اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

فصل

احتجّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه من الإيمان.

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه قال : إنّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة.

أمّا في الدنيا ففي قوله (كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ).

وأمّا في الآخرة ففي (١) قوله ـ عزوجل ـ (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢].

ثم قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي : أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام.

قوله : (لا جَرَمَ) في هذه اللفظة خلاف بين النحويين ، ويتلخص ذلك في خمسة أوجه:

أحدها ـ وهو مذهب الخليل وسيبويه وجماهير النّاس ـ أنّهما ركّبتا من «لا» النّافية و «جرم» وبنيتا على تركيبها تركيب خمسة عشر ، وصار معناهما معنى فعل وهو «حقّ» فعلى هذا يرتفع ما بعدهما بالفاعليّة ، فقوله ـ تعالى ـ : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [النحل : ٦٢] أي : حق وثبت كون النّار لهم ، أو استقرارها لهم.

الوجه الثاني : أنّ (لا جَرَمَ) بمنزلة «لا رجل» في كون «لا» نافية للجنس ، و «جرم» اسمها مبنيّ معها على الفتح ، وهي واسمها في محلّ رفع بالابتداء ، وما بعدها خبر «لا» النافية ، وصار معناها : لا محالة ولا بدّ ، قاله الفرّاء.

الثالث : ـ كالذي قبله ـ إلّا أنّ «أنّ» وما بعدها في محلّ نصب ، أو جرّ بعد حذف الجار ، إذ التقدير : لا محالة أنّهم في الآخرة ، أي : في خسرانهم.

الرابع : أنّ «لا» نافية لكلام متقدم تكلّم به الكفرة ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : «لا» كما تردّ «لا» هذه قبل القسم في قوله ـ عزوجل ـ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١] وقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء : ٦٥] وقد تقدّم تحقيقه ، ثم أتى بعدها بجملة فعلية ، وهي «جرم أنّ لهم كذا» ، و «جرم» فعل ماض معناه «كسب» ، وفاعله مستتر يعود على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام ، و «أنّ» وما في حيّزها في موضع المفعول به ، لأنّ «جرم» يتعدّى إذ هو بمعنى «كسب» ؛ قال الشاعر : [الوافر]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٩) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٨).

٤٦١

٢٩٥٤ ـ نصبنا رأسه في جذع نخل

بما جرمت يداه وما اعتدينا (١)

أي : بما كسبت يداه ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في المائدة [٦] وجريمة القوم كاسبهم ؛ قال : [الوافر]

٢٩٥٥ ـ جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا (٢)

فتقدير الآية : كسبهم ـ فعلهم أو قولهم ـ خسرانهم ، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج ، وعلى هذا فالوقف على قوله «لا» ثم يبتدأ ب «جرم» بخلاف ما تقدّم.

الوجه الخامس : أن معناها لا صدّ ولا منع ، وتكون «جرم» بمعنى «القطع» تقول : جرمت أي : قطعت ، فيكون «جرم» اسم «لا» مبنيا معها على الفتح ؛ كما تقدّم ، وخبرها «أنّ» وما في حيّزها ، أو على حذف حرف الجر ، أي : لا منع من خسرانهم ؛ فيعود الخلاف المشهور وفي هذه اللفظة لغات : فيقال : لا جرم بكسر الجيم ، ولا جرم بضمها ، ولا جر بحذف الميم ، ولا ذا جرم ، ولا إنّ ذا جرم ، ولا عن ذا جرم ، ولا أن جرم ، ولا ذو جرم ، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك.

وعن أبي عمرو : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [النحل : ٦٢] على وزن لا كرم ، يعني بضمّ الراء ، ولا جر ، قال : «حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : «سو ترى» أي : سوف ترى».

وقوله : (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) يجوز أن يكون «هم» فصلا ، وأن يكون توكيدا ، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، والجملة خبر «أنّ».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) لمّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم ، أتبعه بذكر أحوال المؤمنين ، والموصول اسم «إنّ» ، والجملة من قوله (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) خبرها.

والإخبات : الاطمئنان والتذلّل ، والتّواضع ، والخضوع ، وأصله من الخبت وهو المكان المطمئنّ ، أي المنخفض من الأرض ، وأخبت الرّجل : دخل في مكان خبت ، كأنجد وأتهم إذا دخل في أحد هذين المكانين ، ثمّ توسّع فيه فقيل : خبت ذكره ، أي : خمد ، ويقال للشّيء الدّنيء الخبيث ؛ قال الشاعر : [الخفيف]

٢٩٥٦ ـ ينفع الطّيّب القليل من الرّز

ق ولا ينفع الكثير الخبيت (٣)

__________________

(١) ينظر في البحر المحيط ٥ / ٢١٣ وروح المعاني ١٢ / ٣٣ والزاهر ١ / ٣٧٥ والقرطبي ٩ / ١٥ والدر المصون ٤ / ٨٨.

(٢) البيت لأبي خراش الهذلي. ينظر : ديوان الهذليين (١ / ١٣٣) وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٠٥ والبحر المحيط ٥ / ٢١٣ واللسان (جرم) والدر المصون ٤ / ٨٨.

(٣) البيت للسموأل ينظر : اللسان [خبن] والكشاف ٢ / ٣٨٧ والدر المصون ٤ / ٨٩.

٤٦٢

هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة ، الزمخشري وغيره.

والظّاهر أن يكون بالثّاء المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطّيّب ، ولكن الظّاهر من عباراتهم أنّه بالتاء المثناة لأنّهم يسوقونه في هذه المادة ، ويدل على أنّ معنى البيت إنما هو على الثّاء المثلثة قول الزمخشري : «وقيل : التّاء فيه بدل من الثّاء».

ومن مجيء «الخبت» بمعنى المكان المطمئن قوله : [الوافر]

٢٩٥٧ ـ أفاطم لو شهدت ببطن خبت

وقد قتل الهزبر أخاك بشرا (١)

وفي تركيب البيت قلق ، وحلّه : لو شهدت أخاك بشرا وقد قتل الهزبر ، ففاعل «قتل» ضمير يعود على «أخاك».

و «أخبت» يتعدّى ب «إلى» كهذه الآية ، وباللّام كقوله تعالى : (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحج : ٥٤] ومعنى الآية :

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خافوا (٢).

وقال قتادة : تابوا (٣) وقال مجاهد : اطمأنّوا (٤).

وقيل : خشعوا إلى ربّهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قوله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(٢٤)

لمّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالا مطابقا.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) مبتدأ ، و «كالأعمى» خبره ، ثمّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر ، فتقدّر ب «مثل» ، تقديره : مثل الفريقين مثل الأعمى.

ويجوز أن تكون «مثل» بمعنى «صفة» ، ومعنى الكاف معنى «مثل» ، فيقدّر مضاف محذوف ، أي : كمثل الأعمى.

وقوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى) يجوز أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين ، فقابل العمى بالبصر ، والصّمم بالسّمع ، وهو من الطّباق ، وأن يكون من تشبيه شيء واحد

__________________

(١) البيت لقيس بن عوانة أو لبشر بن عوانة. ينظر : أمالي ابن الشجري ٢ / ١٩٢ وشواهد الكشاف ٢ / ٣٦٠ والدر المصون ٤ / ٨٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٩٠) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

٤٦٣

بوصفيه بشيء واحد بوصفيه ، وحينئذ يكون قوله : (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ) وقوله : (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) من باب عطف الصفات ؛ كقوله : [المتقارب]

٢٩٥٨ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

وقد أحسن الزمخشريّ في التّعبير عن ذلك فقال : شبّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسّميع ، وهو من اللفّ والطّباق ، وفيه معنيان : أن يشبّه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبّه امرؤ القيس قلوب الطّير بالحشف والعنّاب ، وأن يشبّه بالذي جمع بين العمى والصّمم ، والذي جمع بين البصر والسّمع ، على أن تكون الواو في (وَالْأَصَمِّ) وفي (وَالسَّمِيعِ) لعطف الصّفة على الصفة كقوله : [السريع]

٢٩٥٩ ـ ......... الص

صابح فالغانم فالآيب (٢)

يريد بقوله : «اللّف» أنه لفّ المؤمنين ، والكافرين اللّذين هما مشبّهان بقوله : «الفريقين» ولو فسّرهما لقال : مثل الفريق المؤمن كالبصير والسّميع ، ومثل الكافر كالأعمى والأصم ، وهي عبارة مشهورة في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللّفّ والنشر ، أشار لقول امرىء القيس: [الطويل]

٢٩٦٠ ـ كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي (٣)

أصل الكلام : كأنّ الرّطب من قلوب الطّير : العنّاب ، واليابس منها : الحشف ، فلفّ ونشر ، وللفّ والنشر في علم البيان تقسيم كثير ، ليس هذا موضعه.

وأشار بقوله : «الصّابح فالغانم» إلى قوله : [السريع]

٢٩٦١ ـ يا ويح زيّابة للحارث الص

صابح فالغانم فالآيب (٤)

وقد تقدّم ذلك في أول البقرة.

فإن قيل : لم قدّم تشبيه الكافر على المؤمن؟.

فالجواب : لأنّ المتقدّم ذكر الكفّار ، فلذلك قدّم تمثيلهم.

فإن قيل : ما الحكمة في العدول عن هذا التركيب لو قيل : كالأعمى والبصير ، والأصم والسّميع ، لتتقابل كلّ لفظة مع ضدها ، ويظهر بذلك التّضادّ؟.

فالجواب : بأنّه تعالى لمّا ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد الأذن ، ولمّا ذكر انفتاح العين أتبعه بانفتاح الأذن ، وهذا التّشبيه أحد الأقسام ، وهو تشبيه أمر معقول بأمر

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر ديوانه ص ٣٨ وشرح التصريح ١ / ٣٨٢ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤٢ ، ٢ / ٥٩٥ ، ٨١٩ واللسان (أدب) والمصنف ٢ / ١١٧ وأوضح المسالك ٢ / ٣٢٩ ومغني اللبيب ١ / ٢١٨ ، ٢ / ٣٩٢ ، ٤٣٩ ودلائل الإعجاز (٦٦) وروح المعاني ١٣ / ٣٤. الدر المصون ٤ / ٩٠.

(٤) تقدم.

٤٦٤

محسوس ، وذلك أنّه شبّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصر وصمم السّمع ، ذاك متردّد في ظلم الضّلالات ، كما أنّ هذا متحير في الطّرقات.

قوله : «مثلا» تمييز ، وهو منقول من الفاعليّة ، والأصل : هل يستوي مثلهما ، كقوله تعالى (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] وجوّز ابن عطية أن يكون حالا ، وفيه بعد صناعة ومعنى ؛ لأنّه على معنى «من» لا على معنى «في».

ثم قال : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) منبّها على أنّه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصّمم ، وإذا كان العلاج ممكنا ، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٣٤)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)(٣٥)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) الآية.

اعلم أنّه جرت عادته ـ تعالى ـ في القرآن بأنّه إذا أورد على الكافر الدّلائل أتبعها بالقصص ليؤكّد تلك الدّلائل ، وقد بدأ بذكر هذه القصّة في سورة يونس ، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد.

قوله (إِنِّي لَكُمْ) قرأ ابن كثير (١) وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة «إني» ، والباقون بكسرها.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣١٥ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٧٨ وحجة القراءات ص ٣٣٧ والمحرر الوجيز ٣ / ١٦٢ والبحر المحيط ٥ / ٢١٤ والدر المصون ٤ / ٩٠.

٤٦٥

فأمّا الفتح فعلى إضمار حرف الجرّ ، أي : «بأنّي لكم».

قال الفارسيّ : في قراءة الفتح خروج من الغيبة إلى المخاطبة.

قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، وإنّما هي حكاية مخاطبته لقومه ، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة ، ولو كان الكلام أن أنذرهم ونحوه لصحّ ذلك.

وقد قال بهذه المقالة ـ أعني الالتفات ـ مكي ـ فإنّه قال : الأصل : بأنّي ، والجارّ والمجرور في موضع المفعول الثاني ، وكان الأصل : أنّه ، لكنّه جاء على طريق الالتفات.

ولكن هذا الالتفات غير الذي ذكره أبو علي ، فإنّ ذلك من غيبة إلى خطاب ، وهذا من غيبة إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه ، وإن كان قول مكي أقرب.

وقال الزمخشري (١) : الجارّ والمجرور صلة لحال محذوفة ، والمعنى : أرسلناه ملتبسا بهذا الكلام ، وهو قوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) بالكسر ، فلمّا اتصل بها الجارّ فتح كما فتح في «كأنّ» والمعنى على الكسر في قولك «إنّ زيدا كالأسد» ، وأمّا الكسر ، فعلى إضمار القول ، أي : فقال ، وكثيرا ما يضمر ، وهو غني عن الشّواهد.

و «النذير» قيل : المراد به كونه مهددا للعصاة بالعقاب ، ومن المبين كونه مبينا ما أعد الله للمطيعين من الثّواب ، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه ، ثم بيّن تعالى أنّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله ، والأمر بعبادته ـ جل ذكره ـ ؛ لأنّ قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) استثناء من النّهي ، فهو يوجب نفي غير المستثنى ، وإيجاب المستثنى.

قوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا) كقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا) في أول السورة ، ونزيد هنا شيئا آخر ، وهو أنّها على قراءة من فتح «أني» تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون بدلا من قوله : (إِنِّي لَكُمْ) ، أي : أرسلناه بأن لا تعبدوا.

والثاني : أن تكون مفسّرة ، والمفسّر بها : إمّا «أرسلناه» وإما «نذير».

وأمّا على قراءة من كسر فيجوز أن تكون المصدرية وهي معمولة ل «أرسلنا» ويجوز أن تكون المفسرة بحاليها.

قوله : «أليم» إسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوعه فيه لا به.

وقال الزمخشريّ : فإذا وصف به العذاب قلت : مجاز مثله ؛ لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذّب ، ونظيرها قولك نهارك صائم.

قال أبو حيّان (٢) : «وهذا على أن يكون «أليم» صفة مبالغة من : «ألم» وهو من كثر ألمه ، وإن كان «أليم» بمعنى : «مؤلم» فنسبته لليوم مجاز وللعذاب حقيقة».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٥.

٤٦٦

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ بعث نوح بعد أربعين سنة ، ولبث يدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة ، وعاش بعد الطّوفان ستين سنة ؛ فكان عمره ألفا وخمسين سنة (١).

وقال مقاتل : بعث وهو ابن مائة سنة.

وقيل : بعث وهو ابن خمسين سنة.

وقيل : ابن مائتين وخمسين سنة ، ومكث يدعو قومه (٢) تسعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة ، فكان عمره ألفا وأربع مائة سنة.

قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ).

«الملأ» هم الأشراف والرّؤساء. (ما نَراكَ) يجوز أن تكون هذه الرّؤيا قلبية ، وأن تكون بصرية. فعلى الأول تكون الجملة من قولك : «اتّبعك» في محلّ نصب مفعولا ثانيا ، وعلى الثّاني في محل نصب على الحال ، و «قد» مقدرة عند من يشترط ذلك.

و «الأراذل» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه جمع الجمع.

والثاني : جمع فقط.

والقائلون بالأول اختلفوا فقيل : جمع ل «أرذل» ، و «أرذل» جمع ل «رذل» نحو : كلب وأكلب وأكالب.

وقيل : بل جمع ل «أرذال» ، و «أرذال» جمع ل «رذل» أيضا.

والقائلون بأنه ليس جمع جمع ، بل جمع فقط قالوا : هو جمع ل «أرذل» ، وإنّما جاز أن

يكون جمعا لأرذل لجريانه مجرى الأسماء من حيث إنه هجر موصوفه كالأبطح والأبرق.

وقال بعضهم : هو جمع «أرذل» الذي للتفضيل ، وجاء جمعا كما جاء (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] و «أحاسنكم أخلاقا».

ويقال : رجل رذل ورذال ، ك «رخل» و «رخال» وهو المرغوب عنه لرداءته.

قال الواحديّ : هم الدّون من كلّ شيء في منظره وحالاته. والأصل فيه أن يقال هو أرذل من كذا فكثر حتى قالوا : هو الأرذل ، فصارت الألف واللّام عوضا عن الإضافة.

قوله : (بادِيَ الرَّأْيِ) قرأ أبو عمرو (٣) وعيسى الثّقفيّ «بادىء» بالهمز ، والباقون بياء

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٩) عن ابن عباس.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٣١٦ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٧٨ وحجة القراءات ص (٣٣٨) والإتحاف ٢ / ١٢٤ والمحرر الوجيز ٣ / ١٦٣ والبحر المحيط ٤ / ٢١٥ والدر المصون ٤ / ٩١.

٤٦٧

صريحة مكان الهمزة. فأما الهمز فمعناه : أول الرّأي ، أي : أنّه صادر عن غير رويّة وتأمّل ، بل من أول وهلة. وأمّا من لم يهمز ؛ فيحتمل أن يكون أصله كما تقدّم ، ويحتمل أن يكون من بدا يبدو أي ظهر ، والمعنى : ظاهر الرّأي دون باطنه ، أي : لو تؤمّل لعرف باطنه ، وهو في المعنى كالأول.

وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على الظّرف وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه :

أحدها : «نراك» ، أي : وما نراك في أول رأينا ، على قراءة أبي عمرو ، أو فيما يظهر لنا من الرأي في قراءة الباقين.

والثاني ـ من الأوجه الثلاثة ـ : أن يكون منصوبا ب «اتّبعك» ، أي : ما نراك اتّبعك أول رأيهم ، أو ظاهر رأيهم ، وهذا يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم ، وبواطنهم ليست معك.

والثاني : أنّهم اتّبعوك بأول نظر ، وبالرّأي البادي دون تثبّت ، ولو تثبتوا لما اتّبعوك.

الثالث ـ من الأوجه الثلاثة ـ أنّ العامل فيه «أراذلنا» والمعنى : أراذلنا بأول نظر منهم أو بظاهر الرّأي نعلم ذلك ، أي : إنّ رذالتهم مكشوفة ظاهرة لكونهم أصحاب حرف دنيّة.

والرّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب ، ويتأكّد هذا بما نقل عن مجاهد أنّه قر أ«إلا الذين هم أراذلنا بادي رأي العين».

ثم القائل بكون «بادي» ظرفا يحتاج إلى اعتذار ، فإنّه اسم فاعل وليس بظرف في الأصل ، قال مكيّ : وإنّما جاز أن يكون فاعل ظرفا كما جاز ذلك في «فعيل» نحو : قريب ومليء ، و «فاعل وفعيل» متعاقبان ك : راحم ورحيم ، وعالم وعليم ، وحسن ذلك في «فاعل» لإضافته إلى الرأي ، والرأي يضاف إليه المصدر ، وينتصب المصدر معه على الظّرف نحو : «أمّا جهد رأي فإنّك منطلق» أي : «في جهد».

قال الزمخشريّ (١) : وانتصابه على الظّرف ، أصله : وقت حدوث أوّل أمرهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه.

الوجه الثاني ـ من السبّعة ـ : أن ينتصب على المفعول به ، حذف معه حرف الجر مثل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥].

وفيه نظر من حيث إنّه ليس هنا فعل صالح للتعدّي إلى اثنين ، إلى ثانيهما بإسقاط الخافض.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٨.

٤٦٨

الثالث من السّبعة : أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضا ليس بالقياس ، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظّرف كما تقدّم ، ويكون من باب ما جاء فيه المصدر من معنى الفعل لا من لفظه ، تقديره : رؤية بدء ، أو ظهور ، أو اتباع بدء أو ظهور ، أو رذالة بدء.

الرابع من السبعة : أن يكون نعتا ل «بشر» ، أي : ما نراك إلّا بشرا مثلنا بادي الرأي ، أي : ظاهره ، أو مبتدئا فيه. وفيه بعد للفصل بين النّعت والمنعوت بالجملة المعطوفة.

الخامس : أنّه حال من مفعول «اتّبعك» ، أي : وأنت مكشوف الرّأي ظاهره لا قوة فيه ، ولا حصانة لك.

السادس : أنه منادى والمراد به نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، كأنّهم قالوا : يا بادي الرّأي ، أي : ما في نفسك ظاهر لكلّ أحد ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به ، والاستقلال له.

السابع : أنّ العامل فيه مضمر ، تقديره : أتقول ذلك بادي الرّأي ، ذكره أبو البقاء ، والأصل عدم الإضمار مع الاستغناء عنه ، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسم فاعل من غير تأويل ، بخلاف ما تقدّم من الأجه فإنّه ظرف أو مصدر. واعلم أنّك إذا نصبت «بادي» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلّا» احتجت إلى جواب عن إشكال ، وهو أنّ ما بعد «إلّا» لا يكون معمولا لما قبلها ، إلّا إن كان مستثنى منه نحو : ما قام إلّا زيدا القوم ، أو مستثنى نحو : قام القوم إلّا زيدا ، أو تابعا للمستثنى منه نحو : ما جاءني أحد إلّا زيد أخير من عمرو و (بادِيَ الرَّأْيِ) ليس شيئا من ذلك.

قال مكي : لو قلت في الكلام : ما أعطيت أحدا إلا زيدا درهما ؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد «إلّا» لم يجز ؛ لأنّ الفعل لا يصل ب «إلّا» إلى مفعولين ، إنّما يصل إلى اسم واحد كسائر الحروف ، ألا ترى أنّك لو قلت : مررت بزيد عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرف واحد لم يجز ، ولذلك لو قلت : استوى الماء والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو «مع» لم يجز إلّا أن تأتي في جميع ذلك بواو العطف ، فيجوز وصول الفعل.

والجواب الذي ذكره هو أنّ الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها ، وهذا جماع القول في هذه المسألة باختصار.

والرّأي : يجوز أن يكون من رؤية العين أو من الفكرة والتّأمّل.

فصل

اعلم أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ حكى عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ شبهات :

الأولى : أنّهم قالوا : إنّه بشر مثلهم ، وأنّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطّاعة لجميع العاملين.

الثانية : كونه ما اتبعه إلّا الأراذل من القوم كالحياكة ، وأصحاب الصنائع الخسيسة ؛

٤٦٩

فلو كنت صادقا لاتبعك الأشراف والرؤساء ، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١].

الثالثة : قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوّة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك في شيء من هذه الأحوال الظاهرة ؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات.

واعلم أنّ الشّبهة الأولى لا تليق إلّا بالبراهمة الذين ينكرون نبوّة البشر على الإطلاق ، وتقدّم الكلام على «الملأ» وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [٦٦].

واعلم أنّه لو بعث إلى البشر ملكا رسولا لكانت الشبهة أقوى في الطّعن عليه في رسالته ؛ لأنّه يخطر بالبال أنّ هذه المعجزة التي ظهرت على يد هذا الملك أتى بها من عند نفسه ؛ لأنّ قوّته أكمل ؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسولا إلّا من البشر.

وأمّا قولهم (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) فهذا أيضا جهل ؛ لأنّ الرّفعة في الدّين لا تكون بالحسب ولا بالمال ، ولا بالمناصب العالية ، بل الفقر أهون على الدّين من الغنى ، والأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدّنيا والإقبال على الآخرة ، فكيف يجعل الفقر في الدّنيا طعنا في النبوة والرسالة.

وأمّا قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فهو أيضا جهل ؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله ـ تعالى ـ ليست إلّا بالعلم والعمل ، فكيف اطّلعوا على بواطن الخلق حتّى عرفوا نفي هذه الفضيلة.

ثم قالوا لنوح وأتباعه (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وهذا خطاب مع نوح وقومه ، والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرّسالة.

وقيل : خطاب مع الأراذل ، أي كذّبوهم في إيمانهم.

قوله تعالى : (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ).

وهذا جواب عن شبهتهم الأولى ، والمعنى : أنّ حصول المساواة في البشريّة لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ، وذكر الطّريق الدّال على إمكانه ، وهو كونه على بيّنة من معرفة الله وصفاته ـ سبحانه ـ وما يجب وما يمتنع وما يجوز (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وهي إمّا النبوة ، وإمّا المعجزة الدّالة على النبوّة (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي : صارت مظنة خفيت ، والتبست عليكم.

قوله : (مِنْ رَبِّي) نعت ل «بيّنة» ، أي : بيّنة من بيّنات ربّي.

قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) يجوز في الجارّ أيضا أن يكون نعتا ل «رحمة» وأن يكون متعلقا ب «آتاني».

٤٧٠

قوله : «فعمّيت» قرأ الأخوان وحفص بضمّ العين وتشديد الميم ، والباقون (١) بالفتح ، والتخفيف. فأمّا القراءة الأولى فأصلها : عماها الله عليكم ، أي : أبهمها عقوبة لكم ، ثمّ بني الفعل لما لم يسمّ فاعله ، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى ، وأقيم المفعول وهو ضمير الرّحمة مقامه ويدل على ذلك قراءة أبيّ بهذا الأص ل «فعماها الله عليكم».

وروى عنه أيضا وعن الحسن (٢) وعليّ والسّلمي «فعماها» من غير ذكر فاعل لفظي.

وروى عن الأعمش وابن وثاب (٣) «وعميت» بالواو دون الفاء.

وأمّا القراءة الثانية فإنّه أسند الفعل إليها مجازا.

قال الزمخشريّ : فإذا قلت : ما حقيقته؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النمل : ١٣] جعلت عمياء ، قال تعالى : (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) الآية ؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البيّنة : فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.

وقيل : هذا من باب القلب ، وأصلها فعميتم أنتم عنها كما تقول : أدخلت القلنسوة في رأسي ، وأدخلت الخاتم في إصبعي ، وهو كثير ، وقد تقدّم الخلاف فيه ، وأنشدوا على ذلك : [الطويل]

٢٩٦٢ ـ ترى النّور فيها مدخل الظّلّ رأسه

 ......... (٤)

قال أبو علي : وهذا ممّا يقلب ، إذ ليس فيه إشكال ، وفي القرآن (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [إبراهيم : ٤٧].

وبعضهم يخرّج البيت على الاتّساع في الظّرف.

وأمّا الآية ف «أخلف» يتعدّى لاثنين ، فأنت بالخيار : أن تضيف إلى أيّهما شئت فليس من باب القلب.

وقد ردّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدّى ب «عن» دون «على» ، ألا ترى أنك تقول : «عميت عن كذا» لا «على كذا».

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٣٢١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٢٧٩ وحجة القراءات ص (٣٣٩) والإتحاف ٢ / ١٢٤ والبحر المحيط ٥ / ٢١٧ والدر المصون ٤ / ٩٣.

(٢) وقرأ بها الأعمش أيضا ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٧ والدر المصون ٤ / ٩٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٥ والبحر المحيط ٥ / ٢١٧ والدر المصون ٤ / ٩٣.

(٤) صدر بيت وعجزه :

وسائره باد إلى الشمس أجمع

ينظر : الكتاب ١ / ١٨١ وأمالي المرتضى ١ / ١٨١ والهمع ٢ / ١٢٣ والخزانة ٤ / ٢٣٥ وتأويل المشكل (١٩٤) والدرر ٢ / ١٥٦ وروح المعاني ١٢ / ٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٢١٦.

٤٧١

واختلف في الضّمير في «عمّيت» هل هو عائد على «البيّنة» ، أو على «الرّحمة» ؛ أو عليهما معا؟.

وجاز ذلك ـ وإن كان بلفظ الإفراد ـ لأنّ المراد بهما شيء واحد ، وإذا قيل بأنه عائد على «البيّنة» فيكون قوله (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) جملة معترضة بين المتعاطفين ، إذ حقّ ه «على بينة من ربي فعميت».

وإن قيل بأنّه عائد على الرّحمة فيكون قد حذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه ، والأصل : «على بينة من ربي وآتاني رحمة فعميت».

قال الزمخشريّ : وآتاني رحمة بإتيان البيّنة ، على أنّ البيّنة في نفسها هي الرّحمة ، ويجوز أن يراد بالبيّنة المعجزة ، وبالرّحمة النبوّة.

فإن قلت : فقوله «فعمّيت» ظاهر على الوجه الأوّل فما وجهه على الوجه الثاني ، وحقّه أن يقال : فعميتا؟ قلت : الوجه أن يقدّر : فعمّيت بعد البيّنة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة. انتهى وقد تقدّم الكلام على «أرأيتم» هذه في الأنعام ، وتلخيصه هنا أنّ «أرأيتم» يطلب «البيّنة» منصوبة وفعل الشّرط يطلبها مجرورة ب «على» فأعمل الثّاني وأضمر في الأول ، والتقدير : أرأيتم البيّنة من ربّي إن كنت عليها أنلزمكموها ، فحذف المفعول الأوّل ، والجملة الاستفهاميّة هي في محلّ الثاني ، وجواب الشرط محذوف للدّلالة عليه.

قوله : «أنلزمكموها» أتى هنا بالضّميرين متصلين ، وتقدّم ضمير الخطاب ؛ لأنّه أخص ، ولو جيء بالغائب أولا لانفصل الضّمير وجوبا. وقد أجاز بعضهم الاتّصال واستشهد بقول عثمان «أراهمني الباطل شيطانا».

وقال الزمخشريّ : يجوز أن يكون الثاني منفصلا كقوله : «أنلزمكم إيّاها» ونحوه (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] ويجو ز «فسيكفيك إياهم» ، وهذا الذي قاله الزمخشريّ ظاهر قول سيبويه وإن كان بعضهم منعه.

وإشباع الميم في مثل التركيب واجب ، ويضعف سكونها ، وعليه «أراهمني الباطل».

وقال أبو البقاء (١) : وقرىء بإسكان الميم فرارا من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع ؛ لأنّه قد ذكر ذلك بعدما قال : «ودخلت الواو هنا تتمّة للميم ، وهو الأصل في ميم الجمع ، وقرىء بإسكان الميم» انتهى.

وهذا إن ثبت قراءة فهو مذهب ليونس : يجوّز الدّرهم أعطيتكه ، وغيره يأباه.

__________________

(١) وحكي عن أبي عمرو : إسكان الميم ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٠ والبحر المحيط ٥ / ٢١٧ والدر المصون ٤ / ٩٤.

٤٧٢

ويحتمل أن يريد سكون ميم الفعل ، ويدلّ عليه ما قال الزجاج.

أجمع النّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلّا في ضرورة الشعر ، فأمّا ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه سيبويه أنه كان يخفّ الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحقّ وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرىء القيس : [السريع]

٢٩٦٣ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

 ......... (١)

وكذا قال الزمخشري أيضا.

وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم ، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلّا خلسة خفيفة ، فظنّها الرّاوي سكونا ، والإسكان الصّريح لحن عند الخليل ، وسيبويه ، وحذّاق البصريين ؛ لأنّ الحركة الإعرابية لا يسوّغ طرحها إلّا في ضرورة الشّعر.

قال شهاب الدّين : وقد حكى الكسائيّ والفرّاء : «أنلزمكموها» بسكون هذه الميم ، وقد تقدّم الكلام على ذلك مشبعا في سورة البقرة [٥٤] ، أعني تسكين حركة الإعراب فكيف تجعلونه لحنا؟.

و «ألزم» يتعدّى لاثنين ، أولهما ضمير الخطاب ، والثاني ضمير الغيبة.

و (أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) جملة حالية ، يجوز أن تكون للفاعل ، أو لأحد المفعولين.

وقدّم الجارّ لأجل الفواصل ، وفي الآية قراءات شاذّة مخالفة للسّواد أضربت عنها لذلك.

والمعنى : «أنلزمكم البينة ، وأنتم لها كارهون لا تريدونها». قال قتادة : «لو قدر الأنبياء أن يلزموا قومهم لألزموا ، ولكن لم يقدروا».

قوله تعالى : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً).

الضّمير في «عليه» يجوز أن يعود على الإنذار والمفهوم من «نذير» ، وأن يعود على الدّين الذي هو الملّة ، وأن يعود على التّبليغ.

وهذا جواب على الشّبهة الثانية ، وهي قولهم : اتّبعك الأراذل ، فقال : أنا لا أطلب على تبليغ الرّسالة مالا حتّى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيرا ، أو غنيا ، وإنما أجري على هذه الطاعة على رب العالمين ، وإذا كان كذلك فسواء كان غنيا أو فقيرا ، لم يتفاوت الحال في ذلك.

ويحتمل أنّه قال لهم : إنكم لمّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتموني فقيرا ، وظننتم أنّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسّل بها إلى أخذ أموالكم ، وهذا الظّن منكم خطأ ، وإنّي لا

__________________

(١) تقدم.

٤٧٣

أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدّين بهذا الظن الفاسد.

قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ) قرىء (١) «بطارد الذين» بتنوين «طارد».

قال الزمخشري (٢) : على الأصل يعنى أنّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العمل وهو ظاهر قول سيبويه.

قال أبو حيّان : يمكن أن يقال : الأصل الإضافة لا العمل ، لأنّه قد اعتوره شبهان :

أحدهما : الشبه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه.

والآخر : شبهه بالأسماء إذا كانت فيه الإضافة ؛ فكان إلحاقة بجنسه أولى.

وقوله : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) استئناف يفيد التّعليل ، وقوله : «تجهلون» صفة لا بدّ منها إذ الإتيان بهذا الموصوف دون صفته لا يفيد ، وأتى بها فعلا ليدلّ على التّجدّد كلّ وقت.

فصل

قوله : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كالدّليل على أنّ القوم سألوه لئلّا يشاركوا الفقراء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وأيضا قولهم (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) كالدّليل على أنّهم طلبوا منه طردهم ؛ فكأنّهم يقولون لو اتّبعك الأشراف لوافقناهم.

ثمّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم ، وهو أنّهم ملاقو ربّهم ، وهذا الكلام يحتمل وجوها :

منها : أنّهم قالوا إنّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترّ بهم ؛ فأجاب بأنّ هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربّهم في الآخرة.

ومنها : أنّه جعله علّة في الامتناع من الطّرد ، وأراد أنهم ملاقو ربّهم ما وعدهم ، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة.

ومنها : أنّه نبّه بذلك على أنّا نجتمع في الآخرة ؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني.

ثم بيّن أنّهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظّواهر فقال : (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ).

ثم قال : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) [هود : ٣٠] من يمنعني من عذاب الله (إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتّعظون.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٢١٨ ، والدر المصون ٤ / ٩٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٩٠.

٤٧٤

والمعنى : على أنّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التّقي ، وإهانة الفاجر ، فلو عظّمت الكافر وطردت المؤمن وأهنته كنت على ضدّ دين الله ؛ فأستوجب حينئذ العقاب العظيم ، فمن الذي ينصرني من الله ، ومن الذي يخلّصني من عذاب الله.

واحتجّ قوم بهذه الآية على صدور الذّنب من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ فقالوا دلّت الآية على أنّ طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية ، ثم إن محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله ـ عزوجل ـ في قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢].

والجواب : يحمل الطّرد المذكور في هذه الآية على الطّرد المطلق المؤبّد ، والطّرد المذكور في واقعة محمد ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ـ على المقيّد في أوقات معينة رعاية للمصلحة.

ثمّ أكّد هذا البيان فقال : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) فآتي منها ما تطلبون ، (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) فأخبركم بما تريدون.

وقيل : إنّهم لمّا قالوا لنوح : إنّ الذين آمنوا بك إنّما اتّبعوك في ظاهر ما ترى منهم ، فأجابهم نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقال : لا أقول لكم : عندي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس ، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم ، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم ، (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) هذا جواب لقولهم : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) [هود : ٢٧] وقيل معناه : لا أقول إنّي ملك حتّى أتعظّم بذلك عليكم ، بل طريقي الخضوع والتّواضع ، ومن كان طريقه كذلك فإنّه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين.

واحتجّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قالوا : لأنّ الإنسان إذا قال : لا أدّعي كذا وكذا ، إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكّد هذا البيان بطريق آخر فقال : (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم ، ويحتقرونهم ، فقال : لا أقول للذين يحتقرونهم : لن يؤتيهم الله خيرا ، أي : توفيقا وإيمانا وأجرا (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) لأنّ ذلك من باب الغيب لا يعلمه إلا الله ، فربّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير ملك في الاخرة ؛ فأكون كاذبا فيما أخبرت به ، فإن فعلت ذلك كنت من الظّالمين لنفسي.

قوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) الظّاهر أنّ هذه الجملة لا محلّ لها عطفا على قوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ) كأنّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدّم في الأنعام أنّ هذا هو المختار ، وأنّ الزمخشري قال : «إنّ قوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) معطوف على (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) أي : لا أقول : عندي خزائن الله ، ولا أقول : أنا أعلم الغيب».

قوله : «تزدري» تفتعل من زرى يزري ، أي : حقر ، فأبدلت تاء الافتعال دالا بعد

٤٧٥

الزّاي وهو مطرد ، ويقال : «زريت عليه» إذا عبته ، و «أزريت به» أي : قصّرت به. وعائد الموصول محذوف ، أي تزدريهم أعينكم ، أي : تحتقرهم وتقصّر بهم ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٢٩٦٤ ـ ترى الرّجل النّحيف فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور (١)

وقال الشاعر أيضا : [الوافر]

٢٩٦٥ ـ يباعده الصّديق وتزدريه

حليلته وينهره الصّغير (٢)

واللّام في «للّذين» للتّعليل ، أي : لأجل الذين ، ولا يجوز أن تكون التي للتّبليغ إذ لو كانت لكان القيا س «لن يؤتيكم» بالخطاب.

قوله تعالى : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

قرأ ابن عبّاس (٣) ـ رضي الله عنهما ـ «جدلنا» كقوله : (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤].

ونقل أبو البقاء أنه قرىء «جدلتنا فأكثرت جدلنا» بغير ألف فيهما ، وقال : «هو بمعنى غلبتنا بالجدل».

وقوله : (بِما تَعِدُنا) يجوز أن يكون «ما» بمعنى «الذي» ، فالعائد محذوف ، أي : تعدناه.

ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : بوعدك إيّانا.

وقوله : (إِنْ كُنْتَ) جوابه محذوف أو متقدّم وهو «فأتنا».

فصل

دلّت هذه الآية على أنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدال كان في بيان التّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، وهذا يدلّ على أنّ المجادلة في تقرير الدّلائل وفي إزالة الشّبهات حرفة الأنبياء ، وأنّ التقليد والجهل والإصرار حرفة الكفّار ، ودلّت على أنّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به ، فقالوا : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ثمّ إنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أجابهم بقوله : (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ) [هود : ٣٣] أي: أنّ إنزال العذاب ليس إليّ ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء ، وإذا أراد إنزال العذاب فإنّ أحدا لا يعجزه ، أي : لا يمنعه.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢١٩ واللسان (نحف) والدر المصون ٤ / ٩٥.

ويروى عجزه :

وتحت ثيابه رجل مرير

(٢) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢١٩ والقرطبي ٩ / ٢٠ والدر المصون ٤ / ٩٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٦ ، البحر المحيط ٥ / ٢١٩ ، الدر المصون ٤ / ٩٦.

٤٧٦

ثم قال : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي) إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ، أي : يضلكم ، قوله : (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ) قد تقدّم حكم توالي الشرطين ، وأن ثانيهما قيد في الأوّل ، وأنه لا بد من سبقه للأوّل ، وقال الزمخشريّ هنا : (إِنْ كانَ اللهُ) جزاؤه ما دل عليه قوله : (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي).

وهذا الدليل في حكم ما دلّ عليه ؛ فوصل بشرط ، كما وصل الجزاء بالشّرط في قوله : «إن أحسنت إلي أحسنت إن أمكنني».

وقال أبو البقاء (١) : حكم الشّرط إذا دخل على الشّرط أن يكون الشّرط الثّاني والجواب جوابا للشّرط الأول نحو : «إن أتيتني إن كلمتني أكرمتك» فقولك : «إن كلمتني أكرمتك» جوا ب «إن أتيتني» جميع ما بعده ، وإذا كان كذلك كان الشّرط الأول في الذّكر مؤخّرا في المعنى ، حتّى إن أتاه ثم كلّمه لم يجب الإكرام ، ولكن إن كلّمه ثمّ أتاه وجب الإكرام ، وعلّة ذلك أنّ الجواب صار معوّقا بالشّرط الثاني ، وقد جاء في القرآن منه (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُ) [الأحزاب : ٥٠].

قال شهاب الدّين (٢) : أما قوله : «إن وهبت .. إن أراد» فظاهره ـ وظاهر القصة المرويّة ـ يدلّ على عدم اشتراط تقدّم الشّرط الثاني على الأوّل ، وذلك أنّ إرادته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ للنكاح إنما هو مرتّب على هبة المرأة نفسها له وكذا الواقع في القصّة ، لمّا وهبت أراد نكاحها ، ولم يرو أنه أراد نكاحها ، فوهبت ، وهو يحتاج إلى جواب ، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ في موضعه.

وقال ابن عطيّة (٣) هنا وليس نصحي لكم بنافع ، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا أراد الله ـ تعالى ـ بكم الإغواء ، والشرط الثاني اعتراض بين الكلام ، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين ، وأنّ إرادة البشر غير مغنية ، وتعلّق هذا الشرط هو ب «نصحي» وتعلّق الآخر ب «لا ينفع».

وتلخص من ذلك أنّ الشرط مدلول على جوابه بقوله : (وَلا يَنْفَعُكُمْ) لأنّه عقبه ، وجواب الثاني أيضا ما دلّ على جواب الأول وكأنّ التقدير : وإن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وهو من حيث المعنى كالشّرط إذا كان بالفاء نحو : إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم ، فلا ينفعكم نصحي.

وقرأ الجمهور : «نصحي» بضم النون ، وهو يحتمل وجهين :

أحدهما : المصدرية كالشّكر والكفر والثاني : أنه اسم لا مصدر.

وقرأ عيسى (٤) بن عمر «نصحي» بفتح النّون ، وهو مصدر فقط.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٣٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٩٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٩ ، والدر المصون ٤ / ٠٦.

٤٧٧

وفي غضون كلام الزمخشري : «إذا عرف الله» وهذا لا يجوز ؛ لأنّ الله تعالى لا يسند إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه ، وقد تقدّم علة ذلك في غضون كلام أبي حيّان وللمعتزليّ أن يقول : لا يتعيّن أن تكون «إن» شرطية بل هي نافية ، والمعنى : «ما كان الله يريد أن يغويكم».

قال شهاب الدّين : لا أظن أحدا يرضى بهذه المقالة.

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ قد يريد الكفر من العبد ، فإذا أراد الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه ؛ لأنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ).

قالت المعتزلة : ظاهر الآية يدلّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا مسلم ، فإنا نعلم أنّ الله ـ تعالى ـ لو أراد إغواء عبد فإنّه لا ينفعه نصح النّاصحين ، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء ، والنزاع ما وقع إلا فيه؟

بل نقول إنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إنّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنّه تعالى ما أغواهم ، بل فوّض الاختيار إليهم ، وبيانه من وجهين : الأول : أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة ، ولو لم يكن فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار ، وأجمع المسلمون على أنه مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم ، فعلمنا أنّ هذا النّصح لا يخلو من الفائدة ، وإن لم يكن خاليا عن الفائدة وجب القطع بأنّه تعالى ما أغواهم.

الثاني : لو ثبت الحكم عليهم بأنّ الله تعالى أغواهم ؛ لصار هذا عذرا لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعا في مناظرتهم ؛ لأنّهم يقولون له : إنّك سلمت أنّ الله تعالى إذا أغوانا فإنّه لا يبقى في نصحك ، ولا في اجتهادك فائدة ؛ فإذا ادّعيت أنّ الله تعالى أغوانا ؛ فقد جعلتنا مغلوبين ، فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة ؛ فثبت أنّ الأمر لو كان كما قاله الخصم ؛ لصار هذا حجة للكافر على نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ؛ فثبت بما ذكرنا أنّ هذه الآية لا تدلّ على قول المجبرة ، ثم إنّهم ذكروا تأويلات :

الأول : أنّ أولئك الكفّار مجبرة ، وكانوا يقولون إنّ كفرهم بإرادة الله ؛ فعند هذا قال نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إن نصيحتي لا تنفعكم إن كان الأمر كما تقولون. ومثاله : أن يعاقب الرّجل ولده على ذنبه ، فيقول الولد : لا أقدر على غير ما أنا عليه ؛ فيقول الوالد : فلن ينفعك إذن نصحي ، وليس المراد أنّه يصدّقه على ما ذكره ، بل على وجه الإنكار لذلك.

الثاني : قال الحسن : معنى «يغويكم» أي : يعذّبكم (١) والمعنى : لا ينفعكم نصحي

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١٧٥).

٤٧٨

اليوم إذا نزل بكم العذاب ؛ فأمنتم في ذلك الوقت ؛ لأنّ الإيمان عند نزول العقاب لا يقبل وإنّما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب.

الثالث : قال الجبائي : الغواية هي الخيبة من الطّلب بدليل قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم : ٥٩] ، أي : خيبة من خير الآخرة ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٢٩٦٦ ـ .........

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما (١)

الرابع : أنه إذا أصرّ على الكفر ، وتمادى فيه ، منعه الله الألطاف ، وفوّضه إلى نفسه ؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءه ؛ فلهذا السّبب حسن أن يقال : إنّ الله أغواه ، هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب ، وتقدّم الجواب عن أمثال هذه الكلمات ، فلا فائدة في الإعادة ، ثم قال : (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم بأعمالكم ، وهذا نهاية الوعيد والتهديد.

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) اختلقه ، وافتعله ، يعني نوحا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما (٢) ـ.

[وقال مقاتل ـ رضي الله عنه ـ : يعني محمّدا صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه (٣)](٤) والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي : إثمي ووبال جرمي ، والإجرام : كسب الذّنب ، وهذا من باب حذف المضاف ؛ لأنّ المعنى : فعليّ عقاب إجرامي ، وفي الآية محذوف آخر ، وهو أنّ المعنى : إن كنت افتريته فعليّ عقاب جرمي ، وإن كنت صادقا وكذّبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب ، إلّا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه.

قوله : (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) : مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل.

والجمهور على كسر همزة «إجرامي» ، وهو مصدر أجرم ، وأجرم هو الفاشي ، ويجوز «جرم» ثلاثيا وأنشدوا : [الوافر]

٢٩٦٧ ـ طريد عشيرة ورهين ذنب

بما جرمت يدي وجنى لساني (٥)

__________________

(١) عجز بيت للمرقش وصدره :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ينظر : الخزانة ١ / ٣٣٩ ، ١١ / ٤٥٣ واللسان (غوى) والتفسير الكبير للرازي ١٧ / ٢١٩.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٨١).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) سقط في أ.

(٥) البيت للهيردان. ينظر : اللسان (جرم) ومجاز القرآن ١ / ٢٨٨ وروح المعاني ١٢ / ٤٨ والقرطبي ٩ / ٢١ والدر المصون ٤ / ٩٧ وتفسير الطبري ٢١ / ١٨ تاج العروس [جرم].

٤٧٩

وقرىء (١) في الشاذّ «أجرامي» بفتحها ، حكاه النّحّاس ، وخرّجه على أنّه جمع «جرم» كقفل وأقفال ، واعلم أنّ قوله (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) لا يدلّ على أنّه كان شاكّا ، إلّا أنّه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول.

قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

قوله تعالى : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) الجمهور على «أوحي» مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ) أي : أوحي إليه عدم إيمان بعض القوم.

وقرأ أبو (٢) البرهسم «أوحى» مبنيا للفاعل وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، «إنّه» بكسر الهمزة وفيها وجهان :

أحدهما : ـ وهو أصل للبصريين ـ أنّه على إضمار القول.

والثاني : ـ وهو أصل للكوفيين ـ أنّه على إجراء الإيحاء مجرى القول.

قوله (فَلا تَبْتَئِسْ) هو تفتعل من البؤس ، ومعناه الحزن في استكانة ، ويقال : ابتأس فلان ، أي : بلغه ما يكرهه ؛ قال : [البسيط]

٢٩٦٨ ـ ما يقسم الله أقبل غير مبتئس

منه وأقعد كريما ناعم البال (٣)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٢٠ ، والدر المصون ٤ / ٩٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٦٨ والبحر المحيط ٥ / ٢٢١ والدر المصون ٤ / ٨٩٧

(٣) البيت لحسان بن ثابت ينظر : ديوانه (١٤٧) والبحر ٥ / ٢٢١ واللسان «بأس» والتفسير الكبير للرازي ١٧ / ٢٢١ معجم مقاييس اللغة (بأس) وشواهد الكشاف ٢ / ٤٨٩ والتهذيب ١٣ / ١٠٨ والكشاف ٢ / ١٩٣ والدر المصون ٤ / ٩٧.

٤٨٠