اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

وقيل : تقديره : وخلقكم ليبلوكم.

والثاني : أنها متعلقة ب «خلقكم».

قال الزمخشريّ (١) : أي : خلقهنّ لحكمة بالغة وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النّعم ويكلّفهم فعل الطّاعات واجتناب المعاصي ، فمن شكر وأطاع أثابه ، ومن كفر وعصى عاقبة ، ولمّا أشبه ذلك اختبار المختبر قال «ليبلوكم» ، يريد : ليفعل بكم ما يفعل المبتلي. واعلم أنه لمّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر ؛ لأنّ الابتلاء والامتحان يوجب الرّحمة والثّواب للمحسن والعقاب للمسيء ، وذلك لا يتمّ إلّا بالاعتراف بالمعاد والقيامة ، فعند هذا خطاب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف ، وكرم ومجد وبجل ، وعظم ، وقال : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : إنكم تنكرون هذا الكلام ، وتحكمون بفساد القول بالبعث.

قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ) مبتدأ وخبر في محلّ نصب بإسقاط الخافض ؛ لأنّه متعلق بقوله «ليبلوكم».

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت : لما في الاختبار من معنى العلم ؛ لأنّه طريق إليه فهو ملابس له كما تقول : انظر أيّهم أحسن وجها ، واسمع أيّهم أحسن صوتا ؛ لأنّ النّظر والاستماع من طرق العلم ؛ لأنّه طريق إليه ، فهو ملابس له ، وقد أخذه أبو حيّان في تمثيله بقوله : (وَاسْتَمِعْ) فقال : «لم أعلم أحدا ذكر أنّ «استمع» يعلق ، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب «سل» ، و «انظر» وفي جواز تعليق «رأى» البصرية خلاف».

قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ) هذه لام التّوطئة للقسم ، و «ليقولنّ» جوابه ، وحذف جواب الشّرط لدلالة جواب القسم عليه ، و «إنّكم» محكيّ بالقول ، ولذلك كسرت في قراءة الجمهور.

وقرىء بفتحها (٢) ، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري :

أحدهما : أنها بمعنى «لعلّ» قال : من قولهم : ائت السوق أنك تشتري لحما ، أي : لعلّك ، أي : ولئن قلت لهم : لعلكم مبعوثون بمعنى توقّعوا بعثكم وظنّوه ، ولا تبتّوا القول بإنكاره ، لقالوا.

والثاني : أن تضمّن قلت معنى : «ذكرت» يعني ففتح الهمزة ، لأنّها مفعول «ذكرت» قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ) قد تقدّم أنّه قرىء «سحر» و «ساحر» ، فمن قرأ «سحر» ف «هذا» إشارة إلى البعث المدلول عليه بما تقدّم ، أو إشارة إلى القرآن ، لأنّه ناطق بالبعث ومن قرأ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٠ والدر المصون ٤ / ٨١.

٤٤١

«ساحر» فالإشارة ب «هذا» إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن يراد ب «هذا» في القراءة الأولى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون جعلوه سحرا مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : إلّا ذو سحر ، ويجوز أن يراد ب «ساحر» نفس القرآن مجازا كقولهم : «شعر شاعر» و «جدّ جدّه».

فإن قيل : كيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر؟.

فالجواب : من وجوه.

أحدها : قال القفال : معناه أنّ هذا القول خديعة منكم ، وضعتموه لمنع الناس من لذّات الدنيا وإحرازا لهم إلى الانقياد لكم والدّخول تحت طاعتكم.

وثانيها : أن قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) معناه : أنّ السّحر أمر باطل ، قال تعالى حاكيا عن موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) [يونس : ٨١].

وثالثها : أنّ القرآن هو الحاكم بحصول البعث ، وطعنوا في القرآن بكونه سحرا ، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع.

ورابعها : قراءة (١) حمزة والكسائي «إن هذا إلا ساحر» والسّاحر كاذب.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)

قال الحسن : حكم الله أنه لا يعذب أحدا من هذه الأمة بعذاب الاستئصال ، وأخّر ذلك العذاب إلى القيامة ؛ فلمّا أخّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء : ما الذي حبسه عنّا؟ (٢).

وقيل : المراد بالعذاب : ما نزل بهم يوم بدر.

وأصل «الأمّة» الجماعة ، قال تعالى : (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ) [القصص : ٢٣] وقوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] ، أي : انقضاء أمة ، فكأنّه قال : إلى انقراض أمة ومجيء أخرى.

وقيل : اشتقاق الأمّة من الأمّ ، وهو القصد ، كأنّه يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه. (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أي شيء يحبسه ، يقولون ذلك ، استعجالا للعذاب واستهزاء ، يعنون أنه ليس بشيء.

قوله : «ليقولنّ» هذا الفعل معرب على المشهور ؛ لأنّ النّون مفصولة تقديرا ، إذ الأصل: «ليقولوننّ» النون الأولى للرفع ، وبعدها نون مشددة ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال ،

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٢٣ والمحرر الوجيز ٣ / ١٥٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٠٦ ، والدر المصون ٤ / ٨١.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ١٥١).

٤٤٢

فحذفت نون الرفع ؛ لأنّها لا تدلّ من المعنى على ما تدلّ عليه نون التّوكيد ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الواو التي هي ضمير الفاعل لالتقائهما ، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

و (ما يَحْبِسُهُ) استفهام ، ف «ما» مبتدأ ، و «يحبسه» خبره ، وفاعل الفعل ضمير اسم الاستفهام ، والمنصوب يعود على العذاب ، والمعنى : أيّ شيء من الأشياء يحبس العذاب؟ قوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) «يوم» منصوب ب «مصروفا» الذي هو خبر «ليس» ، وقد استدلّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس» عليها ، ووجه ذلك أنّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، و «يوم» منصوب ب «مصروفا» وقد تقدّم على «ليس» فليجز تقديم الخبر بطريق الأولى ، لأنّه إذا تقدّم الفرع فأولى أن يتقدّم الأصل.

وقد ردّ بعضهم هذا الدليل بشيئين :

أحدهما : أنّ الظرف يتوسّع فيه ما لا يتوسّع في غيره.

والثاني : أنّ هذه القاعدة منخرمة ، إذ لنا مواضع يتقدّم فيها المعمول ولا يتقدم فيها العامل ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ٩ ، ١٠] ف «اليتيم» منصوب ب «تقهر» ، و «السّائل» منصوب ب «تنهر» وقد تقدّما على «لا» النّاهية ، ولا يتقدّم العامل ـ وهو المجزوم ـ على «لا» ، وللبحث في هذه المسألة موضع أليق به.

قال أبو حيّان : وقد تتبّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليس» عليها ، ولا بمعموله إلّا ما دلّ عليه ظاهر هذه الآية وقول الشاعر : [الطويل]

٢٩٤٥ ـ فيأبى فما يزداد إلّا لجاجة

وكنت أبيّا في الخنى لست أقدم (١)

واسم «ليس» ضمير عائد على «العذاب» ، وكذلك فاعل «يأتيهم» ، والتقدير : ألا ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم العذاب.

وحكى أبو البقاء (٢) عن بعضهم أنّ العامل في (يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) محذوف تقديره : أي : لا يصرف عنهم العذاب يوم يأتيهم ، ودلّ على المحذوف سياق الكلام.

قال : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وذكر «حاق» بلفظ الماضي مبالغة في التّأكيد والتقرير وأنّ خبر الله تعالى واقع لا محالة.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢٠٦ وروح المعاني ١٢ / ١٥ والدر المصون ٤ / ٨٢.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٥.

٤٤٣

ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) الآية.

لما ذكر أنّ عذاب الكفّار وإن تأخّر لا بد أن يحيق بهم ، ذكر بعده ما يدلّ على كفرهم ، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب ، فقال : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ). وقيل : المراد منه مطلق الإنسان ؛ لأنّه استثنى (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] ولأنّ مزاج الإنسان مجبول على الضّعف والعجز.

قال ابن جريج في تفسير هذه الآية : يا ابن آدم إذا نزلت بك نعمة من الله ، فأنت كفور ، وإذا نزعت منك فيئوس قنوط (١).

وقيل : المراد به الكافر ؛ لأنّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللّام أن يعود على المعهود السّابق إلّا أن يمنع مانع منه ، وههنا لا مانع ؛ فوجب حمله على المعهود السابق ، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.

وأيضا فالصّفات المذكورة في الإنسان هنا لا تليق إلّا بالكافر ؛ لأنّه وصفه بكونه كفورا ، وهو تصريح بالكفر ، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله : (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) وذلك جراءة على الله تعالى ، ووصفه بكونه فرحا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) [القصص : ٧٦] ووصفه بكونه فخورا ، وذلك ليس من صفات أهل الدّين. وإذا كان كذلك ؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنّ لفظ «الإذاقة والذّوق» يفيد أقل ما يوجد من الطّعم ، فكان المراد أنّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقع في الكفر والطّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاء يقع في اليأس والقنوط ، قال تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) نعمة وسعة (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) سلبناها منه (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) في الشّدة كفور بالنعمة.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ) قال الواحديّ : النّعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضّرّاء مضرّة يظهر أثرها على صاحبها ؛ لأنّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو : حمراء وسوداء ، وهذا هو الفرق بين النّعمة والنّعماء ، والمضرة والضّراء.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

٤٤٤

والمعنى : إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه : (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) زالت الشّدائد عنّي ، إنّه لفرح فخور أشر بطر ، والفرح : لذّة في القلب بنيل المشتهى. والفخر : هو التطاول على الناس بتعديد المناقب ، وذلك منهيّ عنه.

فصل

اعلم أنّ أحوال الدنيا أبدا في التّغير والزّوال ، والتحوّل والانتقال ، فإمّا أن يتحوّل الإنسان من النّعمة إلى المحنة أو العكس.

فأمّا الأول : فهو المراد بقوله عزوجل : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يئوسا ؛ لأنّ الكافر يعتقد أنّ السبب في حصول تلك النّعمة سبب اتفاقي ، ثمّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى ، فلا جرم يستبعد تلك النعمة فيقع في اليأس. وأمّا المسلم ، فيعتقد أنّ تلك النّعمة إنّما حصلت من فضل الله وإحسانه ، فلا ييأس ، بل يقول لعلّه يؤخّرها إلى ما هو أحسن ، وأكمل ممّا كانت ، وأمّا أنّ الإنسان يكون كفورا حال تلك النعمة ، فإنّ الكافر لمّا اعتقد أنّ حصولها كان على سبيل الاتفاق ، أو أنّه حصلها بجدّه واجتهاده ، فحينئذ لا يشتغل بشكر الله على تلك النّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.

والحاصل أنّ الكافر يكون عند زوال النّعمة يئوسا وعند حصولها كفورا.

وأمّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النّعمة ، فالكافر يكون فرحا فخورا ؛ لأنّ منتهى طبع الكافر هو الفوز بهذه السّعادات الدّنيوية ، وهو منكر للسعادات الأخرويّة.

قوله : «لفرح» قرأ الجمهور بكسر الرّاء ، وهو قياس اسم الفاعل من «فعل» اللّازم بكسر العين نحو : أشر فهو أشر ، وبطر فهو بطر ، وقرىء (١) شاذا «لفرح» بضمّ الرّاء نحو : يقظ ويقظ ، وندس وندس.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على الاستثناء المتّصل ، إذ المراد به جنس الإنسان لا واحد بعينه.

والثاني : أنّه منقطع ، إذ المراد بالإنسان شخص معين ، وهو على هذين الوجهين منصوب المحلّ.

والثالث : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) وهو منقطع أيضا. والمعنى : أنّ هؤلاء لا يكونون عند البلاء من الصّابرين وعند الرّاحة والخير من الشّاكرين.

قال الفراء : هو استثناء منقطع معناه : لكن الذين صبروا وعملوا الصّالحات ؛ فإنّهم إن يأتهم شدة صبروا ، وإن نالوا نعمة شكروا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٤ ، البحر المحيط ٥ / ٢٧ ، الدر المصون ٤ / ٨٢.

٤٤٥

ثم قال : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يجوز أن يكون «مغفرة» مبتدأ ، و «لهم» الخبر ، والجملة خبر «أولئك» ، ويجوز أن يكون «لهم» خبر «أولئك» و «مغفرة» فاعل بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين :

أحدهما : زوال العقاب بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) والثاني : الفوز بالثّواب بقوله (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

قوله : «فلعلّك» الأحسن أن تكون على بابها من التّرجّي بالنسبة إلى المخاطب.

وقيل : هي للاستفهام كقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ «لعلنا أعجلناك».

فإن قيل : «فلعلّك» كلمة شك فما فائدتها؟.

فالجواب : أنّ المراد منها الزّجر ، والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنّه لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.

وقوله : (وَضائِقٌ) نسق على «تارك» ، وعدل عن «ضيّق» وإن كان أكثر من «ضائق».

قال الزمخشريّ : ليدلّ على أنّه ضيّق عارض غير ثابت ، ومثله سيّد وجواد ـ تريد السّيادة والجود الثّابتين المستقرين ـ فإذا أردت الحدوث قلت : سائد وجائد.

قال أبو حيّان (١) : وليس هذا الحكم مختصّا بهذه الألفاظ ؛ بل كلّ ما بني من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير فاعل ردّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حاسن وثاقل وسامن في : «حسن وثقل وسمن» ؛ وأنشد قول الشاعر : [الطويل]

٢٩٤٦ ـ بمنزلة أمّا اللّئيم فسامن

بها وكرام النّاس باد شحوبها (٢)

وقيل : إنّما عدل عن «ضيّق» إلى «ضائق» ليناسب وزن «تارك».

والهاء في «به» تعود على «بعض». وقيل : على «ما». وقيل : على التّكذيب و «صدرك» مبتدأ مؤخّر ، والجملة خبر عن الكاف في «لعلّك» ؛ فيكون قد أخبر بخبرين : أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفرد ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : «إنّ زيدا قائم ، وأبوه منطلق».

قوله : (أَنْ يَقُولُوا) في محلّ نصب أو جرّ على الخلاف المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجرّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلّا يقولوا ، أو بأن يقولوا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٨٣.

(٢) البيت للسمهري. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠٨. وروح المعاني ١٢ / ١٩ والكشاف ٢ / ٣٨٢ والدر المصون ٤ / ٨٣.

٤٤٦

وقال أبو البقاء (١) : لأن يقولوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يدّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصّ في الاستقبال وهو الناصب؟.

و «لو لا» تحضيضية ، وجملة التّحضيض منصوبة بالقول.

فصل

المعنى : فلعلّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائت بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم ـ أن يدع آلهتهم ظاهرا ؛ فأنزل الله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) يعنى سب الآلهة : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي : ولعلّ يضيق صدرك (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدّقه ، قاله عبد الله بن أميّة المخزومي.

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رؤساء مكّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية (٢).

وأجمع المسلمون على أنّه لا يجوز على الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يخون في الوحي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنّ تجويزه يؤدّي إلى الشّك في كل الشرائع وذلك يقدح في النبوة ، وأيضا فالمقصود من الرّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.

وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المراد من قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) شيئا آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوها أخر ، قيل : إنّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يؤد ذلك وقع في ترك وحي الله ـ تعالى ـ وفي إيقاع الخيانة ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وحي الله ، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيه على هذه الدقيقة ؛ لأنّ الإنسان إذا علم أنّ كلّ واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ، على أنّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.

فإن قيل : الكنز كيف ينزل؟.

فالجواب : أنّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنّ المال الكثير يسمّى كنزا ، فقال القوم: إن كنت صادقا في أنّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلّ شيء وأنك عزيز

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٥.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٧ / ١٥٤).

٤٤٧

عنده فهلّا أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقا فهلّا أنزل الله معك ملكا يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادق ، فبيّن الله تعالى أنّه رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحد عليه.

ومعنى «وكيل» : حفيظ أي : يحفظ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٠].

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣].

لمّا طلبوا منه المعجز قال : معجزتي هذا القرآن ، فلمّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزّيادة بغيا وجهلا.

وفي «أم» هذه وجهان :

أحدهما : أنها منقطعة فتقدّر ب «بل» والهمزة ، فالتقدير : بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراه» لما يوحى.

والثاني : أنّها متصلة ، فقدّروها بمعنى : أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنّه ليس من عند الله؟.

قوله «مثله» نعت ل «سور» و «مثل» وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث ، كقوله تعالى : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٧٤] ويجوز المطابقة. قال تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ) [الواقعة : ٢٢ ، ٢٣] وقال تعالى : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨].

قال ابن الخطيب (١) : «مثله» بمعنى «مثاله» حملا على كلّ واحدة من تلك السور ، ولا يبعد أيضا أن يكون المراد المجموع ؛ لأنّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في «مثله» تعود لما يوحى أيضا ، و «مفتريات» صفة ل «سور» جمع «مفتراة» ك «مصطفيات» في «مصطفاة» فانقلبت الألف ياء كالتثنية.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هذه السور التي وقع بها التّحدي سور معينة ، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس وهود (٢) ، فقوله عزوجل (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٥٦.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٧ / ١٥٦).

٤٤٨

إشكال ، لأنّ هذه السّورة مكية ، وبعض السّور المتقدمة مدنية ، فكيف يمكن أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور.

فإن قيل : قد قال في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨] وقد عجزوا عنه. فكيف قال (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ) فهو كرجل يقول لآخر : أعطني درهما ؛ فيعجز ، فيقول: أعطني عشرة؟.

فالجواب : قد قيل : نزلت سورة هود أولا ، وأنكر المبرد هذا وقال : بل سورة يونس أولا ، وقال : ومعنى قوله في سورة يونس : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي : مثله في الإخبار عن الغيب ، والأحكام ، والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) من غير وعد ووعيد ، وإنما هي مجرد بلاغة.

فصل

اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزا ، فقيل : هو الفصاحة وقيل : الأسلوب ، وقيل : عدم التناقض ، وقيل : اشتماله على الإخبار عن الغيوب ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة ، واستدلّوا بهذه الآية ، لأنّه لو كان إعجازه هو كثرة العلوم ، أو الإخبار عن الغيوب ، أو عدم التناقض لم يكن لقوله : «مفتريات» معنى ، أمّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحّ ذلك ؛ لأنّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام ، سواء كان الكلام صدقا أو كذبا ، ثم إنه لمّا قرر وجه التحدّي قال : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) واستعينوا بمن استطعتم (مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإن لم (يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) يا أصحاب محمد ، وقيل : لفظه جمع والمراد به الرسول ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده ـ والمراد بقوله : «فإن لم (يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي : الكفار ، يحتمل أنّ من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا.

قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ) «ما» يجوز أن تكون كافة مهيئة. وفي «أنزل» ضمير يعود على (ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] ، و «بعلم» حال أي : ملتبسا بعلمه ، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسما ل «أنّ» والخبر الجارّ تقديره : فاعلموا أن تنزيله ، أو أن الذي أنزل ملتبس بعلم (١).

وقرأ زيد بن علي «نزّل» بفتح النون والزاي المشددة ، وفاعل «نزّل» ضمير الله تعالى ، و (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) نسق على «أنّ» قبلها ، ولكن هذه مخففة فاسمها محذوف ، وجملة النّفي خبرها.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٨٤.

٤٤٩

فصل

إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين ، فالمعنى : ابقوا على العلم الذي أنتم عليه ؛ لتزدادوا يقينا وثبات قدم ، على أنه منزّل من عند الله.

وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : مخلصون ، وقيل : فيه إضمار ، أي : فقولوا أيّها المسلمون للكفار : اعلموا أنّما أنزل بعلم الله ، يعني القرآن.

وقيل : أنزله ، وفيه علمه ، وإن قيل : إن هذا الخطاب مع الكفار ، فالمعنى : إن الذين تدعونهم من دون الله ، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة ، فاعلموا أيها الكفار ؛ أن هذا القرآن ، إنما أنزل بعلمه ، فهل أنتم مسلمون ، فقد وقعت الحجة عليكم ، وأن لا إله إلا هو ، فاعلموا أنّه لا إله إلا هو.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) لفظه استفهام ، ومعناه أمر ، أي : أسلموا.

قال بعض المفسّرين : وهذا القول أولى ؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول ، وهذا لا يحتاج إلى إضمار ، وأيضا : فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى ، وأيضا : فالخطاب الأول كان مع الكفار بقوله : (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ،) وأيضا فالأول أمر بالثبات.

فإن قيل : أين يعلّق الشرط المذكور في هذه الآية ، وأين ما فيها من الجزاء؟

فالجواب : أن القوم ادعوا كون القرآن مفترّى على الله تعالى ، فقال : لو كان مفترّى على الله تعالى ، لوجب أن يقدر الخلق على مثله ، ولما لم يقدروا عليه ، ثبت أنّه من الله ، فقوله (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) : كناية عن كونه من عند الله ، ومن قبله ؛ كما يقول الحاكم : هذا الحكم جدير بعلمي.

فإن قيل : أي تعلّق لقوله : (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بعجزهم عن المعارضة؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه تعالى لمّا أمر محمدا ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ـ بأن يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنّها لا تنفع ولا تضرّ في شيء من المطالب ألبتة ، ومن كان كذلك ، فقد بطلت إلهيته ، فصار عجز القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلا لإلهية الأصنام ، ودليلا على إثبات نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ، فكان قوله : (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إشارة إلى ظهور فساد إلاهيّة الأصنام.

وثانيها : أنّه ثبت في علم الأصول أنّ القول بنفي الشّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فكأنّه قيل : لمّا ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقا ، وثبت كون قول محمد صدقا في دعوى الرّسالة.

٤٥٠

وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو ، واتركوا الإصرار على الكفر ، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى ـ في سورة البقرة عند ذكر آية التحدّي ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤].

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦)

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) الآية.

قيل : إنّها مختصة بالكفّار لقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [هود : ١٦] وهذا ليس إلّا للكفار ، فيكون التقدير : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي : تكون إرادته مقصورة على حبّ الدنيا وزينتها ، ومن طلب السعادات الأخرويّة كان حكمه كذا وكذا.

واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم : المراد منكرو البعث فإنّهم ينكرون الآخرة ويرغبون في سعادات الدّنيا.

وقيل : المراد المنافقون ، كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة.

وقال أنس ـ رضي الله عنه ـ : المراد اليهود والنّصارى (١).

وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها.

وعمل الخير قسمان :

العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر ، وصلة الرّحم ، والصّدقة ، وبناء القناطر ، وتسوية الطرق ، ودفع الشر ، وإجراء الأنهار ، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدّنيا ، فإنّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، وهي من أعمال الخير ، فقد تصدر من المسلم والكافر.

وأمّا العبادات فإمّا أن تكون طاعات بنيّات مخصوصة ، فإذا لم يؤت بتلك النّية ، وإنّما أتى فاعلها بها طلبا لزينة الدنيا ، وتحصيل الرّياء والسمعة ؛ فلا تكون طاعة ووجودها كعدمها بل هو شر منها.

وعلى هذا فالمراد منه الطّاعات التي يصحّ صدورها من الكفار.

وقيل : الآية على ظاهرها في العموم ؛ فيندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطّاعات رياء وسمعة ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٤) وعزاه إلى الطبري وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس.

٤٥١

ويشكل على هذا قوله في آخر الآية (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) إلّا إذا قلنا : إنّ المراد : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة ، والأفعال الباطلة.

والقائلون بهذا القول أكّدوا قولهم بما روي عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «تعوّذوا بالله من جبّ الحزن» قيل : وما جبّ الحزن؟ قال : «واد في جهنّم يلقى فيه القرّاء المراءون» (١).

وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة من يرى النّاس فيه خيرا ولا خير فيه» (٢).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل جمع القرآن فيقال : ما عملت فيه؟ فيقول : يا رب قمت به آناء اللّيل ، والنّهار ، فيقول الله ـ تبارك وتعالى ـ كذبت بل أردت أن يقال : فلان قارىء ، وقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عزوجل ألم أوسّع عليك؟ فماذا عملت فيما آتيتك؟ فيقول : وصلت الرّحم وتصدّقت ، فيقول : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد ، وقد قيل ذلك ، ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في سبيل الله حتّى قتلت ، فيقول الله عزوجل كذبت بل أردت أن يقال : فلان فارس».

ثم ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركبتي وقال : «يا أبا هريرة أولئك الثّلاثة أوّل خلق تسعّر بهم النّار يوم القيامة».

وقد روي أن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ ذكر هذا الحديث عند معاوية ـ رضي الله عنه(٣) ـ. قال الراوي : فبكى حتّى ظننا أنّه هالك ثمّ أفاق وقال : صدق الله ورسوله (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

فصل

نقل القرطبيّ عن بعض العلماء :

أنّ معنى هذه الآية : هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنّيات» (٤) ، وهذا يدلّ على من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان ، وتدلّ على أن من توضّأ للتبرد والتنظف لا يقع عن جهة الصّلاة ، وكذلك كل من كان في معناه.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥١٢) كتاب الزهد : باب ما جاء في الرياء والسمعة حديث (٢٣٨٣) وابن ماجه (١ / ٩٤) المقدمة : باب الانتفاع بالعلم والعمل به حديث (٢٥٦) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

(٢) ذكره السيوطي في الجامع الكبير (٣٢٦٤) وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣ / ٤٧٣) رقم (٧٤٨٥) وعزاه إلى أبي عبد الرحمن السلمي في الأربعين الصوفية والديلمي في «مسند الفردوس» عن ابن عمر.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

٤٥٢

قوله : «نوفّ».

الجمهور على «نوفّ» بنون العظمة وتشديد الفاء من «وفّى يوفّي».

وطلحة (١) وميمون بياء الغيبة ، وزيد بن علي كذلك ، إلّا أنّه خفّف الفاء من «أوفى يوفي» ، والفاعل في هاتين القراءتين ضمير الله تعالى.

وقرىء (٢) «توفّ» بضم التاء ، وفتح الفاء مشددة من «وفّي يوفّى» مبنيا للمفعول.

«أعمالهم» بالرّفع قائما مقام الفاعل. وانجزم «نوفّ» على هذه القراءات لكونه جوابا للشّرط ، كما في قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) [الشورى : ٢٠].

وزعم الفرّاء أنّ «كان» هذه زائدة ، ولذلك جزم جوابه ، ولعلّ هذا لا يصحّ ، إذ لو كانت زائدة لكان «يريد» هو الشّرط ، ولو كان الشّرط ، لانجزم ، فكان يقال : «من كان يرد» وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشّرط ماضيا ، والجزاء مضارعا إلّا مع «كان» خاصة ، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير «كان» ؛ قال زهير : [الطويل]

٢٩٤٧ ـ ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السّماء بسلّم (٣)

وأمّا القرآن فجاء من باب الاتفاق لذلك.

وقرأ الحسن (٤) «نوفي» بتخفيف الفاء وثبوت الياء من «أوفى» ، ثمّ هذه القراءة محتملة: لأن يكون الفعل مجزوما ، وقدّر جزمه بحذف الحركة المقدرة ؛ كقوله : [الوافر]

٢٩٤٨ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

بما لاقت لبون بني زياد (٥)

على أنّ ذلك يأتي في السّعة نحو : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) [يوسف : ٩٠] وسيأتي محرّرا في سورته ، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعا لوقوع الشّرط ماضيا ؛ كقوله : [الطويل]

٢٩٤٩ ـ وإن شلّ ريعان الجميع مخافة

نقول جهارا : ويلكم لا تنفّروا (٦)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٦ والبحر المحيط ٥ / ٢١٠ ، والدر المصون ٤ / ٨٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٢١٠.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٨٤.

(٥) البيت لقيس بن زهير. ينظر : الكتاب ٣ / ٣١٦ والخصائص ١ / ٣٣٣ والمحتسب ١ / ٦٧ وأمالي ابن الشجري ١ / ٨٤ والنوادر (٢٠٣) وشرح ديوان الحماسة ٣ / ١٤٨١ وشرح المفصل لابن يعيش ٨ / ٢٤ والخزانة ٨ / ٣٥٩ واللسان (أتى) والمغني ١ / ١٠٨ والإنصاف ١ / ٣٠ والمصنف ٢ / ٨١ ، ١٤ والدر المصون ٤ / ٨٤.

(٦) تقدم.

٤٥٣

وكقول زهير : [البسيط]

٢٩٥٠ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول لا غائب مالي ولا حرم (١)

وهل يجوز الرفع ؛ لأنه على نيّة التقديم ، وهو مذهب سيبويه ، أو على نيّة الفاء ، كما هو مذهب المبرد ؛ خلاف مشهور.

ومعنى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) أي : نوفّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها.

(وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي : في الدنيا لا ينقص حظهم.

روى أنس ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال : «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدّنيا ، ويجزى عليها في الآخرة ، وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدّنيا حتّى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا» (٢).

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) في الدنيا (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هذه الآية إشارة إلى التّخليد في النّار ، والمؤمن لا يخلد ، لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨].

قوله : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) يجوز أن يتعلّق «فيها» ب «حبط» والضمير على هذا يعود على الآخرة ، أي وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة ، ويجوز أن يتعلّق ب «صنعوا» فالضّمير يعود على الحياة الدّنيا كما عاد عليها في قوله : (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

و «ما» في (ما صَنَعُوا) يجوز أن تكون بمعنى الذي ، فالعائد محذوف ، أي : الذي صنعوه ، وأن تكون مصدرية ، أي : وحبط صنعهم.

قوله : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قرأ الجمهور برفع الباطل ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون «باطل» خبرا مقدما ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مبتدأ مؤخّر ، و «ما» تحتمل أن تكون مصدرية ، أي : وباطل كونهم عاملين ، وأن تكون بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي : يعملونه ، وهذا على أنّ الكلام من عطف الجمل ، عطف هذه الجملة على ما قبلها.

الثاني : أن يكون «باطل» مبتدأ ، و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) خبره ، قاله مكي ، ولم يذكر غيره ، وفيه نظر.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه مسلم ٤ / ٢١٦٢ ، كتاب صفات المنافقين : باب جزاء المؤمن بحسناته (٥٦ ـ ٢٨٠٨) ، وأحمد في المسند ٣ / ١٢٣ ـ ٢٨٣.

٤٥٤

الثالث : أن يكون «باطل» عطفا على الأخبار قبله ، أي : أولئك باطل ما كانوا يعملون و (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فاعل ب «باطل» ، ويرجح هذا ما قرأ (١) به زيد بن علي (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) جعله فعلا ماضيا معطوفا على «حبط».

وقرأ أبيّ (٢) وابن مسعود «وباطلا».

قال مكيّ (٣) : «وهي في مصحفهما كذلك».

ونقلها الزمخشري عن عاصم «وباطلا» نصبا ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب ب «يعملون» و «ما» مزيدة ، وإلى هذا ذهب مكي ، وأبو البقاء وصاحب اللوامح ، وفيه تقديم معمول خبر «كان» على «كان» وهي مسألة خلاف ، والصحيح جوازها ، كقوله تعالى (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] ، فالظاهر أنّ «إيّاكم» منصوب ب «يعبدون».

والثاني : أن تكون «ما» إبهامية ، وتنتصب ب «يعملون» ومعناه : «باطلا أي باطل كانوا يعملون».

والثالث : أن يكون «باطلا» بمعنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون ، ذكر هذين الوجهين الزمخشري ، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفة للنّكرة قبلها ، ولذلك قدّرها ب «باطلا أيّ باطل» فهو كقوله : [المديد]

٢٩٥١ ـ .........

وحديث ما على قصره (٤)

و «لأمر ما جدع قصير أنفه» ، وقد قدّم هو ذلك في قوله تعالى : (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) [البقرة : ٢٦].

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ(٢٠)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١١ ، والدر المصون ٤ / ٨٥.

(٢) نقلها الزمخشري عن عاصم ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٤ والمحرر الوجيز ٣ / ١٥٧ والبحر المحيط ٥ / ٢١١ والدر المصون ٤ / ٨٥.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣٩٤.

(٤) تقدم.

٤٥٥

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢٣)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) الآية.

وتقدير تعلقهما بما قبلها : (ا فمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها).

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوف ، تقديره : أفمن كان على هذه الأشياء كغيره ، كذا قدّره أبو البقاء ، وأحسن منه (أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثير نحو : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) [فاطر : ٨] ، (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) [الزمر : ٩] إلى غير ذلك ، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير.

الثاني : ـ وإليه نحا الزمخشري ـ أن هذا معطوف على شيء محذوف قبله ، تقديره : «أمن كان يريد الحياة الدنيا ، وزينتها كمن كان على بينة» ، أي : لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم.

يريد : أن بين الفريقين تفاوتا ، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام ، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفا بين همزة الاستفهام ، وحرف العطف ، وهو مبتدأ أيضا ، والخبر محذوف كما تقدم تقريره.

قوله : (وَيَتْلُوهُ) اختلفوا في هذه الضمائر ، أعني في «يتلوه» ، وفي «منه» ، وفي «قبله» : فقيل : الهاء في «يتلوه» تعود على «من» ، والمراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك الضميران في «منه» ، و «قبله» ، والمراد بالشّاهد لسانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتقدير : ويتلو ذلك الذي على بيّنة ، أي : ويتلو محمّدا ـ أي : صدق محمد ـ لسانه (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : الشّاهد جبريل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ والضمير في «منه» لله ـ تعالى ـ ، وفي قبله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الشّاهد الإنجيل ، و (كِتابُ مُوسى) ـ عليه الصلاة والسّلام ـ عطف على «شاهد» ، والمعنى : أنّ التوراة والإنجيل يتلوان محمدا في التّصديق ، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله : (مِنْ قَبْلِهِ) ، والتقدير : شاهد منه ، وكتاب موسى من قبله ، وقد تقدّم الكلام على الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف مشبعا في النّساء [٥٨].

وقيل : الضمير في «يتلوه» للقرآن ، وفي «منه» لمحمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وقيل : لجبريل ، والتقدير : ويتلو القرآن شاهد من محمد ، وهو لسانه ، أو من جبريل والهاء في (مِنْ قَبْلِهِ) أيضا للقرآن.

وقيل الهاء في «يتلوه» تعود على البيان المدلول عليه بالبيّنة.

وقيل : المراد بالشّاهد إعجاز القرآن ، فالضّمائر الثلاثة للقرآن. وقيل غير ذلك.

٤٥٦

وقرأ محمد بن السّائب الكلبي (١) «كتاب موسى» بالنّصب وفيه وجهان :

أظهرهما : أنّه معطوف على الهاء في «يتلوه» ، أي : يتلوه ، ويتلو كتاب موسى ، وفصل بالجارّ بين العاطف والمعطوف.

والثاني : أنّه منصوب بإضمار فعل. قال أبو البقاء (٢) : «وقد تمّ الكلام عند قوله «منه» و (كِتابُ مُوسى) ، أي : «ويتلوا كتاب موسى» فقدّر فعلا مثل الملفوظ به ، وكأنّه لم ير الفصل بين العاطف والمعطوف ، فلذلك قدّر فعلا».

و (إِماماً وَرَحْمَةً) منصوبان على الحال من (كِتابُ مُوسى) سواء أقرىء رفعا أم نصبا.

و «أولئك» إشارة إلى من كان على بيّنة ، جمع على معناها ، وهذا إن أريد ب (مَنْ كانَ) النبيّ وصحابته ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ، ورضي عن صحابته أجمعين ـ وإن أريد هو وحده فيجور أن يكون عظّمه بإشارة الجمع كقوله : [الطويل]

٢٩٥٢ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

 ......... (٣)

والهاء في «به» يجوز أن تعود على (كِتابُ مُوسى) وهو أقرب مذكور. وقيل : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك الهاء في «به» الثانية.

و «الأحزاب» الجماعة التي فيها غلظة ، كأنّهم لكثرتهم وصفوا بذلك ، وفيه وصف حمار الوحش ب «حزابية» لغلظه. والأحزاب جمع حزب وهو جماعة النّاس.

فصل

قيل : في الآية حذف ، والتقدير : «ا فمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها» ، أو من كان على بيّنة من ربه كمن هو في الضّلالة.

والمراد بالذي هو عليه بيّنة : النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ. (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي : يتبعه من يشهد له بصدقه.

واختلفوا في هذا الشّاهد : فقال ابن عبّاس ، وعلقمة ، وإبراهيم ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك وأكثر المفسّرين ـ رضي الله عنهم ـ : إنّه جبريل ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (٤) وقال الحسن وقتادة : هو لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٨٦.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٣٦.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧ ـ ١٨) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وإبراهيم وأبي صالح وأبي العالية.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٧) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عنه وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٧).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦) عن الحسن وقتادة.

٤٥٧

وروى ابن جريج عن مجاهد قال : هو ملك يحفظه ويسدده (١).

وقال الحسين بن الفضل : هو القرآن ونظمه (٢).

وقيل : هو عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ قال علي : «ما من رجل من قريش إلّا ونزلت فيه آية من القرآن» ، فقال له رجل : «أي شيء نزل فيك»؟ قال : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ).

وقيل : هو الإنجيل. و (مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل (٣) : من قبل نزول القرآن. (كِتابُ مُوسى) أي : كان كتاب موسى (إِماماً وَرَحْمَةً) لمن اتّبعه ، أي التّوراة ، وهي مصدقة للقرآن ، شاهدة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعني : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي : بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل بالقرآن «من الأحزاب» من الكفّار وأهل الملل ، (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) اسم مكان وعده ؛ قال حسّان : [البسيط]

٢٩٥٣ ـ أوردتموها حياض الموت ضاحية

فالنّار موعدها والموت ساقيها (٤)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة ، ولا يهوديّ ولا نصرانيّ ، ومات ولم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» (٥).

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي : شكّ ، و «المرية» بكسر الميم وضمّها الشكّ ، لغتان :

أشهرهما الكسر ، وهي لغة أهل الحجاز ، وبها قرأ الجمهور. والضّمّ لغة وتميم ، وبها قرأ السلمي (٦) وأبو رجاء وأبو الخطاب السّدوسي.

والمعنى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : من صحّة هذا الدّين ، ومن كون هذا القرآن نازلا من عند الله ـ تعالى ـ.

وقيل : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) من أنّ موعد الكفار النّار.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٧).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في «المعرفة».

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٥ / ٢١٢ وروح المعاني ١٥ / ٢٩ ، وزاد المسير ٤ / ٨٩ والدر المصون ٤ / ٨٧.

(٥) أخرجه مسلم (١ / ١٣٤) كتاب الإيمان : باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم .... (٢٤٠ / ١٠٣).

(٦) وقرأ بها أيضا الحسن. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢١٢ ، والدر المصون ٤ / ٨٦.

٤٥٨

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية.

أورده في معرض المبالغة دليلا على أنّ الافتراء على الله ـ تعالى ـ أعظم أنواع الظّلم.

(أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) [الأنعام : ٢١] يعنى : القرآن ، «أولئك» يعنى : الكاذبين والمكذبين.

(يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) فيسألهم عن إيمانهم ، وخصّهم بهذا العرض ، وإن كان العرض عاما في كلّ العباد لقوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف : ٤٨] ؛ لأنهم يعرضون ، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) فليحقهم من الخزي والنّكال ما لا مزيد عليه.

و «الأشهاد» جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف.

والمراد ب «الأشهاد» قال مجاهد هم الملائكة الحفظة (١).

وقال قتادة ، ومقاتل : «الأشهاد» النّاس (٢).

وقيل : الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ.

فإن قيل : إذا لم يجز أن يكون الله ـ تعالى ـ في مكان ؛ فكيف قال : (يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) فالجواب : أنّهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب ، والسؤال ، ويجوز أن يعرضوا على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين.

ثمّ لمّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنّهم في الحال ملعونون عند الله ـ عزوجل ـ.

روى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ يدني المؤمن يوم القيامة فيستره من النّاس ، فيقول : أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول : نعم حتّى إذا قرّره بذنوبه ، قال : فإنّي سترتها عليك في الدنيا ، وقد غفرتها لك اليوم ثمّ يعطى كتاب حسناته ، وأمّا الكفّار والمنافقون ، فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين» (٣).

(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يمنعون عن دين الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : إنّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر ، والضّلال ، فقد أضافوا إليه المنع من الدّين الحق ، وإلقاء

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٢).

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٢٢).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥) كتاب التفسير حديث (٤٦٨٠) ومسلم (٤ / ٢١٢٠) كتاب التوبة : باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله حديث (٥٢ / ٢٧٦٨) والطبري في تفسيره (٧ / ٢٢ ـ ٢٣) عن ابن عمر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٨) وزاد نسبته إلى ابن المبارك وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات».

٤٥٩

الشّبه وتعويج الدّلائل المستقيمة ؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجا ، وإنما يقال ذلك في العالم بكيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشّبهات.

ثم قال : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ).

قال الزّجّاج : «كرر كلمة «هم» توكيدا لشأنهم في الكفر».

(أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ).

قال الواحديّ : «معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال : أعجزني فلان : أي : منعني من مرادي ، ومعنى (مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا ، فإنّ هرب العبد من عذاب الله ـ تعالى ـ محال ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قادر على جميع الممكنات».

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ «سابقين» (١).

وقال مقاتل : «فائتين» (٢).

(فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) يعني أنصارا يحفظونهم من عذابنا.

(يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) أي : يزاد في عذابهم. وقيل : تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير.

وقيل سبب تضعيف عذابهم أنّهم كفروا بالبعث والنشور.

قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون نافية ، نفى عنهم ذلك لمّا لم ينتفعوا به ، وإن كانوا ذوي أسماع وأبصار ، أو يكون متعلّق السّمع والبصر شيئا خاصا.

والثاني : أن تكون مصدرية ، وفيها حينئذ تأويلان :

أحدهما : أنّها قائمة مقام الظرف ، أي : مدة استطاعتهم ، وتكون «ما» منصوبة ب «يضاعف» ، أي : لا يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السّمع والأبصار.

والثاني : أنّها منصوبة المحلّ على إسقاط حرف الجر كما يحذف من «أن» و «أنّ» أختيها ، وإليه ذهب الفرّاء ، وذلك الجارّ متعلق أيضا ب «يضاعف» أي : يضاعف لهم بكونهم كانوا يسمعون ، ويبصرون ، ولا ينتفعون.

والثالث : أن تكون «ما» بمعنى «الّذي» ، وتكون على حذف حرف الجر أيضا ، أي: بالذي كانوا ، وفيه بعد لأنّ حذف الحرف لا يطّرد.

والجملة من قوله : «يضاعف» مستأنفة.

وقيل : إنّ الضمير في قوله (ما كانُوا) يعود على «أولياء» وهم آلهتهم ، أي : فما كان لهم في الحقيقة من أولياء ، وإن كانوا يعتقدون أنّهم أولياء ، فعلى هذا يكون (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) معترضا.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٨).

(٢) انظر المصدر السابق.

٤٦٠