اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

الثانية في الظّاء ، وهو رديء جدا ، وأحسن ما يقال هنا : إنّه بالغ في إخفاء غنّة النّون السّاكنة ، فظنّه السّامع إدغاما ، ورؤيته له بنون واحدة ، لا يدلّ على قراءته إيّاه مشددة الظّاء ، ولا مخفّفها.

قال أبو حيان (١) : «ولا يدلّ على حذف النّون من اللفظ» ، وفيه نظر ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوبا في المصحف الذي رآه؟ وقوله : «كيف» منصوب ب «تعملون» على المصدر ، أي : أيّ عمل تعملون ، وهي معلّقة للنّظر.

فإن قيل : كيف جاز النّظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟.

فالجواب : أنّه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقيّ ، الذي لا يتطرّق إليه الشّكّ ، وشبه هذا العلم بنظر النظر ، وعيان العاين.

فإن قيل : قوله : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) مشعر بأنّ الله ـ تعالى ـ ما كان عالما بأحوالهم قبل وجودهم.

فالجواب : أنّه ـ تعالى ـ يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ؛ ليجازيهمبجنسه ، كقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] ، قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «إنّ الدّنيا خضرة حلوة وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون» (٢) ، قال الزجاج : «موضع «كيف» نصب بقوله : «تعملون» ؛ لأنّها حرف استفهام ، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله».

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) الآية.

روي عن ابن عبّاس : أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وبالقرآن : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن حنظلة ، فقتل الله ـ تعالى ـ كل واحد منهم بطريق ، كما قال : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥](٣).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٣٥.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٩٨) كتاب الذكر والدعاء : باب أكثر أهل الجنة الفقراء حديث (٩٩ / ٢٧٤٢) وأحمد (٣ / ٤٦) والترمذي (٤ / ٤١٩) حديث (٢١٩١) وابن ماجه (٤٠٠٠) من طرق عن أبي نضرة عن أبي سعدي الخدري.

وأخرجه البخاري (٣ / ٣٩٣) كتاب الزكاة : باب الاستعفاف عن المسألة حديث (١٤٧٢) من حديث حكيم بن حزام.

وأخرجه أبو يعلى (١١ / ٤٨٧) رقم (٦٦٠٦) من حديث أبي هريرة وقال الهيثمي (٣ / ١٠٢) وفيه داود بن العطار وفيه كلام.

وأخرجه أبو يعلى (١٣ / ١٩) رقم (٧٠٩٩) والطبراني في «الكير» (٢٤ / ٢٤) رقم (٥٨) من حديث ميمونة.

وقال الهيثمي (١٠ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠) : وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٤٥) عن ابن عباس.

٢٨١

وقال مقاتل : هم خمسة : عبد الله بن أميّة المخزومي ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري ، والعاص بن عامر بن هشام ، قالوا للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك ، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللّات ، والعزّى ، ومناة ، وليس فيه عيبها ، وإن لم ينزله الله ، فقل أنت من عند نفسك ، أو بدله ، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، ومكان حرام حلالا ، وحلال حراما (١).

فإن قيل : إذا بدّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان كلّ واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر ، وممّا يدلّ على أنّ كلّ واحد منهما عين الآخر : أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ اقتصر على الجواب بنفي أحدهما ، فقال : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ، فيكون التّرديد فيه والتخيير باطلا.

فالجواب : أنّ أحد الأمرين غير الآخر ، فالإتيان بكتاب آخر ، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه ، يكون إتيانا بقرآن آخر ، وأمّا إذا أتى بهذا القرآن ، إلّا أنّه وضع مكان ذمّ بعض الأشياء مدحها ، ومكان آية رحمة آية عذاب ، كان هذا تبديلا ، أو تقول : الإتيان بقرآن غير هذا ، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب ، والتبديل : هو أن يغيّر هذا الكتاب ، مع بقاء هذا الكتاب.

وقوله : إنّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين :

قلنا : إنّ الجواب المذكور عن أحد القسمين ، هو عين الجواب عن القسم الثاني ، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ؛ لأنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بيّن ، أنّه لا يجوز أن يبدّله من تلقاء نفسه ؛ لأنّه وارد من الله ـ تعالى ـ ، ولا يقدر على مثله ، كما لا يقدر على مثله سائر العرب ؛ لأنّ ذلك كان متقررا عندهم ، لمّا تحدّاهم بالإتيان بمثله.

واعلم : أنّ التماسهم لهذا يحتمل أن يكون سخرية واستهزاء ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الجدّ ، ويكون غرضهم : أنه إن فعل ذلك ، علموا كذبه في قوله : إنّ هذا القرآن منزّل عليه من عند الله ، ويحتمل أن يكون التماسهم كتابا آخر ؛ لأن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم ، والطّعن في طرائقهم ، فطلبوا كتابا آخر ليس فيه ذلك ، أو يكونوا قد جوّزوا كون القرآن من عند الله ، لكنّهم التمسوا منه نسخ هذا القرآن ، وتبديله بقرآن آخر.

قوله : «تلقاء» مصدر على تفعال ، ولم يجىء مصدر بكسر التّاء ، إلّا هذا والتّبيان ، وقرىء شاذّا بفتح التّاء ، وهو قياس المصادر الدّالة على التّكرار ، كالتّطواف ، والتّجوال ، وقد يستعمل التّلقاء بمعنى قبالتك ، فينتصب انتصاب الظّروف المكانيّة.

قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) لمّا أمره أن يقول : «ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٧).

٢٨٢

نفسي» ، أمره بأن يقول : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) فيما آمركم به ، وأنهاكم عنه ، وهذا يدلّ على أنّه لم يحكم قط بالاجتهاد.

وتمسّك نفاة القياس بهذه الآية ؛ لأنّها تدلّ على أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ما حكم إلّا بالنّصّ. ثم قال : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) قالت المعتزلة : هذا مشروط بعدم التوبة.

قوله تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) الآية.

لمّا اتّهموه بأنّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه ، احتجّ عليهم بهذه الآية ؛ وذلك بأنّهم كانوا عالمين بأحواله ، وأنّه ما طالع كتابا ، ولا تتلمذ لأستاذ ، ثم بعد أربعين سنة ، أتى بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ، ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأوّلين ، وعجز عن معارضته العلماء ، والفصحاء ، والبلغاء ، فكل من له عقل سليم يعرف أنّ مثل هذا ، لا يحصل إلّا بالوحي ، والإلهام من الله ـ تعالى ـ ، والمعنى : لو شاء الله ما أنزل القرآن عليّ.

قوله : (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي : ولا أعلمكم الله به ، من دريت ، أي : علمت.

ويقال : دريت بكذا وأدريتك بكذا ، أي : أحطت به بطريق الدّراية ، وكذلك في «علمت به» ؛ فتضمّن العلم معنى الإحاطة ، فتعدّى تعديتها.

وقرأ (١) ابن كثير ـ بخلاف عن البزّيّ ـ «ولأدراكم» ، بلام داخلة على «أدراكم» مثبتا ، والمعنى : ولأعلمكم به من غير وساطتي : إمّا بواسطة ملك ، أو رسول غيري من البشر ، ولكنّه خصّني بهذه الفضيلة ، وقراءة الجمهور «لا» فيها مؤكّدة ؛ لأنّ المعطوف على المنفيّ منفيّ ، وليست «لا» هذه هي التي ينفى بها الفعل ؛ لأنّه لا يصحّ نفي الفعل بها إذا وقع جوابا ، والمعطوف على الجواب جواب ، ولو قلت : «لو كان كذا لا كان كذا» لم يجز ، بل تقول «ما كان كذا» ، وقرأ ابن عبّاس (٢) ، والحسن ، وابن سيرين ، وأبو رجاء : «ولا أدرأكم» بهمزة ساكنة بعد الرّاء ، وفي هذه القراءة تخريجان :

أحدهما : أنها مبدلة من ألف ، والألف منقلبة عن ياء ، لانفتاح ما قبلها وهي لغة لعقيل حكاها قطرب ، يقولون في أعطيتك : أعطأتك.

وقال أبو حاتم : «قلب الحسن الياء ألفا ، كما في لغة بني الحرث ، يقولون : علاك وإلاك، ثمّ همز على لغة من قال في العالم : العألم».

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٤) ، الحجة ٤ / ٢٥٩ ، حجة القراءات ص (٣٢٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٣ ، إتحاف ٢ / ١٠٥.

(٢) ينظر : إتحاف ٢ / ١٠٦ ، الكشاف ٢ / ٣٣٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٧ ، الدر المصون ٤ / ١٤.

٢٨٣

وقيل : أبدلت الهمزة من نفس الياء ، نحو : لبأت بالحجّ ، ورثأت فلانا ، أي : لبّبت ورثيت.

والثاني : أنّ الهمزة أصليّة ، وأنّ اشتقاقه من الدّرء وهو الدّفع ، كقوله : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) [النور : ٨] ، ويقال : أدرأته ، أي : جعلته دارئا ، والمعنى : ولأجعلنّكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال ، قال أبو البقاء : «وقيل هو غلط ؛ لأنّ قارئها ظنّ أنّها من الدّرء وهو الدّفع ؛ وقيل : ليس بغلط ، والمعنى : لو شاء الله لدفعكم عن الإيمان به».

وقرأ شهر (١) بن حوشب ، والأعمش : «ولا أنذرتكم» من الإنذار ، وكذلك هي في مصحف عبد الله. قوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) أي : حينا ، وهو أربعون سنة ، (مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل نزول القرآن ، فقيل : الضّمير في «قبله» يعود على النّزول ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على وقت النّزول ، و «عمرا» مشبّه بظرف الزّمان ، فانتصب انتصابه ، أي : مدة متطاولة ، وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : مقدار عمر ، وقرأ الأعمش : «عمرا» (٢) بسكون الميم ، كقولهم «عضد» في «عضد».

ثم قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أنّه ليس من قبلي ، قال المفسّرون : لبث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف وكرّم ومجدّ وعظّم فيهم قبل الوحي أربعين سنة ، ثم أوحي إليه ، فأقام بمكّة بعد الوحي ثلاثة عشرة سنة ، ثم هاجر إلى المدينة ، فأقام بها عشر سنين ، ثم توفي ، وهو ابن ثلاث وستّين سنة. وروى أنس ـ رضي الله عنه ـ : أنه أقام بمكّة بعد الوحي عشر سنين ، وبالمدينة عشر سنين ، وتوفّي وهو ابن ستين سنة (٣) ، والأول أشهر وأظهر.

قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) الآية.

قال القرطبي (٤) : «هذا استفهام بمعنى الجحد ، أي : لا أحد أظلم ممّن افترى على الله الكذب ، وبدّل وأضاف شيئا إليه ممّا لم ينزل» ، والمعنى : أنّ هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ، لما كان أحد في الدّنيا أظلم على نفسه منّي ، حيث افتريته على الله ، ولمّا أقمت الدّليل على أنّه ليس الأمر كذلك ، بل هو وحي من الله ـ تعالى ـ ، وجب أن يقال : إنّه ليس في الدّنيا أحد أجهل ، ولا أظلم على نفسه منكم.

والمقصود : نفي الكذب عن نفسه.

وقوله : (.. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) فالمراد : إلحاق الوعيد الشديد بهم ؛ حيث أنكروا

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٥ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٧ ، الدر المصون ٤ / ١٤.

(٣) أخرجه البخاري (٣٥٤٧ ، ٣٥٤٨ ، ٥٩٠٠) ومسلم رقم (١١٣ / ٢٣٤٧) والترمذي (٣٦٢٣) وفي الشمائل (٣٨٤) وعبد الرزاق (٦٧٨٦) ومالك (٢ / ٩١٩) وأحمد (٣ / ٢٤٠) وأبو يعلى (٣٥٧٢ ، ٢٥٩٠ ، ٣٦٣٧ ، ٣٦٣٨ ، ٣٦٤٠) والطبراني في «الصغير» (١ / ١١٨) وابن حبان (٨ / ١٠١) رقم (٦٣٥٣) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٧ / ٢٣٦) من طرق عن أنس بن مالك.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٢٠٥.

٢٨٤

دلائل الله ـ تعالى ـ ، وكذّبوا بآيات الله ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالقرآن ، ثم قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) أي : لا ينجو المشركون ، وهذا تأكيد لما سبق من هذين الكلامين.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٩)

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ) الآية.

لمّا طلبوا تبديل القرآن ؛ لأنّه مشتمل على ذمّ الأصنام التي اتّخذوها آلهة ، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام ، ليبيّن تحقيرها.

قوله : (ما لا يَضُرُّهُمْ) : «ما» موصولة ، أو نكرة موصوفة ، وهي واقعة على الأصنام ، ولذلك راعى لفظها ، فأفرد في قوله (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) ، وراعى معناها فجمع في قوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا).

فصل

المعنى : ما لا يضرّهم إن عصوه ، وتركوا عبادته ، ولا ينفعهم إن عبدوه ، يعني : الأصنام (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ، فقيل : إنّهم اعتقدوا أنّ المتولّي لكل إقليم ، روح معيّن من أرواح الأفلاك ، فعيّنوا لذلك الرّوح صنما معيّنا ، واشتغلوا بعبادة ذلك الصّنم ، ومقصودهم عبادة ذلك الرّوح ، ثم اعتقدوا أن ذلك الرّوح ، يكون عبدا للإله الأعظم ، ومشتغلا بعبوديّته.

وقيل : إنّهم كانوا يعبدون الكواكب ، فوضعوا لها أصناما معيّنة واشتغلوا بعبادتها ، ومقصودهم عبادة الكواكب ، وقيل : إنّهم وضعوا طلّسمات معينة على تلك الأوثان والأصنام ، ثم تقرّبوا إليها.

وقيل : إنّهم وضعوا هذه الأوثان والأصنام ، على صور أنبيائهم ، وأكابرهم ، وزعموا أنّهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل ، فإنّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله.

قوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ) قرأ بعضهم (١) : «أتنبئون» مخففا من «أنبأ» ، يقال : أنبأ ونبّأ كأخبر وخبّر ، وقوله : (بِما لا يَعْلَمُ) «ما» موصولة ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدّمت ، وعلى كلا التقديرين ، فالعائد محذوف ، أي : يعلمه ، والفاعل هو ضمير الباري ـ تعالى ـ ، والمعنى : أتنبّئون الله بالمعنى الذي لا يعلمه إلّا الله ، وإذا لم يعلم الله شيئا ، استحال وجود ذلك الشيء ؛

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٧ ، الكشاف ٢ / ٣٣٦ ، البحر المحيط ٥ / ١٣٨ ، الدر المصون ٤ / ١٥.

٢٨٥

لأنّه ـ تعالى ـ لا يغرب عن علمه شيء ، وذلك الشيء هو الشّفاعة ، ف «ما» عبارة عن الشفاعة.

والمعنى : أنّ الشّفاعة لو كانت لعلمها الباري ـ تعالى ـ ، ومثل هذا الكلام مشهور في العرف ، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه ، يقول : ما علم الله هذا منّي ، ومقصوده : أنّ ذلك ما حصل أصلا.

وقوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه ؛ لأنّ كلّ موجود لا يخرج عنهما. ويجوز أن تكون «ما» عبارة عن الأصنام ، وفاعل «يعلم» : ضمير عائد عليها.

والمعنى : أتعلمون الله بالأصنام ، التي لا تعلم شيئا في السموات ولا في الأرض ، وإذا ثبت أنها لا تعلم ، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدّ وأن يعرف المشفوع عنده ، والمشفوع له ؛ هكذا أعربه أبو حيّان ، فجعل «ما» عبارة عن الأصنام ، لا عن الشّفاعة ، والأول أظهر ، و «ما» في (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يحتمل أن تكون بمعنى : «الّذي» أي : عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة ، أو مصدرية ، أي : عن إشراكهم به غيرهم ، وقرأ الأخوان (١) هنا «عما يشركون» ، وفي النّحل موضعين :

الأول : (عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) [النحل : ١ ، ٢].

الثاني : (بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النحل : ٣].

وفي الروم : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الروم : ٤٠] بتاء الخطاب ، والباقون بالغيبة في الجميع ، وهما واضحتان ، وأتى هنا ب «يشركون» مضارعا دون الماضي ، تنبيها على استمرار حالهم كما جاءوا يعبدون ، وتنبيها أيضا على أنّهم على الشرك في المستقبل ، كما كانوا عليه في الماضي.

قوله تعالى : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) الآية.

لمّا أقام الدّلالة على فساد القول بعبادة الأصنام ؛ بيّن السّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة ، فقال : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي : على الدّين الحقّ ؛ لأن المقصود من هذه الآية ، بيان كون الكفر باطلا ؛ لأنّ قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] في الإسلام أو في الكفر ، ولا يجوز أن يكونوا أمّة واحدة في الكفر ، فبقي أنّهم كانوا أمّة واحدة في الإسلام ، لقوله ـ تعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] ، وشهيد الله لا بدّ وأن يكون مؤمنا ، فثبت أنّه لم تخل أمّة من الأمم ، إلا وفيهم مؤمن.

وقد وردت الأحاديث ، بأنّ الأرض لا تخلو عمّن يعبد الله ـ عزوجل ـ ، وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض ، فثبت أنّهم ما كانوا أمّة واحدة في الكفر ، فيكونوا أمّة

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٤) ، الحجة ٤ / ٢٦٣ ، حجة القراءات ص (٣٢٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٥ ، إتحاف ٢ / ١٠٧.

٢٨٦

واحدة في الإيمان ، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس ، ومجاهد ـ رضي الله عنهما ـ : كانوا على عهد آدم وولده صلوات الله البرّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائما ، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر.

وقيل إنّهم بقوا على الإيمان إلى زمن نوح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ثم اختلفوا على عهد نوح ، فبعث الله إليهم نوحا (١).

وقيل : كانوا على الإيمان من زمن نوح بعد الغرق ، إلى أن ظهر الكفر فيهم.

وقيل : كانوا على الإسلام من عهد إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى أن غيّره عمرو بن لحيّ.

وهذا القائل قال : إنّ المراد بالنّاس : العرب خاصّة ، والغرض منه : أنّ العرب إذا علموا أنّ عبادة الأصنام ما كانت أصلا فيهم ، وإنّما هي حادثة ، لم يتأذوا من تزييف الطريقة ، ولم تنفر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد.

وقال قوم : كانوا أمّة واحدة في الكفر ، قالوا : وفائدة هذا الكلام : أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ جل ذكره ـ بيّن للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، أنّه لا تطمع في أن يصير كلّ من تدعوه إلى الدّين مجيبا له ، فإنّ النّاس كانوا على الكفر ، وإنّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك ، فكيف تطمع في اتّفاق الكلّ على الإيمان؟.

وقيل : المراد بكونهم أمّة واحدة : أنّهم خلقوا على فطرة الإسلام ، ثم اختلفوا في الأديان ، وإليه الإشارة بقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «كلّ مولود يولد على فطرة الإسلام ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» (٢).

ثم قال : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بأن جعل لكلّ أمّة أجلا ، وقال الكلبيّ : هي إمهال هذه الأمّة ، وأنّه لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا (٣) ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بنزول العذاب ، وتعجيل العقوبة للمكذّبين ، وكان ذلك فصلا بينهم ، (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وقال الحسن ـ رحمه‌الله ـ (لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) مضت في حكمه ، أنّه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثّواب والعقاب دون القيامة (٤) ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا ، فأدخل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٢) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه مالك (١ / ٢٤١) رقم (٥٢) والبخاري (١١ / ٤٩٣) كتاب القدر : باب الله أعلم بما كانوا عاملين رقم (٦٥٩٩) ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب القدر : باب معنى كل مولود يولد على الفطرة رقم (٢٥ / ٢٦٥٨) وأحمد (٢ / ٢٣٣) وأبو داود كتاب السنة : باب في ذراري المشركين حديث (٤٧١٤) والترمذي كتاب القدر : باب كل مولود يولد على الفطرة حديث (٢٢٢٣) من حديث أبي هريرة.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٨) والقرطبي في «تفسيره» (٨ / ٢٠٦).

(٤) انظر المصدر السابق.

٢٨٧

المؤمن الجنّة ، والكافر النّار ، ولكن سبق من الله الأجل ، فجعل موعدهم يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١)

قوله : (وَيَقُولُونَ) أي : كفّار مكّة ، (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي : على محمّد (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) على ما نقترحه ، وذلك أنّهم قالوا : القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات ، والكتاب لا يكون معجزا ، كما أنّ كتاب موسى ، وعيسى ما كان معجزا لهما ، بل كان لهما أنواع من المعجزات ، دلّت على نبوّتهما سوى الكتاب ، وكان في أهل مكّة من يدّعي إمكان المعارضة ، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم في قوله : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١].

فلذلك طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن ؛ ليكون معجزا ، فأمر الله ـ تبارك وتعالى رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأن يجيبهم بقوله : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ٢٠].

وتقرير هذا الجواب : أنه أقام الدلالة القاهرة على أنّ القرآن معجزة قاهرة ؛ لأنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نشأ بينهم ، وعلموا أنّه لم يطالع كتابا ، ولا تتلمذ لأستاذ ، مدّة أربعين سنة مخالطا لهم ، ولم يشتغل بالفكر والتّعلم قط ، ثم إنّه أظهر هذا القرآن العظيم ، وظهور مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان ، لا يكون إلّا بالوحي ، وإذا كان كذلك ، فطلب آية أخرى سوى القرآن ، يكون اقتراحا لا حاجة إليه وعنادا ، ومثل هذا يكون مفوّضا إلى مشيئة الله ـ تعالى ـ ، فإن شاء أظهر ، وإن شاء لم يظهر ، فيكون من باب الغيب ، فيجب على كلّ أحد أن ينتظر ، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل الغيب ، فيجب على كلّ أحد أن ينتظر ، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نبوّته ، وظهر صدقه ، وهذا المقصود لا يختلف بحصول تلك الزّيادة وعدمها.

قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) الآية.

وهذا جواب آخر لسؤالهم ، وطلبهم المعجزة ، وذلك من وجهين :

الأول : أنّ عادتهم العناد ، والمكر ، وعدم الإنصاف ، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه ، فإنهم لا يؤمنون ، بل يبقون على كفرهم ، وعنادهم ؛ وبيانه أنّ الله ـ تعالى ـ سلّط القحط على أهل مكّة سبع سنين ، ثمّ رحمهم ، وأنزل المطر على أراضيهم ، ثم إنّهم أضافوا المنافع إلى الأنواء والكواكب.

الوجه الثاني : أنّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلوه ؛ لأنّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التّشدد في الدّين ، وإنما غرضهم الدّفع ، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويّة ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لمّا سلّط البلاء عليهم ، ثم أزاله عنهم ، فهم مع ذلك استمرّوا على الكفر.

٢٨٨

قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا) شرطيّة ؛ جوابها «إذا» الفجائيّة في قوله : (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ) ، والعامل في «إذا» الفجائيّة ؛ الاستقرار الذي في «لهم» ، وقد تقدّم الخلاف في «إذا» هذه ، هل هي حرف أو ظرف زمان على بابها ، أو ظرف مكان؟ قال أبو البقاء (١) : «وقيل : «إذا» الثانية زمانيّة أيضا ، والثانية وما بعدها جواب الأولى» ، وهذا الذي حكاه قول ساقط لا يفهم معناه.

فصل

معنى الآية : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) يعني : الكفار (رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.

وقيل : القطر بعد القحط ، «مسّتهم» أي : أصابتهم.

واعلم : أنّ رحمة الله لا تذاق بالفم ، وإنّما تذاق بالعقل.

وقوله (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) قال مجاهد : تكذيب واستهزاء (٢) ، وسمّي التكذيب مكرا ؛ لأنّ المكر عبارة عن صرف الشّيء عن ظاهره بطريق الحيلة ، وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشّبهة ، أو التّخليط في المناظرة ، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.

وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله ، إنّما يقولون سقينا بنوء كذا ، وهو كقوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(٣) [الواقعة : ٨٢].

وقوله : (فِي آياتِنا) متعلق ب «مكر» ، جعل الآيات محلّا للمكر مبالغة ، ويضعف أن يكون الجارّ صفة ل «مكر».

قوله : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) «أسرع» مأخوذ من «سرع» ثلاثيا ؛ حكاه الفارسي.

وقيل : بل من «أسرع» وفي بناء أفعل وفعلى التعجّب من «أفعل» ثلاثة مذاهب :

الجواز مطلقا.

المنع مطلقا.

التّفصيل : بين أن تكون الهمزة للتّعدية فيمتنع ، أو لا فيجوز. وقال بعضهم : «أسرع» هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيء ، إذ السّياق يردّه ، وجعله ابن عطيّة ـ أعني كون أسرع للتّفضيل ـ نظير قوله : «لهي أسود من».

قال أبو حيّان (٤) : «وأما تنظيره «أسود من القار» ب «أسرع» ففاسد ؛ لأنّ «أسود» ليس

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٢٦.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٩).

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤٠.

٢٨٩

فعله على وزن «أفعل» ، وإنما هو على وزن «فعل» نحو : سود فهو أسود ، ولم يمتنع التّعجّب ، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سود ، وحمر ، وأدم ، إلّا لكونه لونا ، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقا ، وبعضهم في السّواد والبياض فقط».

قال شهاب الدّين : تنظيره به ليس بفاسد ؛ لأنّ مراده بناء أفعل ممّا زاد على ثلاثة أحرف ، وإن لم يكن على وزن «أفعل» ، و «سود» وإن كان على ثلاثة ، لكنه في معنى الزّائد على ثلاثة ، إذ هو في معنى «أسود» ، و «حمر» في معنى أحمر ؛ نصّ على ذلك النحويّون ، وجعلوه هو العلّة المانعة من التعجّب في الألوان.

و «مكرا» نصب على التّمييز ، وهو واجب النّصب ؛ لأنّك لو صغت من «أفعل» فعلا ، وأسندته إلى تمييزه فاعلا ، لصحّ أن يقال : «سرع مكره» ، وأيضا فإنّ شرط جواز الخفض ، صدق التمييز على موصوف أفعل التّفضيل ، نحو : «زيد أحسن فقيه» ، ومعنى (أَسْرَعُ مَكْراً) : أعجل عقوبة ، وأشدّ أخذا ، وأقدر على الجزاء ، أي : عذابه أسرع إليكم ممّا يأتي منكم في دفع الحقّ.

قوله : (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) قرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد (١) ، والأعرج ، ويعقوب ، ونافع ـ رضي الله عنهم ـ في رواية : «يمكرون» بياء الغيبة جريا على ما سبق ، والباقون بالخطاب : مبالغة في الإعلام بمكرهم ، والتفاتا لقوله : (قُلِ اللهُ) ؛ إذ التقدير : قل لهم ، فناسب الخطاب ، وقوله : (إِنَّ رُسُلَنا) التفات أيضا ، إذ لو جرى على قوله : (قُلِ اللهُ) ، لقيل : إنّ رسله ، والمراد بالرّسل : الحفظة.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية.

لمّا ذكر في الآية الأولى ، مجيء الرّحمة بعد الضرّ ، أو الرّخاء بعد الشدّة ، ذكر في هذه الآية مثالا لذلك ، وبيانا لنقل الإنسان من الضرّ إلى الرحمة ، وذلك أنّ الإنسان إذا ركب السّفينة ، ووجد الرّيح الطيبة الموافقة لمقصوده ، حصل له المسرّة القويّة ، والنّفع التّام ، ثم قد تظهر علامات الهلاك ؛ بأن تجيئهم الرّياح العاصفة ، أو تأتيهم الأمواج

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٧ ، الكشاف ٢ / ٣٣٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٢ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٠ ، الدر المصون ٤ / ١٦.

٢٩٠

العظيمة من كل جانب ، أو يغلب على ظنونهم أنّ الهلاك واقع بالانتقال من تلك الأحوال الطيّبة ، إلى هذه الأحوال الشديدة ، فوجب الخوف العظيم ، والإنسان في هذه الحالة ، لا يطمع إلا في فضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، ويقطع طعمه عن جميع الخلق ، ويصير بجميع أجزائه متضرّعا إلى الله ـ تعالى ـ ، ثمّ إذا نجّاه الله ـ تعالى ـ من هذه البليّة العظيمة ، نسي النّعمة ، ورجع إلى ما ألفه من العقائد الباطلة.

قوله : «ينشركم» قراءة ابن (١) عامر من النّشر ضدّ الطيّ ، والمعنى : يفرّقكم ويبثّكم ، وقرأ الحسن (٢) : «ينشركم» ، من «أنشر» أي : أحيا ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا ، وقرأ (٣) بعض الشّاميين : «ينشّركم» بالتشديد ؛ للتّكثير من النّشر الذي هو مطاوع الانتشار ، وقرأ الباقون : «يسيّركم» من التّسيير ، والتّضعيف فيه للتعدية ، تقول : سار الرّجل ، وسيّرته أنا.

وقال الفارسيّ : «هو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ؛ لأنّ العرب تقول : سرت الرّجل وسيّرته».

ومنه قول الهذليّ : [الطويل]

٢٨٨٢ ـ فلا تجزعن من سنّة أنت سرتها

فأوّل راض سنّة من يسيرها (٤)

وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر ؛ لأنّ الأكثر في لسان العرب ، أنّ «سار» قاصر ، فجعل المضعف مأخوذا من الكثير أولى.

وقال ابن عطيّة : «وعلى هذا البيت اعتراض ، حتّى لا يكون شاهدا في هذا ؛ وهو أن يكون الضّمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق».

قال أبو حيّان (٥) : «وأمّا جعل ابن عطيّة الضّمير كالظّرف كما تقول : سرت الطّريق. فهذا لا يجوز عند الجمهور ؛ لأنّ «الطّريق» عندهم ظرف مختصّ كالدّار ، فلا يصل إليها الفعل غير «دخلت» عند سيبويه ، و «انطلقت» و «ذهبت» عند الفرّاء ـ إلّا بوساطة «في» ، إلّا في ضرورة ، وإن كان كذلك فضميره أحرى أن لا يتعدّى إليه الفعل».

وزعم ابن الطّراوة أنّ «الطّريق» ظرف غير مختصّ ، فيصل إليه الفعل بنفسه ، وأباه النّحاة».

قوله : (حَتَّى إِذا) «حتّى» متعلقة ب «يسيّركم» ، وقد تقدّم الكلام على «حتّى» هذه

__________________

(١) وقرأ بها أيضا زيد بن ثابت وأبي العالية وأبي جعفر وعبد الله بن جبير بن الفصيح وشيبة. ينظر : السبعة ص (٣٣٥) ، الحجة ٤ / ٢٦٥ ، حجة القراءات ص (٣٢٩) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٥ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٧ ، الكشاف ٢ / ٣٣٨.

(٢) ينظر : إتحاف ٢ / ١٠٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٤١ ، الدر المصون ٤ / ١٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤١ ، الدر المصون ٤ / ١٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤١.

٢٩١

الداخلة على «إذا» [النساء : ٦] ، قال الزمخشري : «كيف جعل الكون في الفلك غاية التّسيير في البحر ، والتّسيير في البحر ، إنّما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التّسيير ، ولكنّ مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتّى» بما في حيّزها ، كأنّه قال : يسيّركم حتّى إذا وقعت هذه الحادثة ، فكان كيت وكيت من مجيء الرّيح العاصف ، وتراكم الأمواج ، والظّن للهلاك ، والدّعاء بالإنجاء» ، وقرأ أبو الدّرداء وأمّ الدرداء (١) : «في الفلكيّ» بياء النّسب ، وتخريجها يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يراد به الماء الغمر الكثير ، الذي لا يجري الفلك إلّا فيه ، كأنّه قيل : كنتم في اللّجّ الفلكيّ ، ويكون الضمير في «جرين» عائدا على الفلك ؛ لدلالة «الفلكي» عليه لفظا ، ولزوما.

والثاني : أن يكون من باب النّسبة ، كقولهم : «أحمريّ» ، كقوله : [الرجز]

٢٨٨٣ ـ أطربا وأنت قنّسريّ

والدّهر بالإنسان دوّاريّ (٢)

وكنسبتهم إلى العلم ، في قولهم : «الصّلتانيّ» ، كقوله : [الطويل]

٢٨٨٤ ـ أنا الصّلتانيّ الذي قد علمتم

 ......... (٣)

فزاد ياء النّسب في اسمه.

قوله : (وَجَرَيْنَ) يجوز أن يكون نسقا على «كنتم» ، وأن يكون حالا على إضمار «قد» ، والضمير عائد على «الفلك» ، والمراد به هنا : الجمع ، وقد تقدّم أنه تكسير ، وأنّ تغييره تقديريّ [البقرة : ١٦٤] ، فضمّته كضمّة «بدن» ، وأنّه ليس باسم جمع كما زعم الأخفش.

وقوله : «بهم» فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة.

قال الزمخشري (٤) : «فإن قلت ما فائدة صرف الكلام ، عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ؛ كأنه يذكر لغيرهم حاله ليعجّبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتّقبيح» ، وقال ابن عطيّة : «بهم : خروج من الخطاب إلى الغيبة ، وحسن ذلك ؛ لأنّ قوله : (كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) هو بالمعنى المعقول ، حتى إذا حصل بعضكم في السّفن». انتهى ، فقدّر اسما غائبا ، وهو ذلك المضاف المحذوف ، فالضمير الغائب يعود عليه ، ومثله (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ١١٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٢ ، الدر المصون ٤ / ١٧.

(٢) تقدم.

(٣) صدر بيت وعجزه :

متى ما يحكم فهو بالحق صادع

ينظر : أما لي القالي ١ / ج ١٤١ ومعاهد التنصيص ١ / ٨٤ والشعر والشعراء ١ / ١٧٦ والمحتسب ١ / ٣١١ والخزانة ٢ / ١٧٦ والأشموني ٤ / ٢٠٣ والبحر المحيط ٥ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ١٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٨.

٢٩٢

بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ) [النور : ٤٠] ، تقديره : أو كذي ظلمات ، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيء.

وقال أبو حيّان : «والذي يظهر أنّ حكمة الالتفات هنا : هي أنّ قوله (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) خطاب فيه امتنان ، وإظهار نعمة للمخاطبين ، والمسيّرون في البرّ والبحر مؤمنون وكفّار ، والخطاب شامل ، فحسن خطابهم بذلك ، ليستديم الصّالح على الشّكر ، ولعلّ الطّالح يتذكّر هذه النّعمة.

ولمّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنّهم إذا نجوا بغوا في الأرض ، عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة ؛ لئلّا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صدوره منهم ، وهو البغي بغير الحقّ».

قوله : «بريح» متعلّق ب «جرين» ، فيقال : كيف يتعدّى فعل واحد ، إلى معمولين بحرف جرّ متحد لفظا ومعنى؟ فالجواب : أنّ الياء الأولى للتّعدية ، كهي في «مررت بزيد» ، والثانية للحال ، فتتعلق بمحذوف ، والتقدير : جرين بهم ملتبسة بريح ، فتكون الحال من ضمير الفلك.

قوله : (وَفَرِحُوا بِها) يجوز أن تكون هذه الجملة نسقا على «جرين» ، وأن تكون حالا ، و «قد» معها مضمرة عند بعضهم ، أي : وقد فرحوا ، وصاحب الحال الضّمير في «بهم».

قوله : «جاءتها» الظّاهر أنّ هذه الجملة الفعليّة جواب «إذا» ، وأنّ الضمير في «جاءتها» ضمير الرّيح الطيّبة ، أي : جاءت الريح الطّيبة ريح عاصف ، أي : خلفتها ، وبهذا بدأ الزمخشري ، وسبقه إليه الفرّاء وجوّز أن يكون الضمير للفلك ، ورجّح هذا بأنّ الفلك هو المحدّث عنه.

قوله : (وَظَنُّوا) يجوز أن يكون معطوفا على «جاءتها» ، الذي هو جواب «إذا» ، ويجوز أن يكون معطوفا على «كنتم» ، وهو قول الطبري ؛ ولذلك قال : وظنّوا جوابه (دَعَوُا اللهَ).

قال أبو حيّان : «ظاهره العطف على جواب «إذا» ، لا أنّه معطوف على كنتم ، لكنّه محتمل ، كما تقول : «إذا زارك فلان فأكرمه ، وجاءك خالد فأحسن إليه» ، وكأنّ أداة الشّرط مذكورة».

وقرأ زيد (١) بن علي : «حيط» ثلاثيّا.

قوله : (دَعَوُا اللهَ) قال أبو البقاء (٢) : «هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشّرط ، تقديره : لمّا ظنّوا أنّهم أحيط بهم دعوا الله» ، وهذا كلام فارغ ، وهذا كلام فارغ ، وقال الزمخشري : «هي بدل من «ظنّوا» ؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنّهم الهلاك ، فهو متلبس به» ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤٢ ، الدر المصون ٤ / ١٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣٩.

٢٩٣

ونقل أبو حيّان عن شيخه أبي جعفر : «أنّه جواب لسؤال مقدّر ، كأنّه قيل : فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل : (دَعَوُا اللهَ) ، وهذا نقله ابن الخطيب عن بعضهم ، و «مخلصين» حال ، و «له» متعلّق به ، و «الدّين» مفعوله.

قوله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) : اللّام : موطئة للقسم المحذوف ، و «لنكوننّ» : جوابه ، والقسم وجوابه : في محلّ نصب بقول مقدّر ، وذلك القول المقدّر : في محلّ نصب على الحال ، والتقدير : دعوا قائلين : لئن أنجيتنا من هذه لنكوننّ ، ويجوز أن يجرى «دعوا» مجرى «قالوا» لأنّ الدّعاء والقول بمعنى ؛ إذ هو نوع من أنواعه ، وهو مذهب كوفيّ.

قوله : (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) : جواب «لمّا» ، وهي «إذا» الفجائيّة ، وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِّ) : حال ، أي : ملتبسين بغير الحقّ ، قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : ما معنى قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِّ) والبغي لا يكون بحقّ؟ قلت : بلى ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفّار ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببني قريظة» ، وكان قد فسّر البغي بالفساد ، والإمعان فيه ، من «بغى الجرح : إذا ترامى للفساد».

ولذلك قال الزجاج : «إنّه الترقّي في الفساد» ، وقال الأصمعي أيضا : «بغى الجرح : ترقّى إلى الفساد ، وبغت المرأة : فجرت».

قال أبو حيّان : «ولا يصحّ أن يقال في المسلمين ، إنّهم باغون على الكفرة ، إلّا إن ذكر أنّ أصل البغي ، هو الطلب مطلقا ، ولا يتضمّن الفساد ، فحينئذ ينقسم إلى : طلب بحقّ ، وطلب بغير حقّ».

قال الواحدي : «وأصل البغي : الطلب» ، وقد تقدم أنّ هذه الآي ، تردّ على الفارسي ، أنّ «لمّا» ظرف بمعنى «حين» ؛ لأنّ ما بعد «إذا» الفجائيّة ، لا يعمل فيما قبلها ، وإذ قد فرض كون «لمّا» ظرفا لزم أن يكون لها عامل.

فصل

دلّت هذه الآية : على أن فعل العبد خلق لله ـ تعالى ـ ؛ لأنّه قال : «يسيّركم» ، وقال: (قُلْ سِيرُوا) [الأنعام : ١١] وهذا يدل على أن سيرهم منهم ، ومن الله ، فيكون كسبا لهم وخلقا لله. ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الأنفال: ٥] وقال في آية أخرى : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة : ٤٠] ، وقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) [النجم : ٤٣] ، مع قوله (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) [التوبة : ٨٢] ، قال القفال : «هو الذي يسيركم في البرّ والبحر ؛ أي : هو الهادي لكم إلى السّير في البحر والبر ، طلبا للمعاش ، وهو المسير لكم ؛ لأنّه هيّأ لكم أسباب ذلك السّير» ، والجواب : لا شك أنّ المسيّر في

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٧ / ٥٧).

٢٩٤

البحر هو الله ـ تعالى جلّ ذكره ـ ؛ لأنّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السّفينة ، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة ، فيجب أن يكون مسيرا لهم في البرّ والبحر ، إذ لو كان مسيّرا لهم في البرّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات ، لكان مجازا ، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا دفعة واحدة ، وذلك باطل ، على ما تقرر في أصول الفقه ، قال أبو هاشم : «لا يبعد أن يقال : إن الله تعالى تكلّم به مرّتين» ، وهذا باطل ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحد من الأئمّة ، ممّن كانوا قبله ، فكان خلافا للإجماع ، فيكون باطلا.

فصل

معنى الآية : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) على ظهور الدّوابّ ، وفي البحر على الفلك ، (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي : في السفن. والفلك : تكون واحدا ، وجمعا ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي : جرت الفلك بالنّاس ، رجع من الخطاب إلى الغيبة.

والفائدة فيه من وجوه :

أحدها : ما تقدم عن الزمخشري ، وهو المبالغة بذكر حالهم لغيرهم ؛ ليعجبوا منها ، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتّقبيح.

وثانيها : قال الجبّائي : «إنّ مخاطبته ـ سبحانه جلّ ذكره ـ لعباده ، على لسان الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بمنزلة الخبر عن الغائب ، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب ، حسن منه أن يردّه مرة أخرى إلى الغائب».

وثالثها : قال ابن الخطيب : «إن الانتقال من لفظ الغيبة ، إلى لفظ الحضور ، يدلّ على مزيد التقريب ، والإكرام ، وأمّا الانتقال من لفظ الحضور ، إلى لفظ الغيبة ، فإنه يدلّ على المقت ، والتعذيب ، وهو اللّائق بحال هؤلاء ، لأنّ من كان صفته ، أنّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر ، أن يكون اللّائق به ذلك». والأول كما في الفاتحة ، فإن قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ ـ ٣] خطاب غيبة ، ثم قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] : وهذا يدل على أن العبد ، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب.

ثم قال : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) : لينة ، (وَفَرِحُوا بِها) أي : بالرّيح ، «جاءتها» أي : جاءت الفلك ، أو جاءت الرّيح اللينة كما تقدّم ، (رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة ، ولم يقل عاصفة ؛ لاختصاص الرّيح بالعصوف ، وقيل : «الرّيح» يذكّر ويؤنث.

قال الفراء ، والزجاج : يقال : ريح عاصف ، وعاصفة ، وقد عصفت عصوفا وأعصفت فهي معصف ومعصفة ، وعصفت الريح : اشتدت ، وأصل العصف : السّرعة ، يقال : ناقة عاصف ، وعصوف ؛ سريعة ، وإنما قيل : (رِيحٌ عاصِفٌ) لأنّه يراد ذات عصوف ، كما قيل: لابن وتامر ؛ أو لأنه لفظ يذكّر ويؤنّث.

٢٩٥

فإن قيل : الضمير في «جاءتها» يعود على الفلك ، وهو ضمير الواحد ، والضمير في قوله : (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) عائد على الفلك ، وهو ضمير الجمع ، فما السبب فيه؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : لا نسلّم أن الضمير في «جاءتها» ، عائد إلى الفلك ، بل يعود على الرّيح الطيّبة.

الثاني : لو سلّمنا ذلك ، إلّا أنّ لفظ الفلك يصلح للواحد والجمع. ثم قال : (وَجاءَهُمُ) أي : ركّاب السفينة (الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وهو حركة الماء واختلاطه ، وقيل : الموج ما ارتفع من الماء فوق البحر ، (وَظَنُّوا) : أيقنوا (أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي : ظنّوا القرب من الهلاك ، وأصله : أنّ العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد ، فقد دنوا من الهلاك ، (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : أخلصوا لله في الدعاء ، ولم يدعوا أحدا سواه ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد: ترك الشرك ، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا (١) ، وقال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) ؛ جاريا مجرى الإيمان الاضطراري» (٢) ، وقال ابن زيد : «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضّرّ والبلاء لم يدعوا إلّا الله» (٣) وعن أبي عبيدة : أنّ المراد من ذلك الدعاء قولهم : أهيا شر هيا ، أي : يا حيّ يا قيّوم (٤) ، وقالوا : لئن أنجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف ، أو من هذه الأمواج ، أو من هذه الشدائد ، وهذه الألفاظ ، وإن لم يسبق ذكرها ؛ إلّا أنه سبق ما يدلّ عليها ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك بالإيمان والطّاعة.

واعلم : أنّه يمكن أن يقدّر في الآية إضمار ، تقديره : دعوا الله مخلصين له الدّين ، مريدين أن يقولوا : لئن أنجيتنا ، ويمكن أن يقال : لا حاجة إلى الإضمار ؛ لأنّ قوله : (دَعَوُا اللهَ) يصير مفسّرا بقوله : (أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) فهم في الحقيقة ، ما قالوا إلّا هذا القول.

ولمّا حكى عنهم التّضرع الكامل ، ذكر أنّهم بعد الخلاص من تلك البليّة ، أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحقّ ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد : بالفساد والتّكذيب والجرأة على الله ـ عزوجل ـ.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : وباله راجع إليها ، وقيل : المراد: بغي بعضكم على بعض ، كقوله : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦] ، (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] والمعنى : أنّ بغي بعضهم على

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٤٥).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥٤) وعزاه إلى أبي الشيخ عن مكحول.

٢٩٦

بعض ، منفعة الحياة الدنيا ، ولا بقاء لها ، والبغي من منكرات المعاصي ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم ، وأعجل الشّرّ عقابا البغي ، واليمين الفاجرة» ، وروي : «ثنتان يعجلهما الله ـ تعالى ـ في الدنيا : البغي ، وعقوق الوالدين» وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «لو بغى جبل على جبل ، لاندكّ الباغي».

وقال محمد بن كعب ـ رضي الله عنه ـ ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي ، والنّكث ، والمكر ، قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ، وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنعام: ١٢٣] ، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) [الفتح : ١٠].

قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قرأ (١) حفص : «متاع» بالنصب ، ونصبه على خمسة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على الظرف الزمانيّ ، نحو : «مقدم الحجّاج» ، أي : زمن متاع الحياة.

والثاني : أنّه منصوب على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : متمتّعين ، والعامل في هذا الظرف ، وهذه الحال : الاستقرار الذي في الخبر ، وهو «عليكم» ، ولا يجوز أن يكونا منصوبين بالمصدر ؛ لأنّه يلزم منه الفصل بين المصدر ، ومعموله بالخبر ، وقد تقدّم أنّه لا يخبر عن الموصول إلّا بعد تمام صلته.

والثالث : نصبه على المصدر المؤكّد بفعل مقدر ، أي : يتمتّعون متاع الحياة الدّنيا.

الرابع : أنه منصوب على المفعول به ، بفعل مقدر يدلّ عليه المصدر ، أي : يبغون متاع الحياة الدّنيا ، ولا جائز أن ينتصب بالمصدر ؛ لما تقدّم.

الخامس : أن ينتصب على المفعول من أجله ، أي : لأجل متاع ، والعامل فيه : إمّا الاستقرار المقدّر في «عليكم» ، وإمّا فعل مقدّر ، ويجوز أن يكون النّاصب له ، حال جعله ظرفا ، أو حالا ، أو مفعولا من أجله : نفس البغي ، لا على جعل (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبرا ، بل على جعله متعلّقا بنفس البغي ، والخبر محذوف ؛ لطول الكلام ، والتقدير : إنّما بغيكم على أنفسكم ، متاع الحياة مذموم ، أو مكروه ، أو منهيّ عنه.

وقرأ باقي السبعة «متاع» بالرفع ـ وفيه أوجه :

أظهرها : أنّه خبر «بغيكم» ، و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) : متعلق بالبغي.

ويجوز أن يكون «عليكم» خبرا ، و «متاع» خبرا ثانيا.

ويجوز أن يكون خبرا مبتدأ محذوف ، أي : هو متاع ، كقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ) [الأحقاف : ٣٥]. أي : هذا بلاغ.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٣٥) ، الحجة ٤ / ٢٢٦ ، حجة القراءات ص (٣٣٠) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٧.

٢٩٧

وقرأ ابن أبي إسحاق (١) : «متاعا الحياة» بنصب «متاعا» و «الحياة» ، ف «متاعا» : على ما تقدّم ، وأمّا «الحياة» : فيجوز أن تكون مفعولا بها ، والنّاصب لها المصدر ، ولا يجوز والحالة هذه ، أن يكون «متاعا» مصدرا مؤكدا ؛ لأنّ المؤكّد لا يعمل. ويجوز أن تنتصب «الحياة» على البدل من «متاعا» لأنها مشتملة عليه ، وقرىء (٢) أيضا : (مَتاعَ الْحَياةِ) ، بجرّ «متاع» ، وخرّجت على النّعت لأنفسكم ، ولا بدّ من حذف مضاف حينئذ ، تقديره : على أنفسكم ذوات متاع الحياة ، كذا خرّجه بعضهم ، ويجوز أن يكون ممّا حذف منه حرف الجرّ ، وبقي عمله ، أي : إنّما بغيكم على أنفسكم ؛ لأجل متاع ، ويدلّ على ذلك ؛ قراءة النّصب في وجه من يجعله مفعولا من أجله ، وحذف حرف الجرّ ، وإبقاء عمله قليل ، وهذه القراءة لا تتباعد عنه.

وقال أبو البقاء : «ويجوز أن يكون المصدر ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : «متمتّعات» ، يعني : أنّه يجعل المصدر نعتا ل «أنفسكم» ، من غير حذف مضاف ، بل على المبالغة ، أو على جعل المصدر بمعنى : اسم الفاعل ، ثم قال : «ويضعف أن يكون بدلا إذا أمكن أن يجعل صفة».

قال شهاب الدّين (٣) : «وإذا جعل بدلا على ضعفه ، فمن أيّ قبيل البدل يجعل؟ والظاهر : أنّه من بدل الاشتمال ، ولا بدّ من ضمير محذوف حينئذ ، أي : متاع الحياة الدّنيا لها». ثم قال (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي : ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم «فينبئكم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والإنباء : الإخبار ، وهو هنا وعيد بالعذاب ، كقول الرّجل لغيره : سأخبرك بما فعلت.

قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٥)

قوله ـ تعالى ـ (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية.

لمّا قال ـ تعالى ـ : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ضرب هذا المثل لمن اغترّ بالحياة الدّنيا ، واشتد تمسّكه بها ، وأعرض عن التأهّب للآخرة ، فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهذه الجملة سيقت ؛ لتشبيه الدّنيا بنبات الأرض ، وقد شرح الله وجه الشّبه بما ذكر.

قال الزمخشري (٤) : «هذا من التّشبيه المركّب ، شبّهت حال الدّنيا ، في سرعة تقضّيها ،

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٣ ، الدر المصون ٤ / ١٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤٣ ، الدر المصون ٤ / ١٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٠.

٢٩٨

وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه ، وذهابه حطاما بعدما التفّ ، وتكاثف ، وزيّن الأرض بخضرته ، ورونقه» ، والتّشبيه المركب في اصطلاح البيانيّين : إمّا أن يكون طرفاه مركّبين ، أي : تشبيه مركّب بمركّب ؛ كقول بشّار بن برد : [الطويل]

٢٨٨٥ ـ كأن مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه (١)

وذلك أنّه يشبّه الهيئة الحاصلة ، من هويّ أجرام مشرقة ، مستطيلة متناسبة المقدار ، متفرقة في جوانب شيء مظلم ، بليل سقطت كواكبه ، وإمّا أن يكون طرفاه مختلفين بالإفراد والتّركيب ، وتقسيماته في غير هذا الموضوع.

قوله : «كماء» : هو خبر المبتدأ ، و «أنزلناه» : صفة ل «ماء» ، و (مِنَ السَّماءِ): متعلّق ب «أنزلناه» ، ويضعف جعله حالا من الضّمير المنصوب ، وقوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ) في هذه الباء وجهان :

أحدهما : أنها سببيّة ، قال الزمخشري : «فاشتبك بسببه ، حتى خالط بعضه بعضا».

قال ابن عطيّة (٢) : «وصلت فرقة «النّبات» ، بقوله : «فاختلط» ، أي : اختلط النّبات بعضه ببعض بسبب الماء».

والثاني : أنّها للمصاحبة ، بمعنى : أنّ الماء يجري مجرى الغذاء له ، فهو مصاحبه ، وزعم بعضهم : أنّ الوقف على قوله : «فاختلط» ، على أنّ الفاعل ضمير عائد على الماء ، وتبتدىء (بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) على الابتداء والخبر ، والضمير في «به» على هذا ، يجوز عوده على الماء ، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمّنه الفعل ، قاله ابن عطيّة ، وقال أبو حيّان (٣) : «الوقف على قوله : «فاختلط» لا يجوز ، وخاصّة في القرآن ؛ لأنّه تفكيك للكلام المتّصل الصحيح ، والمعنى الفصيح ، وذهاب إلى اللّغز ، والتّعقيد».

قوله (مِمَّا يَأْكُلُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلّق ب «اختلط» ، وبه قال الحوفيّ.

والثاني : أنّه حال من «النّبات» ، قاله أبو البقاء ، وهو الظاهر ، والعامل فيه محذوف على القاعدة المستقرّة ، أي : كائنا أو مستقرّا ممّا يأكل.

ولو قيل : إنّ «من» لبيان الجنس ، لجاز ، وقوله : «حتّى» غاية فلا بدّ لها من شيء مغيّا ، والفعل الذي قبلها ـ وهو «اختلط» ـ لا يصح أن يكون مغيّا ، لقصر زمنه ، فقيل : ثمّ فعل محذوف ، أي : لم يزل النبات ينمو حتى كان كيت وكيت وقيل : يجوز «فاختلط»

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١ / ٣١٨ وأسرار البلاغة ٢ / ٢٣ ودلائل الإعجاز (٢٦٠) والمصون في اللغة (٦٦) ومعاهد التنصيص ٢ / ٢٨ والإشارات والتنبيهات ١٨٠ والدر المصون ٤ / ٢٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٤٤.

٢٩٩

بمعنى : فدام اختلاطه ، حتى كان كيت وكيت ، و «إذا» بعد «حتّى» هذه تقدّم التّنبيه عليها ، قوله : (وَازَّيَّنَتْ) قرأ الجمهور «وازينت» بوصل الهمزة ، وتشديد الزاي والياء ، والأصل «وتزيّنت» فلمّا أريد إدغام التّاء في الزّاي بعدها ، قلبت زايا ، وسكّنت فاجتلبت همزة الوصل ؛ لتعذّر الابتداء بالسّاكن ، فصار «ازّيّنت» ، وتقدّم تحرير هذا عند قوله ـ تعالى ـ : (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٧٢].

وقرأ أبيّ بن (١) كعب وعبد الله وزيد بن علي ، والأعمش : «وتزيّنت» على تفعّلت ، وهو الأصل المشار إليه ، وقرأ سعد بن أبي (٢) وقّاص ، والسّلمي ، وابن يعمر ، والحسن ، والشّعبي ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، وابن هرمز ، وعيسى الثقفي : «وأزينت» على وزن أفعلت ، وأفعل هنا بمعنى : صار ذا كذا ، كأحصد الزّرع وأغدّ البعير ، والمعنى : صارت ذا زينة ، أي : حضرت زينتها وحانت ، وكان من حقّ الياء على هذه القراءة ، أن تقلب ألفا ، فيقال : أزانت ، كأنابت فتعلّ بنقل حركتها إلى السّاكن قبلها ، فتتحرّك حينئذ ، وينفتح ما قبلها ، فتقلب ألفا كما تقدّم في نحو : أقام وأناب ، إلّا أنّها صحّت شذوذا ؛ كقوله : «أغيمت السماء ، وأغيلت المرأة» ، وقد ورد ذلك في القرآن ، نحو : (اسْتَحْوَذَ) [المجادلة : ١٩] وقياسه : استحاذ ؛ كاستقام.

وقرأ أبو عثمان (٣) النّهديّ ـ وعزاه ابن عطيّة لفرقة غير معيّنة ـ : «وازيأنّت» بهمزة وصل ، بعدها زاي ساكنة ، بعدها ياء مفتوحة خفيفة ، بعدها همزة مفتوحة ، بعدها نون مشددة ، قالوا : وأصلها : «وازيانّت» بوزن «احمارّت» بألف صريحة ، ولكنّهم كرهوا الجمع بين السّاكنين ، فقلبت الألف همزة ، كقراءة (الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧] ، والجأن [الرحمن : ٣٩] ، وعليه قولهم : «احمأرّت» بالهمز ، وأنشد : [الطويل]

٢٨٨٦ ـ .........

إذا ما احمأرّت بالعبيط العوامل (٤)

وقد تقدّم هذا مشبعا في آخر الفاتحة.

وقرأ أشياخ (٥) عوف بن أبي جميلة : «وازيأنّت» بالأصل المشار إليه ، وعزاها ابن

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧١١٤ البحر المحيط ٥ / ١٤٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١ ، إتحاف ٢ / ١٠٨.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١.

(٤) عجز بيت لكثير عزة وصدره :

وأنت ابن ليلي خير قومك مشهدا

ورواية الديوان :

إذا ما احمأرّت ..........

ينظر : ديوانه ٢٤٩ والخصائص ٣ / ١٢٦ والمحتسب ١ / ٤٧ والبحر المحيط ٥ / ١٤٥ والدر المصون ٤ / ٢١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٥ / ١٤٥ ، الدر المصون ٤ / ٢١.

٣٠٠