اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

فالجواب : إذا وصفت جاز ، فإذا قلت : «سلام عليكم» فالتّنكير هنا يدلّ على الكمال والتّمام ، فكأنه سلام كامل تام عليك ، ونظيره قوله تعالى : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

وأما قوله : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧] فالمراد منه الماهية والحقيقة.

قال ابن الخطيب : قوله : «سلام عليكم» أكمل من قوله : «السّلام عليكم» ؛ لأنّ التّنكير يفيد المبالغة والتّمام ، والتعريف لا يفيد إلّا الماهية.

قوله : (فَما لَبِثَ) يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّها نافية ، وفي فاعل «لبث» حينئذ وجهان :

أحدهما : أنّه ضمير إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أي : فما لبث إبراهيم ، وإن جاء على إسقاط الخافض ، فقدّروه بالباء وب «عن» وب «في» ، أي : فما تأخّر في أن ، أو بأن ، أو عن أن.

والثاني : أنّ الفاعل قوله : (أَنْ جاءَ) ، والتقدير : فما لبث ، أي : ما أبطأ ولا تأخّر مجيئه بعجل سمين.

وثاني الأوجه : أنّها مصدرية.

وثالثها : أنّها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبره على حذف مضاف تقديره : فلبثه ـ أو الذي لبثه ـ قدر مجيئه.

قال القرطبيّ (١) : قوله : (أَنْ جاءَ) معناه : حتّى جاء.

والحنيذ : المشويّ بالرّضف في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرة من الأرض بالحجارة المحمّاة ، يقال : حنذت الشّاة أحنذها حنذا فهي حنيذ ، أي : محنوذة.

وقيل : حنيذ بمعنى يقطر دسمه من قولهم : حنذت الفرس ، أي : سقته شوطا أو شوطين وتضع عليه الجلّ في الشمس ليعرق.

ثم قال : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) أي : إلى العجل. وقال الفرّاء : إلى الطّعام وهو العجل.

قوله : «نكرهم» أي : أنكرهم ، فهما بمعنى واحد ؛ وأنشدوا : [البسيط]

٢٩٨٧ ـ وأنكرتني وما كان الذي نكرت

من الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا (٢)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٩ / ٤٣.

(٢) البيت للأعشى. ينظر : ديوانه (١٣٧) والمحتسب ٢ / ٢٩٨ والخصائص ٣ / ٣١٠ ومجاز القرآن ١ / ٢٩٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٤٢ وروح المعاني ١٢ / ٩٠ والتهذيب ١٠ / ١٩١ وإعراب النحاس ٢ / ٢٩٢ والدر المصون ٤ / ١١٣ الموشح ٥٢ الصحاح [نكر] التاج [نكر] الأغاني ١٦ / ١٨.

٥٢١

وفرّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يرى بالبصر ، والرباعي فيما لا يرى من المعاني ، وجعل البيت من ذلك ، فإنّها أنكرت مودّته وهي من المعاني التي لا ترى ، ونكرت شيبته وصلعه ، وهما يبصران ؛ ومنه قول أبي ذؤيب : [الكامل]

٢٩٨٨ ـ فنكرته فنفرت وامترست به

هوجاء هادية وهاد جرشع (١)

والإيجاس : حديث النّفس ، وأصله من الدّخول كأنّ الخوف داخله.

وقال الأخفش : «خامر قلبه». وقال الفرّاء : «استشعر وأحسّ».

والوجس : ما يعتري النفس أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها ، يجس وجسا ووجوسا ووجيسا ، ويوجس ويجس بمعنى يسمع ؛ وأنشدوا على ذلك قوله : [الطويل]

٢٩٨٩ ـ وصادقتا سمع التّوجّس للسّرى

للمح خفيّ أو لصوت مندّد (٢)

و «خيفة» مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة.

فصل

اعلم أنّ الأضياف إنّما امتنعوا عن الطّعام ؛ لأنهم ملائكة ، والملائكة لا يأكلون ، ولا يشربون ، وإنّما أتوه في صورة الأضياف ؛ ليكونوا على صفة يحبها ؛ لأنه كان يحب الضيافة ، وأمّا إبراهيم ، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقد أنهم من البشر ، أو يقال : إنّه كان عالما بأنهم ملائكة ، فعلى الأول فسبب خوفه أمران :

أحدهما : أنّه كان ينزل في طرف من الأرض بعيدا عن النّاس ، فلما امتنعوا عن الأكل ، خاف أن يريدوا به مكروها.

والثاني : أنّ من لا يعرفه إذا حضر ، وقدّم إليه طعاما ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل ، حصل الخوف.

وإن كان عارفا بأنّهم ملائكة ، فسبب خوفه أمران :

أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه.

والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه.

والأول أقرب ؛ لأنّه سارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك ، ولما استدلّ بترك الأكل على حصول الشّرّ ، وأيضا : فإنّه رآهم في صورة

__________________

(١) ينظر البيت في ديوان الهذليين ١ / ٨ وشرح ديوان الهذليين ١ / ٢٢ واللسان (جرشع) والبحر المحيط ٥ / ٢٤٢ والدر المصون ٤ / ١١٣.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ينظر : ديوانه (٢٦) والتهذيب ١٤ / ٧٢ واللسان (ندد) والبحر المحيط ٥ / ٢٣٧ والدر المصون ٤ / ١١٣.

٥٢٢

البشر ، قالوا : لا تخف يا إبراهيم ، إنّا ملائكة الله ، أرسلنا إلى قوم لوط.

فصل

في هذه القصّة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسّر من الموجود في الحال ، ثم يتبعه بغيره ، إن كان له جدة ، ولا يتكلّف ما يضرّ به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أوّل من أضاف ، وليست الضيافة بواجبة عند عامة أهل العلم ؛ قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه» (١).

وإكرام الجار ليس بواجب ، فكذلك الضيف ، وفي الضيافة الواجبة يقول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : ليلة الضّيف حقّ (٢).

وقال ابن العربيّ : وقد قال قوم : إنّ الضيافة كانت واجبة في صدر الإسلام ، ثم نسخت.

فصل

اختلفوا في المخاطب بالضّيافة ، فذهب الشافعيّ ، ومحمد بن عبد الحكم إلى أنّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالك : ليس على أهل الحضر ضيافة.

قال سحنون : إنّما الضّيافة على أهل القرى ، وأمّا أهل الحضر ، فالفندق ينزل فيه المسافر ؛ لما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الضّيافة على أهل الوبر ، وليست على أهل المدر» (٣).

قال القرطبيّ : «قال أبو عمر بن عبد البرّ : وهذا حديث لا يصحّ» قال ابن العربي : «الضيافة حقيقة فرض على الكفاية».

فصل

ومن أدب الضيافة أن يبادر المضيف بالأكل ؛ لأنّ كرامة الضّيف التعجيل بتقديم الضّيافة ، كما فعل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف ، طاب نفس الضّيف للأكل.

__________________

(١) أخرجه مالك ٢ / ٩٢٩ ، في كتاب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : باب جامع ما جاء في الطعام والشراب (٢٢) ، وأخرجه البخاري ١٠ / ٤٤٥ في الأدب : باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (٦٠١٩) و ١٠ / ٥٣١ ، (٦١٣٥) ، ومسلم ٣ / ١٣٥٣ ، في اللقطة : باب الضيافة ونحوها (١٤ / ٤٨) ، (١٥ / ٤٨).

(٢) أخرجه أبو داود (٣٧٥٠) وابن ماجه (٣٦٧٧) والبيهقي (٩ / ١٩٧) وذكره الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٤ / ١٥٩) وقال : وإسناده على شرط الصحيح.

(٣) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (١ / ٢٧١) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢٨٤) من طريق إبراهيم بن عبد الله ابن أخي عبد الرزاق عن سفيان عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.

وهذا حديث موضوع ابراهيم بن عبد الله ابن أخي عبد الرزاق كذاب.

٥٢٣

قوله : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) في محلّ نصب على الحال من مرفوع : «أرسلنا».

وقال أبو البقاء : من ضمير الفاعل في «أرسلنا». وهي عبارة غير مشهورة ، إذ مفعول ما لم يسمّ فاعله لا يطلق عليه فاعل على المشهور ، وعلى الجملة فجعلها حالا غير واضح بل هي استئناف إخبار ، ويجوز جعلها حالا من فاعل «قالوا» أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته ، وهي ابنة عم إبراهيم.

وقوله : «وهي قائمة» أي تخدم الأضياف ؛ وإبراهيم جالس معهم ، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : «وامرأته قائمة وهو قاعد».

قوله : «فضحكت» العامّة على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي ـ رجل من مكة(١) ـ بفتحها وهي لغتان ، يقال : ضحك وضحك ، وقال المهدويّ : «الفتح غير معروف» ، والجمهور على أنّ الضّحك على بابه.

واختلف المفسّرون في سببه فقال القاضي : إنّ إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لما خاف قالت الملائكة (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) فعظم سرورها بسبب سروره ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم (لا تَخَفْ) فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضا بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوّل العمر إلى هذا الزّمان ، وقيل : لمّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث ، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السّرور ، فضحكت.

وقيل : بشّروها بحصول مطلق الولد فضحكت إمّا تعجّبا فإنّه يقال : إنّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ابن مائة سنة ، وإمّا على سبيل السّرور ، ثم لمّا ضحكت بشّرها الله ـ تعالى ـ بأنّ ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب.

وقيل : إنّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه.

وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشّرناها بإسحاق ، فضحكت سرورا بتلك البشارة ، فقدّم الضّحك ، ومعناه التّأخير ، يقال ضحكت الأرنب ، بمعنى : حاضت.

وقال مجاهد وعكرمة : «ضحكت» بمعنى : حاضت (٢). وأنكره أبو عبيدة ، وأبو عبيد ، والفرّاء.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١١ والمحرر الوجيز ٣ / ١٨٩ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٣ والدر المصون ٤ / ١١٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٧٢) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦١٦) عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ.

٥٢٤

قال ابن الأنباري : «هذه اللّغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى اللّيث ـ رحمه‌الله ـ في هذه الآية «فضحكت» طمثت ، وحكى الأزهريّ ـ عن بعضهم ـ أنّ أصله : من ضحاك الطّلعة ، يقال : ضحكت الطلعة إذا انشقت ، وأنشدوا : [المتقارب]

٢٩٩٠ ـ وضحك الأرانب فوق الصّفا

كمثل دم الجوف يوم اللّقا (١)

وقال آخر : [الطويل]

٢٩٩١ ـ وعهدي بسلمى ضاحكا في لبانة

ولم يعد حقّا ثديها أن تحلّما (٢)

أي : حائضا.

وضحكت الكافورة : تشقّقت. وضحكت الشّجرة : سال صمغها ، وضحك الحوض : امتلأ وفاض وظاهر كلام أبي البقاء أن «ضحك» بالفتح مختصّ بالحيض فإنّه قال : «بمعنى حاضت يقال : ضحكت الأرنب بفتح الحاء».

قوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون (٣) برفعها.

فأمّا القراءة الأولى فاختلفوا فيها ، هل الفتحة علامة نصب أو علامة جرّ؟ والقائلون بأنّها علامة نصب اختلفوا ، فقيل : هو منصوب عطفا على قوله : «إسحاق». قال الزمخشريّ : كأنّه قيل : ووهبنا له إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله : [الطويل]

٢٩٩٢ ـ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب .......... (٤)

يعنى أنّه عطف على التّوهم فنصب ، كما عطف الشّاعر على توهّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرّ ، ولكنه لا ينقاس.

وقيل : منصوب بفعل مقدّر ، أي : ووهبنا يعقوب وهو على هذا غير داخل في البشارة ورجّحه الفارسي.

وقيل : هو منصوب عطفا على محلّ «بإسحاق» ؛ لأنّ موضعه نصب كقوله : (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب عطفا على (بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

والفرق بين هذا والوجه الأول : أنّ الأول ضمّن الفعل معنى : «وهبنا» توهّما ، وهنا باق على مدلوله من غير توهّم.

__________________

(١) ينظر البيت في المحتسب ١ / ٣٢٣ واللسان «ضحك» وروح المعاني ١٢ / ٩٨ والقرطبي ٩ / ٤٥ والدر المصون ٤ / ١١٤.

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢٣٧ وروح المعاني ١٢ / ٩٨ والدر المصون ٤ / ١١٤.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٣٦٤ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٨٨ وحجة القراءات ٣٤٧ والإتحاف ٢ / ١٣١ والمحرر الوجيز ٣ / ١٨٩ وقرأ بها أيضا زيد بن علي ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٤ والدر المصون ٤ / ١١٤.

(٤) تقدم.

٥٢٥

ومن قال بأنه مجرور جعله عطفا على «بإسحاق» والمعنى : أنّها بشّرت بهما.

وفي هذا الوجه والذي قبله بحث : وهو الفصل بالظّرف بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد تقدّم ذلك مستوفى في النّساء.

ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال : «وهو ضعيف إلّا بإعادة الخافض ؛ لأنّك فصلت بين الجار والمجرور بالظّرف». قوله : «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازما ، إذ لو قدّم ولم يفصل لم يلتزم الإتيان به.

وأمّا قراءة الرّفع ففيها أوجه :

أحدها : أنّه مبتدأ وخبره الظّرف السّابق فقدره الزمخشريّ «موجود أو مولود» وقدّره غيره ب : كائن ولمّا حكى النّحاس هذا قال : «الجملة حال داخلة في البشارة أي : فبشّرناها بإسحاق متّصلا به يعقوب».

والثاني : أنّه مرفوع على الفاعلية بالجارّ قبله ، وهذا يجيء على رأي الأخفش.

والثالث : أن يرتفع بإضمار فعل أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مدخل له في البشارة.

والرابع : أنه مرفوع على القطع يعنون الاستئناف ، وهو راجع لأحد ما تقدّم من كونه مبتدأ وخبرا ، أو فاعلا بالجارّ بعده ، أو بفعل مقدر.

وفي لفظ «وراء» قولان :

أظهرهما : وهو قول الأكثرين أنّ معناه «بعد» أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة.

والثاني : أنّ الوراء : ولد الولد.

فصل

ذكر المفسّرون أنّ «إسحاق» ولد ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بشّرت به تسعين سنة. وذكر أهل الكتاب أنّ إسحاق لمّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنّها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توءمين ؛ أولهما سمّوه عيصو ، وتسميه العرب «العيص» وهو والد الرّوم الثانية ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمّوه يعقوب ، وهو إسرائيل الذي ينسب إليه بنو إسرائيل.

قوله : «قالت يا ويلتا» الظّاهر كون الألف بدلا من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية ، وبها قرأ الحسن (١) «يا ويلتي» بصريح الياء. وقيل : هي ألف

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١١ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٤ والدر المصون ٤ / ١١٥.

٥٢٦

الندبة ، ويوقف عليها بهاء السّكت. وكذلك الألف ف ي «يا ويلتا» و «يا عجبا».

قال القفال ـ رحمه‌الله ـ : أصل الويل هو الخزي ، ويقال : ويل لفلان ، أي الخزي والهلاك.

[قال سيبويه : «ويح» زجر لمن أشرف على الهلاك ، و «ويل»](١) لمن وقع فيه.

قال الخليل : ولم أسمع على مثاله إلّا «ويح» ، و «ويد» ، و «ويه» ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى.

قوله : «أألد» قرأ ابن كثير ونافع (٢) وأبو عمرو «آلد» بهمزة ومدة ، والباقون : بهمزتين بلا مدّ وقوله : (وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) الجملتان في محلّ نصب على الحال من فاعل «ألد» أي : كيف تقع الولادة في هاتين الحالتين المنافيتين لها؟.

والجمهور على نصب «شيخا» وفيه وجهان :

المشهور أنّه حال ، والعامل فيه : إمّا التّنبيه وإما الإشارة. وإمّا كلاهما.

والثاني : أنه منصوب على خبر التّقريب عند الكوفيين ، وهذه الحال لازمة عند من لا يجهل الخبر ، وأمّا من جهله فهي غير لازمة.

وقرأ ابن مسعود والأعمش وكذلك في مصحف ابن (٣) مسعود «شيخ» بالرّفع ، وذكروا فيه أوجها : إمّا خبر بعد خبر ، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض ، أو خبر «هذا» و «بعلي» بيان ، أو بدل ، أو «شيخ» بدل من «بعلي» ، أو «بعلي» مبتدأ و «شيخ» خبره ، والجملة خبر الأول ، أو «شيخ» خبر مبتدأ مضمر أي : هو شيخ.

والشّيخ يقابله عجوز ، ويقال : شيخة قليلا ؛ كقوله : [الطويل]

٢٩٩٣ ـ وتضحك منّي شيخة عبشميّة

 ......... (٤)

وله جموع كثيرة ، فالصّريح منها : أشياخ وشيوخ وشيخان ، وشيخة عند من يرى أنّ فعلة جمع لا اسم جمع كغلمة وفتية.

ومن أسماء جمعه : مشيخة وشيخة ومشيوخا.

وبعلها : زوجها ، سمّي بذلك لأنّه قيّم أمرها.

قال الواحدي : وهذا من لطيف النّحو وغامضه فإنّ كلمة «هذا» للإشارة ، فكان قوله (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) قائم مقام أن يقال : أشير إلى بعلي حال كونه شيخا.

والمقصود : تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشّيخوخة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٣٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٩١ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٤ والدر المصون ٤ / ١١٥.

(٤) تقدم.

٥٢٧

ثم قال : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

فإن قيل : كيف تعجّبت من قدرة الله ـ تعالى ـ والتّعجّب من قدرة الله يدلّ على الجهل بقدرة الله تعالى ؛ وذلك يوجب الكفر؟.

فالجواب : أنّها إنّما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة ، فإنّ الرّجل المسلم لو أخبره رجل آخر صادق بأنّ الله ـ تعالى ـ يقلب هذا الجبل إبريزا ، فلا شكّ أنه يتعجب نظرا إلى العادة لا استنكارا للقدرة.

ثم قالت الملائكة : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : لا تعجبي من أمر الله ، فإنّ الله إذا أراد شيئا كان.

قوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) أي : بيت إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والمعنى : رحمة الله عليكم متكاثرة ، وبركاته عندكم متوالية متعاقبة ، وهي النبوة ، والمعجزات القاهرة ، فإذا خرق الله العادة في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرّفيعة ، فلا تعجبي من ذلك. وقيل : هذا على معنى الدّعاء من الملائكة.

وقيل : على معنى الخير والرّحمة والنعمة. و «البركات» جمع البركة وهي ثبوت الخير.

فإن قيل : ما الحكمة في إفراد الرّحمة وجمع البركات ، وكذلك إفراد السّلام في التشهد وجمع البركات؟.

فالجواب : قد تقدّم في سورة البقرة عند قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٥٧].

وقال ابن القيّم ـ هنا ـ إنّ السّلام إمّا مصدر محض ، فهو شيء واحد ، فلا معنى لجمعه ، وإمّا اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فيستحيل أيضا جمعه ، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه.

وأمّا الرّحمة فمصدر كما تقدّم ، وأمّا البركة : فإنها لمّا كانت تتجدّد شيئا بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها ؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها ، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية ، وكذلك السّلام في التشهّد ، وهو قوله : السّلام عليكم أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

وقوله : «عليكم» حكى سيبويه «عليكم» بكسر الكاف لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنّ الأزواج من أهل البيت.

قوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) في نصبه وجهان :

أحدهما : أنه منادى.

والثاني : أنه منصوب على المدح. وقيل : على الاختصاص ، وبين النّصبين فرق :

٥٢٨

وهو أنّ المنصوب على المدح لفظ والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح ، أو ذمّ ، لكن لفظه لا يتضمّن بوضعه المدح ، ولا الذّم ؛ كقوله : [الرجز]

٢٩٩٤ ـ بنا تميما يكشف الضّباب (١)

كذا قاله أبو حيّان ، واستند إلى أنّ سيبويه جعلهما في بابين ، وفيه نظر. ثم قال : إنه حميد مجيد ، فالحميد : المحمود ، والمجيد : فعيل ، مثال مبالغة من مجد يمجد مجدا ومجادة ، ويقال : مجد ك : شرف وأصله : الرّفعة.

وقيل : من مجدت الإبل تمجد مجادة ومجدا ، أي : شبعت ؛ وأنشدوا لأبي حيّة النّميري : [الوافر]

٢٩٩٥ ـ تزيد على صواحبها وليست

بماجدة الطّعام ولا الشّراب (٢)

[أي] : ليست بكثيرة الطّعام ولا الشّراب.

وقيل : مجد الشّيء : أي : حسنت أوصافه.

وقال الليث ـ رحمه‌الله ـ : «أمجد فلان عطاءه ومجّده أي : كثّره».

والمجيد : الماجد ، وهو ذو الشّرف والكرم.

قوله : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) ، أي : الفزع ؛ قال الشّاعر : [الطويل]

٢٩٩٦ ـ إذا أخذتها هزّة الرّوع أمسكت

بمنكب مقدام على الهول أروعا (٣)

يقال : راعه يروعه ، أي : أفزعه ؛ قال عنترة : [الكامل]

٢٩٩٧ ـ ما راعني إلّا حمولة أهلها

وسط الدّيار تسفّ حبّ الخمخم (٤)

وارتاع : افتعل منه ؛ قال النابغة : [البسيط]

٢٩٩٨ ـ فارتاع من صوت كلّاب فبات له

طوع الشّوامت من خوف ومن صرد (٥)

وأمّا الرّوع ـ بالضمّ ـ فهي النّفس لأنّها محلّ الرّوع. ففرّقوا بين الحالّ والمحلّ ؛ وفي الحدي : «إنّ روح القدس نفث في روعي».

قوله : (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) عطف على «ذهب» ، وجواب «لمّا» على هذا محذوف

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر البيت في اللسان (مجد) وروح المعاني ١٢ / ١٠٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٣٧ والدر المصون ٤ / ١١٦.

(٣) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢٣٨ وروح المعاني ١٢ / ١٠٢ والدر المصون ٤ / ١١٦.

(٤) ينظر البيت في ديوانه (١٠٧) وشرح القصائد العشر (٣٢٧) وروح المعاني ١٢ / ١٠٢ واللسان (خمم) والتهذيب ٧ / ١٧ وجمهرة أشعار العرب ٢ / ٥٣ والدر المصون ٤ / ١١٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٣٨.

(٥) ينظر البيت في ديوانه (١٩) والقرطبي ٩ / ٤٩ والبحر المحيط ٥ / ٢٣٨ والدر المصون ٤ / ١١٦.

٥٢٩

أي : فلمّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم ، أو فطن لمجادلتهم ، وقوله : «يجادلنا» على هذا جملة مستأنفة ، وهي الدّالّة على ذلك الجواب المحذوف.

وقيل : تقدير الجواب : أقبل يجادلنا ، أو أخذ يجادلنا ، ف «يجادلنا» على هذا حال من فاعل «أقبل».

وقيل : جوابها قوله : «يجادلنا» وأوقع المضارع موقع الماضي.

وقيل : الجواب قوله : (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) والواو زائدة. وقيل : «يجادلنا» حال من «إبراهيم» ، وكذلك قوله : (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) و «قد» مقدرة. ويجوز أن يكون «يجادلنا» حالا من ضمير المفعول في «جاءته». و (فِي قَوْمِ لُوطٍ) أي : في شأنهم.

قوله : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ).

هذا أوّل قصة قوم لوط ، والمعنى : أنّه لمّا زال الخوف وحصل السّرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد ، أخذ يجادلنا أي : رسلنا ، بمعنى : يكلمنا ؛ لأنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يجادل ربه ، إنّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ولو كان جدلا مذموما لما مدحه بهذا المدح العظيم ، وكانت مجادلته أن قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها قالوا : لا.

قال : أو أربعون. قالوا : لا.

قال : أو ثلاثون. قالوا لا. حتّى بلغ العشرة.

قالوا : لا. قال : أرأيتم لو كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا. فعند ذلك (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) [العنكبوت : ٣٢].

ثم قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ).

والحليم : الذي لا يتعجّل بمكافأة من يؤذيه ، ومن كان كذلك فإنّه يتأوّه إذا شاهد وصول الشّدائد إلى الغير فلمّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لوط عظم حزنه ، وأخذ يتأوّه فوصفه ، الله ـ تعالى ـ بأنّه منيب ؛ لأنّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمة على الخلق فإنّه يتوب ويرجع إلى الله ـ تعالى عزوجل ـ في إزالة ذلك العذاب ، أو يقال : من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشّدائد ، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى ، ولا طريق لتخليص النّفس من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبة والإنابة ، فقالت الرّسل عند ذلك لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي : أعرض عن هذا المقال ، ف (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) ، أي : عذاب ربّك وحكم ربّك (إِنَّهُمْ آتِيهِمْ) : نازل بهم (عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) ، أي : غير مصروف عنهم. قوله : (آتِيهِمْ عَذابٌ) يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلّ رفع خبرا ل «إنّهم» ، ويجوز أن يكون «آتيهم» الخبر «عذاب» المبتدأ ، وجاز

٥٣٠

ذلك لتخصّصه بالوصف ، ولتنكير «آتيهم» ؛ لأنّ إضافته غير محصنة.

ويجوز أن يكون «آتيهم» خبر «إنّ» ، و «عذاب» فاعل به ، ويدلّ على ذلك قراءة عمرو بن هرم «وإنهم أتاهم» بلفظ الفعل الماضي.

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)(٨٣)

قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : انطلقوا من عند إبراهيم إلى «لوط» [و] بين القريتين أربعة فراسخ ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه (١).

قوله : (سِيءَ بِهِمْ) فعل مبنيّ للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير «لوط» من قولك: «ساءني كذا» أي : حصل لي سوء ، و «بهم» متعلق به ، أي : بسببهم ، يقال : سؤته فسيء كما يقال : سررته فسرّ ، ومعناه : ساءه مجيئهم وساء يسوء فعل لازم.

قال الزجاج : «أصله «سوىء بهم» إلّا أنّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين».

و «ذرعا» نصب على التّمييز ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، اشتقاقا من الذّراع ، توسّع فيه فوضع موضع الطّاقة والجهد. فقيل : ضاق ذرعه ، أي طاقته ؛ قال : [البسيط]

٢٩٩٩ ـ .........

فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك (٢)

وقد يقع الذّراع موقعه ؛ قال : [الوافر]

٣٠٠٠ ـ إذا التّيّاز ذو العضلات قلنا

إليك إليك ضاق بها ذراعا (٣)

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٢٦).

(٢) تقدم.

(٣) البيت للقطامي : ينظر : الديوان (٤) والتهذيب ١٣ / ٢٣٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٣٨ ومعاني الفراء ١ / ٢٥٦ والخصائص ٣ / ١٠٢ وزاد المسير ٤ / ١٣٦ والدر المصون ٤ / ١١٧.

٥٣١

قيل : هو كناية عن ضيق الصّدر.

وقوله : «عصيب» العصب والعصبصب والعصوب : اليوم الشّديد الكثير الشّرّ ، الملتفّ بعضه ببعض قال : [الوافر]

٣٠٠١ ـ وكنت لزاز خصمك لم أعرّد

وقد سلكوك في يوم عصيب (١)

وعن أبي عبيدة : «سمّي عصيبا ؛ لأنّه يعصب النّاس بالشّرّ». كأنّه عصب به الشّر والبلاء أي : حشدوا والعصابة : الجماعة من النّاس سمّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة.

والمعنى : أنّ لوطا لمّا نظر إلى حسن وجوههم ، وطيب روائحهم ، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة ، وعلم أنّه سيحتاج إلى المدافعة عنهم ، فلذلك ضاق بهم ذرعا أي : قلبا.

يقال : ضاق ذرع فلان بكذا ، إذا وقع في مكروه ، ولا يطيق الخروج منه.

قوله : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ) «يهرعون» في محلّ نصب على الحال. والعامّة على «يهرعون» مبنيا للمفعول. وقرأت فرقة (٢) بفتح الياء مبنيّا للفاعل من لغة «هرع» والإهراع : الإسراع.

ويقال : هو المشي بين الهرولة والجمز.

وقال الهرويّ : هرع وأهرع : استحث.

وقيل : «الإهراع : هو الإسراع مع الرّعدة».

قيل : هذا من باب ما جاء بصيغة الفاعل على لفظ المفعول ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان ، وأرعد زيد ، وزهي عمرو من الزهو.

وقيل : لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعال عرف فاعلوها. فتأويل أولع فلان أي : أولعه حبّه ، وأرعد زيد أي : أرعده غضبه ، وزهي عمرو أي : جعله ماله زاهيا ، وأهرع فلان أي : أهرعه خوفه ، أو حرصه.

فصل

روي أنّه لمّا دخلت الملائكة دار لوط ـ عليه‌السلام ـ مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوها ولا أطيب منهم رائحة ف (جاءَهُ قَوْمُهُ) مسرعين (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : من قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يأتون

__________________

(١) البيت لعدي بن زيد. ينظر : الديوان ٣٩ والأغاني ٢ / ١١١ وجامع البيان ١٥ / ٤٠٩ واللسان (سلك) والدر المصون ٤ / ١١٧ ومجاز القرآن ١ / ٢٩٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٩٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٦.

٥٣٢

الرّجال في أدبارهم ، فقال لهم لوط ـ عليه‌السلام ـ : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) يعني : بالتزويج.

قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) جملة برأسها ، و (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) جملة أخرى ، ويجوز أن يكون «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» بدل أو عطف بيان ، وهنّ مبتدأ ، و «أطهر» خبره ، والجملة خبر الأول. ويجوز أن يكون «هنّ» فصلا ، و «أطهر» خبر : إمّا ل «هؤلاء» ، وإمّا ل «بناتي» والجملة خبر الأوّل.

وقرأ الحسن وزيد بن عليّ ، وسعيد بن جبيير (١) ، وعيسى بن عمر ، والسّدي «أطهر» بالنّصب ، وخرّجت على الحال ، فقيل : «هؤلاء» مبتدأ ، و (بَناتِي هُنَّ) جملة في محلّ خبره ، و «أطهر» حال ، والعامل : إمّا التّنبيه وإمّا الإشارة.

وقيل : «هنّ» فصل بين الحال وصاحبها ، وجعل من ذلك قولهم : «أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة» ومنعه بعض النحويين ، وخرج الآية على أنّ «لكم» خبر «هنّ» فلزمه على ذلك أن تتقدّم الحال على عاملها المعنويّ ، وخرّج المثل المذكور على أنّ «نضيجة» منصوبة ب «كان» مضمرة.

فصل

قال قتادة ـ رحمه‌الله ـ : «المراد بناته لصلبه» ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا كما زوّج النبي ـ صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائما أبدا ـ ابنته من عتبة بن أبي لهب ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين.

وقال الحسن بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام (٢).

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : أراد نساءهم ، وأضاف إلى نفسه ؛ لأنّ كلّ نبيّ أبو أمته (٣) وفي قراءة أبي بن كعب (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] وهو أب لهم» وهذا القول أولى ؛ لأنّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجّار أمر مستعبد لا يليق بأهل المروءة ، فكيف بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ؟ وأيضا فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، أمّا بنات أمته ففيهن كفاية للكلّ ، وأيضا : فلم يكن له إلّا بنتان ، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز ؛ لما ثبت أنّ أقلّ الجمع ثلاثة ؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٩٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٧ والدر المصون ٤ / ١١٨.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٨٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٥).

٥٣٣

فإن قيل : ظاهر قوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) يقتضي كون عملهم طاهرا ، ومعلوم أنّه فاسد ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرّجل.

فالجواب : هذا جار مجرى قولنا : الله أكبر ، والمراد : أنّه كبير ، وكقوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) [الصافات : ٦٢] ولا خير فيها ، ولمّا قال أبو سفيان يوم أحد اعل هبل اعل هبل ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أعلى وأجلّ (١) ولا مقاربة بين الله والصنم.

قوله : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) قرأ أبو عمرو (٢) ونافع بإثبات ياء الإضافة في «تخزون» على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها.

والضّيف في الأصل مصدر كقولك : رجال صوم ، ثم أطلق على الطّارق لميلانه إلى المضيف ، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدّيهما بلفظ واحد ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : أضياف وضيوف كأبيات وبيوت وضيفان كحوض وحيضان.

والضّيف قائم هنا مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣٢].

فصل

قال ابن عباس : المراد : خافوا الله ، ولا تفضحوني في أضيافي (٣) ، يريد : أنّهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة.

وقيل : معناه لا تخجلوني فيهم ؛ لأنّ مضيف الضّيف يلحقه الخجل من كلّ فعل قبيح يتوجه إلى الضّيف ، يقال : خزي الرجل إذا استحيا.

ثم قال : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي : صالح سديد يقول الحق ، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. وقال عكرمة : رجل يقول : لا إله إلّا الله (٤).

وقال ابن إسحاق : رجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر (٥).

(قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ) يا لوط (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) ، أي : لسن أزواجا لنا فنستحقهنّ بالنكاح. وقيل : ما لنا في بناتك من حاجة ، ولا شهوة. وقيل : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ) لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ، ونحن لا نجيبك إلى ذلك ، فلا يكون لنا فيهن حقّ.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٤٦٣).

(٢) وقرأ بها أيضا نافع في الوصل ينظر : إعراب القراءات السبع ١ / ٢٩٧.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٢٨).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٥) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢١) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

وذكره أيضا عن عكرمة وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٥) انظر المصادر السابقة.

٥٣٤

قوله : (مِنْ حَقٍّ) يجوز أن يكون مبتدأ ، والجارّ خبره ، وأن يكون فاعلا بالجارّ قبله لاعتماده على نفي ، و «من» مزيدة على كلا القولين.

قوله : (ما نُرِيدُ) يجوز أن تكون «ما» مصدرية ، وأن تكون موصولة بمعنى «الّذي».

والعلم عرفان ؛ فلذلك يتعدّى لواحد أي : لتعرف إرادتنا ، أو الذي نريده. ويجوز أن تكون «ما» استفهامية ، وهي معلقة للعلم قبلها.

والمعنى : إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرّجال.

قوله : (لَوْ أَنَّ) جوابها محذوف تقديره : لفعلت بكم وصنعت كقوله : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ) [الرعد : ٣١] قوله : (أَوْ آوِي) يجوز أن يكون معطوفا على المعنى ، تقديره: أو أنّي آوي ، قاله أبو البقاء ويجوز أن يكون معطوفا على «قوّة» ؛ لأنه منصوب في الأصل بإضمار أن فلمّا حذفت «أن» رفع الفعل كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) [الروم : ٢٤].

واستضعف أبو البقاء (١) هذا الوجه بعدم نصبه. وقد تقدّم جوابه. ويدلّ على اعتبار ذلك قراءة شيبة ، وأبي جعفر : «أو آوي» بالنصب كقوله : [الطويل]

٣٠٠٢ ـ ولو لا رجال من رزام أعزّة

وآل سبيع أو أسوءك علقما (٢)

وقولها : [الوافر]

٣٠٠٣ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف (٣)

ويجوز أن يكون عطف هذه الجملة الفعلية على مثلها إن قدّرت أنّ «أنّ» مرفوعة بفعل مقدر بعد «لو» عند المبرد ، والتقدير : لو يستقر ـ أو يثبت ـ استقرار القوة أو آوي ، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى ؛ لأنّها تقلب المضارع إلى المضيّ.

وأمّا على رأي سيبويه في كون أنّ «أنّ» في محلّ الابتداء ، فيكون هذا مستأنفا.

وقيل : «أو» بمعنى «بل» وهذا عند الكوفيين.

و «بكم» متعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من «قوّة» ، إذ هو في الأصل صفة للنّكرة ، ولا يجوز أن يتعلق ب «قوّة» لأنها مصدر.

والرّكن بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره ، ويجمع على أركان وأركن ؛ قال : [الرجز]

٣٠٠٤ ـ وزحم ركنيك شديد الأركن (٤)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٤٣.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) البيت لرؤبة بن العجاج ينظر : ديوانه ص ١٤٦ والكتاب ٣ / ٥٧٨ ولسانه العرب (ركن) والمقرب ٢ / ١٠٨ والدر المصون ٤ / ١١٨.

٥٣٥

فصل

المعنى : لو أنّ لي قوة البدن ، أو القوّة بالأتباع ، وتسمية موجب القوة بالقوّة جائز قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] والمراد السلاح. (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) أي : موضع حصين ، وقيل : أنضم إلى عشيرة مانعة.

فإن قيل : كيف عطف الفعل على الاسم؟.

فالجواب قد تقدّم.

قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : «ما بعث الله بعده نبيّا إلّا في منعة من عشيرته» (١) وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد» (٢).

قال ابن عبّاس والمفسّرون ـ رضي الله عنهم ـ : أغلق لوط بابه ، والملائكة معه في الدّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب ، وهم يعالجون سور الجدار ، فلما رأت الملائكة ما يلقى لوط بسببهم : (قالُوا يا لُوطُ) إنّ ركنك شديد (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك ، فافتح الباب ، ودعنا وإيّاهم ؛ ففتح الباب ودخلوا ، واستأذن جبريل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ربه ـ عزوجل ـ في عقوبتهم فأذن له ـ فقام في الصّورة التي يكون فيها ؛ فنشر جناحيه ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثّنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه مثل المرجان كأنّه الثلج بياضا ، وقدماه إلى الخضرة ، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطّريق ، فانصرفوا وهم يقولون : النّجاة النّجاة في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ، سحرونا ، وجعلوا يقولون : يا لوط كما أنت حتى تصبح ، وسترى ما تلقى منّا غدا ، فقال لوط للملائكة : متى موعد هلاكهم؟ فقالوا : الصّبح ، قال : أريد أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن ، فقالوا (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ).

قوله : «فأسر» قرأ نافع (٣) وابن كثير : (فاسر بأهلك) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان (فَأَسْرِ بِعِبادِي) ، وقوله : (أَنْ أَسْرِ) في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجا وتثبت مكسورة ابتداء.

والباقون : «فأسر» بهمزة القطع تثبت مفتوحة درجا وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٩٥) عن أبي هريرة وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٨٥) عن ابن جريج مثله.

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٤٧٣) كتاب أحاديث الأنبياء : باب قول الله عزوجل : ونبئهم عن ضيف إبراهيم (٣٣٧٢).

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٣٦٧ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٩١ وحجة القراءات ٣٤٧ وقرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر : الإتحاف ٢ / ١٣٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٤٨ والدر المصون ٤ / ١١٩.

٥٣٦

من لغتي هذا الفعل فإنّه يقال : سرى ، ومنه (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] ، وأسرى ، ومنه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وهل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق؟ خلاف فقيل : هما بمعنى واحد ، وهو قول أبي عبيد.

وقيل : أسرى لأول الليل ، وسرى لآخره ، وهو قول اللّيث ـ رحمه‌الله ـ وأمّا «سار» فمختص بالنّهار ، وليس مقلوبا من «سرى».

فإن قيل «السّرى» لا يكون إلّا بالليل ، فما الفائدة في قوله : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)؟.

فالجواب : أنّه لو لم يقل (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) جاز أن يكون أوّله.

قوله : «بأهلك» يجوز أن تكون الباء للتّعدية ، وأن تكون للحال أي : مصاحبا لهم.

وقوله : «بقطع» حال من «أهلك» أي : مصاحبين لقطع ، على أنّ المراد به الظلمة وقيل : الباء بمعنى «في».

والقطع : نصف اللّيل ؛ لأنّه قطعة منه مساوية لباقيه ؛ وأنشد : [الوافر]

٣٠٠٥ ـ ونائحة تنوح بقطع ليل

على رجل بقارعة الصّعيد (١)

وقال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أخبرني عن قول الله ـ عزوجل ـ (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) قال : هو آخر الليل سحر (٢) وقال قتادة : بعد طائفة من اللّيل(٣).

وتقدم في سورة يونس.

ثم قال : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) في الالتفات وجهان :

أحدهما : نظر الإنسان إلى ما وراءه ، فيكون المراد أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها.

والثاني : أنّ المراد بالالتفات الانصراف ؛ كقوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) [يونس : ٧٨] أي : لتصرفنا والمراد نهيهم عن التّخلّف.

قوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قرأ ابن كثير (٤) ، وأبو عمرو برفع «امرأتك» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية كلام كثير. أمّا قراءة الرّفع ففيها وجهان :

أشهرهما ـ عند المعربين ـ أنّه على البدل من «أحد» وهو أحسن من النّصب ، لأنّ الكلام غير موجب.

__________________

(١) البيت لمالك بن كنانة. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٨ والقرطبي ٩ / ٥٤ وروح المعاني ١٢ / ١٠٩ والدر المصون ٤ / ١١٩.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢٣) وعزاه إلى ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن ابن عباس.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٦٢٣) وعزاه إلى عبد الرزاق.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ٣٦٩ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٩٢ وحجة القراءات ٣٤٧ والإتحاف ٢ / ١٣٣ والمحرر الوجيز ٣ / ١٩٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٤٨ والدر المصون ٤ / ١١٩.

٥٣٧

وهذا الوجه ردّه أبو عبيد بأنه يلزم منه أنّهم نهوا عن الالتفات إلّا المرأة ، فإنّها لم تنه عنه ، وهذا لا يجوز ، ولو كان الكلام (وَلا يَلْتَفِتْ) برفع «يلتفت» يعني على أن تكون «لا» نافية ، فيكون الكلام خبرا عنهم بأنّهم لم يلتفتوا إلّا امرأته فإنّها تلتفت لكان الاستثناء بالبدليّة واضحا ، لكنّه لم يقرأ برفع «يلتفت» أحد.

واستحسن ابن عطية هذا الإلزام من أبي عبيد.

وقال : «إنّه وارد على القول باستثناء المرأة من «أحد» سواء رفعت المرأة أو نصبتها».

وهذا صحيح ، فإنّ أبا عبيد لم يرد الرفع لخصوص كونه رفعا ، بل لفساد المعنى ، وفساد المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد» ، وأبو عبيد يخرّج النصب على الاستثناء من «بأهلك» ولكنّه يلزم من ذلك إبطال قراءة الرّفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواترها.

وقد انفصل المبرّد عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنّ النّهي في اللفظ ل «أحد» وهو في المعنى للوط ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، إذ التقدير : لا تدع منهم أحدا يلتفت ، كقولك لخادمك : «لا يقم أحد» النّهي ل «أحد» وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : لا تدع أحدا يقوم. فآل الجواب إلى أنّ المعنى لا تدع أحدا يلتفت إلّا امرأتك فدعها تلتفت ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : «لا تدع أحدا يقوم إلا زيدا» معناه : فدعه يقوم. وفيه نظر ، إذ المحذور الذي قد فرّ منه أبو عبيد موجود هو أو قريب منه هنا.

والثاني : أنّ الرفع على الاستثناء المنقطع.

وقال أبو شامة : قراءة النّصب أيضا من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حدّ سواء ، ولنسرد كلامه قال : «الذي يظهر أنّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا ، ويؤيد هذا المعنى أنّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر ، وليس فيها استثناء ألبتّة ، قال تعالى : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [الحجر : ٦٥] الآية.

فلم تقع العناية في ذلك إلّا بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حال امرأته في سورة [هود] تبعا لا مقصودا بالإخراج ممّا تقدّم ، وإذا اتّضح هذا المعنى علم أنّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصب والرفع ، فالنّصب لغة أهل الحجاز ، وعليه الأكثر ، والرّفع لغة تميم ، وعليه اثنان من القراء».

قال أبو حيّان (١) : «وهذا الذي طوّل به لا تحقيق فيه ، فإنّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيّين عن الالتفات ، وجعل استثناء منقطعا ، كان من

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٩.

٥٣٨

المنقطع الذي لم يتوجّه عليه العامل بحال ، وهذا النّوع يجب فيه النّصب على كلتا اللغتين وإنّما تكون اللغتان فيما جاز توجّه العامل عليه ، وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلّا» من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنّه يتوجّه عليه العامل وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيّين عن الالتفات ؛ فكان يجب فيه إذ ذاك النّصب قولا واحدا.

قال شهاب الدّين (١) : «أمّا قوله : «إنّه لم يتوجّه عليه العامل» ليس بمسلّم ، بل يتوجّه عليه في الجملة ، والذي قاله النّحاة ممّا لم يتوجّه عليه العامل من حيث المعنى نحو : ما زاد إلّا ما نقص ، وما نفع إلّا ما ضرّ ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة؟».

وأمّا النصب ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مستثنى من «بأهلك» ، واستشكلوا عليه إشكالا من حيث المعنى : وهو أنه يلزم ألّا يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها يدلّ عليه أنّها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفات يدل على كونها سرت معهم قطعا.

وقد أجيب عنه بأنه لم يسر هو بها ، ولكن لمّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيّد أنّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحف ه «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» ولم يذكر قوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ).

والثاني : أنّه مستثنى من «أحد» وإن كان الأحسن الرّفع إلّا أنّه جاء كقراءة ابن عامر : ما فعلوه إلا قليلا منهم [النساء : ٦٦] ، بالنّصب مع تقدّم النفي الصّريح.

وهناك تخريج آخر لا يمكن هنا.

والثالث : أنه مستثنى منقطع على ما تقدّم عن أبي شامة.

وقال الزمخشري (٢) : «وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنّه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلّا هي ، فلمّا سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجر فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلّفها مع قومها فإنّ هواها إليهم ولم يسر بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين».

قال أبو حيّان (٣) : «وهذا وهم فاحش ، إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذب في الإخبار ، يستحيل أن تكون القراءتان ـ وهما من كلام الله تعالى ـ يترتبان على التّكاذب».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٢٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤١٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٩.

٥٣٩

قال شهاب الدّين (١) : «وحاش لله أن تترتب القراءتان على التّكاذب ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيح ، الفرض أنّه قد جاء القولان في التفسير ، ولا يلزم من ذلك التّكاذب ؛ لأنّ من قال إنّه سرى بها يعني أنّها سرت هي بنفسها مصاحبة لهم في أوائل الأمر ، ثمّ أخذها العذاب فانقطع سراها ، ومن قال إنّه لم يسر بها ، أي : لم يأمرها ، ولم يأخذها ، وأنّه لم يدم سراها معهم بل انقطع فصحّ أن يقال : إنّه سرى بها ولم يسر بها ، وقد أجاب النّاس بهذا ، وهو حسن».

وقال أبو شامة : «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبّه عليه اختلاف القراءتين فكأنّه قيل : فأسر بأهلك إلّا امرأتك ، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) فهذا دليل على استثنائها من السّرى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال : فإن خرجت معكم وتبعتكم ـ غير أن تكون أنت سريت بها ـ فانه أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النّصب دالّة على المعنى المتقدم ، وقراءة الرّفع دالّة على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دالّ على جملة المعنى المشروح».

وهو كلام حسن شاهد لما ذكرته.

قوله : (إِنَّهُ مُصِيبُها) الضّمير ضمير الشّأن ، «مصيبها» خبر مقدّم ، و (ما أَصابَهُمْ) مبتدأ مؤخّر وهو موصول بمعنى «الذي» ، والجملة خبر «إنّ» ؛ لأنّ ضمير الشّأن يفسّر بجملة مصرّح بجزأيها.

وأعرب أبو حيان (٢) : «مصيبها» مبتدأ ، و (ما أَصابَهُمْ) الخبر وفيه نظر من حيث الصّناعة : فإنّ الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ : «مصيبها» نكرة ؛ لأنه عامل تقديرا فإضافته غير محضة ، ومن حيث المعنى : إنّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون «مصيبها» مبتدأ ، و «ما» الموصولة فاعل لأنّهم يجيزون أن يفسّر ضمير الشّأن بمفرد عامل فيما بعده نحو : «إنه قائم أبواك».

قوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ) أي : موعد إهلاكهم. وقرأ عيسى (٣) بن عمر «الصّبح» بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباع ، وقد تقدّم البحث في ذلك [الأنعام : ٩٦].

قوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) قيل : المراد حقيقته ، وقيل : المراد بالأمر العذاب ، قال بعضهم : لا يمكن حمله هنا على العذاب ؛ لأن قوله : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا ،) فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطا ، والعذاب الجزاء ، والشرط غير الجزاء ، فالأمر غير العذاب ، فدلّ على أن الأمر هو ضدّ النهي ؛ ويدل على ذلك قول الملائكة : (إِنَّا أُرْسِلْنا

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٢٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٨ ، والدر المصون ٤ / ١٢١.

٥٤٠