اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

قال الزمخشري (١) : «ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، و «أم» منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء» والظّاهر هو الأول ؛ إذ المعادلة بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحة ؛ إذ التقدير : أيّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك ، أم افتراؤكم عليه؟.

فصل

المراد بالشّيء الذي جعلوه حراما : ما ذكروه من تحريم السائبة ، والوصيلة ، والحام ، وقولهم (هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ٣٦] ، وقولهم : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] وقولهم : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] ويدلّ على ذلك : أنّ قوله : (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) إشارة إلى أمر تقدّم منهم ، ولم يحك الله ـ تعالى ـ عنهم إلّا هذا ؛ فوجب توجيه الكلام إليه ، ثم لمّا حكى تعالى ذلك عنهم ، قال لرسوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) وهذه قسمة صحيحة ؛ لأنّ هذه الأحكام : إمّا أن تكون من الله ـ تعالى ـ ، أو لم تكن ، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) وإن كانت ليست من الله ، فهو المراد بقوله : (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

فصل

استدلّ نفاة القياس بهذه الآية على بطلان القياس.

قال القرطبيّ : «وهو بعيد ؛ لأنّ القياس دليل قول الله ـ تعالى ـ ؛ فيكون التّحليل والتّحريم من الله ـ تعالى ـ ، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم ، فإن خالف في كون القياس دليلا لله ـ تعالى ـ ، فهو خروج عن هذا الغرض ، ورجوع إلى غيره».

قوله : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ) : «ما» مبتدأة استفهامية ، و «ظنّ» خبرها ، و «يوم» منصوب بنفس الظنّ ، والمصدر مضاف لفاعله ، ومفعولا الظن محذوفان ، والمعنى : وأيّ شيء يظنّ الذين يفترون يوم القيامة أنّي فاعل بهم : أأنجيهم من العذاب ، أم أنتقم منهم؟ وقيل : أيحسبون أنّ الله لا يؤاخذهم به ، ولا يعاقبهم عليه ، والمراد منه : تعظيم وعيد من يفتري ، وقرأ عيسى بن (٢) عمر : «وما ظن الذين» جعله فعلا ماضيا ، والموصول فاعله ، و «ما» على هذه القراءة استفهاميّة أيضا في محلّ نصب على المصدر ، وقدّمت لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، والتقدير : أيّ ظنّ ظنّ المفترون ، و «ما» الاستفهاميّة قد تنوب عن المصدر ؛ ومنه قول الشاعر : [البسيط]

٢٩٠٩ ـ ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما

لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا (٣)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٧١ ، الدر المصون ٤ / ٤٧.

(٣) تقدم.

٣٦١

وتقول : «ما تضرب زيدا» ، تريد : أيّ ضرب تضربه ، قال الزمخشريّ : «أتى به فعلا ماضيا ؛ لأنّه واقع لا محالة ، فكأنّه قد وقع وانقضى». وهذا لا يستقيم هنا ؛ لأنّه صار نصّا في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبل ، وهو يوم القيامة ، وإن كان بلفظ الماضي ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بإعطاء العقل ، وإرسال الرّسل ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) لا يستعملون العقل في تأمل دلائل الله ، ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ، ولا ينتفعون باستماع كلام الله.

قوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٥)

قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الآية.

لمّا أورد الدلائل على فساد مذاهب الكفّار ، وأمر الرسول بالجواب عن شبهاتهم ، وتحمّل أذاهم ، والرّفق بهم ، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السّرور للمطيعين ، وتمام الخوف للمذنبين ، وهو كونه تعالى عالما بعمل كل واحد ، وما في قلبه من الدّواعي والصّوارف.

قوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا) «ما» نافية في الموضعين ؛ ولذلك عطف بإعادة «ما» النّافية ، وأوجب ب «إلا» بعد الأفعال ؛ لكونها منفية ، و (فِي شَأْنٍ) خبر «تكون» والضمير في «منه» عائد على «شأن» و (مِنْ قُرْآنٍ) تفسير للضّمير ، وخصّ من العموم ؛ لأنّ القرآن هو أعظم شئونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : يعود على التنزيل ، وفسّر بالقرآن ؛ لأنّ كلّ جزء منه قرآن ، وقال أبو البقاء : «من الشّأن» أي : من أجله ، و (مِنْ قُرْآنٍ) مفعول «تتلوا» و «من» زائدة. يعنى : أنّها زيدت في المفعول به ، و «من» الأولى جارّة للمفعول من أجله ، تقديره : وما تتلو من أجل الشّأن قرآنا ، وزيدت لأنّ الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة.

وقال مكّي : «منه» الهاء عند الفرّاء تعود على الشّأن على تقدير حذف مضاف ، تقديره : وما تتلوا من أجل الشّأن ، أي : يحدث لك شأن ، فتتلوا القرآن من أجله.

والشّأن : مصدر شأن يشأن شأنه ، أي : قصد يقصد قصده ، وأصله الهمز ، ويجوز تخفيفه ، والشأن أيضا : الأمر ، ويجمع على شئون ، والشأن : الحال ، تقول العرب : ما شأن فلان؟ أي : ما حاله ، قال الأخفش : وتقول العرب : ما شأنت شأنه ، أي : ما عملت

٣٦٢

عمله ، قال ابن عبّاس : وما تكون يا محمّد في شأن ، أي : في عمل من أعمال البرّ (١) ، وقال الحسن : في شأن من شأن الدّنيا (٢).

قوله : (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) هذا خطاب للنبي وأمّته ، وخصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب أوّلا ، ثم عمّم الخطاب مع الكلّ ؛ لأنّ تخصيصه وإن كان في الظّاهر مختصّا بالرسول ، إلّا أنّ الأمّة داخلون فيه ؛ لأنّ رئيس القوم إذا خوطب دخل قومه في ذلك الخطاب ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ) [الطلاق : ١].

قوله : (إِلَّا كُنَّا) هذه الجملة حالية ، وهو استثناء مفرّغ ، وولي «إلا» هنا الفعل الماضي دون «قد» لأنّه قد تقدّمها فعل ، وهو مجوّز لذلك ، وقوله : «إذ» هذا الظرف معمول ل «شهودا» ولمّا كانت الأفعال السّابقة المراد بها الحالة الدّائمة ، وتنسحب على الأفعال الماضية ، كان الظّرف ماضيا ، وكان المعنى : وما كنت ، وما تكون ، وما عملتم ، إلّا كنّا عليكم شهودا ، إلّا أفضتم فيه ، و «إذ» تخلّص المضارع لمعنى الماضي ، ومعنى «تفيضون» أي : تدخلون فيه وتفيضون ، والإفاضة : الدّخول في العمل ، يقال : أفاض القوم في الحديث ؛ إذا اندفعوا فيه ، وقد أفاضوا من عرفة ؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم.

فإن قيل : «إذ» ههنا بمعنى : «حين» ، فيصير التقدير : إلّا كنّا عليكم شهودا حين تفيضون فيه ، وشهادة الله ـ تعالى ـ عبارة عن علمه ؛ فيلزم منه أنّه ـ تعالى ـ ما علم الأشياء إلّا عند وجودها ، وذلك باطل.

فالجواب : أنّ هذا السّؤال بناء على أن شهادة الله عبارة عن علمه ، وهذا ممنوع ؛ فإنّ الشهادة لا تكون إلّا عند المشهود عليه ، أمّا العلم فلا يمتنع تقدّمه على الشّيء ، ويدلّ على ذلك أنّ الرسول لو أخبرنا عن زيد أنّه يأكل غدا ، كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ، ولا نوصف بكوننا شاهدين بها.

قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) قرأ الكسائيّ (٣) هنا ، وفي سبأ [سبأ ٣] : «يعزب» بكسر الزّاي ، والباقون بضمها ، وهما لغتان في مضارع «عزب» ، يقال : عزب يعزب ويعزب. أي : غاب حتّى خفي ، ومنه الروض العازب ؛ قال أبو تمام : [الطويل]

٢٩١٠ ـ وقلقل نأي من خراسان جأشها

فقلت : اطمئنّي ، أنضر الرّوض عازبه (٤)

وقيل للغائب عن أهله : «عازب» ، حتّى قالوا لمن لا زوج له : عازب. وقال الرّاغب : «العازب : المتباعد في طلب الكلأ ، ويقال : رجل عزب وامرأة عزبة ، وعزب

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٩٨) عن ابن عباس.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٨ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٧.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ٤٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٨.

٣٦٣

عنه حلمه ، أي : غاب ، وقوم معزّبون ، أي : عزبت عنهم إبلهم» وفي الحديث : «من قرأ القرآن في أربعين يوما ، فقد عزّب» ، أي : فقد بعد عهده بالختمة ، وقال قريبا منه الهرويّ ، فإنّه قال : «أي : بعد عهده بما ابتدأ منه ، وأبطأ في تلاوته» وفي حديث أم معبد : «والشّاء عازب حيال».

قال : والعازب : البعيد الذهاب في المرعى ، والحائل : التي ضربها الفحل ، فلم تحمل لجدوبة السّنة ، وفي الحديث أيضا : «أصبحنا بأرض عزوبة صحراء» ، أي : بعيدة المرعى. ويقال للمال الغائب : عازب ، وللحاضر : عاهن ، والمعنى في الآية : وما يبعد ، أو ما يخفى ، أو ما يغيب عن ربّك.

و (مِنْ مِثْقالِ) فاعل ، و «من» : مزيدة فيه ، أي : ما يبعد عنه مثقال ، والمثقال هنا : اسم لا صفة ، والمعنيّ به الوزن ، أي : وزن ذرّة ، ومثقال الشّيء : ما يساويه في الثّقل ، والمعنى : ما يساوي ذرّة ، والذرّ : صغار النّمل واحدها ذرّة ، وهي تكون خفيفة الوزن جدّا.

فإن قيل : لم قدّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء ، مع أنّه قال في سبأ : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣]؟.

فالجواب : حقّ السّماء أن تقدّم على الأرض ، إلّا أنه ـ تعالى ـ لمّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ، ثم وصل بذلك قوله : لا يعزب عنه ؛ ناسب أن تقدم الأرض على السّماء في هذا الموضع.

قوله : (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) قرأ حمزة (١) : برفع راء «أصغر» و «أكبر» ، والباقون : بفتحها.

فأما الفتح ففيه وجهان :

أحدهما : ـ وعليه أكثر المعربين ـ أنّه جرّ ، وإنما كان بالفتحة ؛ لأنّه لا ينصرف للوزن والوصف ، والجرّ لأجل عطفه على المجرور ، وهو : إمّا «مثقال» ، أو «ذرّة».

وأمّا الوجه الثاني : فهو أنّ «لا» نافية للجنس ، و «أصغر» و «أكبر» اسمها ، فهما مبنيّان على الفتح.

وأمّا الرّفع فمن وجهين :

أشهرهما عند المعربين : العطف على محلّ «مثقال» إذ هو مرفوع بالفاعليّة ، و «من» مزيدة فيه ؛ كقولك : «ما قام من رجل ولا امرأة» بجرّ «امرأة» ورفعها.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٨) ، الحجة ٤ / ٢٨٤ ، حجة القراءات ص (٣٣٤) إعراب القراءات ١ / ٢٨٤ ، النشر ٢ / ٢٨٥ ، إتحاف ٢ / ١١٧.

٣٦٤

والثاني : أنّه مبتدأ ، قال الزمخشري (١) : والوجه النّصب على نفي الجنس ، والرّفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه ، وفي العطف على محلّ (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) ، أو على لفظ (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) فتحا في موضع الجرّ ؛ لامتناع الصّرف إشكال ؛ لأنّ قولك : «لا يعزب عنه شيء إلّا في كتاب» مشكل ؛ لأنّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله ، ويصير التقدير : إلا في كتاب مبين فيعزب ، وهو باطل ، وهذان الوجهان اختيار الزّجّاج.

وقد يزول هذا الإشكال بما ذكره أبو البقاء : وهو أن يكون (إِلَّا فِي كِتابٍ) استثناء منقطعا ، قال : «إلّا في كتاب ؛ أي : إلّا هو في كتاب ، والاستثناء منقطع».

قال ابن الخطيب (٢) : «أجاب بعض المحقّقين من وجهين :

أحدهما : أن الاستثناء منقطع.

والاخر : أن العزوب عبارة عن مطلق البعد ، والمخلوقات قسمان :

أحدهما : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة ، كالملائكة ، والسموات ، والأرض.

وقسم أوجده بواسطة القسم الأوّل ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلّية والمعلوليّة عن مرتبة وجود واجب الوجود ، فالمعنى : لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرّة في الأرض ، ولا في السماء ، إلا وهو في كتاب مبين ، كتبه الله ، وأثبت فيه صور تلك المعلومات».

قال شهاب الدين : «فقد آل الأمر إلى أنّه جعله استثناء مفرّغا ، وهو حال من «أصغر» و «أكبر» ، وهو في قوّة الاستثناء المتّصل ، ولا يقال في هذا : إنّه متّصل ولا منقطع إذ المفرّغ لا يقال فيه ذلك.

وقال الجرجانيّ : «إلّا» بمعنى : «الواو» ، والتقدير : «وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» وههنا تمّ الكلام وانقطع ، ثم ابتدأ بقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : وهو في كتاب مبين ، والعرب تضع «إلّا» موضع واو النّسق ؛ كقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : ١٤٨] (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠]. وهذا الذي قاله الجرجانيّ ضعيف جدا ، وقد تقدّم الكلام في هذه المسألة في البقرة ، وأنّه شيء قال به الأخفش ، ولم يثبت ذلك بدليل صحيح.

وقال أبو شامة : ويزيل الإشكال أن تقدّر قبل قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) «ليس شيء من ذلك إلّا في كتاب» وكذا تقدر في آية الأنعام [الأنعام ٥٩].

ولم يقرأ في سبأ إلا بالرفع ، وهو يقوي قول من يقول : إنّه معطوف على «مثقال» ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٧ / ١٠٠.

٣٦٥

ويبينه أن «مثقال» فيها بالرفع ؛ إذ ليس قبله حرف جر. وقد تقدم الكلام على نظير هذه المسألة في سورة الأنعام ، في قوله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) إلى قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) وأن صاحب النظم الجرجاني أحال الكلام فيها على الكلام في هذه السورة ، وأن أبا البقاء قال : «لو جعلناه كذا ، لفسد المعنى». وتقدم بيان فساده ، والجواب عنه هناك ، فالتفت إليه [الأنعام ٥٩].

قوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) الآية.

اختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم.

فقال بعضهم : هم الذين ذكرهم الله في كتابه ، بقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ).

وقال قوم : هم المتحابون في الله ، لما روى أبو مالك الأشعري ، قال : كنت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة» ، قال : وفي ناحية المسجد أعرابي ، فجثا على ركبتيه ، ورمى بيديه ، ثم قال : حدثنا يا رسول الله عنهم ، قال : فرأيت في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البشر ؛ فقال : «هم عباد من عباد الله ، من بلدان شتى ، وقبائل شتى لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ، ولا دنيا يتباذلون بها ، يتحابون بروح الله ، يجعل الله وجوههم نورا ، ويجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن ، يفزع الناس ولا يفزعون ، ويخاف الناس ولا يخافون» (١).

قال أبو بكر الأصم : أولياء الله : هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق العبودية لله ، والدعوة إليه.

واعلم : أن تركيب الواو ، واللام ، والياء يدل على معنى القرب ، فولي كل شيء هو الذي يكون قريبا منه ، والقرب من الله ـ تعالى ـ بالمكان والجهة محال ؛ فالقرب منه إنما يكون ، إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله ـ تعالى ـ ، فإن رأى ، رأى دلائل قدرة الله ، وإن سمع ، سمع آيات الله ، وإن نطق ، نطق بالثناء على الله ، وإن تحرك ، تحرك في خدمة الله ، وإن اجتهد ، اجتهد في طاعة الله ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله ؛ فحينئذ يكون وليا.

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا) في محله أوجه :

أحدها : أنه مرفوع خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم الذين آمنوا ، أو خبر ثان ل «إن» ، أو مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) ، أو على النعت على موضع «أولياء»

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٣١ ، ٣٤٣) ، والطبراني في «الكير» (٣ / ٣٢٩) والبغوي في شرح السنة (٦ / ٤٥٦) وابن المبارك في «الزهد» (٢٤٨) من طريق شهر بن حوشب عن أبي مالك الأشعري.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٧٩) وقال : رواه أحمد والطبراني بنحوه ورجاله وثقوا.

٣٦٦

لأن موضعه رفع بالابتداء قبل دخول «إن» ، أو بدل من الموضع أيضا ، ذكرهما مكي ، وهذا الوجهان على مذهب الكوفيين ؛ لأنهم يجأرون التوابع كلها مجرى عطف النسق في اعتبار المحل.

وقيل : محله الجر بدلا من الهاء ، والميم في «عليهم».

وقيل : منصوب المحل نعتا ل «أولياء» ، أو بدلا منهم على اللفظ ، أو على إضمار فعل لا ئق وهو «أمدح» ، فقد تحصل فيه تسعة أوجه : الرفع من خمسة ، والجر من وجه واحد ، والنصب من ثلاثة ، وإذا لم تجعل الجملة من قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) خبرا ل «الذين» جاز فيها الاستئناف ، وأن تكون خبرا ثانيا ل «إن» أو ثالثا.

قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى) روى عبادة بن الصامت ، قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله ـ تعالى ـ : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال : هي الرؤيا الصالحة ، يراها المسلم أو ترى له (١).

وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا : وما المبشرات؟ قال : «الرؤيا الصالحة» (٢).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٣).

وقيل : البشرى في الدنيا هي : الثناء الحسن ، وفي الآخرة : الجنة ؛ لما روى أبو ذر ، قال : قلت يا رسول الله : الرجل يعمل لنفسه ، ويحبه الناس ، قال : تلك عاجل بشرى المؤمن (٤). وقال الزهري ، وقتادة : هي نزول الملائكة بالبشارة من الله ـ تعالى عند

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٤٦٣) كتاب الرؤيا : باب قوله : لهم البشرى في الحياة الدنيا ... حديث (٢٢٧٥) وابن ماجه (٣٨٩٨) والحاكم (٤ / ٣٩١) وأحمد (٥ / ٣١٥) والدارمي (٢ / ١٢٣) عن عبادة بن الصامت وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٩) وزاد نسبته إلى الطيالسي والهيثم بن كليب والحكيم الترمذي وابن المنذر والطبري وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٢) أخرجه البخاري ١٢ / ٣٧٥ ، في التعبير : باب المبشرات (٦٩٩٠) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٨٨ وذكره السيوطي في «الدر المنثور».

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٩٥٦ ، في الرؤيا : باب ما جاء في الرؤيا (١) وأخرجه البخاري ١٢ / ٣٦١ ، في كتاب التعبير : باب الرؤيا الصالحة (٦٩٨٣) ، ومسلم ٤ / ١٧٧٤ في كتاب الرؤيا : باب عقب حديث (٧ / ٢٢٦٤) ، ومن روآية أبي هريرة البخاري في كتاب التعبير باب الرؤيا الصالحة (٦٩٨٨) ، ومسلم ٤ / ١٧٧٤ في كتاب الرؤيا : (٨ / ٢٢٦٣) ومن روآية عبادة بن الصامت رضي الله عنه البخاري (٦٩٨٧) ، ومسلم (٧ / ٢٢٦٤) ومن روآية أبي سعيد الخدري البخاري (٦٩٨٩).

(٤) أخرجه مسلم ٤ / ٢٠٣٤ ، كتاب البر والصلة : باب إذا أثني على الصالح (١٦٦ ـ ٢٦٤٢) وابن ماجه ٢ / ١٤١٢ ، كتاب الزهد : باب في الثناء الحسن (٤٢٢٥).

٣٦٧

الموت ، قال ـ تعالى ـ : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)(١) [فصلت : ٣٠]. وروى عطاء نحوه ، عن ابن عباس.

وقال الحسن : هي ما بشر الله المؤمنين في كتابه من جنته ، وكريم ثوابه ، كقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥] (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٢٣] (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)(٢) [فصلت : ٣٠].

وقيل : بشرهم في الدنيا بالكتاب والرسول أنهم أولياء الله ، وبشرهم في القبور ، وفي كتب أعمالهم بالجنة.

قوله : (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق بالبشرى ، أي : البشرى تقع في الدنيا ، كما فسرت بالرؤيا الصالحة.

والثاني : أنها حال من «البشرى» فتتعلق بمحذوف ، والعامل في الحال الاستقرار في «لهم» لوقوعه خبرا.

قوله : (لا تَبْدِيلَ) جملة مستأنفة ، أي : لا تغيير لقوله ، ولا خلف لوعده.

وقوله : «ذلك» إشارة للبشرى ، وإن كانت مؤنثة ؛ لأنها في معنى التبشير ، وقال ابن عطية : إشارة إلى النعيم ، وقال الزمخشري (٣) : «ذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين».

قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وهاهنا تم الكلام ، واعلم أن الله لما حكى عن الكفار شبهاتهم المتقدمة ، وأجاب عنها عدلوا إلى طريق آخر ، وهو أنهم هددوه ، وخوفوه بأنهم أصحاب أموال وأتباع ؛ فنسعى في قهرك ، وفي إبطال أمرك ، فأجاب ـ تعالى ـ عن هذا الطريق بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ).

فإن قيل : كيف آمنه من ذلك ، ولم يزل خائفا حتى هاجر ، ثم بعد ذلك يخاف حالا بعد حال.

فالجواب : أن الله وعده بالنصر والظفر مطلقا ، والوقت ما كان معينا ، فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت ؛ فحينئذ يحصل الانكسار في هذا الوقت ، وقوله : «قولهم» قيل : حذفت صفته ؛ لفهم المعنى ، إذ التقدير : ولا يحزنك قولهم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٨١) عن الزهري وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٦٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنهما.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٠).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٠).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٧.

٣٦٨

الدال على تكذيبك ، وحذف الصفة ، وإبقاء الموصوف قليل ، بخلاف عكسه.

وقيل : بل هو عام أريد به الخاص.

ثم ابتدأ فقال : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ) ، العامة على كسر «إن» ، استئنافا ، وهو مشعر بالعلية.

وقيل : هو جواب سؤال مقدر ؛ كأن قائلا قال : لم لا يحزنه قولهم ، وهو مما يحزن؟ فأجيب بقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ، ليس لهم منها شيء ، فكيف تبالي بقولهم؟.

والوقف على قوله : «قولهم» ينبغي أن يعتمد ، ويقصد ، ثم يبتدأ بقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ) وإن كان من المستحيل أن يتوهم أحد أن هذا من مقولهم ، إلا من لا يعتبر بفهمه ، وقرأ أبو (١) حياة «أن العزة» بفتح «أن» وفيها تخريجان :

أحدهما : أنها على حذف لائم العلة ، أي : لا يحزنك قولهم ؛ لأجل أن العزة لله جميعا.

الثاني : أن «أن» وما في حيزها بدل من «قولهم» كأنه قيل : ولا يحزنك أن العزة لله ، وكيف يظهر هذا التوجيه ، أو يجوز القول به ، وكيف ينهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك في المعنى ، وهو لم يتعاط شيئا من تلك الأسباب؟ وأيضا ؛ فمن أي قبيل الإبدال هذا؟ قال الزمخشري : «ومن جعله بدلا من «قولهم» ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه ، لا ما أنكره من القراءة به». يعني : أن إنكاره للقراءة منكر ؛ لأن معناها صحيح على ما ذكر من التعليل ، وإنما المنكر هذا التخريج ، وقد أنكر جماعة هذه القراءة ، ونسبوها للغلط ولأكثر منه.

قال القاضي : «فتحها شاذ يقارب الكفر ، وإذا كسرت كان استئنافا ، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب».

وقال ابن قتيبة : لا يجوز فتح «إن» في هذا الموضع وهو كفر وغلو.

قال أبو حيان : وإنما قالا ذلك بناء منهما على أن «أن» معمولة ل «قولهم».

قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل «قولهم» وهي واجبة الكسر بعد القول إذا حكيت به ، فكيف يتوهم ذلك؟ وكما لا يتوهم هذا المعنى مع كسرها ، لا يتوهم أيضا مع فتحها ما دائم له وجه صحيح.

و «جميعا» حال من العزة ، ويجوز أن يكون توكيدا ولم يؤنث بالتاء ؛ لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث ، لشبهه بالمصادر ، وقد تقدم تحريره في قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٤ ، الدر المصون ٤ / ٥٠.

٣٦٩

فصل

قيل : المعنى : إن جميع العزة والقدرة لله ـ تعالى ـ ، يعطي ما يشاء لعباده ، والغرض منه: أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه ، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم ، ونظيره : (تَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١].

قال الأصم : المراد : أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ، ويخوفونك بها ، وتلك الأشياء كلها لله ـ تعالى ـ ، فهو ـ تعالى ـ قادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء ، وينصرك ، وينقل أموالهم وديارهم إليك.

فإن قيل : قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) كالمضادة لقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

فالجواب : لا مضادة ؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله ، فهي لله.

(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : يسمع ما يقولون ، ويعلم ما يعزمون ، فيكافئهم على ذلك.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية.

لما ذكر في الآية المتقدمة : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٥٥] دل على أن كل ما لا يعقل ، فهو ملك لله ـ تعالى ـ ، وملك له ، وهاهنا أتى بكلمة «من» وهي مختصة بالعقلاء ؛ فدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه ؛ فدل مجموع الآيتين على أن الكل ملكه وملكه. وقيل : المراد ب (مَنْ فِي السَّماواتِ) : العقلاء المميزون ، وهم الملائكة والثقلان ، وخصهم بالذكر ؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه ، فالجمادات أولى بهذه العبودية ، فيكون ذلك قدحا في جعل الأصنام شركاء لله ـ تعالى ـ ، فيكون ذلك من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، ويجوز أن يراد العموم ، وغلب العاقل على غيره.

قوله : (وَما يَتَّبِعُ) يجوز في «ما» هذه أن تكون نافية ، وهو الظاهر ، و «شركاء» مفعول

٣٧٠

«يتبع» ومفعول «يدعون» محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : وما يتبع الذين يدعون من دون الله آلهة شركاء ، فآلهة : مفعول «يدعون» و «شركاء» : مفعول «يتبع» ، وهو قول الزمخشري.

قال (١) : «ومعنى وما يتبعون شركاء : وما يتبعون حقيقة الشركائء ، وإن كانوا يسمونها شركاء ؛ لأن شركة الله في الربوبية محال ، إن يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء» ثم قال : «ويجوز أن تكون «ما» استفهاما ، يعني : وأي شيء يتبعون ، و «شركاء» على هذا نصب ب «يدعون» ، وعلى الأول ب «يتبع» وكان حقه : «وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء» فاقتصر على أحدهما للدلالة». وهذا الذي ذكره الزمخشري قد رده مكي وأبو البقاء.

أما مكي ، فقال : انتصب «شركاء» ب «يدعون» ومفعول «يتبع» قام مقامه (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) لأنه هو ، ولا ينتصب الشركائء ب «يتبع» لأنك تنفي عنهم ذلك ، والله قد أخبر عنهم بذلك.

وقال أبو البقاء (٢) : «وشركاء مفعول «يدعون» ولا يجوز أن يكون مفعول «يتبعون» لأن المعنى يصير إلى أنهم لم يتبعوا شركاء ، وليس كذلك».

قال شهاب الدين : «معنى كلامهما : أنه يئول المعنى إلى نفي اتباعهم الشركائء ، والواقع أنهم قد اتبعوا الشركائء». وجوابه ما تقدم من أن المعنى : أنهم وإن اتبعوا شركاء ، فليسوا بشركاء في الحقيقة ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك ، فكأنهم لم يتخذوا شركاء ، ولا اتبعوهم لسلب الصفة الحقيقية عنهم ، ومثله قولك : «ما رأيت رجلا» ، أي : من يستحق أن يسمى رجلا ، وإن كنت قد رأيت الذكر من بني آدم ، ويجوز أن تكون «ما» استفهامية ، وتكون حينئذ منصوبة بما بعدها ، وقد تقدم قول الزمخشري في ذلك.

وقال مكي : لو جعلت «ما» استفهاما بمعنى : الإنكار والتوبيخ ، كانت اسما في موضع نصب ب «يتبع».

وقال أبو البقاء نحوه. ويجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» نسقا على «من» في قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ).

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنّه قيل : ولله ما يتّبعه الذين يدعون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهم.

ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولة في محلّ رفع بالابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : والذي يتّبعه المشركون باطل ، فهذه أربعة أوجه.

وقرأ السلمي (٣) : «تدعون» بالخطاب ، وعزاها الزمخشريّ لعليّ بن أبي طالب.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٧.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٣٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٤ ، الدر المصون ٤ / ٥١.

٣٧١

قال ابن عطيّة (١) وهي قراءة غير متّجهة.

قال شهاب الدّين (٢) : قد ذكر توجيهها الزمخشريّ ، فقال : ووجهه أن يحمل (وَما يَتَّبِعُ) على الاستفهام ، أي : وأيّ شيء يتّبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنّهم يتّبعون الله ـ تعالى ـ ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم ؛ كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) [الإسراء : ٥٧].

قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) «إن» نافية ، و «الظّن» مفعول به ، فهو استثناء مفرّغ ، ومفعول الظّن محذوف ، تقديره : إن يتّبعون إلّا الظّنّ أنّهم شركاء ، وعند الكوفيين : تكون «أل» عوضا من الضمير ، تقديره : إن يتّبعون إلّا ظنّهم أنهم شركاء ، والأحسن أن لا يقدر للظّنّ معمول ؛ إذ المعنى : إن يتبعون إلا الظن ، لا اليقين.

وقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ) من قرأ «يدعون» بياء الغيبة ، فقد جاء ب «يتّبعون» مطابقا له ، ومن قرأ «تدعون» بالخطاب ، فيكون «يتّبعون» : التفاتا ؛ إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة ، والمعنى : إن يتّبعون إلّا ظنونهم الباطلة ، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) : يكذبون ، وقد تقدّم في الأنعام.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) الآية.

لمّا ذكر أنّ العزة لله جميعا ، احتجّ عليه بهذه الآية ، وانظر إلى فصاحتها ، حيث حذف من كل جملة ما ثبت في الأخرى ؛ وذلك أنّه ذكر علّة جعل الليل لنا ، وهي قوله : «لتسكنوا» وحذفها من جعل النهار ، وذكر صفة النّهار ، وهي قوله : «مبصرا» وحذفها من الليل ، لدلالة المقابل عليه ، والتقدير : هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه ، والنهار مبصرا لتتحرّكوا فيه لمعاشكم ، فحذف «مظلما» لدلالة «مبصرا» عليه ، وحذف «لتتحرّكوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصح كلام.

وقوله : «مبصرا» أسند الإبصار إلى الظّرف مجازا كقولهم : «نهاره صائم ، وليله قائم ونائم».

قال : [الطويل]

٢٩١١ ـ .........

ونمت وما ليل المطيّ بنائم (٣)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٥١.

(٣) عجز بيت لجرير وصدره :

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى

ينظر : ديوانه ٥٥٣ والكتاب ١ / ٨٠ والمقتضب ٣ / ١٠٥ والمحتسب ٢ / ١٨٤ وأمالي ابن الشجري ١ / ٣٦ ومجاز القرآن ١ / ٢٧٩ والخزانة ١ / ٤٦٥ والإنصاف ١ / ٤٣ والقرطبي ٨ / ٢٤٠ والبحر ٥ / ١٧٥ والإيضاح ٣٠١ ، والدر المصون ٤ / ٥٢.

٣٧٢

وقال قطرب : يقال : أظلم اللّيل : صار ذا ظلمة ، وأضاء النّهار : صار ذا ضياء ؛ فيكون هذا من باب النسب ؛ كقولهم : لابن وتامر ، وقوله ـ تعالى ـ : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ، إلّا أنّ ذلك إنما جاء في الثلاثيّ ، وفي «فعّال» بالتضعيف عند بعضهم في قوله ـ تعالى ـ : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] في أحد الأوجه.

ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يتدبّرون ما يسمعون ، ويعتبرون.

فإن قيل : قوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) يدل على أنّه ـ تعالى ـ ما جعله إلا لهذا الوجه ، وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) يدلّ على أنّه ـ تعالى ـ أراد بتخليق الليل والنهار أنواعا كثيرة من الدلائل.

فالجواب : أن قوله ـ تعالى ـ : «لتسكنوا» لا يدلّ على أنّه لا حكمة فيه إلّا ذلك ، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.

قوله تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) الآية.

هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم ، «قالوا» يعني المشركين : الملائكة بنات الله ، وقيل : قولهم : الأوثان أولاد الله ، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ، ثم استنكر هذا القول ، فقال بعده : (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فكونه ـ تعالى ـ غنيّا مالكا لكلّ ما في السموات والأرض ، يدلّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون له ولد ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنّه لو كان محتاجا ، لافتقر إلى صانع آخر ، وهو محال ، وكل من كان غنيّا فلا بد أن يكون فردا منزّها عن الأعضاء والأبعاض ، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، والولد عبارة عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان ، ثم يتولّد من ذلك الجزء مثله ، وإذا كان هذا محالا ، ثبت أنّ كونه ـ تعالى ـ غنيّا يمنع من ثبوت الولد له.

الثاني : أن من كان غنيّا ، كان قديما أزليّا باقيا سرمديّا ، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض ، والولد إنما يحصل للشّيء الذي ينقضي وينقرض ، فيكون ولده قائما مقامه ؛ فثبت أنّ كونه ـ تعالى ـ غنيّا ، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.

الثالث : أنّ كلّ من كان غنيّا يمتنع أن يكون موصوفا بالشهوة واللذة ، وإذا امتنع ذلك ، امتنع أن يكون له صاحبة وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذا نظير قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ولمّا بيّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه ، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ ، فقال : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) : «إن» نافية و «عندكم» يجوز أن يكون خبرا مقدّما ، و (مِنْ سُلْطانٍ) مبتدأ مؤخّرا ، ويجوز أن يكون (مِنْ سُلْطانٍ) مرفوعا بالفاعليّة بالظرف قبله ؛ لاعتماده على النفي ، و «من» مزيدة على كلا التقديرين ، وبهذا يجوز أن يتعلق ب «سلطان» لأنّه بمعنى الحجّة والبرهان ، وأن يتعلّق بمحذوف صفة له ؛ فيحكم

٣٧٣

على موضعه بالجرّ على اللفظ ، وبالرفع على المحلّ ؛ لأنّ موصوفه مجرور بحرف جرّ زائد ، وأن يتعلّق بالاستقرار.

قال الزمخشريّ : الباء حقّها أن تتعلّق بقوله : (إِنْ عِنْدَكُمْ) على أن يجعل القول مكانا للسّلطان ؛ كقوله «ما عندكم بأرضكم موز» كأنه قيل : إن عندكم بما تقولون سلطان وقال الحوفيّ : بهذا متعلق بمعنى الاستقرار. يعنى : الذي تعلّق به الظرف.

ثم قال : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقد تقدّم أنّ الآية يحتجّ بها نفاة القياس في إبطال التقليد.

قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) الآية.

لمّا بيّن بالدليل القاطع أنّ إثبات الولد لله قول باطل ، ثم بيّن أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله ، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ـ تعالى ـ ، فبيّن أنّ من هذا حاله ، فإنّه لا يفلح ألبتّة ، أي : لا ينجح في سعيه ، ولا يفوز بمطلوبه ، بل خاب وخسر.

قوله : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) يجوز رفع «متاع» من وجهين :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة جواب لسؤال مقدّر ، فهي استئنافية ، كأنّ قائلا قال : كيف لا يفلحون ، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممّا يتلذّذون به؟ فقيل : ذلك متاع.

والثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره : لهم متاع ، و (فِي الدُّنْيا) يجوز أن يتعلق بنفس «متاع» أي : تمتّع في الدنيا ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه نعت ل «متاع» فهو في محلّ رفع ، ولم يقرأ بنصبه هنا ، بخلاف قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ) [يونس : ٢٣] في أول السّورة.

وقوله : (بِما كانُوا) الباء للسببية ، و «ما» مصدرية ، أي : بسبب كونهم كافرين.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) الآية.

لمّا بالغ في تقرير الدّلائل ، والجواب عن الشّبه ، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه :

٣٧٤

الأول : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ؛ فربّما حصل نوع من الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنّ إلى فنّ آخر ، انشرح ، ووجد في نفسه رغبة شديدة.

الثاني : ليتأسّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإنّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه ، خفّ ذلك على قلبه ، كما يقال : إن المصيبة إذا عمّت خفّت.

الثالث : أنّ الكفّار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أنّ الجهّال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدّمين ، إلّا أنّ الله ـ تعالى ـ أعانهم بالآخرة ، ونصرهم ، وأيّدهم ، وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكفّار لهذه القصص ، سببا لانكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف في صدورهم ؛ فحينئذ يقلّلون من الأذى والسّفاهة.

الرابع : أنّ محمّدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا لم يتعلّم علما ، ولم يطالع كتابا ، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوت ، ومن غير زيادة ولا نقصان ، دلّ ذلك على أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إنّما عرفها بالوحي والتنزيل ، وحذفت الواو من «اتل» لأنه أمر. قوله : (إِذْ قالَ) يجوز أن تكون «إذ» معمولة ل «نبأ» ويجوز أن تكون بدلا من «نبأ» بدل اشتمال ، وجوّز أبو البقاء : أن تكون حالا من «نبأ» وليس بظاهر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب «اتل» لفساده ؛ إذ «اتل» مستقبل ، و «إذ» ماض ، و «لقومه» اللام : إمّا للتبليغ ، وهو الظاهر ، وإمّا للعلّة ، وليس بظاهر.

قال المفسرون : «قوم نوح هم : ولد قابيل».

قوله : (كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) من باب الإسناد المجازيّ ؛ كقولهم : «ثقل عليّ ظلّه».

وقرأ أبو رجاء ، وأبو مجلز (١) ، وأبو الجوزاء : «مقامي» بضمّ الميم ، و «المقام» بالفتح : مكان القيام ، وبالضم : مكان الإقامة ، أو الإقامة نفسها.

وقال ابن عطيّة (٢) : «ولم يقرأ هنا بضمّ الميم». كأنّه لم يطّلع على قراءة هؤلاء.

قال الواحدي : يقال : كبر يكبر كبرا في السّنّ ، وكبر الأمر والشيء ، إذا عظم ، يكبر كبرا وكبّارة ، قال ابن عبّاس : «ثقل عليكم ، وشقّ عليكم» وأراد بالمقام ههنا : مكثه (٣).

وسبب هذا الثّقل أمران :

الأول : أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ مكث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما.

والثاني : أنّ أولئك الكفّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة ، ومن ألف طريقة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣١ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٦ ، الدر المصون ٤ / ٥٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣١.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٦٢) والرازي (١٧ / ١٠٩).

٣٧٥

في الدّين ؛ فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها ؛ فإن اقترن بذلك طول مدّة الدّعاء ، كان أثقل ، وأشدّ كراهية ، وقوله (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) : بحججه وبيناته.

قوله : (فَعَلَى اللهِ) جواب الشّرط ، وقوله «فأجمعوا» عطف على الجواب ، ولم يذكر أبو البقاء غيره ، واستشكل عليه أنّه متوكل على الله دائما ، كبر عليهم مقامه أو لم يكبر.

وقيل : جواب الشّرط قوله : «فأجمعوا» وقوله : (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) : جملة اعتراضية بين الشّرط وجوابه ؛ وهو كقول الشاعر : [الكامل]

٢٩١٢ ـ إمّا تريني قد نحلت ومن يكن

غرضا لأطراف الأسنّة ينحل

فلربّ أبلج مثل ثقلك بادن

ضخم على ظهر الجواد مهيّل (١)

وقيل : الجواب محذوف ، أي : فافعلوا ما شئتم.

وقرأ العامّة : «فأجمعوا» أمرا من «أجمع» بهمزة القطع ، يقال : أجمع في المعاني ، وجمع في الأعيان ، فيقال : أجمعت أمري ، وجمعت الجيش ، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلّزة : [الخفيف]

٢٩١٣ ـ أجمعوا أمرهم بليل فلمّا

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء (٢)

وقال آخر : [الرجز]

٢٩١٤ ـ يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمري مجمع؟ (٣)

وهل أجمع متعدّ بنفسه ، أو بحرف جر ثم حذف اتساعا؟.

فقال أبو البقاء : من قولك أجمعت على الأمر : إذا عزمت عليه ؛ إلّا أنّه حذف حرف الجر فوصل الفعل إليه ، وقيل : هو متعدّ بنفسه ، وأنشد قول الحارث.

وقال أبو فيد السّدوسي : أجمعت الأمر ، أفصح من أجمعت عليه.

وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا ، قال : وتفرقته أن يقول مرّة افعل كذا ، ومرّة افعل كذا ، وإذا عزم على أمر واحد ، فقد جمعه أي : جعله جميعا ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى : العزم ، حتى وصل ب «على» فقيل : أجمعت على الأمر ، أي : عزمت عليه ، والأصل : أجمعت الأمر.

__________________

(١) البيتان لعنترة. ينظر : ديوانه (٦) والبحر المحيط ٥ / ١٧٧ والدر المصون ٤ / ٥٣.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١١٨) والبحر المحيط ٥ / ١٧٧ والمنصف ٣ / ٤٧ وروح المعاني ١١ / ١٥٧ والتهذيب ٢ / ٩٧ وشرح المعلقات للزوزني ٣١١ وشرح القصائد السبع ٤٥٢ والدر المصون ٤ / ٥٣.

(٣) البيت ينسب للمؤرج ينظر : الخصائص ٢ / ١٣٦ والهمع ١ / ٢٤٧ ومعاني الفراء ١ / ٤٧٣ والنوادر ١٣٣ والدرر ١ / ٢٠٤ والبحر المحيط ٥ / ١٧٧ والقرطبي ٨ / ٢٣١ واللسان (جمع) وشرح القصائد السبع ٤٥٢ والدر المصون ٤ / ٥٣.

٣٧٦

وقرأ العامّة : «وشركاءكم» نصبا وفيه أوجه :

أحدها : أنّه معطوف على «أمركم» بتقدير حذف مضاف ، أي : وأمر شركائكم ؛ كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، ودلّ على ذلك ما تقدّم من أنّ «أجمع» للمعاني.

الثاني : أنّه عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف ، قيل : لأنّه يقال أيضا : أجمعت شركائي.

الثالث : أنّه منصوب بإضمار فعل لائق ، أي : واجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبيّ «وادعوا» فأضمر فعلا لائقا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] ، أي : واعتقدوا الإيمان.

ومثله قول الآخر : [الرجز]

٢٩١٥ ـ علفتها تبنا وماء باردا

حتّى شتت همّالة عيناها (١)

أي : وسقيتها ماء ؛ وكقوله : [مجزوء الكامل]

٢٩١٦ ـ يا ليت زوجك قد غدا

متقلّدا سيفا ورمحا (٢)

وقول الآخر : [الوافر]

٢٩١٧ ـ إذا ما الغانيات يرزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا (٣)

يريد : ومعتقلا رمحا ، وكحّلن العيونا ، وقد تقدّم أنّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج.

الرابع : أنه مفعول معه ، أي : «مع شركائكم».

قال الفارسيّ : وقد ينصب الشّركاء بواو «مع» ، كما قالوا : جاء البرد والطّيالسة ، ولم يذكر الزّمخشريّ غير قول أبي علي.

قال الزّجّاج : معناه : فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، فلما ترك انتصب».

قال أبو حيّان : «وينبغي أن يكون هذا التخريج على أنّه مفعول معه من الفاعل ، وهو الضمير في «فأجمعوا» لا من المفعول الذي هو «أمركم» وذلك على أشهر الاستعمالين ؛ لأنّه يقال : «أجمع الشركاء أمرهم» ولا يقال : «جمع الشركاء أمرهم» إلا قليلا».

قال شهاب الدين : يعني : أنّه إذا جعلناه مفعولا معه من الفاعل ، كان جائزا بلا خلاف ، وذلك لأنّ من النّحويين من اشترط في صحّة نصب المفعول معه : أن يصلح عطفه على ما قبله ، فإن لم يصلح عطفه ، لم يصحّ نصبه مفعولا معه ، فلو جعلناه من

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٣٧٧

المفعول لم يجز على المشهور ، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله ، إذ لا يقال : أجمعت شركائي ، بل جمعت.

وقرأ الزهري ، والأعمش ، والأعرج ، والجحدري (١) ، وأبو رجاء ، ويعقوب ، والأصمعي عن نافع : «فاجمعوا» بوصل الألف ، وفتح الميم من جمع يجمع ، و «شركاءكم» على هذه القراءة يتضح نصبه نسقا على ما قبله ، ويجوز فيه ما تقدّم في القراءة الأولى من الأوجه.

قال صاحب اللوامح : أجمعت الأمر : أي : جعلته جميعا ، وجمعت الأموال جمعا ، فكان الإجماع في الأحداث ، والجمع في الأعيان ، وقد يستعمل كلّ واحد مكان الآخر ، وفي التنزيل : (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه : ٦٠] وقد اختلف القراء في قوله : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) [طه : ٦٤].

فقرأ الستّة : بقطع الهمزة ، جعلوه من «أجمع» وهو موافق لما قيل : إنّ «أجمع» في المعاني.

وقرأ أبو (٢) عمرو وحده «فاجمعوا» بوصل الألف ، وقد اتفقوا على قوله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) [طه : ٦٠] ، فإنّه من الثلاثي ، مع أنّه متسلّط على معنى ، لا عين.

ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرّباعي ؛ فقال في قراءة أبي عمرو : من جمع يجمع ضد فرّق يفرق ، وجعل قراءة الباقين من : أجمع أمره إذا أحكمه وعزم عليه ، ومنه قول الشاعر : [الرجز]

٢٩١٨ ـ يا ليت شعري والمنى لا تنفع

هل أغدون يوما وأمري مجمع؟ (٣)

وقيل : المعنى : فاجمعوا على كيدكم ؛ فحذف حرف الجرّ.

وقرأ الحسن ، والسلمي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق ، وسلام (٤) ، ويعقوب : «وشركاؤكم» رفعا ، وفيه تخريجان :

أحدهما : أنّه نسق على الضّمير المرفوع ب «أجمعوا» قبله ، وجاز ذلك ؛ إذ الفصل بالمفعول سوّغ العطف.

والثاني : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم ، وشذّت

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٨) ، الحجة ٤ / ٢٨٧ ، إعراب القراءات ١ / ٢٧٠ ، النشر ٢ / ٢٨٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٧.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٧١ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٧ ـ ١١٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٥٥.

٣٧٨

فرقة فقرأت (١) : «وشركائكم» بالخفض ، ووجّهت على حذف المضاف ، وإبقاء المضاف إليه مجرورا على حاله ؛ كقول الشاعر :

٢٩١٩ ـ أكلّ امرىء تحسبين امرءا

ونار توقّد باللّيل نارا (٢)

أي : وكلّ نار ، فتقدير الآية : وأمر شركائكم ؛ فحذف الأمر ، وأبقى ما بعده على حاله ، ومن رأى برأي الكوفيين جوّز عطفه على الضّمير في «أمركم» من غير تأويل ، وقد تقدّم ما فيه من المذاهب ، أعني : العطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجارّ في سورة البقرة.

قوله «غمّة» يقال : غمّ وغمّة ، نحو كرب وكربة.

قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمّ علينا الهلال ، فهو مغموم إذا التمس ، فلم ير ؛ قال طرفة بن العبد : [الطويل]

٢٩٢٠ ـ لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد (٣)

وقال اللّيث : يقال : هو في غمّة من أمره ، إذا لم يتبيّن له.

قوله : (ثُمَّ اقْضُوا) مفعول «اقضوا» محذوف ، أي : اقضوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] فعدّاه لمفعول صريح.

وقرأ السّري (٤) : «ثم أفضوا» بقطع الهمزة والفاء ، من أفضى يفضي إذا انتهى ، يقال : أفضيت إليك ، قال تعالى : (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] ، فالمعنى : ثمّ أفضوا إليّ سرّكم ، أي : انتهوا به إليّ ، وقيل : معناه : أسرعوا به إليّ ، وقيل : هو من أفضى ، أي: خرج إلى الفضاء ، أي : فأصحروا به إليّ ، وأبرزوه لي ؛ كقوله : [الطويل]

٢٩٢١ ـ أبى الضّيم والنّعمان يحرق نابه

عليه فأفضى والسّيوف معاقله (٥)

ولام الفضاء واو ؛ لأنّه من فضا يفضو ، أي : اتّسع ، والمعنى : فأحكموا أمركم ، واعزموا وادعوا شركاءكم ، أي : آلهتكم ، فاستعينوا بها لتجتمع.

وروى الأصمعي ، عن نافع : «فأجمعوا ذوي الأمر منكم» فحذف المضاف ، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٣٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٥٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (٤٠) والبحر المحيط ٥ / ١٧٨ والتهذيب ١٦ / ١١٥ وشرح القصائد السبع ٢٨٨ والتفسير الكبير ٨٧ / ١٣٨ والقرطبي ٨ / ٢٣٢ واللسان (غمم) والدر المصون ٤ / ٥٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٣٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٩ ، الدر المصون ٤ / ٥٥.

(٥) تقدم.

٣٧٩

قال ابن الأنباري : المراد من الأمر هنا : وجوه كيدهم ، ومكرهم ، والتقدير : لا تتركوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه. والمراد من الشركاء : إما الأوثان ؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّها تضرّ وتنفع ، وإمّا أن يكون المراد : من كان على مثل دينهم.

(ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي : خفيّا مبهما ، من قولهم : غمّ الهلال على النّاس ، أي : أشكل عليهم ، فهو مغموم إذا خفي. (ثُمَّ اقْضُوا) أي : امضوا ، «إليّ» : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه ، يقال : قضى فلان : إذا مات ، وقضى دينه : إذا فرغ منه ، وقيل معناه : توجّهوا إليّ بالقتل والمكروه ، وقيل : «فاقضوا ما أنتم قاضون» كقول السّحرة لفرعون» (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢].

قال القفال : ومجاز دخول كلمة «إلى» في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك ، وخرجت إليك من العهد ، وفيه معنى الإخبار ؛ فكأنّه ـ تعالى ـ قال : ثم اقضوا إليّ ما يستقرّ رأيكم عليه محكما مفروغا منه ، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تؤخّرون.

وقد نظّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه ، فقال : إنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت ؛ فإنّي واثق بوعد الله ، جازم بأنّه لا يخلف الميعاد ، فلا تظنّوا أنّ تهديدكم إيّاي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدّعاء إلى الله ثم إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه ، فقال : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) كأنّه يقول : اجمعوا ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل أمرهم أن يضمّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتّقرب إليهم ، ثم لم يقتصر على هذين ، بل ضمّ إليهما ثالثا ، وهو قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) عليه (غُمَّةً) أراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة ، ثم لم يقتصر على ذلك ، بل ضمّ إليها رابعا ، فقال : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) والمراد : أن وجهوا كلّ تلك الشّرور إليّ ، ثم ضمّ إلى ذلك خامسا ، وهو قوله : (لا تُنْظِرُونِ) أي : عجّلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار ، ومعلوم أنّ مثل هذا الكلام يدل على أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله ، وأنّه كان قاطعا بأنّ كيدهم لا يضرّه ، ولا يصل إليه ، ومكرهم لا ينفذ فيه.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن قولي ، وقبول نصحي ، (فَما سَأَلْتُكُمْ) على تبليغ الرّسالة والدّعوة (مِنْ أَجْرٍ) جعل وعوض ، (إِنْ أَجْرِيَ) : ما أجري وثوابي ، (إِلَّا عَلَى اللهِ).

قال المفسّرون : وهذا إشارة إلى أنّه ما أخذ منهم مالا على دعواهم إلى دين الله ، وكلّما كان الإنسان فارغا من الطّمع ، كان قوله أقوى تأثيرا في القلب.

قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر : وهو أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بيّن أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه ، وذلك لأنّ الخوف إنّما يحصل بأحد شيئين : إمّا بإيصال الشّر ،

٣٨٠