اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

لمّا وصف الكفار بقلة الإصغاء ، وترك التدبّر ؛ أتبعه بالوعيد ، فقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ). «يوم» منصوب على الظرف ، وفي ناصبه أوجه :

أحدها : أنّه منصوب بالفعل الذي تضمّنه قوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا).

الثاني : أنّه منصوب ب «يتعارفون».

الثالث : أنّه منصوب بمقدر ، أي : اذكر يوم.

وقرأ الأعمش (١) ، وحفص عن عاصم : «يحشرهم» بياء الغيبة ، والضمير لله تعالى لتقدم اسمه في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ).

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) تقدّم الكلام على «كأن» هذه ، وهي المخفّفة من الثّقيلة ، والتقدير : كأنّهم لم يلبثوا ؛ فخفّف ، كقوله : وكأن قد ، ولكن اختلفوا في محلّ هذه الجملة على أوجه :

أحدها : أنها في محلّ نصب صفة للظرف ، وهو «يوم» ، قاله ابن عطية.

قال أبو حيان : «لا يصحّ ؛ لأن يوم يحشرهم معرفة والجمل نكرات ، ولا تنعت المعرفة بالنّكرة ، لا يقال : إنّ الجمل التي يضاف إليها أسماء الزّمان نكرة على الإطلاق ؛ لأنّها إن كانت في التقدير تنحلّ إلى معرفة ، فإنّ ما أضيف إليها يتعرّف ، وإن كانت تنحلّ إلى نكرة ، كان ما أضيف إليها نكرة ، تقول : «مررت في يوم قدم زيد الماضي» ، فتصف «يوم» بالمعرفة ، و «جئت ليلة قدم زيد المباركة علينا» ، وأيضا : فكأن لم يلبثوا ، لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى ، لأنّ ذلك من وصف المحشورين ، لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلّف بعضهم تقدير رابط يربطه ، فقدره : «كأن لم يلبثوا قبله» ، فحذف «قبله» ، أي : قبل اليوم ، وحذف مثل هذا الرّابط لا يجوز».

قال شهاب الدّين : قوله : «بعضهم» ، هو مكّي بن أبي طالب ؛ فإنّه قال : «الكاف وما بعدها من «كأن» صفة لليوم ، وفي الكلام حذف ضمير يعود على الموصوف ، تقديره : كأن لم يلبثوا قبله ؛ فحذف «قبله» ، فصارت الهاء متّصلة ب «يلبثوا» ، فحذفت لطول الاسم كما تحذف من الصّلات» ، ونقل هذا التقدير أيضا : أبو البقاء ، ولم يسمّ قائله ، فقال : «وقيل» ، فذكره.

والوجه الثاني : أن تكون الجملة في محلّ نصب على الحال ، من مفعول «يحشرهم» أي : يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلّا ساعة ، هذا تقدير الزمخشري ، وممّن جوّز أيضا الحاليّة : ابن عطيّة ، ومكّيّ ، وأبو البقاء ، وجعله بعضهم هو الظّاهر.

الوجه الثالث : أن تكون الجملة نعتا لمصدر محذوف ، والتقدير : يحشرهم حشرا ،

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١١ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٦.

٣٤١

كأن لم يلبثوا ، ذكر ذلك ابن عطيّة ، وأبو البقاء ، ومكّي ، وقدّر مكّي ، وأبو البقاء : العائد محذوفا ، كما قدّراه حال جعلهما الجملة صفة لليوم ، وقد تقدّم ما في ذلك.

الرابع : قال ابن عطيّة (١) : «ويصحّ أن يكون قوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) كلاما مجملا» ولم يبيّن الفعل الذي يتضمّنه (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) ، قال أبو حيّان (٢) : «ولعلّه أراد ما قاله الحوفيّ ؛ من أنّ الكاف في موضع نصب ، بما تضمّنته من معنى الكلام ، وهو السّرعة». انتهى.

قال : «فيكون التقدير : ويوم يحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا» ، فيكون «يسرعون» : حالا من مفعول «يحشرهم» ، ويكون (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) : حالا من فاعل «يسرعون» ، ويجوز أن تكون (كَأَنْ لَمْ) : مفسّرة ل «يسرعون» المقدّرة.

فصل

قال الضحّاك : كأن لم يلبثوا في الدنيا ، إلّا ساعة من النّهار (٣) ، وقال ابن عبّاس : كأن لم يلبثوا في قبورهم ، إلّا قدر ساعة من النّهار (٤) ، قال القاضي : الأول أولى ، لوجهين :

أحدهما : أنّ حال المؤمنين كحال الكافرين : في أنّهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر ؛ فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختصّ به الكفار ؛ وهو أنّهم لمّا لم ينتفعوا بعمرهم استقلّوه ، والمؤمن لمّا انتفع بعمره ؛ فكأنّه لا يستقلّه.

الثاني : أنّه قال : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) والتّعارف إنّما يضاف إلى حال الحياة ، لا إلى حال الموت ، وفي سبب هذا الاستقلال وجوه :

الأول : قال أبو مسلم : إنّهم لمّا ضيّعوا أعمارهم في طلب الدنيا ، والحرص على لذّاتها ؛ لم ينتفعوا بعمرهم ألبتّة ، فكان وجود ذلك العمر كالعدم كما تقدّم ؛ فلهذا استقلوه ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة : ٩٦].

الثاني : قال الأصمّ : إنّهم لمّا شاهدوا أهوال الآخرة وعظمها ، عظم خوفهم ، فنسوا أمور الدّنيا ، والإنسان إذا عظم خوفه ، نسي الأمور الظّاهرة.

الثالث : قلّ عندهم مقامهم في الدّنيا ، في جنب مقامهم في الآخرة.

الرابع : قلّ عندهم في الدنيا ؛ لطول وقوفهم في الحشر.

قوله : «يتعارفون» فيه أوجه :

أحدها : أنّ الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «يلبثوا».

قال الحوفيّ : «يتعارفون» : فعل مستقبل في موضع الحال من الضّمير في «يلبثوا» ،

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٢٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٢.

(٣) انظر : تفسير القرطبي (٨ / ٢٢٢).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٣٤٢

وهو العامل ، كأنّه قال : متعارفين ، والمعنى : اجتمعوا متعارفين.

والثاني : أنها حال من مفعول «يحشرهم» أي : يحشرهم متعارفين ، والعامل فعل الحشر ، وعلى هذا فمن جوّز تعدّد الحال ، جوّز أن تكون (كَأَنْ لَمْ) : حالا أولى ، وهذه حال ثانية ، ومن منع ذلك ، جعل (كَأَنْ لَمْ) على ما تقدم من غير الحاليّة.

قال أبو البقاء : «وهي حال مقدرة ؛ لأنّ التعارف لا يكون حال الحشر».

والثالث : أنّها مستأنفة ؛ أخبر ـ تعالى ـ عنهم بذلك.

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : كأن لم يلبثوا إلّا ساعة» ، و «يتعارفون» كيف موقعهما؟.

قلت : أمّا الأولى : فحال منهم ، أي : يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلّا ساعة.

وأمّا الثانية : فإمّا أن تتعلّق بالظرف ـ يعني فتكون حالا ـ ، وإمّا أن تكون مبينة لقوله : (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً ؛) لأنّ التّعارف لا يبقى مع طول العهد ، وينقلب تناكرا».

فصل

في هذا التّعارف وجوه :

الأول : يعرف بعضهم بعضا كما كانوا في الدّنيا.

الثاني : يعرف بعضهم بعضا بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب ، وتبرّأ بعضهم من بعض.

فإن قيل : كيف توافق هذه الآية قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠].

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضا ؛ فيقول كل فريق للآخر : أنت أضللتني يوم كذا ، وزيّنت لي الفعل القبيح الفلاني ، فهو تعارف توبيخ ، وتباعد ، وتقاطع ، لا تعارف عطف ، وشفقة.

وأما قوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) فهو سؤال رحمة ، وعطف.

والثاني : أنّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين ؛ وهو أنّهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة ؛ فلذلك لا يسأل حميم حميما.

قوله : (قَدْ خَسِرَ) فيها وجهان :

أحدهما : أنّها مستأنفة ، أخبر ـ تعالى ـ بأنّ المكذّبين بلقائه خاسرون لا محالة ؛ ولذلك أتى بحرف التّحقيق ، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخسران ، والمعنى : أنّه من باع آخرته بدنياه ، فقد خسر ؛ لأنّه أعطى الشّريف الباقي ، في أخذ الخسيس الفاني.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٩.

٣٤٣

والثاني : أن يكون في محلّ نصب بإضمار قول ، أي : قائلين قد خسر الذين. ثمّ لك في هذا القول المقدّر وجهان :

أحدهما : أنه حال من مفعول «يحشرهم» أي : يحشرهم قائلين ذلك.

والثاني : أنّه حال من فاعل «يتعارفون» ، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليّة من فاعل «يتعارفون» : الزمخشريّ ؛ فإنّه قال : «هو الاستئناف فيه معنى التّعجّب ، كأنّه قيل : «ما أحشرهم» ، ثم قال : (قَدْ خَسِرَ) على إرادة القول ، أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك» ، وذهب إلى أنّها حال من مفعول «يحشرهم» : ابن عطيّة.

قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون معطوفة على قوله : (قَدْ خَسِرَ) ، فيكون حكمه حكمه.

والثاني : أن تكون معطوفة على صلة «الذين» ، وهي كالتّوكيد للجملة التي وقعت صلة ؛ لأنّ من كذّب بلقاء الله ، غير مهتد ، والمراد بالخسران : خسران النفس ولا شيء أعظم منه.

قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) تقدّم الكلام على «إمّا» هذه [البقرة ٣٨] ، وقال ابن عطيّة(١) : «ولأجلها ، أي : لأجل زيادة «ما» ، جاز دخول النون الثقيلة ، ولو كانت «إن» وحدها لم يجز» أي : إنّ توكيد الفعل بالنّون مشروط بزيادة «ما» بعد «إن» ، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه ، وقد جاء التّوكيد في الشّرط بغير «إن» ؛ كقوله : [الكامل]

٢٩٠٤ ـ من نثقفن منهم فليس بآيب

أبدا وقتل بني قتيبة شافي (٢)

قال ابن خروف : أجاز سيبويه : الإتيان ب «ما» ، وألّا يؤتى بها ، والإتيان بالنون مع «ما» ، وألّا يؤتى بها ، والإراءة هنا بصريّة ؛ ولذلك تعدّى الفعل إلى اثنين بالهمزة ، أي : نجعلك رائيا بعض الموعودين ، أو بمعنى : الذي نعدهم من العذاب ، أو نتوفّينّك قبل أن نريك ذلك ، فإنّك ستراه في الآخرة.

قال مجاهد : فكان البعض الذي رآه قتلهم ببدر ، وسائر أنواع العذاب بعد موته (٣).

قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) مبتدأ وخبر ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنّه جواب للشّرط ، وما عطف عليه ، إذ معناه صالح لذلك ، وإلى هذا ذهب الحوفيّ ، وابن عطيّة.

والثاني : أنّه جواب لقوله : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) ، وجواب الأول محذوف.

قال الزمخشري : «كأنّه قيل : وإمّا نرينّك بعض الذي نعدهم فذاك ، أو نتوفّينّك قبل أن نريك ، فنحن نريك في الآخرة».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٢٣.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥٦).

٣٤٤

قال أبو حيّان : «فجعل الزمخشريّ في الكلام شرطين لهما جوابان ، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف ؛ لأنّ قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) صالح لأن يكون جوابا للشّرط ، والمعطوف عليه ، وأيضا : فقول الزمخشريّ : «فذاك» هو اسم مفرد ، لا ينعقد منه جواب شرط ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط ، إذ لا يفهم من قوله : «فذاك» الجزء الذي حذف ، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد».

قال شهاب الدّين : «قد تقرّر : أنّ اسم الإشارة قد يشار به إلى شيئين فأكثر ، وهو بلفظ الإفراد ؛ فكأنّ ذاك واقع موقع الجملة الواقعة جوابا ، ويجوز أن يكون قد حذف الخبر ؛ لدلالة المعنى عليه ، إذ التّقدير : فذاك المراد ، أو المتمنّى ، أو نحوه».

وقوله : «إذ لا يفهم الجزء الذي حذف» إلى آخره ، ممنوع ، بل هو مفهوم كما بينا ؛ وهو شيء يتبادر إلى الذّهن.

قوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) «ثم» ليست هنا للتّرتيب الزّماني ، بل هي لترتيب الأخبار ، لا لترتيب القصص في أنفسها ، قال أبو البقاء : «كقولك : زيد عالم ، ثم هو كريم».

وقال الزمخشريّ : «فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدّارين ، فما معنى «ثم»؟.

قلت : ذكرت الشهادة ، والمراد : مقتضاها ، ونتيجتها ، وهو العقاب ؛ كأنّه قيل : ثم الله معاقب على ما يفعلون».

وقرأ إبراهيم (١) بن أبي عبلة : «ثمّ» بفتح الثاء ، جعله ظرفا لشهادة الله ؛ فيكون «ثمّ» منصوبا ب «شهيد» أي : الله شهيد عليهم في ذلك المكان ، وهو مكان حشرهم ، ويجوز أن يكون ظرفا ل «مرجعهم» أي : فإلينا مرجعهم ، يعني : رجوعهم في ذلك المكان ، الذي يثاب فيه المحسن ، ويعاقب فيه المسيء.

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٤٩)

قوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) الآية.

لمّا بيّن حال محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في قومه ، بيّن أنّ حال كل الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ مع أقوامهم كذلك.

والآية تدلّ على أنّ كلّ جماعة ممّن تقدّم ، قد بعث الله إليهم رسولا ، ولم يهمل أمّة من الأمم ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٤ ، الدر المصون ٤ / ٣٩.

٣٤٥

فإن قيل : كيف يصحّ هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة؟.

فالجواب : أنّ الدّليل الذي ذكرناه ، لا يوجب أن يكون الرّسول حاضرا مع القوم ؛ لأنّ تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولا إليهم ، كما لا يمنع تقدّم رسولنا ، من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد.

وفي الكلام إضمار تقديره : فإذا جاء رسولهم وبلّغ ، وكذّبه قوم وصدقه آخرون ، قضي بينهم ، أي : حكم وفصل.

والمراد من الآية :

إمّا بيان : أنّ الرسول إذا بعث إلى كلّ أمّة ، فإنّه بالتبليغ ، وإقامة الحجّة يزيح عللهم ، ولم يبق لهم عذر ؛ فيكون ما يعذّبون به في الآخرة عدلا لا ظلما ، ويدلّ عليه قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وقوله : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].

وإمّا أن يكون المراد : أنّ القوم إذا اجتمعوا في الآخرة ، جمع الله بينهم وبين رسلهم وقت المحاسبة ، وبيان الفصل بين المطيع والعاصي ؛ ليشهد عليهم بما شاهد منهم ؛ وليقع منهم الاعتراف بأنّه بلغ رسالات ربّه ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٦٥].

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الآية.

هذه شبهة خامسة من شبهات منكري النبوة ؛ فإنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كلّما هدّدهم بنزول العذاب ، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب ، قالوا : متى هذا الوعد ، فاحتجّوا بعدم ظهوره ، على القدح في نبوته ، واعلم : أنّهم قالوا ذلك على وجه التّكذيب للرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا أخبرهم بنزول العذاب على الأعداء ، وينصرة الأولياء ـ أو على وجه الاستبعاد ، وتدلّ الآية على أنّ كلّ أمّة قالت لرسولها مثل ذلك القول ؛ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لأنّه جمع ، وهو موافق لقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ).

ثم إنّه ـ تعالى ـ أمره بأن يجيب عن هذه الشّبهة بجواب يحسم المادّة ، وهو قوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) والمعنى : أنّ إنزال العذاب على الأعداء ، وإظهار النّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلّا الله ـ سبحانه ـ ، وأنّه ـ تعالى ـ ما عيّن لذلك وقتا معينا ، بل تعيين الوقت مفوّض إلى الله ـ سبحانه ـ بحسب مشيئته.

قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه استثناء متّصل ، تقديره : إلّا ما شاء الله أن أملكه ، وأقدر عليه.

والثاني : أنّه منقطع ، قال الزمخشري : «هو استثناء منقطع ، أي : ولكن ما شاء الله

٣٤٦

من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضّرر وجلب العذاب؟».

فصل

احتجّ المعتزلة بقوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) بأن هذا الاستثناء ، يدلّ على أنّ العبد لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، إلّا الطّاعة والمعصية ، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقلا بهما.

وأجيبوا : بأنّ هذا الاستثناء منقطع ، والتقدير : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن.

قوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي : مدّة مضروبة (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) : وقت فناء أعمارهم ، قرأ ابن (١) سيرين : «إذا جاء آجالهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» أي : لا يتأخّرون ، ولا يتقدمون ، وهذه الآية تدلّ على أنّ أحدا لا يموت إلا بانقضاء أجله.

فصل

قوله : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) شرط ، وقوله : (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي : لا يتأخّرون ولا يتقدمون ، وهذه الآية تدل على جزاء ، و «الفاء» حرف الجزاء ؛ فوجب إدخاله على الجزاء ، فدلّت الآية على أنّ الجزاء يحصل مع حصول الشّرط لا يتأخّر عنه ، وأنّ حرف الفاء لا يدلّ على التّراخي ؛ وإنّما يدلّ على كونه جزاء.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إذا قال الرجل لامرأة أجنبيّة : إن تزوجتك ، فأنت طالق ؛ قال بعضهم : لا يصح هذا التعليق ؛ لأنّ هذه الآية دلّت على أنّ الجزاء إنّما يحصل بحصول الشّرط ، فلو صحّ هذا التعليق ، لوجب أن يحصل الطلاق مقارنا للنّكاح ، لما ثبت أنّ الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط ، وذلك يوجب الجمع بين الضّدّين ، ولمّا بطل هذا اللّازم ، وجب ألّا يصحّ التعليق ، وقال أبو حنيفة : يصحّ.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)(٥٢)

قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً) الآية.

هذا جواب ثان عن قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) وقد تقدّم الكلام على «أرأيت» هذه ، وأنّها تتضمّن معنى : أخبرني ، فتتعدّى إلى اثنين ، ثانيهما غالبا جملة استفهاميّة ، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ وخبر ، كقولهم : «أرأيتك زيدا ما صنع» وتقدّم مذاهب النّاس فيها في «عذاب» ، والمسألة من إعمال الثاني ؛ إذ هو المختار عند البصريّين ، ولمّا أعمله

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٥.

٣٤٧

أضمر في الأول وحذفه ؛ لأن إبقاءه مخصوص بالضرورة ، أو جائز الذكر على قلة عند آخرين ، ولو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني إذ الحذف منه لا يكون إلا في ضرورة ، أو في قليل من الكلام.

ومعنى الكلام : قل لهم يا محمد : أخبروني عن عذاب الله ، إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجل به ؛ لمرارته ، وشدة إصابته ، فهو مقتض لنفور الطبع منه.

قال الزمخشري : «فإن قلت : بم يتعلق الاستفهام ، وأين جواب الشرط؟ قلت : تعلق ب «أرايتم» لأن المعنى : أخبروني ما ذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف ، وهو : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه».

قال أبو حيان : «وما قدره غير سائغ ؛ لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا ، تقول : «أنت ظالم إن فعلت» التقدير : إن فعلت ، فأنت ظالم ، وكذلك (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] التقدير : إن شاء الله نهتد ، فالذي يسوغ أن يقدر : إن أتاكم عذابه ، فأخبروني ما ذا يستعجل منه المجرمون.

وقال الزمخشري أيضا : «ويجوز أن يكون (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جوابا للشرط كقولك : إن أتيتك ما تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة ب «أرايتم» ، وأن يكون (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) جوابا للشرط ، و (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضا ، والمعنى : إن أتاكم عذابه ، آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان.

قال أبو حيان : «وأما تجويزه أن يكون «ما ذا» جوابا للشرط فلا يصح ؛ لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما ، فلا بد فيه من الفاء تقول : إن زارنا فلان ، فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان ، فأي يد له بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو «إن أتيتك ما تطعمني؟» هو من تمثيله ، لا من كلام العرب.

وأما قوله : ثم تتعلق الجملة ب «أرايتم» إن عنى بالجملة (ما ذا يَسْتَعْجِلُ) فلا يصح ذلك ؛ لأنه قد جعلها جوابا للشرط ، وإن عنى بالجملة جملة الشرط ، فقد فسر هو «أرايتم» بمعنى : أخبروني ، و «أخبرني» يطلب متعلقا مفعولا ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول «أخبرني» ، وأما تجويزه أن يكون : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) جوابا للشرط ، و (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضا ، فلا يصح أيضا لما ذكرناه : من أن جملة الاستفهام لا تقع جوابا للشرط إلا ومعها فاء الجواب ، وأيضا : ف «ثم» هنا حرف عطف تعطف الجملة التي بعدها على التي قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة ، لم يصح أن تقع جواب الشرط ، وأيضا : ف «أرايتم» بمعنى : «أخبروني» يحتاج إلى مفعول ، ولا تقع جملة شرط موقعه».

وكون «أرايتم» بمعنى «أخبروني» هو الظاهر المشهور ، وقال الحوفي : «الرؤية من

٣٤٨

رؤية القلب التي بمعنى العلم ؛ لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام التي معناها : التقرير ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرايتم ما يستعجل من العذاب المجرمون ، إن أتاكم عذابه» انتهى. فهذا ظاهر في أن «أرايتم» غير مضمنة معنى الإخبار ، وأن الجملة الاستفهامية سدت مسد المفعولين ، ولكن المشهور الأول. قوله : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ) قد تقدم الكلام على هذه الكلمة ، ومذاهب الناس فيها [البقرة ٢٦] ، وجوز بعضهم هنا أن تكون «ما» مبتدأ ، و «ذا» خبره ، وهو موصول بمعنى : «الذي» ، و «يستعجل» صلته ، وعائده محذوف تقديره : أي شيء الذي يستعجله منه ، أي : من العذاب ، أو من الله ـ تعالى ـ.

وجوز مكي ، وغيره : أن يكون «ما ذا» كله مبتدأ ، أي : يجعل الاسمان بمنزلة اسم واحد ، والجملة بعده خبر ، قال أبو علي : «وهو ضعيف ؛ لخلو الجملة من ضمير يعود على المبتدأ».

وقد أجاب أبو البقاء عن هذا ، فقال (١) : «ورد هذا القول بأن الهاء في «منه» تعود على المبتدأ ؛ كقولك : زيد أخذت منه درهما».

قال شهاب الدين (٢) : «ومثل أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك ، إلا أنه لا يرى عود الهاء على الموصول ؛ لأن الظاهر عودها على العذاب».

قال أبو حيان (٣) : «والظاهر عود الضمير في «منه» على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول «أرايتم» المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل».

وقال مكي : «وإن شئت جعلت «ما» و «ذا» بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء ، والجملة التي بعده الخبر ، والهاء في «منه» تعود أيضا على العذاب».

قال شهاب الدين (٤) : «فقد ترك المبتدأ بلا رابط لفظي ، حيث جعل الهاء عائدة على غير المبتدأ ، فيكون العائد عنده محذوفا ، لكنه قال بعد ذلك : «فإن جعلت الهاء في «منه» تعود على الله ـ جل ذكره ـ ، و «ما» و «ذا» اسما واحدا ، كانت «ما» في موصع نصب ب «يستعجل» والمعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله» فقوله هذا يؤذن بأن الضمير لما عاد على غير المبتدأ ، جعله مفعولا مقدما ، وهذا الوجه بعينه جائز فيما إذا جعل الضمير عائدا على العذاب. ووجه الرفع على الابتداء جائز ، فيما إذا جعل الضمير عائدا على الله ـ تعالى ـ ، إذ العائد الرابط مقدر ، كما تقدم التنبيه عليه».

حاصل الجواب : أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب : بتقدير أن يحصل هذا المطلوب ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده ، فذلك باطل ؛ لأن

__________________

(١) ينظر : الإملا لأبي البقاء ١ / ٢٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٤٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٤١.

٣٤٩

الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعا ألبتة ؛ لأنه إيمان في وقت انحباس النفس ؛ فثبت أن الذي تطلبونه لو أتاكم ، لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا ، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذاب آخر أشد منه ، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانة ، وهو قوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

فالحاصل : أن هذا الذي تطلبونه محض الضرر العادي من جهات النفع ، والعاقل لا يفعل ذلك.

وقوله : «بياتا» أي : ليلا يقال : بت ليلتي أفعل كذا ؛ لأن الظاهر أن الإنسان يكون في البيت بالليل ؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل ، والبيات : مصدر مثل التبييت ؛ كالوداع ، والسراح ، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا ؛ لأن الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظل ، وانتصب «بياتا» على الظرف أي : وقت بيات.

قوله : «أثم» قد تقدم خلاف الزمخشري للجمهور في ذلك ، حيث يقدر جملة بين همزة الاستفهام ، وحرف العطف ، و «ثم» : حرف عطف.

واعلم : أن دخول حرف الاستفهام على «ثم» كدخوله على «الواو» و «الفاء» في قوله : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٨] ، (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] وهو يفيد التقريع والتوبيخ ، وقال الطبري : «أثم» هذه بضم الثاء ليست التي بمعنى : العطف ، وإنما هي بمعنى : «هنالك» وهذا لا يوافق عليه ؛ لأن هذا المعنى لا يعرف في «ثم» بضم «الثاء» ، إلا أنه قد قرأ طلحة (١) بن مصرف : «أثم» بفتح الثاء ، وحينئذ يصح تفسيرها بمعنى : هنالك.

قوله : «ألان» قد تقدم الكلام في (الْآنَ) [البقرة : ٧٢] ، وقرأ الجمهور : «ألان» بهمزة الاستفهام داخله على «الآن» وقد تقدم مذاهب الفراء في ذلك ، و «الآن» نصب بمضمر تقديره : الآن آمنتم ، ودل على هذا الفعل المقدر الفعل الذي تقدمه ، وهو قوله : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) ولا يجوز أن يعمل فيه «آمنتم» الظاهر ؛ لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده ، كما أن ما بعده لا يعمل فيما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، وهذا الفعل المقدر ومعمولاه على إضمار قول ، أي : قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذاب : آمنتم الآن به ، وقرأ عيسى ، وطلحة : «آمنتم به الآن» بوصل الهمزة من غير استفهام ، وعلى هذه القراءة ف «الآن» منصوب ب «آمنتم» هذا الظاهر.

قوله : (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وَقَدْ كُنْتُمْ) جملة حالية ، قال الزمخشري : «وقد

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٢٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٦ ، الدر المصون ٤ / ٤١ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٢.

٣٥٠

كنتم به تستعجلون ؛ يعني : تكذبون ؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب ، والإنكار».

فجعله من باب الكناية ؛ لأنه دلالة على الشيء بلازمه ، نحو «هو طويل النجاد» كنيت به عن طول قامته ؛ لأن طول نجاده لا زم لطول قامته ، وهو باب بليغ.

وقوله : (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) هذه الجملة على قراءة العامة ؛ عطف على ذلك الفعل المقدر الناصب ل «الآن» وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة ، و «ذوقوا» و (هَلْ تُجْزَوْنَ) كله في محل نصب بالقول ، وقوله : (إِلَّا بِما) هو المفعول الثاني ل «تجزون» ، والأول قائم مقام الفاعل ، وهو استثناء مفرغ.

فصل

دلت الآية على أن الجزاء يوجب العمل ، أما عند الفلاسفة : فهو أثر العمل ، وأما عند المعتزلة : فإن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله ـ تعالى ـ ، وأما عند أهل السنة ؛ فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض.

قالت المعتزلة : ودلت الآية على كون العبد مكتسبا ، وعند أهل السنة معناها : أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة يوجب الفعل.

قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٥٦)

قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) الآية.

لما أخبر ـ تعالى ـ عن الكفار ، بأنهم يقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وأجاب عنه بما تقدم ، حكى عنهم : أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في هذه الواقعة ، وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى ، وقالوا : أحق هو؟ واعلم : أنهم سألوا أولا عن زمان وقوعه ، وهاهنا سألوا عن تحققه في نفسه ، ولهذا اختلف جوابهما.

فأجاب عن الأول ، وهو السؤال عن الزمان ، بقوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [يونس : ٤٩].

وأجاب عن الثاني : بتحققه بالقسم ، بقوله (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) وفائدته أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ؛ لأن الظاهر أن من أخبر عن شيء ، وأكده بالقسم ، فقد أخرجه عن الهزل إلى الجد ، وأيضا : فإن الناس طبقات : فمنهم من لا يقر بشيء إلا بالبرهان الحقيقي ، ومنهم من ينتفع بالأشياء الإقناعية ، نحو القسم.

قوله : (أَحَقٌّ هُوَ) يجوز أن يكون «حق» مبتدأ ، و «هو» مرفوعا بالفاعلية سد مسد

٣٥١

الخبر ، و «حق» وإن كان في الأصل مصدرا ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول ؛ لكنه في قوة «ثابت» فلذلك رفع الظاهر ، ويجوز أن يكون «حق» خبرا مقدما ، و «هو» مبتدأ مؤخرا ، واختلف في (يَسْتَنْبِئُونَكَ) هذه : هل هي متعدية إلى واحد ، أو إلى اثنين ، أو إلى ثلاثة؟.

فقال الزمخشري : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) ، فيقولون : أحق هو فظاهر هذه العبارة أنها متعدية لواحد ، وأن الجملة الاستفهامية في محل نصب بذلك القول المضمر المعطوف على «يستنبئونك» وكذلك فهم عنه أبو حيان ، أعني : تعديها لواحد.

وقال مكي (١) : «أحق هو ابتداء وخبر في موضع المفعول الثاني ، إذا جعلت «يستنبئونك» بمعنى : يستخبرونك ، فإذا جعلت «يستنبئونك» بمعنى : يستعلمونك ، كان (أَحَقٌّ هُوَ) ابتداء وخبرا في موضع المفعولين ؛ لأن «أنبأ» إذا كان بمعنى : أعلم ، وكان متعديا إلى ثلاثة مفاعيل ، يجوز الاكتفاء بواحد ، ولا يجوز الاكتفاء باثنين دون الثالث ، وإذا كانت «أنبأ» بمعنى : أخبر ، تعدت إلى مفعولين ، ولا يجوز الاكتفاء بواحد دون الثاني ، وأنبأ ونبأ في التعدي سواء».

وقال ابن عطية (٢) : «معناه : يستخبرونك ، وهو على هذا يتعدى إلى مفعولين أحدهما الكاف ، والآخر في الابتداء والخبر» فعلى ما قال ، تكون «يستنبئونك» معلقة بالاستفهام ، وأصل استنبأ : أن يتعدى إلى مفعولين أحدهما ب «عن» تقول : استنبأت زيدا عن عمرو ، أي: طلبت منه أن ينبئني عن عمرو ، ثم قال : «والظاهر أنها تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل أحدها الكاف ، والابتداء والخبر سد مسد المفعولين».

قال أبو حيان (٣) : «وليس كما ذكر ؛ لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل قال أبو حيان (٣) : «وليس كما ذكر ؛ لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة ، لا يحفظ «استعملت زيدا عمرا قائما» فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين ، ولا يلزم من كونها بمعنى «يستعلمونك» أن تتعدى إلى ثلاثة ؛ لأن «استعلم» لا يتعدى إلى ثلاثة ، كما ذكرنا».

وقد سبق ابن عطية إلى هذا مكي ، كما تقدم عنه والظاهر جواز ذلك ، ويكون التعدي إلى ثالث قد حصل بالسين ؛ لأنهم نصوا على أن السين تعدي ، فيكون الأصل : «علم زيد عمرا قائما» ثم تقول : «استعلمت زيدا عمرا قائما» إلا أن النحويين نصوا على أنه لا يتعدى إلى ثلاثة إلا «علم» و «رأى» المنقولين بخصوصية همزة التعدي إلى ثالث ، وأنبأ ، ونبأ ، وأخبر ، وخبر وحدث ، وقرأ (٤) الأعمش : «آلحق» بلام التعريف ، قال الزمخشري : «وهو أدخل في الاستهزاء ، لتضمنه معنى التعريض ، فإنه باطل ؛ وذلك لأن

__________________

(١) ينظر : المشكل ٢ / ٣٨٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٢٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٢.

٣٥٢

اللام للجنس ، فكأنه قال : أهو الحق لا الباطل ، أو : أو الذي سميتموه الحق» والضمير ، أعني: «هو» عائد إما على العذاب ، أو على الشرع ، أو على القرآن ، أو على الوعيد ، أو على أمر الساعة.

قوله : (إِي وَرَبِّي) «إي» حرف جواب بمعنى «نعم» ولكنها تختص بالقسم ، أي : لا تستعمل إلا في القسم بخلاف «نعم».

قال الزمخشري (١) : «وإي : بمعنى نعم في القسم خاصة ؛ كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة ، وسمعتهم يقولون في التصديق «إيو» فيصلونه بواو القسم ، ولا ينطقون به وحده».

قال أبو حيان (٢) : «لا حجة فيما سمعه لعدم الحجة في كلام من سمعه ؛ لفساد كلامه وكلام من قبله بأزمان كثيرة».

وقال ابن عطية : «هي لفظة تتقدم القسم بمعنى : نعم ، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء ، تقول : إي وربي وإي ربي».

قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) يجوز أن تكون الحجازية وأن تكون التميمية ؛ لخفاء النصب ، أو الرفع في الخبر.

وهذا عند غير الفارسي ، وأتباعه ، أعني : جواز زيادة الباء في خبر التميمية ، وهذه الجملة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون معطوفة على جواب القسم ؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين ؛ إحداهما : مثبتة مؤكدة ب «إن» واللام ، والأخرى : منفية مؤكدة بزيادة الباء.

والثاني : أنها مستأنفة ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التعجيز ، و «معجز» من أعجز ، فهو متعد لواحد ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) [الجن : ١٢] فالمفعول هنا محذوف ، أي : بمعجزين الله ، وقال الزجاج : «أي : أنتم ممن يعجز من يعذبكم» ، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم ؛ لأنه قد كثر فيه حذف المفعول ، حتى قالت العرب : «أعجز فلان» إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه ، قال بعض المفسرين : المعنى : ما أنتم بمعجزين ، أي : بفائتين من العذاب ؛ لأن من عجز عن شيء ، فقد فاته.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ) الآية.

أي : أشركت ما في الأرض ، (لَافْتَدَتْ بِهِ) إلا أن ذلك يتعذر ؛ لأنه في القيامة لا يملك شيئا ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة:

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٧.

٣٥٣

٤٨] وقوله : «ظلمت» في محل جرّ صفة ل «نفس» أي : لكلّ نفس ظالمة ، و (ما فِي الْأَرْضِ) اسم «أنّ» و «لكلّ» هو الخبر.

قوله : (لَافْتَدَتْ بِهِ) : «افتدى» يجوز أن يكون متعديا ، وأن يكون قاصرا ، فإذا كان مطاوعا ل «فدى» كان قاصرا ، تقول : فديته فافتدى ، ويكون بمعنى : «فدى» فيتعدّى لواحد ، والفعل هنا يحتمل الوجهين : فإن جعلناه متعدّيا ، فمفعوله محذوف تقديره : لافتدت به نفسها ، وهو في المجاز ، كقوله : (كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١].

قوله (وَأَسَرُّوا) قيل : «أسرّ» من الأضداد ، يستعمل بمعنى : أظهر ؛ كقول الفرزدق: [الطويل]

٢٩٠٥ ـ ولمّا رأى الحجّاج جرّد سيفه

أسرّ الحروريّ الّذي كان أضمرا (١)

وقول الآخر : [الوافر]

٢٩٠٦ ـ فأسررت النّدامة يوم نادى

بردّ جمال غاضرة المنادي (٢)

ويستعمل بمعنى : «أخفى» وهو المشهور في اللّغة ، كقوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [البقرة : ٧٧]. وهو في الآية يحتمل الوجهين ، وقيل إنّه ماض على بابه قد وقع ، وقيل : بمعنى : المستقبل ؛ لأنّها لمّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي ، وقد أبعد بعضهم ، فقال : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي : بدت بالنّدامة أسرّة وجوههم ، أي : تكاسير جباههم. قوله : (لَمَّا رَأَوُا) يجوز أن تكون حرفا ، وجوابها محذوف لدلالة ما تقدّم عليه ، أو هو المتقدّم عند من يرى تقديم جواب الشّرط جائزا ، ويجوز أن تكون بمعنى : «حين» والنّاصب لها : «أسرّوا».

فصل

إذا فسرنا الإسرار بالإخفاء ففيه وجوه :

الأول : أنهم لمّا رأوا العذاب الشّديد ، صاروا مبهوتين ، لم يطيقوا بكاء ولا صراخا سوى إسرار النّدامة ، كمن يذهب به ليصلب ، فإنّه يبقى مبهوتا لا ينطق بكلمة.

الثاني : أنّهم أسرّوا النّدامة من سفلتهم ، وأتباعهم ، حياء منهم ، وخوفا من توبيخهم.

فإن قيل : إنّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التّدبير ، فكيف أقدموا عليه؟.

فالجواب : أنّ هذا الكتمان قبل الاحتراق ، فإذا احترقوا ، تركوا هذا الإخفاء

__________________

(١) البيت ليس في ديوان الفرزدق. ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٧ واللسان (سرر) والأضداد للأصمعي ، والأضداد للأنباري ٣٧ وزاد المسير ٤ / ٣٩ وشرح القصائد الجاهليات ٤٩ والدر المصون ٤ / ٤٣.

(٢) البيت لكثير عزة. ينظر : ديوانه (٢٢١) والبحر المحيط ٥ / ١٦٧ والقرطبي ٨ / ٢٢٥ والدر المصون ٤ / ٤٣.

٣٥٤

وأظهروه ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) [المؤمنون : ١٠٦].

الثالث : أنّهم أسرّوا النّدامة ؛ لأنّهم أخلصوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسرّه ، وفيه تهكّم بهم وبإخلاصهم ، أي : أنّهم إنّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته.

ومن فسّر الإسرار بالإظهار ، فإنّهم إنّما أخفوا النّدامة على الكفر والفسق في الدّنيا ؛ لأجل حفظ الرّياسة ، وفي القيامة يبطل هذا الغرض ؛ فوجب الإظهار.

قوله (وَقُضِيَ) : يجوز أن يكون مستأنفا ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون معطوفا على «رأوا» فيكون داخلا في حيّز «لمّا» والضّمير في «بينهم» يعود على «كل نفس» «في المعنى ، وقال الزمخشري : «بين الظّالمين والمظلومين ، دلّ على ذلك ذكر الظّلم».

وقيل : يعود على الرؤساء والأتباع ، و «بالقسط» يجوز أن تكون الباء للمصاحبة ، وأن تكون للآلة ، وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قدّم الجارّ للاختصاص ، أي : إليه لا إلى غيره ترجعون ؛ ولأجل الفواصل ، وقرأ العامّة : «ترجعون» بالخطاب ، وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر (١) : «يرجعون» بياء الغيبة.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٦٦].

قيل : تعلّق هذه الآية بما قبلها ، هو أنّه ـ تعالى ـ لمّا قال : (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) قال ههنا : ليس للظّالم شيء يفتدى به ؛ فإنّ الأشياء كلّها ملك الله.

وقيل : إنّه ـ تعالى ـ لمّا قال : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) ثم قال له : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) أتبعه بهذا البرهان القاطع على إثبات الإله القادر الحكيم ، وهو قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فدلّ على أنّ ما سواه فهو ملكه وملكه ، ولم يذكر الدّليل على ذلك ؛ لأنّه قد استقصى تقريره في أول السورة ، في قوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [يونس : ٦] الآية ، وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥] فاكتفى بذكره هناك ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان قادرا على كلّ الممكنات ، عالما بكلّ المعلومات ، غنيّا عن جميع الحاجات ، فيكون قادرا على صحّة الميعاد ، وعلى إنزال العذاب على الكفّار في الدّنيا والآخرة ، وعلى إيصال الرّحمة للأولياء في الدّنيا والآخرة ، ويكون قادرا على تأييد رسوله بالدّلائل القاطعة ، والمعجزات الباهرة ، وكان كل ما وعد به ، فهو حقّ لا بدّ وأن يقع ، وأنّه منزّه عن الخلف في وعده ، فلمّا أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفّار ، وبحصول الحشر والنشر ، وجب القطع بوقوعه ، فثبت بهذا البيان أن قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يوجب الجزم بصحّة قوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي: غافلون عن هذه الدّلائل ، ثمّ

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٦٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٤.

٣٥٥

أكد هذا الدليل بقوله : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي : إنه لمّا قدر على الإحياء في المرّة الأولى ، فإذا أماته ، وجب أن يبقى قادرا على إحيائه ثانيا ؛ فظهر أمره لنبيه بأن يقول : (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(٥٨)

قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) الآية.

اعلم : أنّه ـ تعالى ـ لمّا بيّن أنّ الرسول حقّ وصدق بظهور المعجزات على يديه ، في قوله: (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٧] وصف القرآن هنا بصفات أربع :

أولها : كونه موعظة.

وثانيها : كوه شفاء لما في الصّدور.

وثالثها : كونه هدى.

ورابعها : كونه رحمة للعالمين.

قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) يجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، فتتعلّق حينئذ ب «جاءتكم» ، وابتداء الغاية مجاز ، ويجوز أن تكون للتّبعيض ، فتتعلق بمحذوف على أنّها صفة ل «موعظة» أي : موعظة كائنة من مواعظ ربّكم.

وقوله : (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) من باب ما عطف فيه الصّفات بعضها على بعض ، أي : قد جاءتكم موعظة جامعة لهذه الأشياء كلّها ، و «شفاء» في الأصل مصدر جعل وصفا مبالغة ، أو هو اسم لما يشفى به ، أي : يداوى ، فهو كالدّواء لما يداوى ، و (لِما فِي الصُّدُورِ) يجوز أن يكون صفة ل «شفاء» فيتعلق بمحذوف ، وأن تكون اللام زائدة في المفعول ؛ لأنّ العامل فرع إذا قلنا بأنّه مصدر.

وقوله : «للمؤمنين» محتمل لهذين الوجهين ، وهو من التّنازع ؛ لأنّ كلّا من الهدى والرحمة يطلبه.

فصل

أمّا كون القرآن موعظة ؛ فلاشتماله على المواعظ والقصص ، وكونه شفاء ، أي : دواء ، لجهل ما في الصّدور ، أي : شفاء لعمى القلوب ، والصّدور موضع القلب ، وهو أعز موضع في الإنسان لجوار القلب ، قال ـ تعالى ـ : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وكونه هدى ، أي : من الضّلالة ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ،) والرّحمة : هي النعمة على المحتاج ؛ فإنّه لو أهدى ملك إلى ملك شيئا ، فإنّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة ؛ فإنّه لم يصنعها إلى المحتاج.

٣٥٦

قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) : في تعلّق هذا الجارّ أوجه :

أحدها : أنّ «بفضل» و «برحمته» متعلق بمحذوف ، تقديره : بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، فحذف الفعل الأول ؛ لدلالة الثاني عليه ، فهما جملتان.

ويدلّ على ذلك قول الزمخشري : «أصل الكلام : بفضل الله وبرحمته ، فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتّكرير للتّأكيد ، والتّقرير ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين ؛ لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشّرط ، كأنّه قيل : إن فرحوا بشيء ، فليخصّوهما بالفرح ، فإنّه لا مفروح به أحق منهما».

الثاني : أنّ الجارّ الأول متعلّق أيضا بمحذوف دلّ عليه السّياق والمعنى ، لا نفس الفعل الملفوظ به ، والتقدير : بفضل الله وبرحمته ، فليعتنوا ، فبذلك فليفرحوا ، قاله الزمخشري.

الثالث : أن يتعلّق الجارّ الأوّل ب «جاءتكم» قال الزمخشري : «ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا ، أي : فبمجيئهما فليفرحوا».

قال أبو حيّان (١) : «أمّا إضمار «فليعتنوا» فلا دليل عليه». قال شهاب الدّين (٢) : «الدّلالة عليه من السّياق واضحة ، وليس شرط الدّلالة أن تكون لفظيّة».

وقال أبو حيّان (٣) : وأمّا تعلّقه بقوله : (قَدْ جاءَتْكُمْ) فينبغي أن يقدّر محذوفا بعد «قل» ، ولا يكونه متعلّقا ب «جاءتكم» الأولى ؛ للفصل بينهما ب «قل» ، وهذا إيراد واضح ، ويجوز أن يكون (بِفَضْلِ اللهِ) صفة ل «موعظة» أي : موعظة مصاحبة ، أو ملتبسة بفضل الله.

الرابع : قال الحوفيّ : «الباء متعلّقة بما دلّ عليه المعنى ، أي : قد جاءتكم الموعظة بفضل الله».

الخامس : أنّ الفاء الأولى زائدة ، وأنّ قوله : «بذلك» بدل ممّا قبله ، وهو (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) وأشير بذلك إلى اثنين ؛ كقوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

وقوله : [الرمل]

٢٩٠٧ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٤)

وفي هاتين الفاءين أوجه :

أحدها : أنّ الأولى زائدة ، وقد تقدّم في الوجه الخامس.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٤٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٧٠.

(٤) تقدم.

٣٥٧

الثاني : أنّ الفاء الثانية مكررة للتّوكيد ، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة ، ويكون أصل التّركيب : فبذلك ليفرحوا ، وعلى القول الأول قبله يكون أصل التّركيب : بذلك فليفرحوا.

الثالث : قال أبو البقاء : الفاء الأولى مرتبطة بما قبلها ، والثانية بفعل محذوف ، تقديره : فليعجبوا بذلك فليفرحوا ؛ كقولهم : زيدا فاضربه ، أي : تعمّد زيدا فاضربه والجمهور على «فليفرحوا» بياء الغيبة.

وقرأ عثمان (١) بن عفان ، وأبيّ ، وأنس ، والحسن ، وأبو رجاء ، وابن هرمز ، وابن سيرين: بتاء الخطاب ، وهي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الزمخشري : «وهو الأصل والقياس».

قال أبو حيّان : «إنّها لغة قليلة».

يعنى أنّ القياس أن يؤمر المخاطب بصيغة «افعل» ، وبهذا الأصل قرأ أبيّ (٢) : «فافرحوا» وهي في مصحفه كذلك ، وهذه قاعدة كلّيّة : وهي أنّ الأمر باللّام يكثر في الغائب ، والمخاطب المبنيّ للمفعول ، مثال الأول : «ليقم زيد» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور ، ومثال الثاني : لتعن بحاجتي ، ولتضرب يا زيد ، فإن كان مبنيا للفاعل ، كان قليلا ؛ كقراءة عثمان ، ومن معه ، وفي الحديث : «لتأخذوا مصافّكم» بل الكثير في هذا النّوع الأمر بصيغة «افعل» نحو : قم يا زيد ، وقوموا ، وكذلك يضعف الأمر باللّام للمتكلم وحده ، أو معه غيره ، فالأول نحو : «لأقم» تأمر نفسك بالقيام ، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «قوموا فلاصلّ لكم» ومثال الثاني : لنقم ، أي : نحن ، وكذلك النّهي ؛ ومنه قول الشّاعر : [الكامل]

٢٩٠٨ ـ إذا ما خرجنا من «دمشق» فلا نعد

لها أبدا ما دام فيها الجراضم (٣)

ونقل ابن عطيّة ، عن ابن عامر : أنّه قرأ (٤) : «فلتفرحوا» خطابا ، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن (٥) ، وأبو التياح : «فليفرحوا» بكسر اللام ، وهو الأصل.

قوله : (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) «هو» عائد على الفضل والرّحمة ، وإن كانا شيئين ؛ لأنّهما بمعنى شيء واحد ، عبّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد ؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدة.

وقرأ ابن (٦) عامر : «تجمعون» بتاء الخطاب ، وهو يحتمل وجهين :

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات لأبي زرعة ص (٣٣٣) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٩ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٠ ، الدر المصون ٤ / ٤٥.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٢٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٧٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٥.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : السبعة ص (٣٢٧ ـ ٣٢٨) ، الحجة ٤ / ٢٨٠ ، حجة القراءات لأبي زرعة ص (٣٣٣) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٩ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١٦.

٣٥٨

أحدهما : أن يكون من باب الالتفات ، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة ، فإنّ الضّمير يراد به من يراد بالضّمير في قوله : «فليفرحوا».

والثاني : أنّه خطاب لقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ) وهذه القراءة تناسب قراءة الخطاب في قوله «فليفرحوا» كما نقلها ابن عطيّة عنه أيضا.

فصل

قال مجاهد وقتادة : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن (١). وقال أبو سعيد الخدريّ ـ رضي الله عنه ـ : فضل الله : القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله (٢).

وقال ابن عمر : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : تزيينه في القلب (٣) ، وقال خالد بن معدان : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : السّنن (٤).

وقيل : فضل الله : الإيمان ، ورحمته : الجنّة ، (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي : ليفرح المؤمنون أن جعلهم من أهله ، (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : خير ممّا يجمعه الكفّار من الأموال ؛ لأنّ الآخرة خير وأبقى ، وما كان عند الله ، فهو أولى بالطّلب.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٦٠)

قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) الآية.

قال ابن الخطيب : ذكر النّاس في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوها ، ولا أستحسن واحدا منها. والذي يخطر بالبال وجهان :

الأول : أنّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة ، وذلك أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال للقوم : «إنّكم تحكمون بحلّ بعض الأشياء ، وحرمة بعضها ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٦٩) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

وذكره أيضا عن مجاهد (٣ / ٥٥٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٦٨) عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي.

وله شاهد عن أنس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٤) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥٨) عن أبي سعيد الخدري.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٥٨).

(٤) انظر المصدر السابق.

٣٥٩

فهذا الحكم تقولونه افتراء على الله ، أم تعلمون أنّه حكم حكم الله به» (١) ؛ والأول باطل بالاتّفاق ، فلم يبق إلّا الثّاني ، ومن المعلوم أنّه ـ تعالى ـ ما خاطبكم به من غير واسطة ، ولمّا بطل هذا ، ثبت أنّ هذه الأحكام إنّما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ، ونبيّ بعثه الله إليكم ، وذلك يدلّ على اعترافكم بصحّة النبوة والرّسالة ، فكيف تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة؟.

الوجه الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا ذكر الدّلائل الكثيرة على صحّة نبوّة نفسه ، وبيّن فساد سؤالاتهم ، وشبهاتهم في إنكارها ، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم ، وبيّن أنّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلّ والحرمة ، مع أنّه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل ، فدل على أنّه طريق باطل ، وأنّهم ليسوا على شيء.

قوله : «أرأيتم» : هذه بمعنى : «أخبروني». وقوله : (ما أَنْزَلَ) يجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى : «الّذي» ، والعائد محذوف ، أي : ما أنزله ، وهي في محلّ نصب مفعولا أولا ، والثاني هو الجملة من قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ)؟ والعائد من هذه الجملة على المفعول الأول محذوف ، تقديره : آلله أذن لكم فيه ؛ واعترض على هذا : بأنّ قوله «قل» يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولا ثانيا.

وأجيب عنه : بأنّه كرّر توكيدا ، ويجوز أن تكون «ما» استفهاميّة منصوبة المحلّ ب «أنزل» وهي حينئذ معلّقة ل «أرأيتم» وإلى هذا ذهب الحوفيّ ، والزمخشريّ ، ويجوز أن تكون «ما» الاستفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة من قوله : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) خبره ، والعائد محذوف كما تقدّم ، أي : أذن لكم فيه ، وهذه الجملة الاستفهامية معلّقة ل «أرأيتم» ، والظاهر من هذه الأوجه هو الأول ؛ لأنّ فيه إبقاءا ل «أرأيت» على بابها من تعدّيها إلى اثنين ، وأنّها مؤثّرة في أولهما بخلاف جعل «ما» استفهامية ، فإنّها معلّقة ل «أرأيت» وسادّة مسدّ المفعولين.

قوله : (مِنْ رِزْقٍ) : يجوز أن يكون حالا من الموصول ، وأن تكون «من» : لبيان الجنس ، و «أنزل» على بابها ، وهو على حذف مضاف ، أي : أنزله من سبب رزق وهو المطر ، وقيل : تجوّز بالإنزال علن الخلق ، كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦].

قوله : (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) في «أم» هذه وجهان :

أحدهما : أنها متصلة عاطفة ، تقديره : أخبروني : آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه.

والثاني : أن تكون منقطعة.

__________________

(١) ذكره بهذا اللفظ الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٩٦).

٣٦٠