون سنة ، وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

قوله : «تفتؤ» هذا جواب القسم في قوله : «تالله» وهو على حذف لا أي : لا تفتؤ كقول الشّاعر : [البسيط]

٣١٣٥ ـ تالله على الأيّام ذو حيد

بمشمخرّ به الظّيّان والآس (١)

أي : لا تبقى ، ويدلّ على حذفها : أنّه لو كان مثبتا ؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التّوكيد معا عند البصريين ، أو إحداهما عند الكوفيين ، وتقول : والله أحبّك : تريد لأحبك ، وهو من التّورية ، فإن كثيرا من النّاس يتبادر ذهنه إلى إثبات المحبّة ، و «تفتأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال.

قال ابن السّكيت : «ما زلت أفعله ، وما فتئت أفعله ، وما برحت أفعله ، ولا يتكلم بهنّ إلّا في الجحد».

قال ابن قتيبة : «يقال : ما فترت وما فتئت ، لغتان ، ومعناه : ما نسيته ، وما انقطعت عنه» ، وإذا كانت ناقصة ؛ فهي ترفع الاسم ، وهو الضمير ، وتنصب الخبر ، وهو الجملة من قوله : «تذكر» أي : لا تزال ذاكرا له ، يقال : ما فتىء زيد ذاهبا ؛ قال أوس بن حجر : [الطويل]

٣١٣٦ ـ فما فتئت حتّى كأنّ غبارها

سرادق يوم ذي رياح ترفّع (٢)

وقال أيضا : [الطويل]

٣١٣٧ ـ فما فتئت خيل تثوب وتدّعي

ويلحق منها لاحق وتقطّع (٣)

__________________

(١) تقدم برقم ٤٤.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (٥٩) ، والكشاف ٢ / ٣٣٩ ، وفتح القدير ٣ / ٤٨ والبحر ٥ / ٣٢٤ ، والطبري ١٣ / ٤١ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٩.

(٣) البيت لأوس بن حجر. ينظر : ديوانه (٥٨) ، مجاز القرآن ١ / ٣١٦ ، الكشاف ٢ / ٣٣٩ وشواهد الكشاف ٢ / ٤٤٢ والجمهرة ٣ / ٢٨٧ ، تفسير غريب القرآن ٢٢١ ، البحر ٥ / ٣٢٤ ، الطبري ١٣ / ٢٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٠٩.

١٩٠

وعن مجاهد : لا تفتر ؛ قال الزمخشريّ : كأنه جعل الفتوء ، والفتور أخوين ، كما تقدّم عن ابن قتيبة ، وفيهما لغتان : «فتأ» على وزن «ضرب» ، و «أفتأ» على وزن «أكرم» ، وتكون تامّة بمعنى : «سكن وأطفأ» كذا قاله ابن مالك.

وزعم أبو حيّان : أنه تصحيف منه ، وإنّما هي فثأ بالثّاء المثلثة ، ورسمت هذه اللّفظة «تفتؤ» بالواو ، والقياس «تفتأ» بالألف ، وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتبارا بالخطّ ، والقياس.

قوله : «حرضا» : الحرض : الإشفاء على الموت ، يقال منه : حرض الرّجل يحرض حرضا بفتح الرّاء ، فهو حرض بكسرها ، فالحرض (١) مصدر من هذه المادّة فيجيء في الآية الأوجه التي في «رجل عدل» كما تقدم.

ويطلق المصدر من هذه المادّة على : «الجثث» إطلاقا شائعا ؛ ولذلك يستوي فيه المفرد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث ، تقول : هو حرض ، وهما حرض وهم حرض ، وهي حرض ، وهنّ حرض ؛ ويقال : رجل حرض بضمتين ، نحو : جنب ، وشلل. ويقال : أحرضه كذا ، أي أهلكه ؛ قال : [البسيط]

٣١٣٨ ـ إنّي امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني

حتّى بليت وحتّى شفّني السّقم (٢)

فهو محرض .. قال الشّاعر : [الطويل]

٣١٣٩ ـ أرى المرء كالأذواد يصبح محرضا

كإحراض بكر في الدّيار مريض (٣)

وقرأ بعضهم (٤) «حرضا» بكسر الرّاء.

وقال الزمخشريّ : «وجاءت القراءة بهما جميعا» يعني بفتح الراء ، وكسرها.

وقرأ الحسن (٥) : «حرضا» بضمتين ، وقد تقدّم أنه ك : «جنب ، وشلل» ، وزاد الزمخشريّ (٦) : «وغرب».

وقال الراغب (٧) : الحرض : ما لا يعتدّ به ، ولا خير فيه ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك : حرض ، قال تعالى : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) [يوسف : ٨٥] ، وقد أحرصه كذا قال الشّاعر : [البسيط]

__________________

(١) في اللسان (حرض) : الحرض : الذي أذابه الحزن أو العشق ، وهو في معنى «محرض» وقد حرض بالكسر وأحرضه الحبّ ، أي : أفسده ...

(٢) تقدم.

(٣) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (٩٨) ، البحر المحيط ٥ / ٣٢٥ ، واللسان «حرب» ، الطبري ١٦ / ٤٠٤ ، التهذيب «حرب» والدر المصون ٤ / ٢٠٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢١٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٩ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٧٣ والدر المصون ٤ / ٢١٠.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٩.

(٧) ينظر : المفردات ١١٣.

١٩١

٣١٤٠ ـ إنّي امرؤ لجّ بي همّ فأحرضني (١)

والحرضة : من لا يأكل إلّا لحم الميسر لنذالته ، والتّحريض : الحثّ على الشّيء بكثرة التّزيين ، وتسهيل الخطب فيه ، كأنّه إزالة الحرض نحو : قذّيته ، أي : أزلت عنه القذى ، وأحرضته: أفسدته ، نحو : أقذيته : إذا جعلت فيه القذى «انتهى».

والحرض : الأشنان ، لإزالته الفساد ، والمحرضة : وعاؤه ، وشذوذها كشذوذ : منخل ، ومسعط ، ومكحلة (٢).

وحكى الواحديّ عن أهل المعاني : أنّ أصل الحرض : فساد الجسم ، والعقل للحزن ، والحبّ ، وقولهم : حرّضت فلانا على فلان ، تأويله : أفسدته وأحميته عليه ، قال الله تعالى : (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) [الأنفال : ٦٥].

وإذا عرفت هذا فوصف الرّجل بأنه حرض إمّا أن يكون المراد منه : ذو حرض فحذف المضاف ، أو المراد منه : أنّه لما تناهى في الفساد ، والضعف ؛ فكأنّه صار عين الحرض ، ونفس الفساد ، وأمّا الحرض ـ بكسر الراء ـ فهو الصّفة كما قرىء بها وللمفسّرين فيه عبارات :

أحدها : الحرض ، والحارض ، وهو الفاسد في جسمه ، وعقله.

وثانيها : قال نافع بن الأزرق : سئل ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : الفاسد الرّأي.

وثالثها : أنه هو الذي يكون لا كالأحياء ، ولا كالأموات.

وذكر أبو روق أنّ أنس بن مالك قرأ : (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) بضمّ الحاء وسكون الرّاء.

ثم قال تعالى : (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) من الأموات ، والمعنى : لا تزال تذكر يوسف بالحزن ، والبكاء عليه حتى تصير بحيث لا تنتفع بنفسك ، أو تموت من الغمّ ، وأرادوا بذلك منعه من كثرة البكاء ، والأسف.

فإن قيل : لم حلفوا على ذلك مع أنّهم لم يعلموا ذلك قطعا؟.

فالجواب : أنّهم بنوا الأمر على الظّاهر.

قال المفسّرون : القائل هذا الكلام ، وهو قوله : (تالله تفتؤ تذكر يوسف) هم إخوة يوسف ، وقال بعضهم : ليسوا الإخوة ، بل الجماعة الذين كانوا في الدّار من أولاده وخدمه ، فقال يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله) والبثّ : أشدّ الحزن ، كأنّه لقوته لا يطاق حمله ، فيبثه الإنسان ، أي : يفرّقه ، ويذيعه وقد تقدّم [آل

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٦٤.

١٩٢

عمران : ١٨٦] أنّ أصل هذه المادّة الدلالة على الانتشار ، وجوّز فيه الرّاغب هنا وجهين :

أحدهما : أنه مصدر في معنى المفعول ، قال : «أي : غمّي الذي يبثه عن كتمان ، فهو مصدر في تقدير مفعول ، أو يعني غمّي الذي بثّ فكري ، فيكون في معنى الفاعل».

وقرأ الحسن وعيسى «وحزني» بفتحتين ، وقتادة بضمتين ، وقد تقدم.

فصل

المعنى : أن يعقوب ـ عليه‌السلام ـ لما رأى غلظتهم ، قال : إنما أشكو شدة حزني إلى الله ، وسمّى شدّة الحزن بثّا ؛ لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه ، أي : [يظهره](١).

وقال الحسن : بثّي ، أي : حاجتي ، والمعنى : أنّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم ، وإنّما أذكره في حضرة الله ـ تعالى ـ والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله ـ تعالى ـ كان في زمرة المحققين.

وروي أنّه قيل له : يا يعقوب : ما الذي أذهب بصرك ، وقوّس ظهرك؟ قال : أذهب بصري بكائي على يوسف ، وقوس ظهري حزني على أخيه ؛ فأوحى الله إليه : أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني ، فعند ذلك قال : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) ثم قال : (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون ، وهو أنّه ـ تعالى ـ يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه ، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقّع رجوع يوسف إليه ، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوها :

أحدها : أنّ ملك الموت أتاه فقال له : يا ملك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال: لا يا نبيّ الله ، ثمّ أشار إلى جانب مصر ، وقال : اطلبه هاهنا.

وثانيها : أنه علم من رؤيا يوسف عليه‌السلام أنّها صادقة ، وأنا وأنتم سنسجد له.

وثالثها : لعلّه ـ تعالى ـ أوحى إليه أنّه سيوصله إليه ، ولكنّه ـ تعالى ـ ما عيّن الوقت ؛ فلهذا بقي في القلق.

ورابعها : قال السديّ : لما أخبره بنوه بسيرة الملك ، وحاله في أقواله ، وأفعاله ؛ طمع أن يكون هو يوسف ، وقال : لا يبعد أن يملك الكفّار مثل هذا (٢).

وخامسها : علم قطعا أن بنيامين لا يسرق ، وسمع أنّ الملك ما آذاه ، ولا ضربه ؛ فغلب على [ظنه] أنّ ذلك الملك هو يوسف عليه‌السلام ، فعند ذلك قال : (يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه) أي : استقصوا خبره بحواسّكم ، والتّحسّس : طلب الشّيء بالحاسّة.

قال ابن الأنباريّ «يقال : تحسّست عن فلان ، ولا يقال : من فلان ، وقيل : ههنا من

__________________

(١) في ب : يضيره.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٥).

١٩٣

يوسف ؛ لأنه أقيم : «من» مقام : «عن» قال : ولا يجوز أن يقال : «من» للتبعيض ، والمعنى : تحسّسوا خبرا من أخبار يوسف ، واستعلموا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة «من» لما فيها من الدلالة على التبعيض».

والتحسّس : يكون في الخير والشّر ، وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشّر ، ولذلك قال هاهنا : «فتحسّسوا» ، وفي الحجرات : (وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات : ١٢] ، وليس كذلك فإنه قد قريء (١) بالجيم هنا.

ثم قال : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) وتقدّم الخلاف في قوله : (وَلا تَيْأَسُوا).

وقرأ الأعرج (٢) : «ولا تيسوا» وقرأ العامة : «روح الله» بالفتح ، وهو رحمته وتنفيسه.

قال الأصمعيّ رحمه‌الله «الرّوح ما يجده الإنسان من نسيم الهوى ، فيسكن إليه ، وتركيب الرّاء ، والواو ، والحاء يفيد الحركة ، وهو الاهتزاز ، فكلّ ما يهتزّ له الإنسان ، ويلتذّ بوجوده فهو روح».

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (لا تيأسوا من روح الله) أي من رحمته (٣) وعن قتادة من فضل الله (٤) ، وقيل : من فرج الله (٥).

وقرأ الحسن (٦) ، وعمر بن عبد العزيز ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ بضمّ الراء.

قال الزمخشريّ : «لا تيأسوا ، أي : من رحمته التي يحيى بها العباد».

وقال ابن عطية : وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ؛ ومن هذا قول الشاعر : [الطويل]

٣١٤١ ـ ...........

وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع (٧)

ومن هذا قول عبيد بن الأبرص : [مخلع البسيط]

٣١٤٢ ـ وكلّ ذي غيبة يئوب

وغائب الموت لا يئوب (٨)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٠٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٤ والدر المصون ٤ / ٢١٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٤ والدر المصون ٤ / ٢١٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٤) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٩).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٥) عن ابن زيد وذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٦٩).

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٠٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٧٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٤ والدر المصون ٤ / ٢١٠.

(٧) ينظر البيت في روح المعاني ١٣ / ٤٤ ، البحر المحيط ٥ / ٧٣٣٤ والدر المصون ٤ / ٢١١.

(٨) ينظر : ديوانه (٢٦) ، وروح المعاني ١٣ ، واللسان «أرب» والتهذيب ١٥ / ٦٨٠ ، وشرح القصائد العشر ـ

١٩٤

وقرأ أبي (١) : من رحمة الله ، و «عند الله» : «من فضل الله» تفسير لا تلاوة.

وقال أبو البقاء (٢) : «والجمهور على فتح الرّاء ، وهو مصدر في معنى الرّحمة إلا أنّ استعمال الفعل منه قليل ، وإنّما يستعمل بالزّيادة ، مثل أراح ، وروّح ، ويقرأ بضمّ الرّاء ، وهي لغة فيه ، وقيل : هو اسم للمصدر ، مثل الشّرب والشّرب».

ثم قال : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) قال ابن عبّاس : إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ، ويحمده في الرّخاء (٣). واعلم أنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلّا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال ، أو غير عالم بجميع المعلومات ، أو ليس بكريم ، بل هو بخيل ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر ، والمعنى : أنّ اليأس لا يحصّل إلّا لمن كان كافرا ، والله أعلم.

فصل

روي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة : أنّ يعقوب كتب كتابا إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين حبس بنيامين :

«من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى ملك مصر ، أما بعد :

فإنا أهل بيت ، وكل بنا البلاء ، أما جدّي إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فشدّت يداه ، ورجلاه ، وألقي في النّار ؛ فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ، ووضع السّكين على قفاه ؛ ففداه الله ، وأمّا أنا فكان لي ابن ، وكان أحبّ أولادي إليّ ؛ فذهب به إخوته إلى البرّية ، ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدّم ، فقالوا : أكله الذّئب ؛ فذهبت عيناي ، ثمّ كان لي ابن ، وكان أخاه من أمه ، وكنت أتسلى به ، وإنّك حبسته ، وزعمت أنّه سرق ، وإنّا أهل بيت لا نسرق ، ولا نلد سارقا ، فإن رددته عليّ ، وإلّا دعوت عليك دعوة تدرك السّابع من ولدك» (٤).

فلما قرأ يوسف لم يتمالك البكاء ، [وعيل](٥) صبره ، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخطيب (٦) : في الآية سؤالات :

__________________

ـ (٥٤٠) ، والبحر المحيط ٥ / ٣٣٤ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٧٥ ، الجمهرة ١٠٠ ، والكامل ١ / ٢٦٧ ، والعقد الفريد ٥ / ٣٣٢ ، والدر المصون ٤ / ٢١١.

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٧٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٤ والدر المصون ٤ / ٢١١.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٨.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٩).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦).

(٥) في ب : وعجز.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٥٩.

١٩٥

الأول : أنّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدّ العظيم لا يليق إلا لمن كان غافلا عن الله ـ تعالى ـ ؛ لأنّ من عرف الله ؛ أحبه ، ومن أحبّ الله لم يتفرغ قلبه بحب شيء سوى الله ـ تعالى ـ وأيضا : القلب الواحد لا يسع الحب المستغرق لشيئين ، فلمّا كان قلبه مستغرقا في حبّ ولده ؛ امتنع أن يقال : إنّه كان مستغرقا في حبّ الله ـ تعالى ـ؟.

السؤال الثّاني : أنّه عند استيلاء الحزن الشّديد عليه ؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر الله ـ تعالى ـ والتفويض ، والتّسليم لقضائه.

وأما قوله : (يا أسفى على يوسف) ، فذلك لا يليق بأهل الدّين والعلم فضلا عن أكابر الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ أجمعين؟.

السؤال الثالث : لا شكّ أن يعقوب عليه الصلاة والسلام ـ كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه ، وجده ، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك ، ثم وقعت له واقعة هائلة في أعزّ أولاده ، لم تبق تلك الواقعة خفيّة ، بل لا بدّ ، وأن تبلغ في الشّهرة إلى حيث يعرفها كل أحد ، لا سيما ، وقد انقضت المدّة الطويلة فيها ، وبقي يعقوب على حزنه الشديد ، وأسفه العظيم ، وكان يوسف في مصر ، وكان يعقوب في بعض [بوادي](١) الشّام قريبا من مصر ، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية.

السؤال الرابع : لم لم يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنّه في الحياة ـ صلاة الله عليهما ـ وفي السّلامة ولا يقال : إنه كان يخاف إخوته ؛ لأنه بعد أن صار ملكا قاهرا يمكنه إرسال الرسول إليه ، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله؟.

السؤال الخامس : كيف جاز ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يضع الصّواع في وعاء أخيه ، ثم يستخرجه ويلصق به تهمة السرقة مع أنّه كان بريئا عنها.

السؤال السادس : كيف رغب في إلصاق هذه التّهمة له ، وحبسه عند نفسه مع أنّه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى؟.

والجواب عن الأول : أنّ مع مثل هذه المحبة الشّديدة يكون كثير الرّجوع إلى الله ـ تعالى ـ كثير الاشتغال بالدّعاء ، والتضرّع ، وذلك يكون سببا لكمال الاستغراق وعن الثاني : أنّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة ، فتارة كان يقول (يا أسفى على يوسف) وتارة كان يقول : (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) وأما بقية الأسئلة ، فالقاضي أجاب عنها فقال : هذه الوقائع الّتي نقلت إلينا إمّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن ، فإن كان الأوّل ، فلا إشكال وإن كان الثاني فنقول : كان الزّمان زمان الأنبياء ، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعد ، فلم يمتنع أن يقال : إنّ

__________________

(١) في ب : بلاد.

١٩٦

بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩٣)

قوله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ) الآية اتفق المفسّرون على أنّ هنا محذوفا ، وتقديره : فخرجوا راجعين إلى مصر ، ودخلوا على يوسف ، فقالوا : يا أيّها العزيز.

فإن قيل : إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه ، فلم عادوا إلى الشكوى؟.

فالجواب : أنّ المتحسّس يصل إلى مطلوبه بجميع الطّرق ، والاعتراف بالعجز ، وضموا رقّة الحال ، وقلّة المال ، وشدّة الحاجة ، وذلك ممّا يرقّق القلب ، فقالوا : نجرّبه في هذه الأمور ، فإن رقّ قلبه لنا ذكرنا له المقصود ، وإلا سكتنا ، فلهذا قدّموا ذكر ذلك فقالوا : «يا أيّها العزيز» والعزيز : الملك القادر الممتنع : «مسّنا وأهلنا الضّرّ» وهو الفقر ، والحاجة ، وكثرة العيال وقلّة الطّعام ، وعنوا بأهلهم من خلفهم.

قوله : «مزجاة» أي مدفوعة يدفعها كلّ أحد عنه لزهادته فيها ، ومنه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] أي : يسوقها بالريح ؛ وقال حاتم : [الطويل]

٣١٤٣ ـ ليبك على ملحان ضيف مدفّع

وأرملة تزجي مع اللّيل أرملا (١)

ويقال : أزجيت رديء الدرهم فزجي ، ومنه استعير زجا الجراح تزجو زجا وجراح زاج. وقول الشاعر : [البسيط]

٣١٤٤ ـ وحاجة غير مزجاة من الحاج (٢)

أي : غير يسيرة يمكن دفعها ، وصرفها لقلّة الاعتداد بها ، فألف «مزجاة» منقلبة عن واو.

__________________

(١) ينظر البيت في : اللسان «رمل» ، البحر ٥ / ٣٣٥ ، روح المعاني ١٣ / ٤٦ ، الطبري ١٦ / ٣٣٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١١.

(٢) ينظر البيت في : مجاز القرآن ١ / ٣١٧ ، اللسان «زجا» ، التهذيب ١١ / ١٥٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١١.

١٩٧

فصل

وإنّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمّا لنقصانها ، أو لدناءتها أو لهما جميعا ، قال بعضهم : المزجاة القليلة. وقيل : كانت رديئة.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطّعام (١) وقيل : أمتعة رديئة. وقيل : متاع الأعراب الصّوف والسّمن. وقيل : الحبة الخضراء ، وقيل : الأقط ، وقيل: النعال والأدم ، وقيل : سويق المقل (٢).

وقيل : إنّ الدّراهم كانت منقوشة عليها صورة يوسف ، والدّراهم الّتي جاءوا بها ، ما كان فيها صورة يوسف.

وإنّما سميت البضاعة القليلة الرّديئة مزجاة ، قال الزجاج : من قولهم : فلان يزجي العيش ، أي : يدفع الزّمان بالقليل ، أي : إنّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزّمان ، وليست مما ينتفع بها ، وعلى هذا فالتقدير ببضاعة مزجاة ندافع بها الأيام.

قال أبو عبيد : إنّما قيل للدّراهم الرّديئة مزجاة ؛ لأنّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممّن ينفقها ، قال : وهي من الإزجاء ، والإزجاء عند العرب : الدّفع.

وقيل : مزجاة ، أي : مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا يقبل مثلها إلّا من اضطر ، واحتاج إليها لفقد غيرها ممّا هو أجود منها.

وقال الكلبيّ : «مزجاة لغة العجم ، وقيل : هي من لفظ القبط».

قال ابن الأنباري : لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوبا إلى القبط.

وقرأ حمزة والكسائي (٣) : «مزجاة» بالإمالة ؛ لأن أصله الياء ، والباقون بالفتح والتفخيم.

ثمّ لما وصفوا شدّة حالهم ، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له : «فأوف لنا الكيل» يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة ، وأن يراد به الكيل ، فيكون مصدرا ، والمعنى إنّا نريد أن نقيم النّاقص مقام الزّائد أو نقيم الرّديء مقام الجيّد.

(وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد ، والرّديء ، وسامحنا ولا تنقصنا.

وقال ابن جريج ، والضحاك ، أي : تصدّق علينا بردّ أخينا لنا : (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) يثيب المتصدقين (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٥ ، ٢٨٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٢) وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٥٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٩) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ.

١٩٨

قال الضحاك : لم يقولوا : إنّ الله يجزيك ؛ لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن (١).

وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيّنا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؟.

قال سفيان : ألم تسمع قوله : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)(٢).

يريد : أنّ الصّدقة كانت حلالا لهم ، وأنكر الباقون ذلك ، وقالوا : حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء في طلب الصّدقة سواء ؛ لأنّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله ، والاستغناء به عمّن سواه.

وروي عن الحسن ومجاهد : أنّهما كرها أن يقول الرّجل في دعائه : اللهمّ تصدّق علينا ، قالوا : لأنّ الله لا يتصدّق ، وإنّما التّصدّق بمعنى الثّواب ، وإنما يقول اللهمّ أعطني وتفضّل علينا(٣).

فصل

قال القرطبيّ : «استدلّ العلماء بهذه الآية على أنّ أجرة الكيال على البائع ، لقولهم ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ «فأوف لنا الكيل» فكان يوسف هو الذي يكيل ، وكذلك الوزّان ، والعدّاد وغيرهم ؛ لأنّ الرّجل إذا باع عدّة من طعامه معلومة ، وأوجب العقد عليه ؛ وجب عليه أن يبرزها ، ويميّز حقّ المشتري من حقّه إلا إن كان المبيع فيه معينا صبره ، أو ما ليس فيه حق موفيه ، فيخلي ما بينه وبينه ، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع ، وليس كذلك ما يتعلّق به حقّ موفيه من كيل أو وزن ، ألا ترى : أنّه لا يستحقّ البائع الثمن إلّا بعد التّوفية ، وكذلك أجرة النقد على البائع أيضا ؛ لأنّ المتباع الدّافع لدراهمه يقول : إنّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرّداءة ، فانظر لنفسك ، ليقع له فكان الأجر عليه ، وكذلك لا يجب أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع يد نفسه ، ولا أن يمكن من ذلك طائعا ؛ ألا ترى أنّ فرضا عليه أن يفدي يده ، ويصالح عليه ، إذا طلب المقتص ذلك.

وقال الشّافعيّ : إن الأجرة على المقتص منه كالبائع ؛ لأنّه يجب عليه تسليم يده.

فصل

روي : أنهم لما قالوا : «مسّنا وأهلنا الضّرّ» وتضرّعوا إليه ، أدركته الرّقّة ، فارفضّ دمعه ، فباح بالذي كان يكتم ، فقال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) وقيل : دفعوا إليه

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٦).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٨٩) وذكره البغوي (٢ / ٤٤٦).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٦٣) عن مجاهد وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر.

١٩٩

كتاب يعقوب ، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرّ جلده ، ولان قلبه ، وكثر بكاؤه ؛ فصرح بأنه يوسف.

قوله : (هَلْ عَلِمْتُمْ) يجوز أن تكون استفهامية للتّوبيخ ، وهو الأظهر وقيل : هو خبر و «هل» بمعنى «قد».

وقال الكلبيّ : «إنما قال : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) حين حكى لإخوته أنّ مالك بن دعر قال : إنّي وجدت غلاما في بئر من حاله كيت وكيت فابتعته بكذا وكذا درهما ، فقالوا أيّها الملك : نحن بعنا ذلك الغلام منه ؛ فغاظ يوسف ـ عليه‌السلام ـ ذلك ، وأمر بقتلهم ، فذهبوا بهم ليقتلوهم ، فولى يهوذا وهو يقول : كان يعقوب قد حزن لفقد واحد منّا حتّى كفّ بصره ، فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلّهم ، ثم قالوا له : إن فعلت ذلك ، فابعث بأمتعتنا إلى أبينا ، فإنّه بمكان كذا وكذا ، فذلك حين رحمهم وبكى ، وقال ذلك القول» (١).

وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، وأمّا قوله : «وأخيه» فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمّه ، وأيضا : كانوا يؤذونه ، ومن جملة الإيذاء ، قالوا في حقه : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وأما قوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فهو يجري مجرى الغدر لهم كأنه قال : أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم في حالة الصّبا ، وفي جهالة الغرور ، يعني : والآن لستم كذلك ، ونظيره قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] وقيل : إنما ذكر ـ تعالى ـ ذلك الوصف ليكون ذلك جاريا مجرى الجواب ، فيقول العبد : يا ربّ غرّني كرمك ، فكذا ههنا إنّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم ، وتخفيفا للأمر عليهم.

وقيل : المعنى : إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه.

فإن قيل : كيف قال : (ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء ، ولم يسعوا في حبسه؟.

قيل : هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله : ما رأينا منكم يا بني راحيل إلّا البلاء.

وقيل : تفريقهم بينه ، وبين أخيه يوسف ، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف.

قوله : «أئنّك» قرأ ابن كثير (٢) ، وأبو جعفر : «إنّك» بهمزة واحدة على الخبر

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧).

(٢) ينظر : السبعة ٣٥١ والحجة ٤ / ٤٧٧ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٦ وقرأ بها أيضا ورش ينظر : حجة القراءات ٣٦٣ والإتحاف ٢ / ١٥٣ وقرأ بها أيضا قتادة وابن محيصن ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٧ وينظر : الدر المصون ٤ / ٢١١.

٢٠٠