اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

أحدهما : أنّها في محلّ نصب على الحال ، وساغ ذلك من النكرة ؛ لتخصّصها بالوصف.

والثاني : أن تكون في محلّ رفع ؛ نعتا ثانيا ل «طعام».

والتقدير : لا يأتيكما طعام مرزوق إلا حال كونه منبّأ بتأويله ، أو منبّأ بتأويله ، و «قبل» الظاهر أنّها ظرف ل «نبّأتكما» ، ويجوز أن يتعلق بتأويله ، أي : نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه.

فصل

قيل : إنّ جماعة من أهل مصر ، أرادوا المكر بالملك ، فضمنوا لهذين الرجلين مالا ، ليسمّا الملك في طعامه ، وشرابه ، فأجاباهم ، ثمّ إن الساقي نكل عنه ، وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطّعام ، فلما أحضروا الطعام ، قال السّاقي : لا تأكل أيّها الملك ؛ فإنّ الطعام مسموم ، وقال الخبّاز : لا تشرب أيها الملك ؛ فإنّ الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب ، فشربه فلم يضرّه ، وقال للخبّاز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرّب ذلك الطعام على دابّة ، فأكلته : فهلكت ؛ فأمر الملك بحبسهما.

وكان يوسف حين دخل السّجن ، جعل ينشر علمه ، ويقول : إنّي أعبّر الأحلام ، فقال أحد الفتيين لصاحبه : هلمّ فلنجرب هذا العبد العبرانيّ ، فتراءيا له ، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا.

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «ما رأيا شيئا وإنّما تحالما ليجرّبا يوسف» (١) ـ عليه‌السلام ـ.

وقيل : بل رأيا حقيقة ، فرآهما يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهما مهمومان ، فسألهما عن شأنهما ، فذكرا أنّهما صاحبا الملك ـ حبسهما ـ وقد رأيا رؤية همّتهما ، فقال يوسف ـ صلوات الله ، وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ : قصّا عليّ ما رأيتما! فقصّا عليه ، فعبّر لهما ما رأياه ، وعرف حرفة كلّ واحد من منامه.

وتأويل الشّيء ، ما يرجع إليه ، وهو الذي يئول إليه آخر ذلك الأمر.

ثم قالا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : في أمر الدين ، أي : نراك تؤثر الإحسان ، وتأتي مكارم الأخلاق.

وقيل : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) في علم التعبير ؛ وذلك أنّه حين عبّر لم يخطىء.

[وقيل : إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم ، فقالوا إنّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب](٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٢).

(٢) سقط من : ب.

١٠١

فصل في حقيقة علم التعبير

وحقيقة علم التّعبير : أنه ـ تعالى ـ خلق جوهر النّفس الناطقة ، بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ، ومطالعة اللّوح المحفوظ ، والمانع لها من ذلك : اشتغالها بتدبير البدن ، فوقت يقلّ هذا الاشتغال ، يقوى على هذه المطالعة ، فإن وقعت على حالة من الأحوال ، تركت آثارا مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الرّوحاني ، إلى علم الخيال ، فالمعبّر يستدلّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيّة.

قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «الرّؤيا ثلاثة : رؤيا ما يحدّث الرّجل به نفسه ، ورؤيا تحدث من الشّيطان ، ورؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النّبوّة» (١).

فصل

في قول يوسف ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له. روي أنّ الفتيين لمّا رأيا يوسف ، قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : ناشدتكما ، لا تحبّاني ؛ فو الله ما أحبّني أحد قط ؛ إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء ، لقد أحبّتني عمّتي ، فدخل عليّ بلاء ، ثم أحبّني أبي ، فألقيت في الجبّ ، وأحبّتني امرأة العزيز ، فحبست.

فلما قصّا عليه الرؤية ، كره يوسف أن يعبّر لهما ما سألاه ، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره ، من إظهار المعجزة ، والدّعاء إلى التّوحيد.

فقال : «لا يأتيكما طعام ترزقانه» قيل : أراد به في النوم ، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه (٢) في نومكما ، إلّا نبأتكما بتأويله في اليقظة ، وقيل : أراد به في اليقظة ؛ فقوله (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في منازلكما تطعمانه ، وتأكلانه «إلّا نبّأتكما» أخبرتكما «بتأويله» بقدره ، ولونه ، والوقت الذي يصل إليكما ، قبل أن يصل ، وأيّ طعام أكلتم ، وكم أكلتم ومتى أكلتم.

وهذا مثل معجزة عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حيث قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].

فقال : هذا فعل القوّافين والكهنة ، فمن أين لك هذا العلم؟.

فقال : ما أنا بكاهن ، وإنما ذلك العلم مما علّمني ربّي.

ثم قال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ، وفيه سؤال:

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٣٩٠٧) وأحمد (٢ / ٣٩٥) وعبد الرزاق (٢٠٣٥٢) والحاكم (٣ / ٣٩٠).

(٢) سقط من : ب.

١٠٢

وهو قوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) يوهم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان في هذه الملّة؟.

والجواب من وجوه :

الأول : أنّ التّرك عبارة عن عدم التعرّض للشيء ، وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضا فيه.

والثاني : أن يقال : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عبدا لهم ـ بحسب زعمهم ـ ولعلّه ـ قبل ذلك ـ كان لا يظهر التوحيد ، والإيمان ؛ خوفا منهم ، ثم إنّه أظهره في هذا الوقت ؛ فكان هذا جاريا مجرى ترك ملّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر.

قوله : (إني تركت) يجوز أن تكون هذه مستأنفة ، أخبر بذلك عن نفسه ، ويجوز أن تكون تعليلا لقوله : (ذلك مما علمني ربي) ، أي : تركي عبادة غير الله ، سبب لتعليمه إيّاي ذلك ، وعلى الوجهين لا محلّ لها من الإعراب ، و «لا يؤمنون» : صفة ل «قوم».

وكرّر «هم» في قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ؛ قال الزمخشريّ : «للدّلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة ، وأنّ غيرهم مؤمنون بها».

قال أبو حيّان (١) : «وليست «هم» عندنا تدلّ على الخصوص».

قال شهاب الدّين (٢) : «لم يقل الزمخشريّ إنها تدلّ على الخصوص ، وإنّما قال : «وتكرير «هم» للدلالة على الخصوص» فالتكرير هو الذي أفاد الخصوص وهو معنى حسن».

وقيل : «كرّر «هم» ؛ للتوكيد.

وسكّن الكوفيّون الياء (٣) من : «آبائي» ، ورويت عن أبي عمرو ، وإبراهيم ، وما بعده : بدل ، أو عطف بيان ، أو منصوب على المدح.

قوله (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، لمّا ادّعى النبوة ، وتحدّى بالمعجزة ـ وهو علم التّعبير ـ قرّر كونه من أهل النبوة ، وأنّ أباه وأجداده كانوا أنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجده ، لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا : فكما أنّ درجة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإسحاق ، ويعقوب ، كان أمرا مشهورا في الدنيا ، فإذا ظهر أنّه ولدهم ، عظّموه ، ونظروا إليه بعين الإجلال ؛ فكان انقيادهم له أتمّ وتتأثر قلوبهم بكلامه.

فإن قيل : إنّه كان نبيّا ، فكيف قال : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي) ، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصا بشريعة نفسه؟.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٨٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٩ والدر المصون ٤ / ١٨٣.

١٠٣

فالجواب : لعلّ مراده أنّ التوحيد لا يتغيّر ، ولعله كان رسولا من عند الله ؛ إلّا أنه كان على شريعة إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء المرسلين ـ.

قوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) فيه سؤال :

وهو أنّ حال كلّ من المكلفين كذلك؟.

والجواب : ليس المراد بقوله : «ما كان لنا» أنّه حرّم ذلك عليهم ، بل المراد أنه ـ تبارك وتعالى ـ طهّره ، وطهر آباءه عن الكفر ؛ كقوله (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥].

قوله : «من شيء» يجوز أن يكون مصدرا ، أي : شيئا من الإشراك ، ويجوز أن يكون واقعا على الشّرك ، أي : ما كان لنا أن نشرك شيئا غيره من ملك ، أو إنس ، أو جنّ ، فكيف بصنم؟.

و «من» [مزيدة](١) على التّقديرين ؛ لوجود الشرطين.

ثم قال «ذلك» ، أي : التّوحيد والعلم (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) ، بما بيّن لهم من الهدى ؛ (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم الله على الإيمان.

حكي أنّ واحدا من أهل السّنّة دخل على بشر بن المعتمر ، وقال له : يا هذا : هل تشكر الله على الإيمان أم لا؟ فإن قلت لا ، فقد خالفت الإجماع ، وإن شكرته ، فكيف تشكره على ما ليس فعلا له؟.

فقال له بشر : إنّا نشكر الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة ، والعقل ، والآلة ، فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة ، فأمّا أن نشكره على الإيمان ، مع أنّ الإيمان ليس فعلا ، فذلك باطل ، فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس ، وقال : إنّا لا نشكر الله على الإيمان ، بل الله يشكرنا عليه ؛ كما قال تعالى : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] فقال بشر : «لمّا صعب الكلام ، سهل».

قال ابن الخطيب (٢) : «واعلم أنّ الذي اقترحه ثمامة باطل ؛ بنص هذه الآية ؛ لأنّه ـ تعالى ـ بين أن عدم الإشراك من فضل الله ، ثم بيّن أنّ أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة ، وإنما ذكره على سبيل الذّمّ ، فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله على نعمة الإيمان ، وحينئذ تقوى الحجّة ، وتكمل الدلالة».

قال القاضي (٣) : قوله : «ذلك» إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد ، فهو من فضل الله ـ تعالى ـ لأنه إنما حصل بإلطافه ، وتسهيله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة.

والجواب : أنّ «ذلك» إشارة إلى المذكور السابق ، وذلك هو ترك الإشراك فوجب

__________________

(١) في ب : زائدة.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١١١.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١١١.

١٠٤

أن يكون ترك الإشراك من فضل الله ـ تعالى ـ والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل ؛ فكان هذا تركا للظاهر ، وأمّا صرفه إلى النبوة ، فبعيد ؛ لأن اللفظ الدالّ على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات ، وهو هنا عدم الإشراك.

قوله تعالى : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) : يجوز أن يكون من باب الإضافة للظرف ؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السّجن ، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمفعول به ، والمعنى: يا ساكني السّجن ، وذكر الصّحبة ، لطول مقامهما فيه ؛ كقوله تعالى : (أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤ ـ ٥٠].

وقوله : (أَمِ اللهُ) ، هنا : متّصلة ؛ عطفت الجلالة على «أرباب».

فصل

اعلم أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما ادّعى النبوة في الآية الأولى ، وكان إثبات النبوة مبنيّا على إثبات الإلهيّة ، لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ، ولما كان أكثر الخلق مقرّين بوجود الإله العالم القادر ، وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناما على صور الأرواح الفلكية ، ويعبدونها ، ويتوقّعون حصول النّفع (١) والضّر منها ، لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ في المنع من هذه ، وكان الأمر على هذا إلى زمان يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين ـ.

فلهذا السبب ، شرع في ذكر ما يدلّ على فساد العقول بعبادة الأصنام ؛ فقال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار ، وتقرير فساد القول (٢) بعبادة الأصنام : أنه ـ تعالى ـ بيّن أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم ؛ لقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] فلمّا قرّر أنّ كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد ، وكون الإله واحد ، يقتضي حصول الانتظام ، وحسن الترتيب ـ قال هاهنا : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ).

وأما تقرير كون كثرة الآلهة ، توجب الخلل والفساد (٣) في العالم : أنّه لو كان اثنان أو ثلاثة ، لم نعلم من الذي خلقنا ، ورزقنا ، ودفع الآفات عنّا ؛ فيقع الشّرك في أنّا نعبد هذا أم ذاك.

ومعنى : كونهم متفرقين ، أي : شتّى ، هذا من ذهب ، وهذا من فضة ، وهذا من حديد ، وهذا أعلى ، وهذا أوسط ، وهذا أدنى ، متباينون لا تضر ولا تنفع.

(خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، «الواحد» : لا ثاني له ، «القهّار» : الغالب على الكلّ.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) في ب : العقول.

(٣) سقط من : ب.

١٠٥

ثمّ عجز الأصنام ، فقال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً) أي : من دون الله ، وإنما ذكر بلفظ الجمع ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين ؛ لأنه أراد جميع أهل السّجن ، وكلّ من هو على مثل حالهما من الشرك.

فإن قيل : لم سمّاها أربابا ، وليست كذلك؟.

فالجواب : لاعتقادهم فيها أنّها كذلك ، وأيضا : الكلام خرج على سبيل الفرض ، والتقدير ، والمعنى : أنّها إن كانت أربابا ، فهي خير أم الله الواحد القهار؟.

فإن قيل : كيف يجوز التفاضل بين الأصنام ، وبين الله ـ تعالى ـ حتّى قيل : إنها خير أم الله؟.

فالجواب : أنّه خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنّه حصل فيها ما يوجب الخير ، فهي خير أم الله الواحد القهار؟.

قوله تعالى (إِلَّا أَسْماءً) ، إما أن يراد بها المسميات ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوات المسمّيات ، و «سمّيتموها» : صفة ، وهي متعدية لاثنين حذف ثانيهما ، أي : سمّيتموها آلهة.

و «ما أنزل» : صفة ل «أسماء» ، و «من» : زائدة في : «من سلطان» ، أي : حجّة.

و «إن الحكم» : «إن» نافية ، ولا يجوز الإتباع بضمّة الحاء ؛ كقوله : (وَقالَتِ اخْرُجْ) [يوسف : ٣١] ، ونحوه ؛ لأنّ الألف واللام كلمة مستقلة ، فهي فاصلة بينهما.

فصل

قال في الآية : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ، وذلك يدلّ على وجود هذه المسميات ، ثم قال في عقبه : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) ، وهذا يدلّ على أنّ المسمى غير حاصل ، وبينهما تناقض.

والجواب : أنّ الذوات موجودة حاصلة إلّا أنّ المسمى بالإله غير حاصل ؛ وبيانه من وجهين :

الأول : أن ذوات الأصنام ، وإن كانت موجودة ، إلّا أنّها غير موصوفة بصفات الإلهية ، وإذا كان كذلك ، كان الشيء الذي هو مسمّى بالإلهيّة في الحقيقة غير موجود ، ولا حاصل.

الثاني : روي أنّ عبدة الأصنام مشبهة ، فاعتقدوا أنّ الإله هو النور الأعظم ، وأن الملائكة أنوار صغيرة ؛ فوضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأرباب ، ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار ، ثمّ إنّ جماعة ممن يعبدون الأصنام ، قالوا : نحن لا نقول إنّ هذه الأصنام آلهة للعالم ، بمعنى أنّها هي التي خلقت العالم ، إلّا أنّا نسميها آلهة نعبدها ؛ لاعتقادنا أنّ الله أمرنا بذلك.

١٠٦

فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه ، فقال : أمّا تسميتها بالآلهة ، فما أمر الله بذلك ولا أنزل في هذه التّسمية حجّة ، ولا برهانا ، وليس لغير الله حكم يجب قبوله ، ولا أمر يجب إلزامه بل الحكم والأمر ليس إلّا لله.

ثم إنه تعالى : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : لأنّ العبادة نهاية التعظيم ؛ فلا يليق إلّا بمن حصل منه : الخلق ، والإحياء ، والعقل ، والرزق ، والهداية ، ونعم الله كثيرة ، وإحسانه إلى الخلق غير متناه.

ثم قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، وذلك أنّ أكثر الخلق ينسبون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية ، والمناسبات الكوكبيّة ؛ لأجل أنه تقرر في العقول أنّ الحادث لا بدّ له من سبب ، فاعتبروا أحوال الشمس في أرباع الفلك ، وربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس.

ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النّبات والحيوان ، تختلف باختلاف الفصول الأربعة غلب على طباع أكثر الخلق ، أنّ المدبّر [لحدوث](١) الحوادث في العالم ، هو الشمس والقمر ، وسائر الكواكب.

ثم إنه ـ تعالى ـ إذا وفّق إنسانا حتّى ترقّى في هذه الدّرجة ، وعرف أنّها في ذواتها ، وصفاتها مفتقرة إلى موجود ، مبدع قادر ، قاهر ، عليم ، حكيم ، فذلك الشخص يكون في غاية النّدرة ؛ فلهذا قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

قوله «أمر» يجوز أن يكون مستأنفا ، وهو الظاهر ، وأن يكون حالا ، و «قد» معه مرادة عند بعضهم.

قال أبو البقاء (٢) : وهو ضعيف لضعف العامل فيه.

يعني بالعامل : ما تضمنه الجارّ في قوله «إلّا الله» من الاستقرار.

قوله تعالى : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي) ، العامّة على فتح الياء ، من سقاه يسقيه ، وقرأ عكرمة (٣) في رواية «فيسقي» بضم حرف المضارعة من «أسقى» وهما لغتان ، قال : سقاه ، وأسقاه ، وسيأتي أنّهما قراءتان في السبع ، و (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل : ٦٦] ، وهل هما بمعنى أم بينهما فرق؟.

ونقل ابن عطيّة (٤) ، عن عكرمة ، والجحدريّ : أنّهما قرءا «فيسقى ربّه» (٥) مبنيّا للمفعول ، ورفع «ربّه» ، ونسبها الزمخشريّ لعكرمة فقط.

__________________

(١) في ب : دون.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١٠ والدر المصون ٤ / ١٨٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤٦.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٤٦ والبحر المحيط ٥ / ٣١٠ والدر المصون ٤ / ١٨٤.

١٠٧

فصل

اعلم أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لما قرّر التوحيد والنبوة ، عاد إلى الجواب عن السّؤال الذي ذكر ، ففسّر رؤياهما ، فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما) ، وهو صاحب الشّراب (فَيَسْقِي رَبَّهُ) : يعني الملك ، وأما الآخر : يعني الخبّاز ، فيدعوه الملك ، ويخرجه ، ويصلبه ؛ فتأكل الطير من رأسه.

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «لمّا سمعا قول يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قالا : ما رأينا شيئا إنّما كنّا نلعب» ، قال يوسف : «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» (١).

فإن قيل : هذا الجواب الذي ذكره يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكره ؛ بناء على أنّ الوحي من قبل الله ـ تعالى ـ أو بناء على علم التّعبير.

والأول باطل ؛ لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ نقل أنه إنّما ذكره على سبيل التعبير ، وأيضا قال الله : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) ، ولو كان ذلك التعبير مبنيّا على الوحي ، كان الحاصل منه القطع واليقين ، لا الظنّ والتّخمين.

والثاني ـ أيضا ـ باطل ؛ لأن علم التعبير مبنيّ على الظنّ ، والقضاء : هو الإلزام والجزم والحكم البتّ (٢) ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنّ والحسبان؟.

والجواب : لا يبعد أن يقال : إنهما سألاه عن ذلك المنام ، صدقا فيه أو كذبا ، فإنّ الله ـ تعالى ـ أوحى إليه أنّ عاقبة كلّ واحد منهما تكون على ذلك الوجه المخصوص ، فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال ، وقع في الظنّ أنّه ذكره على سبيل [التّعبير](٣).

ولا يبعد ـ أيضا ـ أن يقال : إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير.

وقوله «قضي الأمر الّذي فيه تستفتيان» ما عنى به أنّ الذي ذكره واقع لا محالة ، بل عنى أنّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره.

قوله «قضي الأمر» قال الزمخشريّ (٤) : «ما استفتيا في أمر واحد ، بل في أمرين مختلفين ، فما وجه التوحيد؟ قلت : المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك ، وما سجنا من أجله ، والمعنى : فرغ من الأمر الذي عنه تسألان».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١٨ ، ٢١٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) سقط من : ب.

(٣) في ب : التعيين.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧١.

١٠٨

قوله تعالى : (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَ) ، فاعل «ظنّ» : يجوز أن يكون يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ، وأن يكون الشّرابي إن كان تأويله بطريق الوحي ، أو يكون الظنّ بمعنى اليقين ؛ كقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ، و (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] ، قاله الزمخشريّ. يعني أنه إن كان الظنّ على بابه ، فلا يستقيم إسناده إلى يوسف ؛ إلّا أن يكون تأويله بطريق الاجتهاد ، لأنه متى كان بطريق (١) الوحي ، كان يقينا ؛ فينسب الظنّ حينئذ للشرابيّ لا ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وأمّا إذا كان الظنّ بمعنى اليقين ، فيصح نسبته إلى يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن كان تأويله بطريق الوحي.

وذهب قتادة : إلى كون الظن على بابه ـ وهو مسند إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد ـ ، فإنه قال : «الظنّ هو على بابه ؛ لأنّ عبارة الرّؤيا ظنّ» (٢).

قوله : «منهما» ، يجوز أن يكون صفة ل «ناج» ، وأن يتعلّق بمحذوف ؛ على أنّه حال من الموصول.

قال أبو البقاء (٣) : «ولا يكون متعلقا ب «ناج» لأنّه ليس المعنى عليه» قال شهاب الدين : لو تعلق ب «ناج» (٤) لأفهم (٥) أنّ غيرهما نجا منهما ، أي : انفلت منهما ، والمعنى : أنّ أحدهما هو النّاجي ، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيد توهّمه.

والضمير في «فأنساه» ، يعود على الشرابيّ ، وقيل : على يوسف ؛ وهو ضعيف.

فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه

قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ للناجي من الرجلين : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، أي : عند الملك ، أي : اذكرني عنده أنّه مظلوم من جهة إخوته ، لما أخرجوه ، وباعوه ، ثم إنّه مظلوم في هذه الواقعة ؛ التي لأجلها حبس.

ثم قال تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) قيل : أنسى الساقي ذكر يوسف للملك ، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره لربه.

ورجّح بعض العلماء هذا القول ، فقال : لو أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر الله ، لما استحقّ العقاب باللّبث في السّجن ؛ إذ النّاسي غير مؤاخذ.

__________________

(١) في ب : يطابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٧١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٣.

(٤) سقط من : ب.

(٥) في ب : لئلا يفهم.

١٠٩

وقد يجاب عن ذلك بأنّ النّسيان قد يكون بمعنى التّرك ، فلما ترك ذكر الله ، ودعاه الشّيطان إلى ذلك ، عوقب.

وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ، فدلّ على أن النّاسي هو السّاقي لا يوسف ، مع قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، فكيف يصحّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان ، وليس له على الأنبياء سلطان؟.

وأجيب عن هذا بأن النسيان لا عصمة للأنبياء عنه ، إلّا في وجه واحد وهو الخبر من الله تعالى ، فيما يلقّونه ؛ فإنّهم معصومون فيه ، وإذا وقع منهم النسيان حيث يجوز وقوعه ، فإنّه ينسب إلى الشيطان ؛ وذلك إنّما يكون فيما أخبر الله عنهم ، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم ، قالعليه‌السلام : «نسي آدم فنسيت ذريته» وقال : «إنّما أنا بشر ، أنسى كما تنسون».

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وعليه الأكثرون : «أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه ؛ حتّى ابتغى الفرج من غيره ، واستعان بمخلوق ؛ وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشّيطان»(١).

«فلبث» : مكث «في السّجن بضع سنين» قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أخي يوسف ؛ لو لم يقل : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ؛ ما لبث في السّجن» (٢) ، ومما يدلّ على أنّه المراد قوله (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف (٣). واعلم أنّ الاستعانة بغير الله في دفع الظلم ، جائزة في الشريعة ، لا إنكار عليه.

وإذا كان كذلك ، فلم صار يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ مؤاخذا بهذا القدر؟ وكيف لا يصير مؤاخذا بالإقدام على الزّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [أولى]؟.

فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدر ، ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتّة ، وما عابه ، بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء ـ علمنا أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان مبرّأ ممّا نسبوه إليه.

فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه

قال الزجاج (٤) : «اشتقاق البضع من بضعت بمعنى قطعت».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات والطبراني وابن مردويه.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧) وعزاه إلى أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن مرسلا.

وذكره أيضا عن أبي هريرة وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ١١٢.

١١٠

قال النّواوي : «والبضع بكسر الباء ، وقد تفتح : ومعناه القطعة من العدد».

قال الفراء (١) : لا تذكر إلّا مع عشرة ، أو عشرين إلى التّسعين ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصا بما بين الثلاثة إلى التسعة ، قال : وهكذا رأيت العرب يقولون ، وما رأيتهم يقولون : بضع ومائة ، قال : وإنما يقال نيّف ومائة ؛ والقرآن يردّ عليه.

ويقال : بضع نسوة ، وبضعة رجال.

روى الشعبيّ ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : كم البضع؟ قال : «ما دون العشرة».

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «ما دون العشرة» (٢).

وقال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ : ما بين الثّلاث إلى السّبع (٣).

وقيل إلى الخمس.

وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ : ما بين الثّلاث إلى التّسع (٤).

وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين ، وقد لبث قبله خمس سنين فجملته ، اثنتا عشرة سنة.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «لما تضرّع يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لذلك الرجل ، كان قد قرب وقت خروجه ، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين»(٥).

وقيل : البضع : فوق الخمسة ودون العشرة.

وقد تقدم عند قوله (بِضاعَةً) [يوسف : ١٩] ، والبعض قد تقدّم أنه من هذا المعنى ، عند ذكر البعوضة.

وفي المدّة التي أقامها يوسف في السجن أقوال :

أحدها : قال ابن جريج ، وقتادة ، ووهب بن منبّه : أقام أيوب في البلاء سبع سنين ، وأقام يوسف في السّجن سبع سنين (٦).

وقال ابن عباس : اثنتي عشرة سنة (٧).

وقال الضحاك : أربع عشرة سنة (٨).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٤٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢٢) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٨).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٢٢) عن قتادة ومجاهد وذكره البغوي (٢ / ٤٢٨) والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٨).

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١١٧).

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٨).

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ١٣٠) عن ابن عباس.

(٨) ينظر : المصدر السابق.

١١١

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩)

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) الآية.

اعلم أنّه ـ تعالى عزوجل ـ إذا أراد شيئا ، هيّأ أسبابه ، ولما دنا فرج يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ، ثم خرج عقيبهنّ (١) سبع بقرات عجاف في غاية الهزال ، فابتلعت العجاف السّمان ، ورأى سبع سنبلات خضر ، قد انعقد حبّها ، وسبعا أخر يابسات ، قد استحصدت ، فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها ، فلم يبق من خضرتها شيء ؛ فجمع الكهنة ، والسّحرة ، والنجامة ، والمعبّرين ، وقصّ عليهم رؤياه ؛ وهو قوله (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، أخلاط أحلام مشتبهة أهاويل.

فصل

قال عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : «المعز (٢) والبقر إذا دخلت المدينة ، فإن كانت سمانا ، فهي سني رخاء ، وإن كانت عجافا ، كانت شدادا ، وإن كانت المدينة مدينة بحر ، وإبّان سفر ، قدمت سفن على عددها ، وحالها ؛ وإلّا كانت فتنا مترادفة كأنها وجوه البقر يشبه بعضها بعضا ؛ كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الفتن : «كأنّها صياصيّ البقر» ؛ لتشابهها ، إلّا أن تكون صفرا كلّها ، فإنّها أمراض تدخل على النّاس ، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون ، وكان الناس ينفرون منها ، أو كان النار والدخان يخرج من أفواهها ؛ فإنها عسكر ، أو غارة أو عدوّ ، يضرب عليهم ، وينزل بساحتهم ، وقد تدلّ البقرة على الزّوجة ، والخادم ، والغلّة والسّنة : لما يكون فيها من الغلّة ، والولد ، والنبات».

قوله «سمان» ، صفة ل «بقرات» ، وهو جمع سمينة ، ويجمع «سمين» أيضا عليه يقال : رجال سمان ونساء سمان ؛ كما يقال : رجال كرام ونساء كرام ، و «السّمن» :

__________________

(١) في ب : عليهن.

(٢) سقط في : ب.

١١٢

مصدر سمن يسمن فهو سمين ، فالاسم والمصدر ، جاءا على غير قياس ؛ إذ قياسهما «سمن» بفتح الميم ـ فهو سمن بكسرها ؛ نحو فرح فرحا فهو فرح.

قال الزمخشريّ (١) : «فإن قلت : هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للتمييز : وهو بقرات دون المميّز : سبع ، وأنّ نقول : سبع بقرات سمانا؟ قلت : إذا أوقعتها صفة ل «بقرات» ، فقد قصدت إلى أن تميّز السبع بنوع من البقرات ، وهو السّمان منهن ، لا بجنسهنّ ، ولو وصفت السبع بها ، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ، ثم رجعت فوصفت المميّز بالجنس بالسمن.

فإن قلت : هلا قيل : «سبع عجاف» على الإضافة.

قلت : التمييز (٢) موضوع الجنس ، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده ، فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسان ، وخمسة أصحاب ، لبيان ؛ قلت : الفارس ، والصاحب ، والرّاكب ، ونحوها صفات جرت مجرى الأسماء ؛ فأخذت حكمها ، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها ، ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام ولا أربعة غلاظ. فإن قلت : ذلك مما يشكل ، وما نحن بسبيله لا إشكال فيه ، ألا ترى أنه لم يقل : وبقرات سبع عجاف ؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات (٣) قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل ، وقد وقع الاستغناء عن قولك : سبع عجاف عمّا تقترحه من التمييز بالوصف» انتهى.

وهي أسئلة وأجوبة حسنة ، وتحقيق السؤال الأول وجوابه : أنه يلزم من وصف التّمييز بشيء وصف المميز به ، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز (٤) بذلك الشيء ؛ بيانه : أنك إذا قلت : «عندي أربعة رجال حسان» بالجر ، كان معناه : أربعة من الرجال الحسان ؛ فيلزم حسن الأربعة ؛ لأنهم بعض الرجال الحسان ، وإذا قلت : عندي أربعة رجال حسان برفع حسان كان معناه : أربعة من الرجال حسان ، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن.

وتحقيق الثاني وجوابه : أنّ أسماء العدد لا تضاف إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [العدد](٥) ؛ فيقال : عندي ثلاثة قرشيّون ، ولا يقال ثلاثة قرشيّين بالإضافة إلا في شعر ، ثم اعترض بثلاثة فرسان ، وأجاب بجريان ذلك مجرى الأسماء.

وتحقيق الثالث : أنه إنّما امتنع «ثلاثة ضخام» ونحوه ؛ لأنه لا يعلم موصوفه ، بخلاف الآية الكريمة ، فإنّ الموصوف معلوم ، ولذلك لم يصرح به.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٣.

(٢) سقط من : ب.

(٣) سقط من : ب.

(٤) سقط من : ب.

(٥) في ب : الأعداد.

١١٣

وأجاب عن ذلك : بأنّ الأصل عدم إضافة العدد إلى الصّفة كما تقدم ، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع.

وبالجملة : ففي هذه العبارة قلق ، هذا ملخّصها.

ولم يذكر أبو حيّان نصه ولا اعترض عليه ، بل لخّص بعض معانيه ، وتركه على إشكاله.

فصل في اشتقاق «عجاف»

جمع عجفاء : عجاف والقياس : عجف ؛ نحو : حمراء ، وحمر ؛ حملا له على سمان ؛ لأنّه نقيضه ، ومن دأبهم حمل النظير على النظير ، والنّقيض على النقيض ، قاله الزمخشريّ (١).

والعجف : شدة الهزال الذي ليس بعده هزال ؛ قال : [الكامل]

٣١٠٦ ـ عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف (٢)

قال الليث : العجف : ذهاب السّمن ، والفعل : عجف يعجف ، والذّكر : أعجف ، والأنثى : عجفاء ، والجمع عجاف في الذكران والإناث.

وليس في كلام العرب : أفعل ، وفعلاء ، وجمعها على : فعال غير أعجف ، وعجاف ، وهي شاذة حملوها على لفظ سمان ، وعجاف ؛ لأنهما نقيضان ، ومن عادتهم حمل النّظير على النظير ، والنّقيض على النّقيض.

وقال الرّاغب (٣) : هو من قولهم : نصل أعجف ، أي : رقيق.

وعجفت نفسي عن الطّعام وعن فلان : إذا نبت عنهما ، وأعجف الرّجل أي : صارت [إبله](٤) عجافا.

(وَأُخَرَ يابِساتٍ) ، قوله : «وأخر» نسق على قوله «سبع» لا على «سنبلات» ويكون قد حذف اسم العدد ، من قوله : (وَأُخَرَ يابِساتٍ) والتقدير : سبعا أخر ، وإنما حذف ؛ لأنّ التقسيم في البقرات نقيض التّقسيم في السنبلات.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت كالخضر؟ قلت : الكلام مبنيّ على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السّمان والعجاف ، والسنبلات الخضر ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ، ويكون قوله (وَأُخَرَ يابِساتٍ) بمعنى : وسبعا أخر» انتهى.

وإنّما لم يجز عطف أخر على التمييز ، وهو «سنبلات» ، فيكون أخر مجرورا لا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٣.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المفردات (١٢٣).

(٤) في أ : ماشيته.

١١٤

منصوبا ؛ لأنه من حيث العطف عليه يكون من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مباينا لسبع فتدافعا ولو كان ترتيب الآية الكريمة سبع (١) سنبلات خضر ويابسات ، لصحّ العطف ، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذين الموضعين أعني : الاخضرار واليبس.

وقد أوضح الزمخشريّ هذا حيث قال : «فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله (وَأُخَرَ يابِساتٍ) على (سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) ، فيكون مجرور المحلّ؟ قلت : يؤدّي إلى تدافع ؛ وهو أنّ عطفها على (سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) يقتضي أن يكون داخلا في حكمها فيكون معها مميز للسبع المذكور ، ولفظ «أخر» يقتضي أن يكون غير السّبع ؛ بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك (٢) ميّزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود على أنّ بعضهم قيام ، وبعضهم قعود ، فلو قلت : عنده سبعة قيام وآخرين قعود ؛ تدافع ؛ ففسد».

قوله للرّؤيا فيه أربعة أقوال :

أحدها : أن اللام فيه مزيدة ، فلا تعلق لها بشيء ؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل ؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعا ؛ كقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ، ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة ؛ كقوله : [الوافر]

٣١٠٧ ـ فلمّا أن توافينا قليلا

أنخنا للكلاكل فارتمينا (٣)

يريد : أنخنا الكلاكل ، فزيدت مع فقدان الشرطين ، هكذا عبارة بعضهم يقول : إلا في ضرورة.

وبعضهم يقول : الأكثر ألّا تزاد ، ويتحرز من قوله تعالى (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] ، لأنّ الأصل : ردفكم ، فزيدت فيه اللام ، ولا تقدم ، ولا فرعيّة ، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التّضمين ، وسيأتي في مكانه ـ إن شاء الله تعالى ـ ، وقد تقدم من ذلك طرف جيد.

الثاني : أن يضمّن تعبرون معنى ما يتعدّى باللام ، تقديره (٤) أي : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.

الثالث : أن يكون «للرّؤيا» خبر «كنتم» ؛ كما تقول : «كان فلان لهذا الأمر» ، أي : إذا استقلّ به متمكّنا منه ، وعلى هذا فيكون في «تعبرون» وجهان :

أحدهما : أنّه خبر ثان ل «كنتم».

الثاني : أنه حال من الضمير المرتفع بالجار ؛ لوقوعه خبرا.

الرابع : أن تتعلق اللام بمحذوف على أنّها للبيان ؛ كقوله تعالى (وَكانُوا فِيهِ مِنَ

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) سقط من : ب.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : أي.

١١٥

الزَّاهِدِينَ) تقديره : أعني فيه ، وكذلك هذا ، تقديره : أعني للرّؤيا ، وعلى هذا يكون مفعول «تعبرون» محذوفا تقديره : تعبرونها.

وقرأ أبو جعفر (١) : الرّيّا [وبابها الرؤيا](٢) بالإدغام ؛ وذلك أنّه قلب الهمزة واوا ؛ لسكونها بعد ضمة ، فاجتمعت «واو» ، و «ياء» وسبقت إحداهما بالسكون ؛ فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء.

وهذه القراءة عندهم ضعيفة ؛ لأن البدل غير لازم ، فكأنّه لم يوجد واو ؛ نظرا إلى الهمزة.

فصل في معنى «تعبرون»

يقال : عبرت الرّؤيا أعبرها عبارة ، وعبرة بالتخفيف ، قال الزمخشريّ : «وهو الذي اعتمده الأثبات ، ورأيتهم ينكرون «عبّرت» بالتشديد ، والتّعبير والمعبّر» قال : وقد عثرت على بيت أنشده المبرّد في كتاب الكامل لبعض الأعراب : [السريع]

٣١٠٨ ـ رأيت رؤيا ثمّ عبّرتها

وكنت للأخلام عبّارا (٣)

قال وحقيقة تعبير الرؤيا : ذكر عاقبتها ، وآخر أمرها ؛ كما تقول : عبرت النّهر إذا قطعته حتّى تبلغ آخر عرضه.

قال الأزهريّ : «مأخوذ من العبر ، وهو جانب النّهر ، ومعنى عبرت النّهر والطريق : قطعته إلى الجانب الآخر ، فقيل لعابر الرؤيا : عابر ؛ لأنّه يتأمل جانبي الرّؤيا ، ويتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطّرفين إلى الآخر».

قال بعض أهل اللغة : العين ، والباء ، والراء ، تضعها (٤) العرب : لجوار الشيء ، ومضيفه ، وقلّة تمكنه ، ولبثه ، وهو فعل ، يقال : عبر الرؤيا : أخرجها من حال النّوم إلى حال اليقظة ، كعبور البحر من جانب إلى جانب.

وناقة عبراء سفار ، أي : يقطع بها الطريق ويعبر.

والشّعرى : العبور ؛ لأنها عبرت المجرّة.

والاعتبار بالشيء : هو التّمثيل بينه وبين حاكيه.

والعبرة : الدّمعة ؛ لعبورها العين ، وخروجها من الجفن.

والعنبر : منه ؛ لأنّ نونه زائدة ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١١ ، والدر المصون ٤ / ١٨٧.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ٢٥٠ والكشاف ٢ / ٤٧٤ وشواهد الكشاف ٤ / ٤٠٧ والبحر ٥ / ٣١١ والتاج (عبر) والدر المصون ٤ / ١٨٧.

(٤) في ب : بصيغة.

١١٦

والعنبر ـ أيضا ـ سمكة في البحر ، والعنبر : اسم قبيلة ، والعنبر : شدّة الشتاء (١).

قال بعضهم : ثلاثة أشياء لا يعرف معدنها :

أحدها : العنبر يجيء طفاؤه على وجه الماء.

وثانيها : المومياء بأرض فارس ، ومعناه : موم ، أي : شمع الماء لا يعرف من أين يجيء ، ولا من أين ينبع ، يعمل له حوض في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء ، وينبع منه وتبقى (٢) المومياء ؛ فتؤخذ إلى خزانة السّلطان.

وثالثها : الكهل : وهو نوع من الخرز أصفر يطفو على وجه الماء في بحر المغرب وبحر طبرستان ، ولا يعرف معدنه.

قوله جلّ وعلا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، خبر مبتدإ مضمر ، أي : هي أضغاث ، يعنون : ما قصصته علينا ، والجملة منصوبة بالقول.

والأضغاث : جمع ضغث ـ بكسر الضاد ـ وهو ما جمع من النبات ، سواء كان جنسا واحدا ، أو أجناسا مختلطة.

قال ابن الخطيب : بشرط أن يكون مما قام على ساق ، وهو أصغر من الحزمة ، وأكبر من القبضة ، فمن مجيئه من جنس واحد ، قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) [ص : ٤٤] ، ويروى أنه أخذ عثكالا من نخلة ، وفي الحديث : «أنّه أتي بمريض وجب عليه الحدّ ففعل به ذلك».

وقال ابن مقبل : [الكامل]

٣١٠٩ ـ خود كأنّ فراشها وضعت به

أضغاث ريحان غداة شمال (٣)

ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم : «ضغث على إبّالة».

وقال الرّاغب (٤) ـ رحمه‌الله ـ : الضّغث : قبضة ريحان ، أو حشيش ، أو قصبان ، وقد تقدم أنه أكثر من القبضة.

واستعمال الأضغاث ـ هنا ـ من باب الاستعارة ، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة ، كانت شبيهة بالضّغث.

والإضافة في (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، إضافة بمعنى «من» ، والتقدير : أضغاث من أحلام.

والأحلام : جمع حلم ، وهو الرؤيا ، الفعل منه حلمت أحلم ـ بفتح اللام في

__________________

(١) في ب : الثناء.

(٢) في ب : وسقى.

(٣) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٦ / ١١٨ وروح المعاني ١٢ / ٢٥٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠١ والدر المصون ٤ / ١٨٧.

(٤) ينظر : المفردات ٢٩٧.

١١٧

الماضي وضمها في الغابر ـ حلما ، وحلما : مثقل ، ومخفف.

قوله تعالى : «بتأويل» الباء متعلقة ب «عالمين» ، والباء في «بعالمين» لا تعلق لها ؛ لأنها زائدة إمّا في خبر الحجازيّة أو التّميميّة ، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفيا للعلم بالرؤيا مطلقا ، وأن يكون نفيا للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصّحيح.

وقال أبو البقاء : أي : بتأويل أضغاث الأحلام لا بد من ذلك ؛ لأنّهم لم يدّعوا الجهل [بتعبير](١) الرؤيا انتهى.

وقوله «الأحلام» وإنّما كان واحدا ، قال الزمخشريّ : «كما تقول : فلان يركب الخيل ، ويلبس عمائم الخزّ ، لمن لا يركب إلا فرسا واحدا ، ولا يتعمّم إلّا بعمامة واحدة تأكيدا في الوصف ، ويجوز أن يكون قصّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها».

والتّأويل : هو ما يئول الشيء إليه ، أي : يرجع الشيء إليه ، ومنه تأوّل وهو معنى التفسير ؛ لأنّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى.

فصل

اعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ جعل هذه الرؤيا سببا لخلاص يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من السّجن ؛ وذلك أنّ الملك لمّا رأى ذلك ، قلق واضطرب بسببه ؛ لأنه شاهد أن الناقص الضّعيف استولى على الكامل ، فشهدت فطرته بأن هذا أمر عداوة ومقدّر بنوع من أنواع الشرّ ، إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه.

والشيء إذا صار معلوما من وجه ، وبقي مجهولا من وجه آخر ـ عظم شوق النفس إلى تمام تلك المعرفة ، وقويت المعرفة في إتمام الناقص لا سيّما إذا كان الإنسان عظيم الشّأن ، واسع المملكة ، وكان ذلك الشيء دالّا على الشرّ من بعض الوجوه ، فبهذا الطريق قوّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم ، بتفسير هذه الرؤيا ، وأنه ـ تعالى ـ عجّز المعبّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة ؛ ليصير ذلك سببا لخلاص يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ من تلك المحنة.

واعلم أنّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير ؛ بل قالوا إنّ علم التعبير على قسمين :

منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة ، فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية.

ومنه ما يكون مختلطا مضطربا ، ولا يكون فيه ترتيب معلوم ، وهو المسمّى بالأضغاث.

__________________

(١) في ب : بتأويل.

١١٨

فقالوا : إنّ رؤيا الملك من قسم الأضغاث ، ثمّ أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم ، وفيه [إبهام](١) أنّ الكامل في هذا العلم ، والمتبحّر فيه يهتدي إليها ، فعند هذه المقالة تذكّر السّاقي واقعة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحّرا في هذا العلم.

قوله «وادّكر» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّها جملة حالية ، إمّا من الموصول ، وإما من عائده ، وهو فاعل نجا.

والثاني : أنها عطف على نجا فلا محل لها ؛ لنسقها على ما لا محل له.

والعامّة على ادّكر بدال مهملة مشدّدة ، وأصلها : اذتكر ، افتعل ، من الذكر فوقعت تاء الافتعال بعد الدال ؛ فأبدلت دالا ، فاجتمع متقاربان ؛ فأبدل الأول من جنس الثاني ، وأدغم.

قال الزمخشريّ (٢) : وادّكر بالدال هو الفصيح.

وقرأ الحسن البصريّ (٣) : بذال معجمة. ووجّهوها بأنه أبدل التّاء ذالا ؛ من جنس الأولى ، وأدغم ، وكذا الحكم في مدّكر كما سيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ.

والعامة : على (أمة) بضم الهمزة ، وتشديد الميم ، وتاء منونة ، وهي المدة الطويلة.

وقرأ الأشهب العقيليّ (٤) : بكسر الهمزة ؛ وفسّروها بالنعمة ، أي : بعد نعمة [أنعم بها](٥) عليه ؛ وهي خلاصه من السّجن ، ونجاته من القتل ؛ وأنشد الزمخشريّ لعديّ : [الخفيف]

٣١١٠ ـ ثمّ بعد الفلاح والملك والإم

 ـ مة وارتهم هناك القبور(٦)

وأنشد غيره : [الطويل]

٣١١١ ـ ألا لا أرى ذا أمّة أصبحت به

فتتركه الأيّام وهى كما هيا (٧)

وقرأ ابن عبّاس ، وزيد بن عليّ ، وقتادة ، والضحاك (٨) ، وأبو رجاء رضي الله عنهم «أمه» بفتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمه وهو النسيان يقال أمه يأمه

__________________

(١) في أ : إيماء.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٣١٣ والدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧٥ والمحرر الوجيز ٢ / ٢٤٩ والبحر المحيط ٥ / ٣١٣ والدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٥) في أ : أنعمها.

(٦) ينظر : ديوانه (٨٩) ، شواهد الكشاف (٤٠٧) مثلثات قطرب ٤٥ ، الرازي ١١٨ / ١٥٢ ، فصيح ثعلب ٦٥ ، شواهد المغني للبغدادي ٤ / ٤٢ ، ٤٧ ، ابن الشجري ١ / ٩١ ، الشعر والشعراء ١ / ٢٢٥ ، الأغاني ١ / ٢١٥ ، ١٢٦ ، وحماسة البحتري ١٢٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ٥٠ ، ٦٨ ، اللسان : أم ، الدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٧) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر : ديوانه (١٠٧١) البحر ٥ / ٣١٣ ، الألوسي ١٢ / ٢٥٣ ، رصف المباني ٢٧٧ ، الكشاف (٤٠٧) شرح الديوان ٢٨٨ ، روح المعاني ١٢ / ٢٥٣ ، الدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١٣ والدر المصون ٤ / ١٨٨.

١١٩

أمها (١) بفتح الميم وسكونها ، والسكون غير مقيس ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣١١٢ ـ أمهت وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدّهر يودي بالعقول

وقرأ مجاهد ، وشبل (٢) بن عزرة : بعد أمه بسكون الميم ، وتقدّم أنه مصدر ل «أمه» على غير قياس.

قال الزمخشري (٣) : «ومن قرأ بسكون الميم ، فقد خطّىء».

قال أبو حيّان (٤) : «وهذه على عادته في نسبة الخطأ إلى القراء».

قال شهاب الدّين (٥) ـ رحمه‌الله ـ : لم ينسب إليهم خطأ ؛ وإنما حكى أنّ بعضهم خطّأ هذا القارىء ؛ فإنه قال : «خطّىء» بلفظ ما لم يسمّ فاعله ولم يقل : فقد أخطأ ، على أنّه إذا صحّ أنّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتّة.

وبعد منصوب ب «ادّكر» وقوله أنا أنبّئكم هذه الجملة هي المحكية بالقول.

وقرأ العامة أنبّئكم من الإنباء ، وقرأ (٦) الحسن أنا آتيكم مضارع أتى من الإتيان ، وهو قريب من الأول.

فصل

لمّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب ، فذكر الشّرابيّ قول يوسف (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، (بَعْدَ أُمَّةٍ) بعد حين ، بعد سبع سنين ، وذلك أنّ الحين إنّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة ، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم ، فالحين كان أمة من الأيام والسّاعات. فإن قيل : قوله (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) يدل على أنّ الناسي هو الشرابي ، وأنتم تقولون: إنّ النّاسي هو يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

فالجواب : قال ابن الأنباري : ادّكر بمعنى : ذكر وأخبر ، فهذا لا يدلّ على سبق النسيان ، فلعلّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه‌السلام عند الملك ، خوفا عليه من أن يكون ادّكارا لذنبه الذي من أجله حبس ، فترك للشر ، ويحتمل أن يكون حصل النسيان ليوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [وحصل](٧) أيضا لذلك الشرابي.

روي أنّ الغلام جثا بين يدي الملك ، وقال إنّ بالسجن رجلا يعبّر الرؤيا.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤٩ وقرأ بها أيضا عكرمة ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١٣ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧٦.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٨٨.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧٦ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٤٩ والبحر المحيط ٥ / ٣١٤ والدر المصون ٤ / ١٨٩.

(٧) في ب : ودخل ، وفي أ : ذهل والصواب ما أثبتناه.

١٢٠