اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة.

قوله : (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي : عذاب ربك.

قال الزمخشريّ : «لمّا» منصوب ب «أغنت» وهو بناء منه على أنّ «لمّا» ظرفية.

والظّاهر أنّ «ما» نافية ، أي : لم تغن. ويجوز أن تكون استفهامية ، و «يدعون» حكاية حال ، أي : التي كانوا يدعون ، و (ما زادُوهُمْ) الضّمير المرفوع للأصنام ، والمنصوب لعبدتها وعبّر عنهم بواو العقلاء ؛ لأنهم نزّلوهم منزلتهم.

والتّتبيب : التّخسير ، يقال : تبّ الرجل غيره إذا أوقعه في الخسران. يقال : تبّب غيره وتبّ هو بنفسه ، فيستعمل لازما ومتعديا ، ومنه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ).

وتبّبته تتبيبا ، أي : خسّرته تخسيرا. قال لبيد :

٣٠١٥ ـ ولقد بليت وكلّ صاحب جدّة

لبلى يعود وذاكم التّتبيب (١)

وقيل : التّتبيب : التّدمير. والمعنى : أنّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفع وتدفع المضار ، ثم أخبر أنّهم عند الحاجة إلى المعين ما وجدوا فيها شيئا لا جلب نفع ، ولا دفع ضرر ، وإنّما وجدوا ضدّ ذلك ، وهذا أعظم الخسران.

قوله : (وَكَذلِكَ) خبر مقدّم ، و «أخذ» مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومثل ذلك الأخذ أي : أخذ الله الأمم السّالفة أخذ ربك.

و «إذا» ظرف متمحّض ، ناصبه المصدر قبله ، وهو قريب من حكاية الحال ، والمسألة من باب التنازع فإنّ الأخذ يطلب «القرى» ، و «أخذ» الفعل أيضا يطلبها ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوّل.

وقرأ عاصم (٢) وأبو رجاء والجحدريّ «أخذ ربك ، إذ أخذ» جعلهما فعلين ماضيين ، و «ربّك» فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك إلّا أنّه ب «إذا» (٣).

قال ابن عطيّة (٤) : وهي قراءة متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد ، واستمراره في الزّمان ، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي.

وقوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) جملة حاليّة. والضمير في (وَهِيَ ظالِمَةٌ) عائد إلى القرى ، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها ، كقوله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) [الأنبياء : ١١] (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨].

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (٢٧١) والقرطبي ٩ / ٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٢ والدر المصون ٤ / ١٣٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٦٠ والدر المصون ٤ / ١٢٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٦١ والدر المصون ٤ / ١٢٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٦.

٥٦١

ثم لمّا بيّن كيفية أخذ الأمم الظّالمة أكّده بقوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدّة.

قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩)

ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنّ هؤلاء إنّما عذبوا في الدّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عذّبوا في الدّنيا على ذلك وهي دار العمل ؛ فلأن يعذّبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء ، كان أولى. وهذا قول كثير من المفسّرين.

قال ابن الخطيب (١) : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدّنيا دليلا على أنّ القول بالقيامة والبعث حقّ ، وظاهر الآية يقتضي أنّ العلم بأنّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ؛ لأنّ القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلا للعلم بأنّ القيامة حق ؛ فبطل ما ذكره القفال ، والأصوب عندي أن يقال : العلم بأنّ القيامة حق موقوف على العلم بأنّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذّات ، وما لم يعلم الإنسان أنّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات ، وأنّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال ؛ لأنّ الذين يذهبون إلى أنّ المؤثّر في وجود هذا العالم موجب بالذّات ، لا فاعل مختار ، يزعمون أنّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيّام الأنبياء ؛ كالغرق ، والخسف ، والمسخ ، والصّيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لا يكون حصولها دالّا على صدق الأنبياء.

فأما المؤمن بالقيامة ؛ فلا يتم له ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالم بجميع الجزئيات ، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنّما كان بسبب أنّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٤٧.

٥٦٢

واتصالاتها ، وحينئذ يسمع هذه القصص ، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء ؛ فثبت بذلك صحة قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ).

قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) «ذلك» : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله : (عَذابَ الْآخِرَةِ). و «مجموع» صفة ل «اليوم» جرت على غير من هي له ، فلذلك رفعت الظّاهر وهو «الناس» ، وهذا هو الإعراب نحو : «مررت برجل مضروب غلامه».

وأعرب ابن عطيّة (١) : «النّاس» مبتدأ مؤخرا ، و «مجموع» خبره مقدما عليه. وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقال : النّاس قائمون ومضروبون ، ولا يقال : قائم ومضروب إلّا بضعف. وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد ، إذ الجملة صفة لليوم ، أي : النّاس مجموع له ، و «مشهود» متعيّن لأن يكون صفة فكذلك ما قبله.

وقوله : «مشهود» من باب الاتّساع في الظرف بأن جعله مشهودا ، وإنّما هو مشهود فيه ؛ وهو كقوله : [الطويل]

٣٠١٦ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

قليل سوى الطّعن النّهال نوافله (٢)

والأصل : مشهود فيه ، وشهدنا فيه ، فاتّسع فيه بأن وصل الفعل إلى ضميره من غير واسطة ، كما يصل إلى المفعول به.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : أيّ فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنّه لا بدّ أن يكون ميعادا مضروبا لجمع النّاس له ، وأنّه هو الموصوف بذلك صفة لازمة». قال ابن عبّاس : يشهده البر والفاجر. وقيل : يشهده أهل السموات وأهل الأرض.

قوله : (وَما نُؤَخِّرُهُ) الضّمير يعود على «يوم».

وقال الحوفيّ : «على الجزاء». وقرأ (٣) الأعمش : «وما يؤخّره» ـ بالياء ـ أي : الله تعالى. (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) وكل ما له عدد ، فهو متناه ، وكل ما كان متناهيا ، فلا بدّ أن يفنى ، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه ، وكلّ ما هو آت قريب.

قوله : (يَوْمَ يَأْتِ) قرأ أبو عمرو والكسائيّ ونافع «يأتي» (٤) بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٦.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٦١ والدر المصون ٤ / ١٣٠.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ٣٧٣ وأيضا قرأ بالياء في الوصل أبو جعفر وقرأ بها في الحالتين أيضا يعقوب ينظر : الإتحاف ٢ / ١٣٥ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٠٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٦١ والدر المصون ٤ / ١٣٠.

٥٦٣

وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا. وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلا ووقفا.

وقد وردت المصاحف بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتها ، وفي مصحف عثمان حذفها ، وإثباتها هو الوجه ؛ لأنّها لام الكلمة ، وإنّما حذفوها في القوافي ، والفواصل ؛ لأنّها محلّ وقوف وقالوا : لا أدر ، ولا أبال.

وقال الزمخشريّ «والاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل».

وأنشد ابن جرير في ذلك : [الرجز]

٣٠١٧ ـ كفّاك كفّ ما تليق درهما

جودا وأخرى تعط بالسّيف الدّما (١)

والنّاصب لهذا الظرف فيه أوجه :

أحدها : أنه (لا تَكَلَّمُ) والتقدير : لا تكلّم نفس يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره.

الثاني : أن ينتصب ب «اذكر» مقدرا.

والثالث : أن ينتصب بالانتهاء المحذوف في قوله : (إِلَّا لِأَجَلٍ) ، أي : ينتهي الأجل يوم يأتي.

والرابع : أنّه منصوب ب (لا تَكَلَّمُ) مقدّرا ، ولا حاجة إليه.

والجملة من قوله : (لا تَكَلَّمُ) في محلّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مشهود» ، أو نعتا له لأنه نكرة. والتقدير : لا تكلّم نفس فيه إلّا بإذنه ، قاله الحوفيّ.

وقال ابن عطيّة (٢) : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يصحّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضّمير الذي في «يأت» وهو العائد على قوله : (ذلِكَ يَوْمٌ) ، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره : لا تكلم نفس فيه ، ويصحّ أن يكون قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) صفة لقوله : (يَوْمَ يَأْتِ).

وفاعل «يأت» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه ضمير «يوم» المتقدّم.

والثاني : أنّه ضمير الله تعالى كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) [البقرة : ٢١٠] وقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ).

والضمير في قوله : «فمنهم» الظاهر عوده على «النّاس» في قوله : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) وجعله الزمخشريّ عائدا على أهل الموقف وإن لم يذكروا ، قال : «لأن ذلك

__________________

(١) ينظر البيتان في الخصائص ٣ / ٩٠ والإنصاف ١ / ٣٨٧ وأمالي الشجري ٢ / ٧٢ والمنصف ٢ / ٧٢ واللسان (ليق) والبحر المحيط ٥ / ٢٦٢ وروح المعاني ١٢ / ١٣٩ ومعاني الفراء ٢ / ٢٧ والأضداد لابن الأنباري ٦٤ وإعراب النحاس ٢ / ٣٠٢ والقرطبي ٩ / ٤٥ والدر المصون ٤ / ١٣٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٠٧.

٥٦٤

معلوم ، ولأنّ قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) يدلّ عليه». وكذا قال ابن عطية.

وقوله : (وَسَعِيدٌ) خبره محذوف : أي : ومنهم سعيد ، كقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ).

فصل

هذه الآية توهم المناقضة لقوله (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ولقوله (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] ، وقوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

والجواب : قال بعضهم : إنّه حيث ورد المنع من الكلام ، فهو محمول على ذكر الأعذار الكاذبة الباطلة ، وحيث ورد الإذن في الكلام ، فهو محمول على الجوابات الصّحيحة ؛ قال تعالى: (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨]. وقيل : إنّ ذلك اليوم يوم طويل ، وله مواقف ، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم.

وقيل : ورد المنع عن الكلام مطلقا ، وورد مقيدا بالإذن فيحمل المطلق على المقيّد.

قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ). قال الزمخشريّ (١) : الضمير في قوله : «منهم» لأهل الموقف ولم يذكروا ؛ لأنّه مفهوم ، ولأنّ قوله (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) يدلّ عليه ؛ ولأنه مذكور في قوله : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ).

واستدلّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النّار.

وجوابه : أنّ الأطفال والمجانين أيضا خارجون عن هذا التّقسيم ؛ لأنّهم لا يحاسبون ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إنّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضا ؛ لأنهم لا يحاسبون لأنّ الله ـ تعالى ـ علم من حالهم أنّ ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم.

واستدلّ القاضي أيضا بهذه الآية على أنّ كلّ من حضر عرضة القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائدا أو عذابه ، فأمّا من كان ثوابه مساويا لعقابه ، فإنّه وإن كان جائزا في العقل ، إلا أن هذا النص يدلّ على أنّه غير موجود.

وأجيب بأنّ تخصيص هذين القسمين بالذّكر لا يدلّ على نفي القسم الثالث ؛ لأنّ أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر ، وليس فيه ذكر ثالث لا يكون مؤمنا ولا كافرا مع أنّ القاضي أثبته ، فإذا لم يلزم من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من عدم ذكر هذا الثالث عدمه.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٢٩.

٥٦٥

فصل

روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : خرجنا على جنازة ، فبينما نحن بالبقيع إذ خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيده مخصرة ، فجاء ، فجلس ، ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : «ما من نفس منفوسة إلّا قد كتب مكانها من الجنّة ، أو النّار ، وإلّا قد كتبت شقيّة ، أو سعيدة» قال : فقال رجل : أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل؟ قال : «لا ، ولكن اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له ، أمّا أهل الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأمّا أهل السّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة» ثم تلا : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى)(١) [الليل : ٥ ـ ١٠].

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) الجمهور على فتح الشين ؛ لأنّه من «شقى» فعل قاصر وقرأ الحسن (٢) بضمها فاستعمله متعدّيا ، فيقال : شقاه الله ، كما يقال : أشقاء الله وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) في هذه الجملة احتمالان :

أحدهما : أنّها مستأنفة ، كأنّ سائلا سأل حين أخبر أنّهم في النّار : ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا.

والثاني : أنها منصوبة المحلّ ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنّه الضمير في الجارّ والمجرور وهي (فَفِي النَّارِ).

الثاني : أنها حال من «النّار». و «الزّفير» بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، و «الشّهيق» آخره.

قال رؤبة : [الرجز]

٣٠١٨ ـ حشرج في الصّدر صهيلا أو شهق

حتّى يقال ناهق وما نهق (٣)

وقال ابن فارس : الزّفير ضد الشّهيق ؛ لأنّ الشّهيق ردّ النّفس والزّفير : إخراج النّفس من شدّة الحزن مأخوذ من الزّفر وهو الحمل على الظّهر ، لشدّته.

وقال الزمخشري نحوه ؛ وأنشد للشّمّاخ : [الطويل]

٣٠١٩ ـ بعيد مدى التّطريب أوّل صوته

زفير ويتلوه شهيق محشرج (٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري ٣ / ٢٦٧ كتاب الجنائز : باب موعظة المحدث عند القبر (١٣٦٢) وفي ٨ / ٥٧٨ كتاب التفسير : باب «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى» (٤٩٤٥) ، وأطرافه في (٤٩٤٦) (٤٩٤٧) (٤٩٤٨) (٤٩٤٩).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٠ والبحر المحيط ٥ / ٤٦٤ ، والدر المصون ٤ / ١٣١.

(٣) ينظر : ديوانه (١٠٦) برواية :

حشرج في الصدر سحيلا

وروح المعاني ١٢ / ١٤١ واللسان (حشرج) والبحر المحيط ٥ / ٢٥٢ والدر المصون ٤ / ١٣٢.

(٤) البيت في ديوانه برواية :

بعيد مدى التطريب أول نهاقه

سحيل وأخراه حيّ المحشرج

ينظر : ديوانه (٨٨) وروح المعاني ١٢ / ١٢٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٥٢ والكشاف ٢ / ٤٣٠ والدر المصون ٤ / ١٣٢.

٥٦٦

وقيل الشّهيق : النّفس الممتدّ ، مأخوذ من قولهم : «جبل شاهق أي : عال».

وقال اللّيث : الزّفير : أن يملأ الرّجل صدره حال كونه في الغمّ الشّديد من النّفس ويخرجه ، والشّهيق أن يخرج ذلك النّفس ، وهو قريب من قولهم : تنفّس الصعداء.

قال ابن الخطيب (١) : إنّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب ، فتقوى الحرارة وتعظم ، وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء باردا حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة ، فلهذا السّبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل الصّدر ، وحينئذ يرتفع صدره ، ولمّا كانت الحرارة الغريزية ، والروح الحيوانيّ محصورا في داخل القلب ؛ استولت البرودة على الأعضاء الخارجة ؛ فربّما عجزت آلات النّفس عن دفع ذلك الهواء فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصرا في الصدر.

فعلى قول الأطباء : الزّفير : هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه ، والشّهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطّبيعة في إخراجه ، وكلّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد.

وقال أبو العالية والربيع بن أنس : الزّفير في الحلق ، والشّهيق في الصدر (٢). وقيل : الزّفير للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس : الزّفير الصوت الشديد ، والشّهيق الصوت الضعيف (٣). وقال الضحاك ومقاتل : الزّفير أول صوت الحمار ، والشهيق آخره ، إذا ردّه في صدره (٤). وقال الحسن : الزّفير لهيب جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى جهنم ، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنّم ، وهو قوله تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) [السجدة : ٢٠] فارتفاعهم في النّار هو الزّفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق (٥).

وقال أبو مسلم : الزّفير ما يجتمع في الصّدر من النّفس عند البكاء الشّديد فيقطع النفس ، والشهيق هو الصّوت الذي يظهر عند اشتداد الكرب ، وربما تبعه الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبّاس في قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) أي : ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع وحزنا لا يندفع.

قوله : «خالدين» منصوب على الحال المقدرة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٥٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١١٤) عن أبي العالية وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٣٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ والبيهقي في «البعث والنشور».

(٤) أخرجه الطبري (٧ / ١١٤) عن قتادة بمعناه.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٢) عن الضحاك ومقاتل.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٥٠) عن الحسن.

٥٦٧

قال شهاب الدّين : «ولا حاجة إلى قولهم «مقدّرة» ، وإنّما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] ؛ لأنّ الخلود بعد الدّخول ، بخلافه هنا».

قوله : (ما دامَتِ) «ما» مصدرية ظرفية ، أي : مدّة دوامهما. و «دام» هنا تامة ، لأنّها بمعنى : بقيت.

فصل

اختلفوا في تأويل هذا ، قالت طائفة منهم الضحّاك : المعنى ما دامت سموات الجنّة والنّار وأرضهما ، والسماء كل ما علاك وأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ، قال تعالى : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ)(١). وقيل : أراد السّماء والأرض المعهودتين في الدنيا ؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده ، كقولهم : «لا آتيك ما جنّ ليل ، أو سال سيل ، وما اختلف اللّيل والنهار».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أنّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش ، وأنّ السموات والأرض في الآخرة تردّان إلى النور الذي أخذتا منه ، فهما دائمتان أبدا في نور العرش (٢).

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : قال قوم : إنّ عذاب الكفّار منقطع ، وله نهاية ، واحتجّوا بالقرآن والمعقول ، أما القرآن فبآيات منها هذه الآية ، والاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) يدل على أنّ مدة عقابهم مساوية لمدّة بقاء السموات والأرض ، ثم توافقنا على أنّ مدة بقاء السموات والأرض متناهية ؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة.

والثاني : قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) استثناء من مدّة عقابهم ، وذلك يدلّ على أنّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء ، ومنها قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] بيّن تعالى أنّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلّا أحقابا ، والأحقاب معدودة.

وأمّا العقل فمن وجهين :

الأول : أنّ معصية الكافر متناهية ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذاب لا نهاية له ظلم وإنّه لا يجوز.

الثاني : أنّ ذلك العقاب ضرر خال عن النّفع فيكون قبيحا.

بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوز أن يرجع إلى الله تعالى لتعاليه عن النّفع والضّرر ، ولا إلى ذلك المعاقب ؛ لأنّه في حقّه ضرر محض ، ولا إلى غيره ؛ لأن أهل

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٠٢).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٦٦).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٥١.

٥٦٨

الجنّة مشغولون بلذاتهم ، فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعقاب الدّائم في حقّ غيرهم ؛ فثبت أنّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النّفع ؛ فوجب أن لا يجوز.

وهذا قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك ـ رضي الله عنهم ـ وذهب إليه الحسن البصريّ وحمّاد بن سلمة وبه قال عليّ بن طلحة وجماعة من المفسّرين ، رواه عنهم ابن تيمية.

وأما الجمهور الأعظم من الأمّة ، فقد اتفقوا على أنّ عذاب الكافر دائم ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسّك بهذه الآية ، فذكروا جوابين :

أحدهما : قالوا المراد سماوات الاخرة وأرضها ، قالوا : والدليل على أنّ في الآخرة سماء وأرضا قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) [الزمر : ٧٤] ، وأيضا : لا بدّ لأهل الآخرة ممّا يقلهم ويظلهم ؛ وذلك هو الأرض والسّموات.

ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يصحّ ويجوز إذا كان حال المشبه به مقررا معلوما ، فيشبه غيره به تأكيدا لثبوت الحكم في المشبه ، ووجود السّموات والأرض في الآخرة غير معلوم ، وبتقدير أن يكون وجوده معلوما إلّا أنّ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتّة غير معلوم ، فإذا كان أصل وجودهما مجهولا لأكثر الخلق ، ودوامهما أيضا مجهولا للأكثرين ، كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدّوام بهما كلاما عديم الفائدة ، أقصى ما في الباب أن يقال : لمّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة ، وثبت دوامهما ؛ وجب الاعتراف به ، وحينئذ يحسن التّشبيه ، إلّا أنّا نقول : لمّا كان الطّريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ، ودوام أرضهم هو السّمع ، ثمّ السمع دلّ على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدّليل الذي دلّ على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعوا على أنّ القياس ضائع والتّشبيه باطل ، فكذا ههنا.

الوجه الثاني ـ في الجواب ـ قالوا : إنّ العرب يعبّرون عن الدّوام والأبد بقولهم : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، وقولهم : ما اختلف الليل والنهار ، وما طما البحر ، وما أقام الجبل وأنّه تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم ، فلمّا ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنّها باقية أبدا ، علمنا أنّ هذه الألفاظ في عرفهم تفيد الأبد والدّوام.

ولقائل أن يقول : هل تسلمون أنّ قول القائل : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ) الله ، يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون : إنّه لا يدلّ على هذا المعنى ، فإن كان الأوّل ؛ فالإشكال لازم ؛ لأنّ النصّ لمّا دل على أنّه يجب أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ، ويمنع من حصول بقائهم في النّار بعد فناء السموات ، وثبت أنّه لا بدّ من فناء السموات ، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب ، وإن قلتم إنّ هذا لا يمنع من بقائهم في النّار بعد فناء

٥٦٩

السّموات والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتّة ، فثبت أنّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائع.

قال : والحقّ عندي أنّ المفهوم من الآية أنّه متى كانت السّموات والأرض دائمتين ، كان كونهم في النّار باقيا ، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرط حصل المشروط ، ولا يقتضي أنّه إذا عدم الشرط أن يعدم المشروط ، ألا ترى أنّا نقول : إن كان هذا إنسان فهو حيوان ، فإذا قلنا : لكنّه إنسان ، فإنه ينتج أنّه حيوان ، أمّا إذا قلنا لكنّه ليس بإنسان لم ينتج أنّه ليس بحيوان ؛ لأنه يثبت في علم المنطق أنّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئا ، فكذا ههنا إذا قلنا : متى دامت السموات والأرض دام عقابهم ، فإذا قلنا : لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلا ، أمّا إذا قلنا : لكنه ما بقيت السّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم.

فإن قالوا : إذا كان العقاب حاصلا سواء بقيت السّموات ، أو لم تبق ، لم يبق لهذا التّشبيه فائدة.

قلنا : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو أنه يدلّ على بقاء ذلك العذاب زمانا دائما طويلا ، لا يحيط العقل بطوله وامتداده ، فأمّا أنه هل يحصل له آخر أم لا؟ فذلك يستفاد من دليل آخر.

وأمّا الشبهة الثانية وهي تمسّكهم بقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فذكروا عنه أجوبة :

أحدها : قال ابن قتيبة وابن الأنباري والفرّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى ، ولا يفعله ألبتّة ، كقولك : والله لأضربنك إلّا أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك أن تضربه.

ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأنه إذا قال : لأضربنك إلّا أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلّا إذا رأيت أن الأولى ترك الضرب ، وهذا لا يدلّ ألبتّة على أنّ الرّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلّا المدة التي شاء ربك ، فهاهنا اللفظ يدلّ على أنّ هذه المشيئة قد حصلت جزما ، فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام.

وثانيها : قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما معنى الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وقد ثبت خلود أهل الجنّة والنّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب أهل النّار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنّة ، وذلك أنّ أهل النّار لا يخلّدون في عذابها وحده ، بل يعذّبون بالزّمهرير ، وبأنواع أخر من العذاب ، وبما هو أشدّ من ذلك وهو سخط الله عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] ، والدّليل عليه قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] وفي مقابله قوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] أي : يفعل بهم ما

٥٧٠

يريد من العذاب ، كما يعطي أهل الجنّة ما لا انقطاع له. قال أبو حيّان : ما ذكره في أهل النّار قد يتمشّى ؛ لأنّهم يخرجون من النّار إلى الزّمهرير فيصح الاستثناء ، وأمّا أهل الجنّة ، فلا يخرجون من الجنّة ، فلا يصحّ فيهم الاستثناء.

قال شهاب الدين : والظّاهر أنّه لا يصحّ فيهما ؛ لأنّ أهل النّار مع كونهم يعذّبون بالزّمهرير هم في النّار أيضا.

وثالثها : أنّه استثناء من الزّمان الدّال عليه قوله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

والمعنى : إلّا الزمان الذي شاء الله فلا يخلّدون فيها.

ورابعها : أنه استثناء من الضمير المستتر في الجارّ والمجرور ، وهو قوله : (فَفِي النَّارِ) و (فَفِي الْجَنَّةِ) ، لأنّه لمّا وقع خبرا تحمّل ضمير المبتدأ.

وخامسها : أنه استثناء من الضّمير المستتر في الحال وهو : «خالدين» ، وعلى هذين القولين تكون «ما» واقعة على من يعقل عند من يرى ذلك ، أو على أنواع من يعقل كقوله : (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] والمراد ب «ما» حينئذ العصاة من المؤمنين في طرف أهل النار ، وأمّا في طرف أهل الجنّة فيجوز أن يكونوا هم ، أو أصحاب الأعراف ؛ لأنهم لم يدخلوا الجنّة لأول وهلة ، ولا خلّدوا فيها خلود من دخلها أولا.

وسادسها : قال ابن عطيّة : قيل : إنّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشّارع إلى استعماله في كلّ كلام ، فهو كقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشّرط ، كأنه قال : إن شاء الله ؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتّصل ، ولا منقطع.

وسابعها : هو استثناء من طول المدّة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره أنّ جهنم تخلو من النّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) وهذا مردود بظواهر الكتاب والسّنة ، وما ذكر عن ابن مسعود فتأويله : أنّ جهنّم في الدّرك الأعلى ، وهي تخلو من العصاة المؤمنين ، هذا على تقدير صحّة ما نقل عن ابن مسعود.

وثامنها : أنّ «إلّا» حرف عطف بمعنى الواو ، والمعنى : وما شاء ربّك زائدا على ذلك.

وتاسعها : أنّ الاستثناء منقطع ، فيقدّر ب «لكن» أو ب «سوى» ، ونظروه بقولك: «لي عليك ألفا درهم ، إلّا الألف التي كنت أسلفتك» أي : سوى تلك ، فكأنّه قال : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربّك زائدا على ذلك.

وقيل : سوى ما أعدّ لهم من عذاب غير عذاب النار كالزمهرير ونحوه.

عاشرها : أنه استثناء من مدّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا.

٥٧١

وحادي عشرها : أنّه استثناء من البرزخ الذي بين الدنيا والاخرة.

وثاني عشرها : أنّه استثناء من المسافات التي بينهم في دخول النّار ، إذ دخولهم إنّما هو زمرا بعد زمر.

وثالث عشرها : أنّه استثناء من قوله : (فَفِي النَّارِ) كأنّه قال : إلّا ما شاء ربّك من تأخّر قوم عن ذلك ، وهذا مرويّ عن أبي سعيد الخدري وجابر (١).

ورابع عشرها : أنّ (إِلَّا ما شاءَ) بمنزلة : كما شاء ؛ كقوله : (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [النساء : ٢٢] ، أي : كما سلف.

وخامس عشرها : أن معناه : لو شاء ربّك ، لأخرجهم منها ، ولكنه لا يشاء ؛ لأنّه حكم لهم بالخلود ، فتكون «ما» نافية.

وسادس عشرها : أنّه استثناء من قوله : (فَفِي النَّارِ) و (فَفِي الْجَنَّةِ ،) أي : إلّا الزّمان الذي شاءه الله فلا يكون في النّار ولا في الجنّة ، ويمكن أن يكون هذا الزّمان المستثنى هو الزّمان الذي يفصل فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناء من الكون في النّار ، أو في الجنّة ؛ لأنه زمان يخلو فيه الشّقيّ والسّعيد من دخول النّار والجنة ، وأمّا إذا كان الاستثناء من الخلود فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزّمان المستثنى هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذي يخرجون من النّار ويدخلون الجنّة ، فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنّة. وهذا مرويّ عن قتادة والضّحاك وغيرهما (٢) والذين شقوا على هذا شامل للكفار والعصاة. هذا في طرف الأشقياء العصاة ممكن ، وأمّا في الطّرف الآخر فلا يتأتّى هذا التأويل فيه ، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثمّ لا يخلّد فيها.

قال أبو حيّان (٣) : يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزّمان الذي فات أهل النّار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحاب الأعراف ، فإنّه بفوات تلك المدّة التي دخل المؤمنون فيها الجنّة وخلّدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلّدوا في الجنة تخليد من دخلها لأوّل وهلة.

ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسّاق من النّار ، كأنّه تعالى يقول : اظهرت القهر والقدرة ، ثم أظهرت المغفرة والرّحمة ؛ لأنّي فعال لما أريد ، وليس لأحد عليّ حكم ألبتّة.

قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١١٦) من طريق أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد الخدري.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١١٥) عن قتادة والضحاك.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٦٣.

٥٧٢

قرأ الأخوان وحفص «سعدوا» بضمّ السين. والباقون (١) بفتحها ، فالأولى من قولهم : سعده الله ، أي : أسعده حكى الفرّاء عن هذيل أنها تقول : سعده الله بمعنى أسعده.

وقال الجوهريّ : سعد فهو سعيد ك : سلم فهو سليم وسعد فهو مسعود. وقال ابن القشيري : ورد سعده الله فهو مسعود ، وأسعده فهو مسعد.

وقيل : يقال : سعده وأسعده فهو مسعود ، استغنوا باسم مفعول الثلاثي.

وحكي عن الكسائي أنّه قال : هما لغتان بمعنى يعني : فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاء : يقال : سعد الرجل ، كما يقال : جنّ ، وقيل : سعده لغة مهجورة

وقد ضعّف جماعة قراءة الأخوين. قال المهدويّ : من قرأ «سعدوا» فهو محمول على مسعود ، وهو شاذّ قليل ؛ لأنه لا يقال : سعده الله ، إنّما يقال : أسعده الله وقال بعضهم : احتجّ الكسائيّ بقولهم : «مسعود» قيل : ولا حجّة فيه ؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم حذف «فيه» وسمّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجّب من قراءة الكسائي «سعدوا» مع علمه بالعربيّة ، والعجب من تعجّبه.

قال مكيّ : قراءة حمزة والكسائي «سعدوا» بضمّ السّين حملا على قولهم : «مسعود» وهي لغة قليلة شاذة ، وقولهم : «مسعود» ، إنّما جاء على حذف الزّوائد : كأنّه من أسعده الله ، ولا يقال : سعده الله ، وهو مثل قولهم : أجنّه الله فهو مجنون ، أتى على جنّه الله ، وإن كان لا يقال ذلك ، كما لا يقال : سعده الله. وضمّ السين بعيد عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء : وهذا غير معروف في اللغة ، ولا هو مقيس.

فصل

قال ابن الخطيب (٢) : الاستثناء في باب السّعداء يجب حمله على كل الوجوه المذكورة فيما تقدّم ، وها هنا وجه آخر ، وهو : أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنّة إلى المنازل الرّفيعة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى ، لقوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ ،) إلى أن قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

قوله : «عطاء» نصب على المصدر المؤكد من معنى الجملة قبله ؛ لأن قوله : (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ) يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنّه قيل : يعطيهم عطاء ، و «عطاء» اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال ، أو يكون على حذف الزّوائد ، كقوله :

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٧٨ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٩٣ وحجة القراءات ٣٤٩ والإتحاف ٢ / ١٣٥ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٠٩ وقرأ بها أيضا ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٦٤ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٣١.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٥٤.

٥٧٣

(أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ، أو منصوب بمقدّر موافق له ، أي : فنبتّم نباتا ، وكذلك هنا ، يقال : عطوت بمعنى : تناولت. و (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) نعته ، والمجذوذ : المقطوع ، ويقال لفتات الذّهب والفضّة والحجارة «جذاذ» من ذلك ، وهو قريب من الجدّ بالمهملة في المعنى ، إلّا أنّ الرّاغب جعل جدّ بالمهملة بمعنى : قطع الأرض المستوية ، ومنه : جدّ في سيره يجدّ جدّا ، ثم قال : «وتصوّر من جددت الأرض القطع المجرد ، فقيل : جددت الثوب إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وثوب جديد أصله المقطوع ، ثم جعل لكل ما أحدث إنشاؤه». والظّاهر أنّ المادتين متقاربتان في المعنى ، وقد ذكرت لها نظائر نحو : عتا وعثا ، وكتب وكثب.

فصل

قال ابن زيد : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنّة ، فقال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ولم يخبر بالذي يشاء لأهل النّار.

وقال ابن مسعود : ليأتينّ على جهنّم زمان ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا ، وعن أبي هريرة مثله ، وقد تقدّم ، ومعناه عند أهل السّنة : ألّا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان ، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدا.

قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) ، أي : شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ، وأتبعه بأحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء شرح للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أحوال الكفار من قومه ، فقال : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) وحذف النون ؛ لكثرة الاستعمال ؛ ولأنّ النون إذا وقعت طرف الكلام ، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنّة ، فلا جرم أسقطوه و «ما» ف ي «مما يعبدون» و «مما يعبد آباؤنا» مصدرية ، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية ، والمعنى : أنّهم ضلال (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ) ، وفيه إضمار ، أي : كما كان يعبد آباؤهم من قبل ، (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) حقّهم من الجزاء (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ، وإن كفروا ، وأعرضوا عن الحقّ ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرّزق والخيرات الدنيويّة ، ويحتمل أن يكون المراد : إنّا لموفّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل ؛ وإرسال الرسل وإنزال الكتب.

قوله (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من «نصيبهم» وفي ذلك احتمالان :

أحدهما : أن تكون حالا مؤكّدة ؛ لأن لفظ التوفية يشعر بعدم النقص ، فقد استفيد معناها من عاملها ، وهو شأن المؤكدة.

والثاني : أن تكون حالا مبينة.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف نصب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حالا عن النّصيب الموفّى؟ قلت : يجوز أن يوفّى ، وهو ناقص ، ويوفّى وهو كامل ؛ ألا تراك تقول : «وفّيته شطر

٥٧٤

حقّه ، وثلث حقّه ، وحقّه كاملا وناقصا» فظاهر هذه العبارة أنها مبنية ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيّان قال : هذه مغلطة ، إذا قال : «وفيته شطر حقّه» فالتوفية وقعت في الشّطر ، وكذا في الثّلث ، والمعنى : أعطيته الشطر والثلث كاملا لم أنقصه شيئا ، وأما قوله : «وحقّه كاملا وناقصا» أمّا كاملا فصحيح ، وهي حال مؤكدة ؛ لأنّ التوفية تقتضي الإكمال ، وأمّا «وناقصا» فلا يقال لمنافاته التّوفية. قال شهاب الدّين : «وفي منع الشيخ أن يقال : «وفّيته حقّه ناقصا» نظر ، إذ هو شائع في تركيبات النّاس المعتبر قولهم ؛ لا المراد بالتّوفية مطلق التّأدية».

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(١١٥)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) الآية.

لمّا بيّن إصرار كفّار مكّة على إنكار التّوحيد ، وبيّن إصرارهم على إنكار نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكذيبهم بكتابه ، بيّن أنّ هؤلاء الكفّار كانوا على هذه السيرة الفاجرة ، مع كل الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ ، وضرب لذلك مثلا ، وهي إنزال التوراة على على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم ، وذلك يدلّ على أنّ عادة الخلق هكذا.

قوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي : في الكتاب ، و «في» على بابها من الظّرفية ، وهو هنا مجاز ، أي : في شأنه. وقيل : هي سببية ، أي : هو سبب اختلافهم ، كقوله تعالى : (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [الشورى : ١١] أي : يكثّركم بسببه. ومعنى اختلافهم فيه : أي : فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن ، يعزّي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : «في» بمعنى «على» ويكون الضّمير لموسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أي :فاختلف عليه (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب عنهم : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي : لعذّبوا في الحال ، لكن قضاؤه أخّر ذلك عنهم في دنياهم.

وقيل : معناه أنّ الله إنّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة ، وإلّا لكان الواجب تمييز المحقّ من المبطل في دار الدنيا.

وقيل : المعنى ولو لا أنّ رحمته سبقت غضبه ، وإلّا لقضي بينهم. ثم قال : (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعنى أنّ كفّار مكّة لفي شكّ من هذا القرآن «مريب» من أراب إذا

٥٧٥

حصل الرّيب لغيره ، أو صار هو في نفسه ذا ريب ، وقد تقدّم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) الآية.

هذه الآية الكريمة ممّا تكلم النّاس فيها قديما وحديثا ، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجا فقرأ نافع وابن كثير (١) وأبو بكر عن عاصم «وإن» بالتخفيف ، والباقون بالتشديد. وأمّا «لمّا» فقرأها مشدّدة هنا وفي «يس» وفي سورة الزخرف ، وفي سورة الطارق ، ابن عامر وعاصم وحمزة ، إلّا أنّه عن ابن عامر في الزخرف خلافا ، فروى عنه هشام وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا (٢) جميع ذلك بالتخفيف ، وتلخّص من هذا أنّ نافعا وابن كثير قرأ «وإن» و «لما» مخففتين ، وأنّ أبا بكر عن عاصم خفّف «إن» وثقّل «لمّا» ، وأنّ ابن عامر وحمزة وحفصا عن عاصم شدّدوا «إنّ» و «لمّا» معا ، وأن أبا عمرو والكسائي شدّدا «إنّ» وخففا «لما» فهذه أربع مرات للقراء في هذين الحرفين ، هذا في المتواتر.

وأمّا في الشّاذ فقد قرىء أربع قراءات أخر :

إحداها : قراءة أبي والحسن (٣) وأبان بن تغلب «وإن كل» بتخفيفها ، ورفع «كل» ، و «لمّا» بالتشديد.

الثانية : قراءة اليزيدي (٤) وسليمان بن أرقم «لمّا» مشددة منونة ، ولم يتعرّضوا لتخفيف «إنّ» ولا تشديدها.

الثالثة : قراءة الأعمش (٥) وهي في حرف ابن مسعود كذلك : «وإن كل» بتخفيف «إن» ورفع «كل».

الرابعة : قال أبو (٦) حاتم : الذي في مصحف أب ي «وإن من كل إلا ليوفينهم» وقد اضطرب الناس فيه اضطرابا كثيرا ، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الايات ؛ قال شهاب الدين فأمّا قراءة الحرميين ففيها إعمال «إن» المخففة ، وهي لغة ثانية عن العرب. قال سيبويه : «حدّثنا من نثق به أنّه سمع من العرب

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٨٠ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٩٤ وحجة القراءات ٣٥٠ والإتحاف ٢ / ١٣٥ ـ ١٣٦ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٠١ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٣٥.

(٢) ينظر : اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٤ / ٣٨٠ ، ٣٨١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٩٤ وحجة القراءات ص ٣٥١ ـ ٣٥٢ والإتحاف ٢ / ١٣٥ ، ١٣٦ وينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٠ وينظر : أيضا الخلاف في البحر المحيط ٥ / ٢٦٦ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٣٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦ ، والدر المصون ٤ / ١٣٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٢١٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦ والدر المصون ٤ / ١٣٥.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢١٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٦٦ والدر المصون ٤ / ١٣٥.

(٦) ينظر : السابق.

٥٧٦

من يقول : «إن عمرا لمنطلق» ؛ كما قالوا : [الهزج]

٣٠٢٠ ـ .........

كأن ثدييه حقّان (١)

قال : ووجهه من القياس : أنّ «إن» مشبهة في نصبها بالفعل ، والفعل يعمل محذوفا كما يعمل غير محذوف ، نحو : «لم يك زيدا منطلقا» «فلا تك في مرية» ، وكذلك : لا أدر.

قال شهاب الدّين (٢) : وهذا مذهب البصريين ، أعني : أنّ هذه الأحرف إذا خفّف بعضها جاز أن تعمل ، وأن تهمل ك : «إن» والأكثر الإهمال ، وقد أجمع عليه في قوله : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢] وبعضها يجب إعماله ك «أن» بالفتح ، و «كأن» ولكنّهما لا يعملان في مظهر ولا ضمير بارز إلا ضرورة ، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك «لكن».

وأمّا الكوفيون فيوجبون الإهمال في «إن» المخففة ، والسّماع حجّة عليهم ؛ بدليل هذه القراءة المتواترة ؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشّاعر : [الطويل]

٣٠٢١ ـ .........

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم (٣)

وقال الفراء : لم نسمع العرب تخفّف وتعمل إلا مع المكنيّ ؛ كقوله : [الطويل]

٣٠٢٢ ـ فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق (٤)

قال : «لأنّ المكني لا يظهر فيه إعراب ، وأمّا مع الظاهر فالرفع». وقد تقدّم ما أنشده سيبويه ، وقول الآخر : [الرجز]

٣٠٢٣ ـ كأن وريديه رشاء خلب (٥)

الرّشاء : الحبل. والخلب : اللّيف. هذا ما يتعلق ب «إن».

وأمّا «لما» في هذه القراءة فاللّام فيها هي لام «إن» الدّاخلة في الخبر ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة بمعنى «الذي» واقعة على ما يعقل ، كقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ، فأوقع «ما» على العاقل ، واللّام في «ليوفّينّهم» ، جواب قسم مضمر ، والجملة من القسم وجوابه صلة للموصول ، والتقدير : وإن كلّا للذين والله ليوفّينّهم ، ويجوز أن تكون «ما» نكرة موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفة ل «ما» والتقدير وإن كلّا لخلق أو لفريق والله ليوفينّهم. والموصول وصلته أو الموصوف وصفته خبر ل «إن».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٣٦.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

٥٧٧

وقال بعضهم : اللّام الأولى هي الموّطئة للقسم ، ولمّا اجتمع اللّامان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب «ما» ، كما فصل بالألف بين النّونين في «يضربنانّ» ، وبين الهمزتين ؛ نحو : آأنت ، فظاهر هذه العبارة أنّ «ما» هنا زائدة جيء بها للفصل ، إصلاحا للفظ ، وعبارة الفارسي (١) مؤذنة بهذا ، إلّا أنّه جعل اللّام الأولى لام «إن» فقال : العرف أن تدخل لام الابتداء على الخبر ، والخبر هنا هو القسم ، وفيه لام تدخل على جوابه ، فلمّا اجتمع اللّامان ، والقسم محذوف واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصلوا بينهما ب «ما» كما فصلوا بين «إنّ» واللّام وقد صرّح الزمخشريّ بذلك فقال : واللّام في «لما» موطئة للقسم ، و «ما» مزيدة.

وقال أبو شامة : واللّام في «لما» هي الفارقة بين المخفّفة من الثقيلة والنّافية. وفي هذا نظر ؛ لأنّ الفارقة إنّما يؤتى بها عند التباسها بالنّافية ، والالتباس إنّما يجيء عند إهمالها ؛ نحو : إن زيد لقائم وهي في الآية الكريمة معملة ، فلا التباس بالنّافية ، فلا يقال : إنّها فارقة.

فتلخص في كلّ من «اللّام» ، و «ما» ثلاثة أوجه :

أحدها : في اللام أنها للابتداء الدّاخلة على خبر «أن».

الثاني : لام موطئة للقسم.

الثالث : أنها جواب القسم كررت تأكيدا. وأحدها في «ما» : أنها موصولة. الثاني : أنها نكرة. الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللّامين. وأمّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه :

أحدها : قول الفرّاء (٢) وجماعة من نحاة البصرة ، والكوفة ، وهو أنّ الأصل (لِمَنْ ما) بكسر الميم على أنّها «من» الجارة ، دخلت على «ما» الموصولة ، أو الموصوفة ، كما تقرّر ، أي : لمن الذين الله ليوفّينّهم ، أو لمن خلق والله ليوفّينّهم ، فلمّا اجتمعت النون ساكنة قبل ميم : «ما» وجب إدغامها ؛ فقلبت ميما وأدغمت ، فصار في اللفظ ثلاثة أمثال ، فخففت الكلمة بحذف إحداها ، فصار اللفظ كما ترى «لمّا» قال نصر بن علي الشيرازي : «وصل «من» الجارّة ب «ما» فانقلبت النّون أيضا ميما للإدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت إحداهنّ فبقي «لمّا» بالتشديد». قال : و «ما» هنا بمعنى «من» وهو اسم لجماعة النّاس ، كما قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] أي : من طاب ، والمعنى : وإن كلّا من الذين ليوفينّهم ربّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفّينّهم ربّك أعمالهم.

وقد عيّن المهدويّ الميم المحذوفة فقال : «حذفت الميم المكسورة ، والتقدير : لمن خلق ليوفينّهم».

الثاني : قول المهدويّ ومكي : أن يكون الأصل : (لِمَنْ ما) بفتح ميم : «من» على أنّها موصولة ، أو موصوفة ، و «ما» بعدها مزيدة ، قال : فقلبت النون ميما ، وأدغمت في الميم

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٨٥.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٢٩.

٥٧٨

التي بعدها ، فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت الوسيط منهنّ ، وهي المبدلة من النون ، فقيل : «لمّا». قال مكي (١) والتقدير : وإن كلّا لخلق لوفينّهم ربك أعمالهم ، فترجع إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : زعم بعض النّحويين أن أصله (لِمَنْ ما) ، ثم قلبت النّون ميما ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى قال : وهذا القول ليس بشيء ؛ لأنّ «من» لا يجوز حذف بعضها ؛ لأنّها اسم على حرفين.

وقال النحاس (٢) : قال أبو إسحاق : هذا خطأ ؛ لأنّه تحذف النون من «من» فيبقى حرف واحد وقد ردّه الفارسيّ أيضا فقال : إذا لم يقو الإدغام على تحريك السّاكن قبل الحرف المدغم في نحو : «قدم مالك» فأن لا يجوز الحذف أجدر قال : على أنّ في هذه السورة ميمات اجتمعت في الإدغام أكثر ممّا كانت تجتمع في (لِمَنْ ما) ولم يحذف منها شيء ، وذلك في قوله تعالى : (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] ، فإذا لم يحذف شيء من هذا فأن لا يحذف ثم أجدر.

قال شهاب الدين (٣) : اجتمع في (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) ثمانية ميمات ، وذلك أنّ «أمما» فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يقلب ميما لإدغامه في ميم «من» ومعنا نونان : نون «من» الجارة ، ونون «من» الموصولة فيقلبان أيضا ميما لإدغامهما في الميم بعدهما ، ومعنا ميم : «معك» فتحصّل معنا خمس ميمات ملفوظ بها ، وثلاث منقلبة إحداها عن تنوين ، واثنتان نون ، واستدلّ الفراء على أنّ أصل «لمّا» (لِمَنْ ما) بقول الشّاعر : [الطويل]

٣٠٢٤ ـ وإنّا لممّا نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللّسان من الفم (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

٣٠٢٥ ـ وإنّي لممّا أصدر الأمر وجهه

إذا هو أعيا بالسّبيل مصادره (٥)

وقد تقدّم في آل عمران في قراءة من قرأ : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) [الآية : ٨١] بتشديد «لمّا» أنّ الأصل : (لِمَنْ ما) ففعل فيه ما تقدّم ، وهذا أحد الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته ، فالتفت إليه. وقال أبو شامة : وما قاله الفرّاء استنباط حسن ، وهو قريب من قولهم في قوله (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) [الكهف : ٣٨] إنّ أصله: لكن أنا ثمّ حذفت الهمزة ، وأدغمت النون في النّون ، وكذا في قولهم : أمّا أنت منطلقا انطلقت ، قالوا المعنى لأن كنت منطلقا. وفيما قاله نظر ، لأنّه ليس فيه حذف ألبتّة ، وإنّما كان يحسن التنظير أن لو كان فيما جاء به إدغام حذف ، وأمّا مجرّد التّنظير

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ١٤٥.

(٢) ينظر : إعراب القرآن ٢ / ١١٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٣٧.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ١٥٠ والفراء ٢ / ٢٩ والقرطبي ٩ / ٧٠ والطبري ١٥ / ٤٩٤ والدر المصون ٤ / ١٣٨.

٥٧٩

بالقلب والإدغام فغير طائل ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشّاهد من البيت يعني : الفرّاء ، ثم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التّخفيف والتّشديد من «لمّا» في معنى واحد ، فقال : «ثمّ تخفّف ، كما قرأ بعض القرّاء (وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ) [النحل : ٩٠] بحذف الياء عند الياء ؛ أنشدني الكسائيّ : [الوافر]

٣٠٢٦ ـ وأشمتّ العداة بنا فأضحوا

لدي يتباشرون بما لقينا (١)

فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات».

قال شهاب الدّين (٢) : الأولى أن يقال : حذفت ياء الإضافة من «لديّ» فبقيت الياء السّاكنة قبلها المنقلبة عن الألف في «لدى» وهو مثل قراءة من قرأ (يا بُنَيَ) [هود : ٤٢] بالإسكان على ما سبق ، وأمّا الياء من «يتباشرون» فثابتة لدلالتها على المضارعة.

ثم قال الفرّاء : [الرجز]

٣٠٢٧ ـ كأنّ من آخرها إلقادم (٣)

يريد : إلى القادم ؛ فحذف اللّام عند اللّام. وتوجيه قولهم من آخرها إلقادم أنّ ألف «إلى» حذفت لالتقاء الساكنين ، وذلك أنّ ألف «إلى» ساكنة ، ولام التّعريف من القادم ساكنة ، وهمزة الوصل حذفت درجا ، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام «إلى» ولام التعريف ، فحذفت الثانية على رأيه ، والأولى حذف الأولى ؛ لأنّ الثانية دالة على التعريف ، فلم يبق من حرف «إلى» غير الهمزة فاتصلت بلام «القادم» فبقيت الهمزة على كسرها ؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة «من آخرها إلقادم» بهمزة مكسورة ثابتة درجا ؛ لأنها همزة قطع.

قال أبو شامة : وهذا قريب من قولهم : «ملكذب» و «علماء بنو فلان» و «بلعنبر» يريدون : من الكذب ، وعلى الماء بنو فلان ، وبنو العنبر ، قال شهاب الدين ـ رحمه‌الله ـ : يريد قوله : [المنسرح]

٣٠٢٨ ـ أبلغ أبا دختنوس مألكة

غير الذي قد يقال ملكذب (٤)

المألكة : الرّسالة ، وقول الاخر : [الطويل]

٣٠٢٩ أ ـ فما سبق القيسيّ من سوء فعله

ولكن طفت علماء غرلة خالد (٥)

الغرلة القلفة ، وقول الاخر : [الخفيف]

__________________

(١) ينظر البيت في معاني الفراء ٢ / ٩٢ وتفسير الطبري ١٥ / ٤٩٥ وإبراز المعاني ٥٢٥ والدر المصون ٤ / ١٣٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٣٨.

(٣) ينظر البيت في معاني الفراء ٢ / ٩٢ وجامع البيان ١٥ / ٤٩٥ واللسان (قدم) والدر المصون ٤ / ١٣٨.

(٤) تقدم.

(٥) البيت للفرزدق. ينظر : شرح المفصل ١٠ / ١٥٥ ، والمقتضب ١ / ٢٥١ ، والكامل ٣ / ٣٩٩ ، وابن الشجري ٢ / ٤ ، وشرح الجمل لابن هشام ٤٥٢. ويروى البيت هكذا :

وما سبق القيسي من ضعف حيلة

ولكن طغت علماء قلفة خالد

٥٨٠