اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

ثم قال : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يميتكم ، ويقبض أرواحكم.

فإن قيل : ما الحكمة في وصف المعبود ههنا بقوله : (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ)؟.

فالجواب : من وجوه :

الأول : أنّ المعنى أني أعبد الله الذي خلقكم أولا ، ثم يتوفّاكم ثانيا ثم يعيدكم ثالثا ، فاكتفى بذكر التوفي لكونه منبّها على البواقي.

الثاني : أنّ الموت أشدّ الأشياء مهابة ، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا ، ليكون أقوى في الزّجر والرّدع.

الثالث : أنّهم لمّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهذا يدلّ على أنّه تعالى يهلك أولئك الكفار ، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم ، فلمّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) وهو إشارة إلى ما قرّره وبيّنه في تلك الآية كأنه يقول : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم ، وإبقائي بعدكم.

قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ،) قال الزمخشري : أصله بأن أكون ، فحذف الجارّ ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع أن وأنّ ، وأن يكون من الحذف غير المطّرد ؛ وهو كقوله : [البسيط]

٢٩٣٩ ـ أمرتك الخير .........

 ......... (١)

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] يعنى : بغير المطّرد أنّ حذف حرف الجر مسموع في أفعال لا يجوز القياس عليها ، وهي : أمر ، واستغفر ، كما تقدم [الأعراف ١٥٥] ، وأشار بقوله «أمرتك» إلى البيت المشهور : [البسيط]

٢٩٤٠ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

 ......... (٢)

وقد قاس ذلك بعض النّحويّين ، ولكن يشترط أن يتعيّن ذلك الحرف ، ويتعيّن موضعه أيضا ، وهو رأي علي بن سليمان فيجيز «بريت القلم السكين» بخلاف «صككت الحجر بالخشبة».

قوله (وَأَنْ أَقِمْ) يجوز أن يكون على إضمار فعل أي : وأوحي إليّ أن أقم ، ثم لك في «أن» وجهان أحدهما : أن تكون تفسيرية لتلك الجملة المقدّرة ، كذا قاله أبو حيان ، وفيه نظر ، إذ المفسّر لا يجوز حذفه ، وقد ردّ هو بذلك في موضع غير هذا ، والثاني : أن تكون المصدرية ، فتكون هي وما في خبرها في محلّ رفع بذلك الفعل المقدر ، ويحتمل أن تكون «أن» مصدرية فقط ، وهي على هذا معمولة لقوله : أمرت مراعى فيها معنى

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٤٢١

الكلام ؛ لأنّ قوله (أَنْ أَكُونَ) كون من أكوان المؤمنين ، ووصل «أن» بصيغة الأمر جائز ، كما تقدّم تحريره.

وقال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : عطف قوله : (وَأَنْ أَقِمْ) على (أَنْ أَكُونَ) فيه إشكال ؛ لأنّ أن لا تخلو : إمّا أن تكون التي للعبارة ، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر ، فلا يصحّ أن تكون التي للعبارة ، وإن كان الأمر ممّا يتضمّن معنى القول ؛ لأنّ عطفها على الموصولة ينافي ذلك ، والقول بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمر وهو «أقم» ؛ لأنّ الصّلة حقّها أن تكون جملة تحتمل الصّدق والكذب.

قلت : قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن» بالأمر والنّهي ، وشبّه ذلك بقولهم : «أنت الذي تفعل» على الخطاب ؛ لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر ، والأمر والنّهي دالّان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال.

قال شهاب الدين : وقد تقدّم الإشكال في ذلك وهو أنّه إذا قدّرت بالمصدر فاتت الدّلالة على الأمر والنّهي.

ورجّح أبو حيّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدّم تقريره قال : «ليزول قلق العطف لوجود الكاف ، إذ لو كان (وَأَنْ أَقِمْ) عطفا على (أَنْ أَكُونَ) لكان التّركيب «وجهي» بياء المتكلم ، ومراعاة المعنى فيه ضعف ، وإضمار الفعل أكثر».

قال ابن الخطيب (٢) : الواو في قوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) حرف عطف ، وفي المعطوف عليه وجهان :

الأول : أنّ قوله : وأمرت أن أكون قائم مقام قوله : وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ).

الثاني : أنّ قوله (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) قائم مقام قوله : (وَأُمِرْتُ) بإقامة الوجه ، فيصير التقدير : وأمرت بأن أكون من المؤمنين ، وبإقامة الوجه للدّين حنيفا.

قوله : «حنيفا» يجوز أن يكون حالا من «الدّين» ، وأن يكون حالا من فاعل «أقم» أو مفعوله.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : معنى قوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي : عملك (٣). وقيل : استقم على الدّين حنيفا.

قال ابن الخطيب (٤) : «إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليّة إلى طلب الدّين ؛

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٤.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٣٨.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧١).

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٣٨.

٤٢٢

لأنّ من يريد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء فإنّه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه ؛ لأنّه لو صرفه عنه ، ولو بالقليل ، فقد بطلت تلك المقابلة ، وإذا بطلت المقابلة اختلّ الإبصار ؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدّين ، وقوله «حنيفا» أي : مائلا إليه ميلا كليّا ، معرضا عن كلّ ما سواه إعراضا كليا».

ثم قال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان ؛ لأنّ ذلك صار مذكورا في قوله أول الآية : (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [١٠٤] فلا بدّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة ، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا ، وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشّرك الخفيّ. قاله ابن الخطيب.

قوله تعالى : ولا تدع يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية ، ويجوز أن تكون عطفا على جملة الأمر وهي : «أقم» فتكون داخلة في صلة «أن» بوجهيها ، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم.

وقوله : (ما لا يَنْفَعُكَ) يجوز أن تكون نكرة موصوفة ، وأن تكون موصولة.

قوله : «فإنّك» هو جواب الشّرط و «إذن» حرف جواب توسّطت بين الاسم ، والخبر ، ورتبتها التّأخير عن الخبر ، وإنّما وسّطت رعيا للفواصل. وقال الزمخشري : «إذن» جواب الشّرط وجواب لسؤال مقدّر ، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان.

وفي جعله «إذن» جزاء للشّرط نظر ، إذ جواب الشّرط محصور في أشياء ليس هذا منها.

فصل

المعنى : (وَلا تَدْعُ) أي : ولا تعبد (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) إن أطعته : (وَلا يَضُرُّكَ) إن عصيته (فَإِنْ فَعَلْتَ) فعبدت غير الله ، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة ، والمضرّة من غير الله (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) الضّارين لأنفسهم ، الواضعين للعبادة في غير موضعها ؛ لأنّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) الآية.

قوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ) قد تقدّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [الأنعام: ١٧]. وقال هنا في جواب الشّرط الأول بنفي عام ، وإيجاب ، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب ؛ لأنّ ما أراده لا يردّه رادّ ، لا هو ولا غيره ، لأنّ إرادته قديمة لا تتغيّر ، فلذلك لم يجىء التّركيب فلا رادّ له إلّا هو ، هذه عبارة أبي حيّان ، وفيها نظر ، وكأنّه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحده دون غيره بخلاف إرادته تعالى ، فإنّه لا يتصوّر فيها الوقوع على خلافها ، وهي مسألة خلافيّة بين أهل السّنّة والاعتزال.

٤٢٣

قال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : لم ذكر المسّ في أحدهما والإرادة في الثاني؟ قلت : كأنّه أراد أن يذكر الأمرين جميعا : الإرادة والإصابة في كلّ واحد من الضّر والخير ، وأنّه لا رادّ لما يريده منهما ، ولا مزيل لما يصيب به منهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما ، والإرادة في الآخر ليدلّ بما ذكر على ما ترك ، على أنّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) [يونس : ١٠٧].

فصل

اعلم أنّ الشيء إمّا أن يكون ضارّا ، وإمّا أن يكون نافعا ، وهذا القسمان مشتركان في اسم الخير ، ولمّا كان الضر أمرا وجوديا ، والخير قد يكون أمرا عدميّا ، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) والآية دالّة على أنّ الضرّ والخير واقعان بقدرة الله وبقضائه ، فيدخل فيه الكفر ، والإيمان ، والطاعة ، والمعصية ، والسرور والخيرات والآلام واللّذات.

ومعنى الآية : إن يصبك الله بضرّ أي : بشدّة ، وبلاء فلا دافع له إلّا هو ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) رخاء ونعمة وسعة (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) لا دافع لرزقه ، (يُصِيبُ بِهِ) بكل واحد من الضر والخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

قال الواحديّ (٢) : قوله : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من المقلوب ، معناه : وإن يرد بك الخير ، ولكنّه لمّا تعلّق كل واحد منهما بالإرادة جاز تقديم كل واحد منهما.

قال المفسّرون : لمّا بيّن تعالى في الآية الأولى أنّ الأصنام لا تضرّ ولا تنفع بيّن في هذه الآية أنّها لا تقدر على دفع الشّر الواصل من الغير ، ولا على دفع الخير الواصل من الغير.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن يتعلّق ب «جاءكم» و «من» لابتداء الغاية مجازا ، ويجوز أن يكون حالا من «الحقّ».

قوله : فمن اهتدى ومن ضلّ يجوز أن تكون «من» شرطا ، فالفاء واجبة الدّخول وأن تكون موصولة فالفاء جائزته.

فصل

المراد «بالحقّ» القرآن والإسلام (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : على نفسه.

قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : بكفيل يحفظ أعمالكم ، و «ما» يجوز أن تكون الحجازيّة أو التميمية ، لخفاء النصب في الخبر.

__________________

(١) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ٣٧٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٤٠.

٤٢٤

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ هذه الآية نسختها آية القتال (١). ثمّ قال تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) [يونس : ١٠٩] أمره باتّباع الوحي والتّنزيل (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) فحكم بقتل المشركين ، وبالجزية على أهل الكتاب يعطونها (عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩].

روى أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة يونس ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به ، وبعدد من غرق مع فرعون» (٢).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٢).

(٢) تقدم.

٤٢٥

سورة هود ـ عليه الصلاة والسّلام ـ

قال ابن عبّاس : هي مكية إلا قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)(١) [هود : ١١٤].

وهنا سؤالان :

الأول : أنّ سورة القصص لم يقصّ فيها إلا قصة واحدة ، وهي قصّة موسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة ؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك ، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة «موسى» ـ عليه‌السلام ـ كما سميت سورة يوسف ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، وسورة «نوح» ـ عليه الصلاة والسّلام ـ.

السؤال الثاني : أنّ في هذه السورة قصصا كثيرة ، فما الحكمة في أنها سمّيت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها؟.

فصل

يجوز في «هود» مرادا به السّورة الصّرف وتركه ، وذلك باعتبارين :

وهما أنّك إن عنيت أنّه اسم للسّورة تعيّن منعه من الصّرف ، وهذا رأي الخليل وسيبويه. وكذلك «نوح» ، و «لوط» إذا جعلتهما اسمين للسّورتين المذكورين فيهما ، فتقول : قرأت هود ونوح ، وتبرّكت بهود ، ونوح ، ولوط.

فإن قلت : قد نصّوا على أنّ المؤنّث الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : هند ودعد ، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط ؛ نحو : نوح ولوط حكمه الصّرف وتركه ، مع أنّ الصحيح وجوب صرف نوح.

فالجواب : أن شرط ذلك ألا يكون المؤنّث منقولا من مذكّر إلى مؤنّث ، فلو سميت امرأة ب «زيد» تحتّم منعه ، وشرط الأعجميّ ألّا يكون مؤنّثا ، فلو كان مؤنّثا تحتم منعه نحو : ماه وجور.

وهود ونوح من هذا القبيل ، فإنّ «هود» في الأصل لمذكر ، وكذلك نوح ، ثم سمّي

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٦) وعزاه إلى النحاس في تاريخه وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

٤٢٦

بهما السورة ، وهي مؤنثة ، وإن كان تأنيثها مجازيا ، وإن اعتبرت أنّها على حذف مضاف وجب صرفه ، فتقول : قرأت هودا ونوحا يعني : سورة هود وسورة نوح ، وقد جوّز الصّرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر ، وفيه ضعف ، ولا خفاء أنّك إذا قصدت ب «هود» و «نوح» النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي ، وأما هود فإنّه عربيّ فيتحتم صرفه. وقد عقد النحويّون لأسماء السّور ، والألفاظ ، والأحياء ، والقبائل ، والأماكن بابا في منع الصّرف وعدمه ، حاصله : أنّك إنّ عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة ، أو كلمة منعت. وإن عنيت حيّا أو أبا أو مكانا ، أو غير سورة ، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النّحو.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤)

«كتاب» يجوز أن يكون خبرا ل : «ألف لام راء» ، أخبر عن هذه الأحرف بأنّها كتاب موصوف بكيت وكيت.

قال الزجاج : هذا غلط ؛ لأنّ «الر» ليس هو الموصوف بهذه الصّفة وحده قال ابن الخطيب (١) : وهذا اعتراض فاسد ؛ لأنّه ليس من شرط كون الشّيء مبتدأ أن يكون خبره محصورا فيه ، ويجوز أن يكون خبر ابتداء مضمر تقديره : ذلك كتاب.

قال ابن الخطيب : «وهذا عندي ضعيف لوجهين» :

الأول : أنّه على هذا التقدير يقع قوله : (الر) كلاما باطلا لا فائدة فيه.

والثاني : أنك إذا قلت : هذا كتاب ، فقولك : «هذا» يكون إشارة إلى الآيات المذكورات ، وذلك هو قوله : (الر) فيصير حينئذ (الر) مخبرا عنه بأنه (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ). وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) في محلّ رفع صفة ل «كتاب» ، والهمزة في «أحكمت» يجوز أن تكون للنّقل من حكم بضمّ الكاف ، أي : صار حكيما بمعنى جعلت حكيمة ، كقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ.) ويجوز أن يكون من قولهم : «أحكمت الدابة» إذا وضعت عليها الحكمة لمنعها من الجماح ؛ كقول جرير : [الكامل]

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ١٤٢.

٤٢٧

٢٩٤١ ـ أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إنّي أخاف عليكم أن أغضبا (١)

فالمعنى أنّها منعت من الفساد.

ويجوز أن يكون لغير النّقل ، من الإحكام وهو الإتقان كالبناء المحكم المرصف ، والمعنى : أنّها نظمت نظما رصينا متقنا.

ويجوز أن يكون قوله : «أحكمت» أي : لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشّرائع بها.

قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (٢).

قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) «ثمّ» على بابها من التّراخي ؛ لأنّها أحكمت ثمّ فصّلت بحسب أسباب النّزول.

وقرأ عكرمة والضحاك (٣) والجحدريّ وزيد بن عليّ وابن كثير في رواية «فصلت» بفتحتين خفيفة العين.

قال أبو البقاء : والمعنى : فرقت ، كقوله : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ) [البقرة : ١٤٩] ، أي : فارق وفسّرها غيره ، بمعنى فصلت بين المحقّ والمبطل ، وهو أحسن.

وجعل الزمخشريّ «ثم» للتّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزّمان ، فقال : فإن قلت: ما معنى «ثمّ»؟

قلت : ليس معناها التّراخي في الوقت ، ولكن في الحال ، كما تقول : هي محكمة أحسن الإحكام ، مفصّلة أحسن التّفصيل ، وفلان كريم الأصل ، ثمّ كريم الفعل.

وقرىء أيضا (٤) : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) بإسناد الفعلين إلى «تاء» المتكلم ، ونصب «آياته» مفعولا بها ، أي : أحكمت أنا آياته ، ثم فصّلتها ، حكى هذه القراءة الزمخشري.

فصل

قال الحسن : أحكمت بالأمر والنّهي ، ثم فصّلت بالوعد والوعيد (٥) وقال قتادة : أحكمها الله فليس فيها اختلاف ولا تناقض (٦). وقال مجاهد : «فصّلت» أي : فسرت (٧)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٢).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٧ ، والمحرر الوجيز ٣ / ١٤٩ والبحر ٥ / ٢٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٧٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٠١ ، والدر المصون ٤ / ٧٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢٦).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٢٨

وقيل : «فصّلت» أي : أنزلت شيئا فشيئا كقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) [الأعراف : ١٣٣] ، وقيل : جعلت فصولا : حلالا ، وحراما ، وأمثالا ، وترغيبا وترهيبا ومواعظ وأمرا ونهيا.

فصل

احتجّ الجبائي بهذه الآية على أنّ القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه :

الأول : قال : المحكم هو الذي أتقنه فاعله ، ولو لا أنّ الله ـ تعالى ـ خلق هذا القرآن ، لم يصحّ ذلك ؛ لأنّ الإحكام لا يكون إلّا في الأفعال ، ولا يجوز أن يقال : كان موجودا غير محكم ، ثم جعله الله محكما ؛ لأنّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكما بأن يكون محدثا ، ولم يقل أحد بأنّ القرآن بعضه قديم وبعضه محدث.

الثاني : أنّ قوله : «فصّلت» يدلّ على أنّه حصل فيه انفصال وافتراق ، ويدلّ على أنّ ذلك الانفصال والافتراق إنّما حصل بجعل جاعل.

الثالث : قوله تعالى : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ،) والمراد من عنده ، والقديم لا يقال : إنّه حصل من عند قديم آخر ؛ لأنّهما إن كانا قديمين ، لم يكن القول بأنّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس.

وأجيب بأنّ النّعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ، ونحن معترفون بأنّها مخلوقة ، وإنّما الذي يدّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات.

قوله : (مِنْ لَدُنْ) أي : من عند ، يجوز أن تكون صفة ثانية ل «كتاب» وأن تكون خبرا ثانيا عند من يرى جواز ذلك ، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدّمين يعني : «أحكمت» أو «فصّلت» ويكون ذلك من باب التنازع ، ويكون من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، وإليه نحا الزّمخشري فقال : وأن يكون صلة «أحكمت» «فصّلت» ، أي : من عنده أحكامها وتفصيلها ، والمعنى : أحكمها حكيم وفصّلها ، أي : شرحها وبيّنها خبير بكيفيات الأمور.

قال أبو حيان (١) : لا يريد أنّ (مِنْ لَدُنْ) متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب ، بل يريد أن ذلك من باب الإعمال ، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى ، وهو معنى قول أبي البقاء أيضا : ويجوز أن يكون مفعولا ، والعامل فيه فصّلت.

قوله : «أن لا (تَعْبُدُوا) فيه أوجه :

أحدها : أن تكون أن المخففة من الثّقيلة ، و «لا (تَعْبُدُوا) جملة نهي في محلّ رفع خبرا ل «أن» المخففة ، واسمها على ما تقرّر ضمير الأمر والشّأن محذوف.

والثاني : أنّها المصدرية النّاصبة ، ووصلت هنا بالنّهي ، ويجوز أن تكون «لا» نافية ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠١.

٤٢٩

والفعل بعدها منصوب ب «أن» نفسها ، وعلى هذه التقادير ف «أن» : إما في محلّ جرّ أو نصب أو رفع ، فالجرّ والنصب على أنّ الأصل : لأن لا تعبدوا ، أو بأن لا تعبدوا ، فلما حذف الخافض جرى الخلاف المشهور ، والعامل : إمّا «فصّلت» وهو المشهور ، وإمّا «أحكمت» عند الكوفيين.

فتكون المسألة من باب الإعمال ؛ لأنّ المعنى : أحكمت لئلّا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا. ف: «أن لا (تَعْبُدُوا) هو المفعول الثاني ل «ضمّن» والأول قام مقام الفاعل.

والرفع فمن أوجه :

أحدها : أنّها مبتدأ ، وخبرها محذوف ، فقيل : تقديره : من النّظر أن لا تعبدوا إلّا الله.

وقيل : تقديره : في الكتاب ألّا تعبدوا إلّا الله.

والثاني : خبر مبتدأ محذوف ، فقيل : تقديره : تفصيله ألّا تعبدوا إلا الله.

وقيل : تقديره : هي أن لا تعبدوا إلّا الله.

والثالث : أنه مرفوع على البدل من «آياته».

قال أبو حيّان : وأمّا من أعربه أنّه بدل من لفظ «آيات» أو من موضعها ، يعني : أنّها في الأصل مفعول بها فموضعها نصب ، وهي مسألة خلاف ، هل يجوز أن يراعى أصل المفعول القائم مقام الفاعل ، فيتبع لفظه تارة وموضعه أخرى ، فيقال : ضربت هند العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلّ ، ورفعها باعتبار اللفظ ، أم لا؟.

مذهبان ، المشهور مراعاة اللفظ فقط.

الوجه الثالث : أن تكون مفسرة ؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ؛ فكأنّه قيل : لا تعبدوا إلّا الله إذ أمركم ، وهذا أظهر الأقوال ، لأنّه لا يحوج إلى إضمار.

قوله : «منه» في هذا الضمير وجهان :

أظهرهما : أنّه يعود على الله تعالى ، أي : إنّ لكم من جهة الله نذير وبشير ، نذير للعاصين ، وبشير للمطيعين.

قال أبو حيان : فيكون في موضع الصّفة ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائن من جهته ، وهذا على ظاهره ليس بجيّد ؛ لأنّ الصفة لا تتقدّم على الموصوف ، فكيف تجعل صفة ل «نذير»؟ وكأنّه يريد أنه صفة في الأصل لو تأخّر ، ولكن لمّا تقدّم صار حالا ، وكذا صرّح به أبو البقاء ، فكان صوابه أن يقول : فيكون في موضع الحال ، والتقدير : كائنا من جهته.

الثاني : أنّه يعود على الكتاب ، أي : نذير لكم من مخالفته ، وبشير منه لمن آمن وعمل صالحا وفي متعلق هذا الجارّ أيضا وجهان :

أحدهما : أنّه حال من نذير ، فيتعلّق بمحذوف كما تقدّم.

والثاني : أنه متعلق بنفس نذير ، أي : أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم ، وأبشركم بثوابه إن آمنتم.

٤٣٠

وقدّم الإنذار ؛ لأنّ التّخويف أهمّ إذ يحصل به الانزجار.

قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) فيها وجهان :

أحدهما : أنّها عطف على «أن» الأولى ، سواء كانت «لا» بعدها نفيا أو نهيا ، فتعود الأوجه المنقولة فيها إلى «أن» هذه.

والثاني : أن تكون منصوبة على الإغراء.

قال الزمخشريّ في هذا الوجه : ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ منقطعا عمّا قبله على لسان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم ـ إغراء منه على اختصاص الله ـ تعالى ـ بالعبادة ، ويدل عليه قوله : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) كأنه قال : ترك عبادة غير الله إنّني لكم منه نذير كقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤].

قوله : (ثُمَّ تُوبُوا) عطف على ما قبله من الأمر بالاستغفار ، و «ثمّ» على بابها من التّراخي ؛ لأنّه يستغفر أولا ثم يتوب ويتجرّد من ذلك الذّنب المستغفر منه.

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى «ثمّ» في قوله (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)؟ قلت : معناه : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطّاعة ، أو استغفروا ـ والاستغفار توبة ـ ثمّ أخلصوا التّوبة واستقيموا عليها ، كقوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) [الأحقاف : ١٣].

قال شهاب الدّين (١) : قوله : «أو استغفروا» إلى آخره يعني أنّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد ، فلذلك احتاج إلى تأويل «توبوا» ب «أخلصوا التوبة».

قال الفراء : «ثمّ» ههنا بمعنى الواو ، أي : وتوبوا إليه ، لأنّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار.

وقيل : وأن استغفروا ربّكم في الماضي ، ثمّ توبوا إليه في المستأنف.

وقيل : إنّما قدّم الاستغفار أوّلا لأنّ المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة هي السبب إليها ، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب.

ويحتمل أن يكون المعنى استغفروه من الصّغائر ، ثمّ توبوا إليه من الكبائر.

قوله : «يمتّعكم» جواب الأمر. وقد تقدّم الخلاف في الجازم : هل هو نفس الجملة الطّلبية أو حرف شرط مقدر [البقرة : ٤٠].

وقرأ الحسن وابن هرمز وزيد بن عليّ وابن محيصن (٢) «يمتعكم» بالتخفيف من أمتع.

وقد تقدّم أنّ نافعا وابن عامر قرآ (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) بالتخفيف كهذه القراءة [البقرة : ١٢٦].

قوله «متاعا» في نصبه وجهان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٧٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٤٩ ، البحر المحيط ٥ / ٢٠٢ ، الدر المصون ٤ / ٧٧.

٤٣١

أحدهما : أنّه منصوب على المصدر بحذف الزّوائد ، إذ التقدير : تمتيعا ، فهو كقوله : (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].

والثاني : أن ينصب على المفعول به ، والمراد بالمتاع اسم ما يتمتّع به ، فهو كقولك : «متعت زيدا أثوابا».

قال المفسّرون : يعيشكم عيشا في خفض ودعة وأمن وسعة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى حين الموت. فإن قيل : أليس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدّنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر»؟.

وقال أيضا : «خصّ البلاء بالأنبياء ثمّ الأولياء فالأمثل فالأمثل».

وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣] فدلّت هذه النّصوص على أنّ نصيب المؤمن المطيع عدم الرّاحة في الدّنيا ، فكيف الجمع بينهما؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ المعنى لا يعذّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القوّة من الكفّار.

الثاني : أنّه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ) [طه : ١٣٢].

الثالث : أنّ المشتغل بالعبادة مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلق أتمّ وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنّه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه.

وأمّا من اشتغل بحبّ غير الله ، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشه منغّصا وقلبه مضطربا ، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

فإن قيل : هل يدل قوله (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) على أنّ للعبد أجلين ، وأنّه يقع في ذلك التقديم والتّأخير؟.

فالجواب : لا ، ومعنى الآية أنّه تعالى حكم بأنّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر ، لكنّه تعالى عالم بأنّه يشتغل بالعبادة ، فلا جرم أنّه كان عالما بأنّ أجله ليس إلّا في ذلك الوقت المعيّن ؛ فثبت أنّ لكلّ إنسان أجلا واحدا.

وسمى منافع الدّنيا متاعا ، تنبيها على حقارتها وقلّتها ، وأنّها منقضية بقوله تعالى (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

قوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) «كلّ» مفعول أوّل ، و «فضله» مفعول ثان.

٤٣٢

وقد تقدّم للسّهيلي خلاف في ذلك. والضّمير في «فضله» يجوز أن يعود على الله تعالى ، أي : يؤتي كلّ صاحب فضل فضله ، أي : ثوابه ، وأن يعود على لفظ «كلّ» ، أي : يعطي كلّ صاحب فضل جزاء فضله ، لا يبخس منه شيئا ، أي : جزاء عمله.

قال المفسّرون : ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة.

وقال أبو العالية : من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنّة ؛ لأنّ الدّرجات تكون بالأعمال.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «من زادت حسناته على سيّئاته دخل الجنّة ، ومن (١) زادت سيئاته على حسناته ، دخل النّار ، ومن استوت حسناته وسيئاته ، كان من أهل الأعراف ، ثم يدخلون الجنة» (٢).

ثم قال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو يوم القيامة.

وقرأ الجمهور «تولّوا» بفتح التّاء والواو واللّام المشدّدة ، وفيها احتمالان :

أحدهما : أنّ الفعل مضارع تولّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفا نحو : «تنزّل».

وقد تقدّم أيتهما المحذوفة ، وهذا هو الظّاهر. ولذلك جاء الخطاب في قوله : «عليكم».

والثاني : أنّه فعل ماض مسند لضمير الغائبين ، وجاء الخطاب على إضمار القول ، أي : فقل لهم : إنّي أخاف عليكم ، ولو لا ذلك لكان التركيب : فإنّي أخاف عليهم.

وقرأ اليماني وعيسى بن عمر (٣) : «تولّوا» بضمّ التّاء ، وفتح الواو وضم اللام ، وهو مضارع «ولّى» ؛ كقولك : زكّى يزكّي.

ونقل صاحب اللّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) بثلاث ضمّات مبنيا للمفعول ، ولم يبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعل ماض ، ولمّا بني للمفعول ضمّ أوله على الفاعل ، وضمّ ثانيه أيضا ؛ لأنّه مفتتح بتاء مطاوعة ، وكلّ ما افتتح بتاء مطاوعة ضمّ أوله وثانيه ، وضمّت اللام أيضا ، وإن كان أصلها الكسر لأجل واو الضمير ، والأصل «تولّيوا» نحو : تدحرجوا ، فاستثقلت الضّمة على الياء ، فحذفت فالتقى ساكنان ؛ فحذفت الياء ، لأنّها أولهما ؛ فبقي ما قبل واو الضّمير مكسورا فضمّ ليجانس الضمير ؛ فصار وزنه «تفعّوا» بحذف لامه ، والواو قائمة مقام الفاعل.

وقرأ الأعرج (٤) «تولوا» بضمّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع «أولى» ، وهذه القراءة لا يظهر لها معنى طائل هنا ، والمفعول محذوف يقدّر لائقا بالمعنى.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٣).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٠٢ والدر المصون ٤ / ٧٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠٢ والدر المصون ٤ / ٧٧.

٤٣٣

و «كبير» صفة ل «يوم» مبالغة لما يقع فيه من الأهوال.

وقيل : بل «كبير» صفة ل «عذاب» فهو منصوب ، وإنّما خفض على الجوار ؛ كقوله: «هذا جحر ضبّ خرب» بجرّ خرب وهو صفة ل «جحر» ؛ وقول امرىء القيس : [الطويل]

٢٩٤٢ ـ كأنّ ثبيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمّل (١)

بجر «مزمّل» وهو صفة ل «كبير». وقد تقدّم البحث في ذلك في سورة المائدة.

ثم قال : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير).

وهذا فيه تهديد وبشارة ، فالتّهديد قوله (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يدلّ على أنّ مرجعنا إليه ، وهو قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ، ولا مانع لمشيئته ، والرّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذّنوب العظيمة مشكل ، وأمّا البشارة ، فإنّ ذلك يدلّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم ، وعلى ضعف تام ، وعجز عظيم لهذا العبد ، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحدا أشرف على الهلاك ؛ فإنه يخلصه من تلك الهلكة ، ومنه المثل المشهور «إذا ملكت فأسجح».

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٦)

لمّا قال : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن عبادة الله وطاعته ، بيّن بعده صفة ذلك التولي فقال : (أَلا إِنَّهُمْ) يعني الكفّار (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يقال : ثنيت الشّيء إذا عطفته وطويته.

وقرأ الجمهور : بفتح الياء وسكون الثّاء المثلثة ، وهو مضارع «ثنى يثني ثنيا» ، أي طوى وزوى ، و «صدورهم» مفعول به ، والمعنى : يحرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله ، والأصل «يثنيون» فأعلّ بحذف الضّمة عن الياء ، ثمّ تحذف الياء لالتقاء الساكنين.

وقرأ سعيد (٢) بن جبير «يثنون» وهو مضارع «أثنى» كأكرم.

واستشكل النّاس هذه القراءة فقال أبو البقاء : ماضيه أثنى ، ولا يعرف في اللغة ، إلّا أن يقال : معناه عرضوها للانثناء ، كما يقال : أبعت الفرس : إذا عرضته للبيع.

وقال صاحب اللّوامح : ولا يعرف الإثناء في هذا الباب ، إلّا أن يراد به : وجدتها مثنيّة ، مثل : أحمدته وأمجدته ، ولعلّه فتح النون ، وهذا ممّا فعل بهم فيكون نصب

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ والدر المصون ٤ / ٧٨.

٤٣٤

«صدورهم» بنزع الخافض ، ويجوز على ذلك أن يكون «صدورهم» رفعا على البدل بدل البعض من الكلّ يعني بقوله : ولعلّه فتح النّون أي : ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نون «يثنون» فيكون مبنيا للمفعول ، وهو معنى قوله : وهذا ممّا فعل بهم أي وجدوا كذلك ، فعلى هذا يكون «صدورهم» منصوبا بنزع الخافض ، أي : في صدورهم ، أي يوجد الثّني في صدورهم ، ولذلك جوّز رفعه على البدل كقولك : ضرب زيد الظّهر. ومن جوّز تعريف التمييز لا يبعد عنده أن ينتصب «صدورهم» على التّمييز بهذا التقدير الذي قدّره.

وقرأ ابن عبّاس ، وعليّ بن الحسين (١) ، وابناه زيد ، ومحمد ، وابنه جعفر ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وعبد الرحمن بن أبزى ، وأبو الأسود «تثنوني» مضارع «اثنونى» على وزن «افعوعل» من الثّني كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة ، «صدورهم» بالرّفع على الفاعلية.

ونقل عن ابن (٢) عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق : «يثنونى صدورهم» بالياء والتّاء ؛ لأنّ التأنيث مجازيّ ؛ فجاز تذكير الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعة.

وقرأ ابن عبّاس (٣) أيضا وعروة وابن أبزى والأعمش «تثنونّ» بفتح التاء وسكون الثّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة ، والأصل : «تثنونن» بوزن «تفعوعل» من الثّنّ وهو ما هشّ وضعف من الكلأ ، يريد مطاوعة نفوسهم للثّني كما يثنى الهشّ من النّبات ، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم.

و «صدورهم» بالرّفع على الفاعليّة.

وقرأ مجاهد وعروة أيضا كذلك ، إلّا أنّهما جعلا مكان (٤) الواو المكسورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل «تطمئن». وفيها تخريجان :

أحدهما : أنّ الواو قلبت همزة لاستثقال الكسرة عليها ، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح ، لمّا استثقلوا الكسرة على الواو أبدلوها همزة.

والثاني : أن وزنه «تفعيل» من الثّن وهو ما ضعف من النّبات كما تقدّم ، وذلك أنّه مضارع ل «اثنان» مثل احمارّ واصفارّ ، وقد تقدّم [يونس ٢٤] أن من العرب من يقلب مثل هذه الألف همزة ؛ كقوله : [الطويل]

٢٩٤٣ ـ .........

 ......... بالعبيط ادهأمّت(٥)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٩ والمحرر الوجيز ٣ / ١٥٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٩ والمحرر الوجيز ٣ / ١٥١ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨٩ ، والمحرر الوجيز ٣ / ١٥١. والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٨.

(٥) تقدم.

٤٣٥

فجاء مضارع «اثنأنّ» على ذلك كقولك : احمأرّ يحمئرّ كاطمأنّ يطمئنّ.

وأمّا «صدورهم» فالبرّفع على ما تقدّم.

وقرأ الأعمش أيضا تثنؤون بفتح الياء (١) وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة وواو ساكنة بزنة تفعلون كترهبون. صدورهم بالنّصب.

قال صاحب اللّوامح : ولا أعرف وجهه يقال : «ثنيت» ولم أسمع «ثنأت» ، ويجوز أنّه قلب الياء ألفا على لغة من يقول «أعطات» في «أعطيت» ، ثمّ همز الألف على لغة من يقول : (وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧].

وقرأ ابن عبّاس أيضا ـ رضي الله عنهما (٢) ـ «تثنوى» بفتح التّاء وسكون المثلثة ، وفتح النّون وكسر الواو بعدها ياء ساكنة بزنة «ترعوى» وهي قراءة مشكلة جدّا حتّى قال أبو حاتم : وهذه القراءة غلط لا تتجه ، وإنّما قال إنّها غلط ؛ لأنّه لا معنى للواو في هذا الفعل إذ لا يقال : ثنوته فانثوى كرعوته ، أي : كففته فارعوى ، أي : فانكفّ ، ووزنه افعلّ كاحمر.

وقرأ نصر بن عاصم وابن (٣) يعمر وابن أبي إسحاق «ينثون» بتقديم النّون السّاكنة على المثلثة.

وقرأ ابن عباس أيضا (٤) «لتثنون» بلام التأكيد في خبر «إنّ» وفتح التّاء وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نون مكسورة وهي بزنة «تفعوعل» ، كما تقدّم إلّا أنّها حذفت الياء ، التي هي لام الفعل تخفيفا كقولهم : لا أدر وما أدر. و «صدورهم» ، فاعل كما تقدم.

وقرأت طائفة (٥) : «تثنؤنّ» بفتح التّاء ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نون مفتوحة ثم همزة مضمومة ثم نون مشددة ، مثل تقرؤنّ ، وهو من ثنيت ، إلّا أنّه قلب الياء واوا ؛ لأنّ الضمة تنافرها ، فجعلت الحركة على مجانسها ، فصار اللفظ «تثنوون» ثم قلبت الواو المضمومة همزة كقولهم : «أجوه» في «وجوه» و «أقّتت» في «وقّتت» فصار «تثنؤون» ، فلمّا أكّد الفعل بنون التّوكيد حذفت نون الرّفع فالتقى ساكنان : وهما واو الضمير والنون الأولى من نون التّوكيد ، فحذفت الواو وبقيت الضّمة تدلّ عليها ؛ فصار «تثنؤنّ» كما ترى و «صدروهم» منصوب مفعولا به فهذه إحدى عشرة قراءة مضبوطة.

قوله تعالى : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) فيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٥١ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٤ / ٧٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٧٩.

٤٣٦

أحدهما : أنّ هذه اللّام متعلقة ب «يثنون» كذا قاله الحوفيّ ، والمعنى : أنّهم يفعلون ثني الصّدور لهذه العلة. وهذا المعنى منقول في التفسير ولا كلفة فيه.

والثاني : أنّ اللّام متعلقة بمحذوف.

قال الزمخشريّ : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) يعنى ويريدون : ليستخفوا من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ازورارهم ، ونظير إضمار «يريدون» لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] معناه : «فضرب فانفلق».

قال شهاب الدين (١) : وليس المعنى الذي يقودنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا ، لأنّ ثمّ لا بد من حذف معطوف يضطر العقل إلى تقديره ؛ لأنّه ليس من لازم الأمر بالضّرب انفلاق البحر فلا بدّ أن يتعقّل «فضرب فانفلق» ، وأمّا في هذه ، فالاستخفاف علة صالحة لثنيهم صدورهم ، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادة.

والضّمير في «منه» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه عائد على رسول الله ـ صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه ـ وهو ظاهر على تعلّق اللّام ب «يثنون».

والثاني : أنّه عائد على الله تعالى كما قال الزمخشريّ.

قوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) في هذا الظرف وجهان :

أحدهما : أنّ ناصبه مضمر ، فقدّره الزمخشري ب «يريدون» كما تقدم ، فقال : ومعنى (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله ، كقول نوح (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) [نوح : ٧] ، وقدّره أبو البقاء فقال : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : يستخفون.

والثاني : أنّ النّاصب له «يعلم» ، أي : ألا يعلم سرّهم وعلنهم حين يفعلون كذا ، وهذا معنى واضح ، وكأنّهم إنّما جوّزوا غيره ؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصّ ، والله تعالى عالم بذلك في كل وقت.

وهذا غير لازم ؛ لأنّه إذا علم سرّهم وعلنهم في وقت التّغشية الذي يخفى فيه السرّ فأولى في غيره ، وهذا بحسب العادة وإلّا فالله تعالى لا يتفاوت علمه.

و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف ، أي : تسرّونه وتعلنونه.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان رجلا حلو

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٧٩.

٤٣٧

الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحبّ ، وينطوي له بقلبه على ما يكره (١).

فقوله : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي يخفون ما في صدورهم من الشّحناء والعداوة.

قال عبد الله بن شداد : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مرّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطّى وجهه ، كي لا يراه النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قال قتادة (٢) : كانوا يخفون صدورهم ، لكيلا يسمعوا كلام الله ولا ذكره (٣).

وقيل : كان الرّجل من الكفّار يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحني ظهره ، ويتغشّى بثوبه ، ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي.

وقال السّدي : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي : يعرضون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني ليستخفوا منه أي : من رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه (٤) ـ.

وقال مجاهد : من الله عزوجل.

(أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يغطون رؤوسهم بثيابهم (٥) و «ألا» كلمة تنبيه أي : ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنّه لا فائدة لهم في استخفائهم فقال سبحانه : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها : إنّ الذين اضمروا عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخفى علينا حالهم.

وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) قال : كان أناس يستحيون أن يخلوا فينفضوا إلى السّماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السّماء ؛ فنزل ذلك فيهم (٦).

لمّا ذكر أنه : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أردفه بما يدلّ على أنّه تعالى عالم بجميع المعلومات وهو أنّ رزق كلّ حيوان إنّما يصل إليه من الله تعالى ؛ لأنّه لو لم يكن عالما بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمّات.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٩) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٣).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٣).

(٥) انظر المصدر السابق.

(٦) أخرجه البخاري (٨ / ٢٠٠) كتاب التفسير : باب ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ..... حديث (٤٦٨١) والطبري (٦ / ٦٢٦) من طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

٤٣٨

قال الزجاج : الدّابّة : اسم لكلّ حيوان ، مأخوذ من الدّبيب ، وبنيت هذه اللفظة على هاء التأنيث ، هذا موضوعها اللّغوي ، و «من» صلة ، (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) هو المتكفّل بذلك فضلا ، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. وقيل : «على» بمعنى «من» أي : من الله رزقها.

قال مجاهد : ما جاءها من رزق فمن الله ، وربّما لم يرزقها حتّى تموت جوعا (١). (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) قال ابن مقسم : ويروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ «مستقرّها» المكان الذي تأوي إليه ، وتستقرّ فيه ليلا ونهارا (وَمُسْتَوْدَعَها) الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت (٢). وقال عبد الله بن مسعود : المستقرّ : أرحام الأمّهات ، والمستودع : المكان الذي تموت فيه ، وقال عطاء : المستقر أرحام الأمهات والمستودع : أصلاب الآباء (٣). ورواه سعيد بن جبير ، وعليّ بن أبي طلحة ، وعكرمة عن ابن عبّاس. وقيل : المستقر : الجنة أو النار ، والمستودع : القبر ، لقوله تعالى في صفة الجنة ، والنار (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٧٦] (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً)(٤) [الفرقان : ٦٦].

(كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ). قال الزّجّاج : «معناه : كلّ ذلك ثابت في علم الله».

وقيل : كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها.

قوله (مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) يجوز أن يكونا مصدرين ، أي : استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكونا مكانين ، أي : مكان استقرارها واستيداعها ، ويجوز أن يكون «مستودعها» اسم مفعول لتعدّي فعله ، ولا يجوز ذلك في «مستقر» ؛ لأنّ فعله لازم ، ونظيره في المصدرية قول الشاعر : [الوافر]

٢٩٤٤ ـ ألم تعلم مسرّحي القوافي

 ......... (٥)

أي : تسريحي.

و «كلّ» المضاف إليه محذوف تقديره : كل دابة ورزقها ومستقرّها ومستودعها في كتاب مبين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣ ـ ٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري (٧ / ٤) والحاكم (٢ / ٣٤١) وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٨١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٤).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٤).

(٥) تقدم.

٤٣٩

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

لمّا أثبت بالدّليل المتقدم كونه عالما بالمعلومات ، أثبت بهذا الدليل كونه قادرا على المقدورات وقد مضى تفسير (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أول يونس.

قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قال كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ : خلق الله ـ عزوجل ـ ياقوتة خضراء ، ثمّ نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثمّ خلق الرّيح ؛ فجعل الماء على متنها ، ثمّ وضع العرش على الماء (١). وقال غيره : إنّ الله ـ عزوجل ـ كان عرشه على الماء ، ثم خلق السموات والأرض ، وخلق القلم ؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه.

قالت المعتزلة : في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلق السموات والأرض ، لأن خلقهما : إمّا أن يكون لمنفعة ، أو لا لمنفعة والثاني عبث ، فينبغي أنّه خلقهما لمنفعة ، وتلك المنفعة إمّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محال ، لكونه متعاليا عن النفع والضر ؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصّ بالغير ، فوجب كون الغير حيّا ؛ لأنّ غير الحيّ لا ينتفع ، وكلّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة.

فإن قيل : ما الفائدة في ذكر أنّ عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض؟.

فالجواب أنّ فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه :

أحدها : أنّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء ؛ فلو لا أنه تعالى قادر على إمساك الثّقيل بغير عمد لما صحّ ذلك.

وثانيها : أنّه تعالى أمسك الماء لا على قرار ، وإلّا لزم أن يكون أجسام العالم غير متناهية فدل على كمال القدرة.

وثالثها : أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه ، فدل على كمال القدرة.

قوله : «ليبلوكم» في هذه اللّام وجهان :

أحدهما : أنّها متعلقة بمحذوف فقيل : تقديره : أعلم ذلك ليبلوكم ، وقيل : ثمّ جمل محذوفة والتقدير : وكان خلقة لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدّنيا دون الآخرة ، وفعل ذلك ليبلوكم.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٧٤).

٤٤٠