اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ خبر الواحد حجة ، وأنّ كلّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلّ فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة يكون اثنين ، أو واحدا ؛ فوجب أن تكون الطائفة إمّا اثنين أو واحدا ، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم ، لقوله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم ، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع.

قال القاضي : «لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد ؛ لأنّ الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة ؛ ولأنّ قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) يصحّ وإن لم يجب القبول ، كما أنّ الشّاهد الواحد يلزمه الشهادة ، وإن لم يلزم القبول ؛ ولأن الإنذار يتضمّن التخويف ، وهذا العذر لا يقتضي وجوب العمل به».

والجواب : أنّا بينّا أنّ كل ثلاثة فرقة ، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة ؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحدا ؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم ، فإن قيل : إنّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ، فلعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بخبرهم.

فالجواب : أنه تعالى أوجب على كلّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم ، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ، ثم إنّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة ، وهو المطلوب.

وأمّا قوله (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) يصحّ وإن لم يجب القبول ؛ فالجواب : أنّا لا نتمسّك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله : (وَلِيُنْذِرُوا) بل بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) فإنّه ترغيب منه تعالى في الحذر ، بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار.

فصل

الفقه معرفة أحكام الدّين ، وهو ينقسم إلى فرض عين ، وفرض كفاية ، ففرض العين مثل : علم الطهارة والصلاة والصوم ، فعلى كل مكلف معرفته ، قال عليه الصلاة والسّلام «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» (١) وكذلك كل عبادة أوجبها الشّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل : علم الزكاة إن كان له مال ، وعلم الحج إن وجب عليه.

وأما فرض الكفاية ، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد ؛ فإذا قعد أهل بلد عن

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ١ / ٨١ ، المقدمة : باب فضل العلماء (٢٢٤).

قال في مصباح الزجاجة ١ / ٩٤ : هذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان البزاز هذا فلقد اتهمه بعضهم بالكذب والوضع ، ولقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحديث يتقوى بطرق تبلغ إلى درجة الحسن ، فلقد قال السيوطي : رأيت له خمسين طريقا ولقد جمعتها في جزء.

٢٤١

تعلمه عصوا جميعا ، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين ، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث ، قال عليه الصلاة والسّلام : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (١) ، وقال عليه الصلاة والسّلام «فقيه واحد أشدّ على الشّيطان من ألف عابد» (٢) وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغة في سورة النساء عند قوله (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨].

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(١٢٩)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) الآية.

نقل عن الحسن أنّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة (٣). وأنكر المحقّقون هذا النسخ وقالوا : إنّه تعالى لمّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطّريق الأصلح وهو أن يبتدئوا من الأقرب ، فالاقرب ، منتقلا إلى الأبعد. ألا ترى أنّ أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب ؛ لأنّه عليه الصلاة والسّلام حارب قومه أولا ، ثم انتقل إلى غزو سائر العرب ، ثم انتقل إلى غزو الشّام ، والصّحابة لمّا فرغوا من أمر الشّام دخلوا العراق. والعلّة في الابتداء بالأقرب وجوه:

أحدها : أنّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر ، والكلّ متساو في وجود القتال لما فيه من الكفر والمحاربة ، والجمع متعذّر ، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٥ / ٤٨ ، كتاب العلم : باب ما جاء في فضل الفقه (٢٦٨٥) ، وقال : هذا حديث غريب. والدارمي ١ / ٨٨ مرسلا وفي ١ / ٩٧ ـ ٩٨ مرفوعا.

(٢) أخرجه البخاري ١ / ٣١٤ كتاب الطهارة : باب الوضوء ثلاثا ثلاثا (١٦٠) ، ومسلم ١ / ٢٠٦ كتاب الطهارة : باب جامع الوضوء (٦ / ٢٢٧).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٨١).

٢٤٢

وثانيها : أنّ النفقات في الأقرب أقلّ ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ.

وثالثها : أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد ، فقد عرضوا الذراري للفتنة ، وأموالهم إلى النهب.

ورابعها : أنّ المجاورين لدار الإسلام إمّا أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء ، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد ، والشّرّ الأكثر أولى بالدفع ، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل ؛ فكأن الابتداء بهم أولى.

وخامسها : أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد ، فيكون غزوه أسهل.

وسادسها : أنّ دار الإسلام واسعة ، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤنة أسهل.

وسابعها : أنّه إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولا.

وثامنها : ما تقدّم من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأ في الدعوة بالأقرب ، وبالغزو بالأقرب ، وفي جميع المهمات كذلك. حتّى إنّ الأعرابي الذي جلس على المائدة ، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عليه الصلاة والسّلام «كل ممّا يليك» (١) فدلت الآية على أنّ الابتداء بالأقرب واجب.

فإن قيل : ربّما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح ؛ لأنّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب ؛ لأنّه لا يقيم له وزنا.

فالجواب : أنّ ذلك احتمال واحد ، وما ذكرنا احتمالات كثيرة ، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح الأكثر مصلحة ، وهذا الذي قلناه إنّما هو فيما إذا تعذّر الجمع بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل ، فالأولى هو الجمع.

قوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ) هو من باب : «لا أرينّك ههنا» ، وتقدم شرحه [الأنفال ٢٥]. «غلظة» قرأ الجمهور بكسر الغين ، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمش ، وأبان بن تغلب (٢) ، والمفضّل كلاهما عن عاصم بفتحها ، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبو حيوة ، والسّلمي (٣) ، وابن أبي عبلة والمفضل ، وأبان في رواية عنهما «غلظة» بالضّم ، وهي لغة تميم ، وحكى أبو عمرو اللغات الثلاث. والغلظة : أصلها في الأجرام ، فاستعيرت هنا للشّدّة والصّبر والتّجلد قال المفسرون : شجاعة ، وقيل : عنفا ، وقيل : شدة. والغلظة ضد

__________________

(١) أخرجه البخاري ٩ / ٥٢١ ، كتاب الأطعمة : باب التسمية على الطعام والأكل باليمين (٥٣٧٦) ومسلم ٣ / ١٥٩٩ ، كتاب الأشربة : باب آداب الطعام والشراب (١٠٨ ـ ٢٠٢٢).

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٢٠) ، الحجة ٤ / ٢٤١ ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٧ ـ ١ / ٢٥٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢٤ ، المحرر الوجيز ٣ / ٩٧ ، البحر المحيط ٥ / ١١٨ ، الدر المصون ٣ / ٥١٣.

٢٤٣

الرّقة ، وفائدتها أنها أقوى تأثيرا في الزّجر ، والمنع عن القبيح ، وهذا غير مطّرد ، بل يحتاج تارة إلى الرّفق واللّطف ، وتارة إلى العنف ، ولهذا قال : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) تنبيها على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنّه ينفر ويوجب تفرق القوم ، فقوله : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) يدلّ على تقليل الغلظة ، كأنّه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتّشوا عن أخلاقكم ، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة ، وهذا الكلام إنّما يصحّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ؛ فلا يخلو عن نوع غلظة. وهذه الغلظة إنّما تعتبر فيما يتعلّق بالدّعوة إلى الدّين ، إمّا بإقامة الحجّة ، وإمّا بالقتال فأمّا فيما يتعلق بالبيع ، والشراء ، ونحوه فلا.

ثم قال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي : بالفوز والنصر ، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه.

قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ) الآية.

لمّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال : «وإذا ما أنزلت سورة» «ما» صلة مؤكدة «فمنهم» أي : من المنافقين : (مَنْ يَقُولُ) قيل : يقول بعضهم لبعض ، ليثبتوهم على النّفاق وقيل : يقولونه لعوام المسلمين ، ليصرفوهم عن الإيمان ، وقيل : يقولون ذلك على سبيل الهزؤ.

قوله : «أيّكم» الجمهور على رفع «أيّكم» بالابتداء ، وما بعده الخبر. وقرأ زيد (١) بن عليّ وعبيد بن عمير بالنصب ، على الاشتغال ، ولكن يقدّر الفعل متأخرا عنه من أجل أنّ له صدر الكلام.

والنّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسن من الرفع ؛ لأنّه يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقة بأداة الاستفهام ، نحو : أزيدا ضربته ، في ترجيح إضمار الفعل.

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) أي : يقينا وتصديقا ؛ لأنّهم يقرّون بها ويعترفون بأنّها حقّ من عند الله ، وتقدم الكلام في زيادة الإيمان ، ونقصانه في أول سورة الأنفال [الأنفال ٢] ثم قال : (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي : يفرحون بنزول القرآن ، وقيل : بثواب الآخرة ، وقيل : بالنّصر والظفر. والاستبشار : استدعاء البشارة ؛ لأنّه كلّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدّد البشارة ، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين.

فقال : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شكّ ونفاق : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) والمراد بالرّجس : إمّا العقائد الباطلة ، وإما الأخلاق المذمومة ، فعلى الأول يكون المعنى: كانوا مكذبين بالسّور النّازلة قبل ذلك ، والآن صاروا مكذّبين بهذه السّورة الجديدة ، فقد انضمّ كفر إلى كفر.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢٤ ، البحر المحيط ٥ / ١١٨ ، الدر المصون ٣ / ٥١٣.

٢٤٤

وعلى الثاني : أنّهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد ، والآن زادت تلك الأخلاق الذّميمة بسبب نزول هذه السّورة الجديدة.

والأمر الثاني : أنّهم يموتون على كفرهم ، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين ، وهذه الحالة أقبح من الحالة الأولى ؛ لأنّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه.

قال مجاهد : «في هذه الآية الإيمان يزيد وينقص ، وكان عمر يأخذ بيد الرّجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا نزداد إيمانا (١) ، وقال عليّ بن أبي طالب : إنّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب ، وكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتّى يبيضّ القلب كله وأيم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود (٢).

قوله (أَوَلا يَرَوْنَ) قرأ حمزة ، ويعقوب (٣) بتاء الخطاب ، وهو خطاب للذين آمنوا والباقون بياء الغيبة ، رجوعا على (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). والرّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصرية. قال الواحديّ : قوله : «أو لا ترون» هذه ألف الاستفهام دخلت على «واو» العطف ، فهو متصل بذكر المنافقين ، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الحج : ٦٣] المعنى : أنزل الله من السماء ماء ؛ فكان كذا وكذا.

قوله : (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي : يبتلون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بالأمراض والشدائد. (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عن ذلك النّفاق ، ولا يتّعظون كما يتّعظ المؤمن إذا مرض ، فإنّه يتذكّر ذنوبه ، وموقفه بين يدي الله ، فيزيده ذلك خوفا وإيمانا ، قاله ابن عبّاس. وقال مجاهد : يفتنون بالقحط والشّدة والجوع (٤). وقال قتادة : بالغزو والجهاد ؛ لأنّهم إذا تخلّفوا وقعوا في ألسنة النّاس باللّعن والخزي والذكر القبيح ، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرّضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنّهب من غير فائدة (٥). قال مقاتل : يفضحون بإظهار نفاقهم(٦). وقال عكرمة : ينافقون ثم يؤمنون ثم

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٠).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٠).

(٣) ينظر : السبعة ص (٣٢٠) ، الحجة ٤ / ٢٣٢ ، حجة القراءات ص (٣٢٦) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٨ ، إتحاف ٢ / ١٠٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤١) والرازي (١٦ / ١٨٥).

٢٤٥

ينافقون (١). وقال يمان : ينقضون عهدهم في السّنة مرة أو مرتين (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نقض العهد ، ولا يرجعون إلى الله من النّفاق ؛ (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي : لا يتّعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنّصر والظفر للمسلمين.

قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) الآية.

هذا نوع آخر من مخازي المنافقين ، وهو أنّه كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها ، ونظر بعضهم إلى بعض نظرا مخصوصا دالا على الطّعن في تلك السّورة والاستهزاء بها ، وتحقير شأنها ، ويحتمل أنّهم كانوا يستحقرون القرآن كلّه ؛ فكلما سمعوا سورة ، استهزءوا بها وطعنوا فيها ، وضحكوا وتغامزوا ، وقيل : نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب.

قوله : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) في محل نصب بقول مضمر ، أي : يقولون : هل يراكم ، وجملة القول في محل نصب على الحال ، و (مِنْ أَحَدٍ) فاعل.

والمعنى : أنّهم عند سماع تلك السّورة يتأذون ، ويريدون الخروج من المسجد ، يقول بعضهم لبعض (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المؤمنين إن قمتم ، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنّ أحدا يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل : إنهم كانوا إذا نزلت سورة اشتدّ كفرهم ونفاقهم ، وذلك النظر دالّ من الإنكار الشديد ، والنفرة التامة ، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النّظر وتلك الأحوال الدّالة على النّفاق والكفر ؛ فعند ذلك قالوا : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي : لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّا.

ثم قال تعالى : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) قال ابن عبّاس : عن كل رشد وخير وهدى (٢) وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم (٣). وقال الزجاج «أضلهم الله تعالى مجازاة على فعلهم». ذلك : (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) عن الله دينه. قال ابن عبّاس : لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنّ قوما انصرفوا ؛ «فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا : قد قضينا الصلاة (٤). والمقصود : التفاؤل بترك هذه اللّفظة الواردة فيما لا ينبغي ، والتّرغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير قال تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) [الجمعة : ١٠].

قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.

لمّا أمر رسوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن يبلغ التكاليف الشاقّة في هذه السورة إلى

__________________

(١) انظر : المصدر السابق.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٨٦).

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢٤) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢٤٦

الخلق وهي مما يعسر تحملها ، إلّا لمن خصّه الله بالتوفيق ، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف ، وهو أنّ هذا الرسول منكم ؛ فكلّ ما يحصل له من العزّ والشّرف ، فهو عائد إليكم فهو كالطبيب المشفق ، والأب الرحيم في حقكم ، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف ، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.

قوله (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) صفة ل «رسول» أي : من صميم العرب. قال ابن عباس : ليس من العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ولدني من سفاح أهل الجاهليّة شيء ، ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» (١).

وقرأ ابن عبّاس ، وأبو العالية (٢) ، والضحاك ، وابن محيصن ، ومحبوب عن أبي عمرو ، والزهري ، وعبد الله بن قسيط المكي ، ويعقوب من بعض طرقه ، وهي قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفاطمة ، وعائشة بفتح الفاء ، أي : من أشرفكم ، من النّفاسة.

فصل

اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات ، أولها : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس ، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته ، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا ، فهو سبب لعزكم ، فإنه منكم ، ومن نسبكم. وثانيا : يريد أنه بشر مثلكم ، كقوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) [يونس : ٢] وقوله : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الكهف : ١١٠] والمعنى : أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النّاس ، كما قرر في الأنعام.

وثالثها : أنّ هذا خطاب لأهل الحرم ؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته ، وكانوا يخدمونهم ، فكأنه قيل للعرب : كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه ، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنّه أعلى في الشّرف من أسلافه.

والصفة الثانية : قوله «عزيز». فيه أوجه :

أحدها : أنّه صفة ل «رسول» ، وفيه أنه تقدّم غير الوصف الصّريح على الوصف الصّريح.

وقد يجاب بأنّ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) متعلق ب «جاء» و «ما» يجوز أن تكون مصدرية ، أو بمعنى «الذي».

__________________

(١) أخرجه البيهقي (٧ / ١٩٠) والطبراني (١٠ / ٣٩٩) وابن عساكر (١ / ٣٤٦) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤١) من طريق المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٢١٧) وقال : لم أعرف المديني ولا شيخه وبقية رجاله وثقوا.

(٢) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠١ ، الكشاف ٢ / ٣٢٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٢١ ، الدر المصون ٣ / ٥١٤.

٢٤٧

وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب «عزيز» ، أي : يعزّ عليه عنتكم ، أو الذي عنتّموه ، أي : عنتهم يسيئه ، فحذف العائد على التدرج ؛ وهذا كقوله : [الوافر]

٢٨٦١ ـ يسرّ المرء ما ذهب اللّيالي

وكان ذهابهنّ له ذهابا (١)

أي : يسرّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيز» خبرا مقدما ، و (ما عَنِتُّمْ) مبتدأ مؤخرا والجملة صفة ل «رسول» وجوّز الحوفي : أن يكون «عزيز» مبتدأ ، و (ما عَنِتُّمْ) خبره وفيه الابتداء بالنّكرة ؛ لأجل عملها في الجارّ بعدها. وتقدّم معنى (الْعَنَتَ) [النساء : ٢٥]. والأرجح أن يكون «عزيز» صفة ل «رسول» لقوله بعد ذلك «حريص» فلم يجعل خبرا لغيره وادّعاء كونه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو حريص ، لا حاجة إليه. قال الفرّاء : «ما» في قوله : (ما عَنِتُّمْ) في موضع رفع ، أي : عزيز عليه عنتكم ، أي : يشقّ عليه مكروهكم. وقال القتيبيّ: ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس : ما ضللتم (٢). وقال الضحاك والكلبيّ : ما آثمكم (٣).

والصفة الثالثة : قوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) والحريص يمتنع أن يكون متعلقا بذواتهم ، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدّنيا والآخرة ، وعلى هذا التقدير يكون قوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي : شديد معزّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم ؛ لأنّ العزيز هو الغالب الشّديد ، وبهذا التقدير لا يحصل التّكرار.

والصفة الرابعة والخامسة قوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) «بالمؤمنين» متعلق ب «رءوف» ولا يجوز أن تكون المسألة من التنازع ؛ لأنّ شرطه تأخّر المعمول عن العاملين ، وإن كان بعضهم قد خالف ، ويجيز : زيدا ضربت وشتمته ، على التّنازع.

وإذا فرّعنا على هذا الضعيف ، فيكون من إعمال الثاني ، لا الأول ، لما عرف أنّه متى أعمل الأوّل أضمر في الثاني من غير حذف.

فصل

قال ابن عباس : سمّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه (٤). والمعنى : رءوف بالمطيعين.

فإن قيل : كيف يكون كذلك ، وقد كلّفهم في هذه السّورة بأنواع من التّكاليف الشّاقّة التي لا يقدر على تحملها إلا من وفقه الله تعالى.

فالجواب : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق ، والأب المشفق ، والمعنى :

__________________

(١) ينظر البيت في الدرر ١ / ٢٥٣ والجنى الداني ص ٣٣١ والأشباه والنظائر ٣ / ٣٧ وشرح التصريح ١ / ٢٦٨ وشرح المفصل ٨ / ١٤٢ ، ١٤٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٨١ والبحر ٥ / ١٢١ والدر المصون ٣ / ٥١٤.

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٥٢٣) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٢).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٢).

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٨٨).

٢٤٨

أنه فعل بهم ذلك ليتخلّصوا من العقاب المؤبد ، ويفوزوا بالثّواب المؤبد.

فإن قيل : لمّا قال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) فهذا النّسق يوجب أن يقال : رءوف رحيم بالمؤمنين ، فلم ترك هذا النسق وقال : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

فالجواب : أنّ هذا يفيد الحصر ، أي : لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة ، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التّغليظ ، كأنّه يقول : إنّي وإن بالغت في التّغليظ في هذه السّورة ، إلّا أنّ ذلك التّغليظ على الكفّار والمنافقين ، وأما رحمتي ، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعني : المشركين والمنافقين ، أي : أعرضوا عنك وقيل : تولوا عن طاعة الله وتصديق الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السّورة. وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد. (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والمراد : أنّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف ؛ لأنّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي : لا أتوكل إلّا عليه : (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

فإن قيل : العرش غير محسوس ، فلا يعرف وجوده إلّا بعد ثبوت الشريعة ، فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟.

فالجواب : وجود العرش أمر مشهور ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضا لا يبعد أنّهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم.

وقرأ الجمهور بجرّ الميم من «العظيم» صفة للعرش. وقرأ ابن (١) محيصن برفعها نعتا للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم : «وهذه القراءة أعجب إليّ ؛ لأنّ جعل «العظيم» صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش» وأيضا قال «فإن جعلناه صفة للعرش ، كان المراد من كونه عظيما كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المراد من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض ، وكمال العلم والقدرة ، وكونه منزّها عن أن يتمثل في الأوهام ، أو تصل إليه الأفهام».

فصل

روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا : آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] إلى آخرها (٢). وقال أبي بن كعب : «هما

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٠١ ، الكشاف ٢ / ٣٢٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ١٠٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٢٢ ، الدر المصون ٣ / ٥١٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٤).

٢٤٩

أحدث الآيات بالله عهدا» وفي رواية : «أقرب القرآن من السّماء عهدا» (١) وهو قول سعيد بن جبير.

وقيل : آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة: ٢٨١].

قال القرطبي (٢) «يحتمل أن يكون قول أبيّ : أقرب القرآن من السماء عهدا بعد قوله (وَاتَّقُوا يَوْماً) والله أعلم. ونقل عن حذيفة أنّه قال : أنتم تسمّون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب ، ما تركت أحدا إلّا نالت منه».

قال ابن الخطيب (٣) : «وهذه الرواية يجب تكذيبها ؛ لأنّا لو جوزنا ذلك ؛ لكان ذلك دليلا على تطرّق الزيادة والنقصان إلى القرآن وهو باطل».

وروت عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه ما نزل عليّ القرآن إلّا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] فإنّما نزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كلّهم يقول : يا محمّد استوص بنسبة الله خيرا» (٤).

__________________

(١) انظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ١٩٢.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ١٨٩.

(٤) أخرجه الثعلبي من حديث عائشة كما في «تخريج الكشاف» (٢ / ١١٥) للزيلعي وقال الحافظ في تخريحه أيضا (٢ / ٣٢٥) رواه الثعلبي من حديث عائشة بإسناد واه.

٢٥٠

سورة يونس

ـ عليه‌السلام ـ

قالت فرقة : نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكّة ، وباقيها بالمدينة ، وهي مائة وتسع آيات. وهي مكّية في قول عكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلّا ثلاثة آيات (١) وقال مقاتل : إلا آيتين من قوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ)(٢) [الآية ٩٤] وقال الكلبي : إنها مكية إلّا قوله (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)(٣) [الآية ٤٠] فإنها مدنيّة نزلت في اليهود ، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة ، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستّون حرفا.

قوله تعالى : (الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (٢)

قوله : بسم الله الرحمن الرحيم (الر) تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول الكتاب ، واختلاف القرّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألف ، وهي : را ، وطا ، وها ، ويا ، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصا ، وأبو عمرو وابن عامر. وأمال الأخوان وأبو بكر (٤) «طا» من جميع سورها نحو : (طس) [النمل : ١] ، (طسم) [الشعراء : ١] ، (طه) [طه : ١] ، و «يا» من «يس» ، وافقهم ابن عامر ، والسوسي على «يا» من (كهيعص) [مريم : ١] ، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخوان وأبو عمر (٥) ، وورش ، وأبو بكر «ها» من «طه» ، وكذلك أمالها من (كهيعص) أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر دون حمزة وورش.

وأمال أبو عمرو ، وورش ، والأخوان ، وأبو بكر (٦) ، وابن ذكوان «حا» من جميع سورها السبع [غافر : ١]. إلّا أن أبا عمرو ، وورشا يميلان بين بين ، وللقرّاء في هذا عمل كثير مذكور في كتب القراءات ، وكلّها لغات صحيحة.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ١٩٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : السبعة ص (٣٢٢) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤ ، حجة القراءات ص (٣٢٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٠ ، إتحاف ٢ / ١٠٣.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : السابق.

٢٥١

قال الواحدي (١) : «الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو «ما» و «لا» ؛ لأن ألفاتها ليست منقبلة عن الياء ، وأمّا من أمال فلأنّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة ، فقصد بذكر الإمالة التّنبيه على أنّها أسماء لا حروف».

فصل

اتفقوا على أنّ قوله «الر» وحده ليس آية ، واتفقوا على أنّ قوله «طه» وحده آية ، والفرق أن قوله (الر) لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، بخلاف قوله «طه» فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده.

قال ابن عبّاس والضحاك : (الر) معناه : أنا الله أرى (٢) ، وقيل : أنا الربّ لا ربّ غيري. وقال سعيد بن جبير : (الر) و «حم» و «ن» حروف اسم الرحمن مفرقة ، ورواه أيضا يزيد عن عكرمة عن ابن عبّاس (٣). قال الرّاوي : فحدّثت به الأعمش فقال : «عندك أشباه هذا ولا تخبرني به».

قوله : «تلك الآيات الكتاب» «تلك» يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة ، وأن تكون إشارة إلى ما تقدّم هذه السورة من آيات القرآن ، لأن «تلك» إشارة إلى غائب مؤنّث ، وقيل : «تلك» بمعنى «هذه» أي : هذه آيات ، ومنه قول الأعشى : [الخفيف]

٢٨٦٢ ـ تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب (٤)

أي : هذه خيلي ، وهذه ركابي.

«و (الْكِتابِ) : يحتمل أن يكون المراد به القرآن ، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب ، لقوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : ٧٧ ، ٧٨] ، وقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) [الزخرف : ٤] ، وقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩]. وقيل : المراد من (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : التوراة والإنجيل ، والتقدير : إنّ الآيات المذكورة في هذه السّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل ، والمعنى : إنّ القصص المذكورة في هذه السّورة موافقة للقصص

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٥) عن الضحاك وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٤) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الأسماء والصفات» وابن النجار في «تاريخه».

وذكره أيضا (٣ / ٥٣٤) عن الضحاك وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ٢٧ وغريب القرآن ٥٣ وتأويل المشكل ٢٣١ والقرطبي ١ / ٣٠٥ واللسان (خشب) ، والخزانة ٢ / ٤٦٤ ، والمخصص ٢ / ١٠٥.

٢٥٢

المذكورة في التوراة والإنجيل ، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمدا بإنزال الوحي عليه ، وقال أبو مسلم : قوله «تلك» إشارة إلى حروف التهجيّ ، فقوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) يعني : أنّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التّحدّي ، فلو لا امتياز هذا الكتاب عن كلام النّاس بالوصف المعجز ، وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم دون سائر النّاس القادرين على التّلفّظ بهذه الحروف محالا.

قوله : (الْحَكِيمِ) قيل : ذو الحكمة ، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. وقيل : وصف الكتاب بصفة من تكلم به ؛ كقول الأعشى : [الكامل]

٢٨٦٣ ـ وغريبة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال : من ذا قالها؟ (١)

فيكون «فعيل» بمعنى «مفعل».

وقال الأكثرون : (الْحَكِيمِ) بمعنى الحاكم ، «فعيل» بمعنى «فاعل» ؛ لقوله تعالى (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [البقرة : ٢١٣] وقيل : بمعنى : المحكم ، «فعيل» بمعنى «مفعل» ، أي : محكم ، والمحكم معناه : المنع من الفساد ، فيكون المعنى : لا تغيّره الدّهور ، والمراد : براءته عن الكذب والتناقض. وقال الحسن «حكم فيه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنّة لمن أطاعه ، وبالنّار لمن عصاه» (٢).

فعلى هذا «الحكيم» يكون بمعنى المحكوم فيه. وقيل : «الحكيم» في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب ، فمن حيث إنّه يدل على هذه المعاني صار كأنّه هو الحكيم في نفسه.

قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ)(٢)

قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا) الهمزة للإنكار ، و (أَنْ أَوْحَيْنا) «أن» والفعل في تقدير المصدر وهو اسم «كان» ، و «عجبا» خبرها ، و «للنّاس» متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «عجبا» لأنه في الأصل صفة له ، أو متعلّق ب «عجبا» ، ولا يضرّ كونه مصدرا ؛ لأنّه يتّسع في الظرف وعديله ما لا يتّسع في غيرهما. وقيل : لأنّ «عجبا» مصدر واقع موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول ، ومتى كان كذلك جاز تقديم معموله. وقيل :

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ص ٧٧ وخزانة الأدب ٤ / ٢٥٩ والدرر ١ / ٢٦٩ وشرح شذور الذهب ص ١٨٩ والهمع ١ / ٨٤ والتهذيب ٤ / ١١٤ والقرطبي ٨ / ١٩٥ والتفسير الكبير ١٧ / ٤ واللسان (حكم) والدر المصون ٤ / ٣.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ١٩٥) عن الحسن وغيره.

٢٥٣

هو متعلّق ب «كان» النّاقصة ، وهذا على رأي من يجيز فيها ذلك. وهذا مرتّب على الخلاف في دلالة «كان» النّاقصة على الحدث ، فإن قلنا : إنّها تدلّ على ذلك فيجوز وإلّا فلا. وقيل : هو متعلّق بمحذوف على التّبيين ، والتقدير في الآية : أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم عجبا لهم. و «منهم» صفة ل «رجل».

وقرأ رؤبة (١) «رجل» بسكون الجيم ، وهي لغة تميم ، يسكّنون «فعلا» نحو : سبع وعضد.

وقرأ عبد الله (٢) بن مسعود «عجب». وفيه تخريجان ، أظهرهما : أنّها التّامة ، أي : أحدث للنّاس عجب و (أَنْ أَوْحَيْنا) متعلّق ب «عجب» على حذف لام العلّة ، أي : عجب ل (أَنْ أَوْحَيْنا) ، أو يكون على حذف «من» ، أي : من أن أوحينا. والثاني : أن تكون الناقصة ، ويكون قد جعل اسمها النّكرة وخبرها المعرفة ، على حدّ قوله : [الوافر]

٢٨٦٤ ـ .........

يكون مزاجها عسل وماء (٣)

وقال الزمخشري (٤) : والأجود أن تكون التّامة و (أَنْ أَوْحَيْنا) : بدل من «عجب». يعني به بدل اشتمال أو كل من كل ، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة ، والتخريج الثاني لابن عطيّة.

فصل

التعجّب : حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة ، وسبب نزول هذه الآية : أنّ الله ـ تعالى ـ لمّا بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، تعجّب كفار قريش وقالوا : إنّ الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنكر الله عليهم ذلك التعجّب ، أما بيان تعجبّهم من تخصيص محمّد بالرسالة فمن وجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص : ٤] إلى قوله : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥].

والثاني : أن أهل مكّة كانوا يقولون : إنّ الله تعالى ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب.

والثالث : أنهم قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ؛ فأنكر الله عليهم هذا التعجّب بقوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) فلفظه استفهام ؛ ومعناه الإنكار لأن يكون ذلك عجبا ، والمراد ب «النّاس» : أهل مكة ، والألف فيه للتوبيخ.

فإن قيل : لم لم يقل : أكان عند الناس عجبا ، بل قال : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً)؟.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ١٠٣ ، البحر المحيط ٥ / ١٢٦ ، الدر المصون ٤ / ٤.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) تقدم برقم ١٨٢٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٢٧.

٢٥٤

فالجواب : أن قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجّبون منها ، وعيّبوه ونصّبوه للاستهزاء والتعجّب إليه وليس في قوله : «أكان عند النّاس عجبا» هذا المعنى.

وقوله : (أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) يجوز أن تكون المصدريّة ، وأن تكون التفسيريّة ، ثم لك في المصدريّة اعتباران :

أحدهما : أن تجعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشّأن محذوف.

كذا قال أبو حيّان (١) ، وفيه نظر من حيث إنّ أخبار هذه الحروف لا تكون جملة طلبيّة ، حتى لو ورد ما يوهم ذلك يؤوّل على إضمار القول ؛ كقول الشاعر : [البسيط]

٢٨٦٥ ـ ولو أصابت لقالت وهي صادقة

إنّ الرّياضة لا تنصبك للشّيب (٢)

وقول الآخر : [البسيط]

٢٨٦٦ ـ إنّ الذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما (٣)

وأيضا فإنّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية ، فلا بد من الفصل بأشياء تقدّمت في المائدة. ولكن ذلك الفاصل هنا متعذّر.

والثاني : أنّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع ، وهي توصل بالفعل المتصرّف مطلقا ، نحو : «كتبت إليه بأن قم». وقد تقدم البحث فيه [النساء ٦٦] ، ولم يذكر المنذر به وذكر المبشّر به ؛ لأنّ المقام يقتضي ذلك ، وقدّم الإنذار على التّبشير ، لأنّ إزالة ما لا ينبغي مقدّم في الرتبة على ما لا ينبغي ، والإنذار للكفّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي ، والتّبشير لأهل الطّاعة ؛ لتقوى رغبتهم فيها.

قوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) «أنّ» وما في حيّزها هي المبشّر بها ، أي : بشّرهم باستقرار قدم صدق ، فحذفت الباء ، فجرى في محلّها المذهبان ، والمراد ب (قَدَمَ صِدْقٍ) : السابقة والفضل والمنزلة الرّفيعة ، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريّ ؛ ومنه قول ذي الرّمّة : [الطويل]

٢٨٦٧ ـ لكم قدم لا ينكر النّاس أنّها

مع الحسب العاديّ طمّت على البحر (٤)

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) البيت للجميح الأسدي ينظر : المفضليات ٣٤ والخزانة ٤ / ٢٩٥ والأمالي الشجرية ١ / ٣٣٢ وشرح الرضي ٢ / ٣٤٨ والدر المصون ٤ / ٤.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ٣٦١ والبحر المحيط ٥ / ١٢٧ والقرطبي ٨ / ١٩٥ وروح المعاني ١١ / ٦٣ ولباب التأويل ٢ / ٣٨٤ وزاد المسير ٤ / ٦ والدر المصون ٤ / ٤.

٢٥٥

لمّا كان السعي والسبق بالقدم سمّي السّعي المحمود قدما ، كما سمّيت اليد نعمة لمّا كانت صادرة عنها ، وأضيف إلى الصدق دلالة على فضله ، وهو من باب «رجل صدق ، ورجل سوء».

وقيل : هو سابقة الخير التي قدّموها ؛ ومنه قول وضّاح اليمن : [المنسرح]

٢٨٦٨ ـ مالك وضّاح دائم الغزل

ألست تخشى تقارب الأجل

صلّ لذي العرش واتّخذ قدما

ينجيك يوم العثار والذّلل (١)

وقيل : هو التقدّم في الشرف ؛ ومنه قول العجّاج : [الرجز]

٢٨٦٩ ـ ذلّ بنو العوّام عن آل الحكم

وتركوا الملك لملك ذي قدم (٢)

أي : ذي تقدّم وشرف.

قال ابن عبّاس : أجرا حسنا بما قدّموا من أعمالهم (٣) ، وروى عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو السعادة في الذكر الأوّل (٤). وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (٥).

وقال عطاء : مقام صدق ، لا زوال له ، ولا بؤس فيه. وأضيف القدم إلى الصّدق وهو نعته ، كقولهم : مسجد الجامع ، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩].

وقال أبو عبيد : كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم ، يقال لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق وقدم سوء (٦) ، وهو يؤنث. وقد يذكر ، فيقال : قدم حسن ، وقدم صالحة. و «لهم» خبر مقدّم ، و «قدم» اسمها ، و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) صفة ل «قدم» ، ومن جوّز أن يتقدّم معمول خبر «أنّ» على اسمها إذا كان حرف جرّ ؛ كقوله : [الطويل]

٢٨٧٠ ـ فلا تلحني فيها فإنّ بحبّها

أخاك مصاب القلب جمّ بلابله (٧)

__________________

(١) ينظر البيتان في البحر المحيط ٥ / ١٢٧ وروح المعاني ١١ / ٦٣ والقرطبي ٨ / ١٩٦ ولباب التأويل ٢ / ٣٨٤ والتفسير الكبير ١٧ / ٧ والدر المصون ٤ / ٥.

(٢) ينظر البيت في ديوانه (١١٤) والبحر المحيط ٥ / ١٢٧ ومجاز القرآن ١ / ٤٨ والتهذيب ١١ / ٤٢٢ واللسان (شنأ) والدر المصون ٤ / ٥ وتاج العروس (شنأ).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٥) وعزاه إلى الطبري وذكره أيضا البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٣).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣٥) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٣) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٢٩) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٣).

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٤٣).

(٧) تقدم.

٢٥٦

قال : ف «بحبّها» متعلق ب «مصاب» ، وقد تقدّم على الاسم ، فكذلك «لهم» يجوز أن يكون متعلقا ب (عِنْدَ رَبِّهِمْ) لما تضمّن من الاستقرار ، ويكون (عِنْدَ رَبِّهِمْ) هو الخبر.

قوله : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) لمّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشّرهم قالوا متعجّبين : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) ، وقرأ نافع (١) ، وأبو عمرو ، وابن عامر «لسحر» والباقون «لساحر» ، ف «هذا» يجوز أن يكون إشارة للقرآن ، وأن يكون إشارة للرسول على القراءة الأولى ، ولكن لا بد من تأويل على قولنا : هو إشارة للرسول ، أي : ذو سحر أو جعلوه إيّاه مبالغة ، وعلى القراءة الثانية فالإشارة للرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فقط.

واعلم أنّ إقدامهم على وصف القرآن بأنّه سحر ، يحتمل أنّهم ذكروه في معرض الذّمّ ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح ، فلهذا قال بعض المفسّرين : أرادوا به أنّه كلام مزخرف حسن الظّاهر ، لكنه باطل في الحقيقة ، ولا حاصل له ، وقال آخرون : أرادوا به أنّه لكمال فصاحته ، وتعذر مثله ، جار مجرى السّحر. وهذا كلام فاسد ، فلهذا لم يذكر جوابه ، وبيان فساده : أنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان منهم ، ونشأ بينهم ، وما غاب عنهم ، ولم يخالط أحدا سواهم ، ولم تكن مكّة بلدة العلماء ، حتى يقال : إنّه تعلّم السحر منهم ، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم ، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك ، كان حمل القرآن على السّحر كلاما في غاية الفساد ، فلهذا السّبب ترك جوابه.

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٤)

لمّا حكى عن الكفّار تعجّبهم من الوحي والبعثة والرّسالة ، أزال ذلك التعجّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشّرهم على الأعمال الصّالحة بالثّواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجواب إنّما يتمّ بإثبات أمرين آخرين :

أحدهما : إثبات أنّ لهذا العالم إلها قادرا قاهرا ، نافذ الحكم بالأمر والنّهي والتّكليف.

والثاني : إثبات الحشر والنّشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدلّ على تحقيق هذين الأمرين.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣٢٢) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ٢٥١ ، حجة القراءات ص (٣٢٧) ، إعراب القراءات ١ / ٢٦٠ ، إتحاف ٢ / ١٠٣.

٢٥٧

فأمّا إثبات الإله ، فبقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ،) وأمّا إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) [يونس : ٤] فهذا ترتيب في غاية الحسن ، فإن قيل : كلمة «الّذي» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السّامع ، كما إذا قيل لك : من زيد؟ فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنّما يحسن لو كان أبوه منطلقا أمرا معلوما عند السّامع ، فهاهنا لما قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) يوجب أن يكون ذلك أمرا معلوما عند السّامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف؟.

فالجواب : أنّ هذا كان مشهورا عند اليهود والنصارى ؛ لأنّه مذكور عندهم في التّوراة والإنجيل ، والعرب كانوا يخالطونهم ، فالظّاهر أنّهم كانوا سمعوه منهم ، فلهذا حسن هذا التعريف. فإن قيل : ما الفائدة في بيان الأيّام التي خلق الله فيها السموات والأرض ، مع أنّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلّ من لمح البصر؟.

فالجواب على قول أهل السّنّة : أنّه تعالى يحسن منه كلّ ما أراد ، ولا يعلّل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح ، وأمّا على قول المعتزلة : وهو أنّ أفعاله تعالى مشتملة على المصالح والحكمة ، فقال القاضي : «لا يبعد أن يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المدّة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حقّ بعض المكلّفين» ثم قال : فإن قيل : فمن المعتبر؟ ثم أجاب فقال : أما المعتبر في حقّ بعض المكلّفين» ثم قال : فإن قيل : فمن المعتبر؟ ثم قبل خلقه السموات والأرض وإلّا لكان خلقهما عبثا.

فإن قيل : فهلّا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد؟.

قلنا : إنّه تعالى لا يخاف الفوت ، فلا يجوز أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك ، وإنّما يصحّ ذلك منّا في مقدّمات الأمور ، لأنّا نخشى الفوت ، ونخاف العجز.

قال : وإذا ثبت هذا ، فقد صحّ ما روي في الخبر أنّ خلق الملائكة والجنّ ، كان سابقا على خلق السموات والأرض.

فإن قيل : أولئك الملائكة لا بدّ لهم من مكان ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان؟.

قلنا : الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها ، كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمّا وجه الاعتبار في ذلك فهو أنّه لمّا حصل هناك معتبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالا بعد حال أقوى. لأنّ ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدلّ على أنه صادر من فاعل حكيم. وأمّا المخلوق دفعة واحدة فإنّه لا يدلّ على ذلك.

فإن قيل : هذه الأيام كأيّام الدّنيا ، أو كما قال ابن عباس : إنّها ستّة أيّام من أيّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة ممّا تعدّون.

٢٥٨

فالجواب : قال القاضي : الظّاهر في ذلك أنّه تعريف لعباده مدّة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا إلّا والمدّة هذه الأيّام المعلومة ، ويمكن أن يقال : لمّا وقع التعريف في الأيّام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكور هناك أيّام الآخرة لا أيّام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحا في صحّة التعريف بها.

فإن قيل : هذه الأيام إنما تعد بطلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف؟.

فالجواب : التعريف يحصل بما أنّه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدّة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر ، لكانت تلك المدّة مساوية لستّة أيّام.

فإن قيل : هذا يقتضي حصول مدّة قبل خلق العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجب قدم المدّة.

فالجواب : أن تلك المدّة غير موجودة ، بل هي مفروضة موهومة ، لأنّ تلك المدّة المعينة حادثة ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدّة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال ، فكلّ ما يقولونه في حدوث المدّة ، فنحن نقوله في حدوث العالم.

فإن قيل : اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النّهار وحده ، فما المراد بهذه الآية؟ فالجواب : أنّ الغالب في اللّغة هو اليوم بليلته.

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال ابن الخطيب : لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لأنّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرّا عليه ، بحيث إنّه لو لا العرش لسقط ونزل ، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجا إلى العرش ، وإنه لو لا العرش لسقط ونزل ، وذلك محال ، لإجماع المسلمين على أنّه تعالى هو الممسك له والحافظ له ، وأيضا فإن قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويا عليه ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى يتغيّر من حال إلى حال ، وكل متغير محدث ، وذلك باطل بالاتّفاق. وأيضا : لمّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلّ على أنّه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربا متحرّكا ، وذلك من صفات المحدثات. وأيضا ظاهر الآية يدلّ على أنه تعالى إنّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ؛ لأنّ كلمة «ثمّ» للتّراخي ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى كان قبل العرش غنيّا عن العرش ، فلمّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة ، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّا عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّا على العرش ، فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة ، وإذا تقرّر هذا ، فقال جمهور المفسّرين : المراد بالعرش هنا : هو الجسم العظيم الذي في السّماء ، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض ، بدليل قوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧].

٢٥٩

وقيل : المراد من العرش : الملك ، يقال : فلان على عرشه أي : ملكه. وقال أبو مسلم الأصفهاني. «المراد بالعرش : أنّه تعالى لمّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإنّ كلّ بناء يسمّى عرشا ، وبانيه يسمّى عارشا ، قال تعالى (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل : ٦٨] أي : يبنون ، وقال : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [البقرة : ٢٥٩] ، والمراد : أنّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها ، وقال : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] أي : بناؤه على الماء ، وإنّما ذكر الله تعالى ذلك ، لأنه أعجب في القدرة ، لأنّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة ، لئلّا ينهدم بناؤه ، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ، ليعرف العقلاء كمال قدرته ، فالمراد بالاستواء على العرش : هو الاستعلاء عليه بالقهر ، لقوله (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف : ١٢ ، ١٣] ، فوجب حمل اللفظ على ذلك ، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السّماء ، لأنّ الاستدلال على وجود الصّانع ، يجب أن يكون بشيء معلوم ومشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأمّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة محسوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصّانع صوابا حسنا».

وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] الآية.

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه في محل رفع خبرا ثانيا ل «إنّ».

الثاني : أنّه حال.

الثالث : أنه مستأنف لا محلّ له من الإعراب. ومعنى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة ، أي : يدبّر أحوال الخلق ، وأحوال ملكوت السموات والأرض. قوله (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي : يدبر الأشياء ، لا بشفاعة شفيع ، ولا تدبير مدبر ، فمعناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنه.

فإن قيل : كيف يليق ذكر الشّفيع مع ذكر مبدأ الخلق ، وإنّما يليق ذكره بأحوال القيامة؟ فالجواب : قال الزّجّاج : إنّ الكفّار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون : إنّ الأصنام شفعاؤنا عند الله. وهذا ردّ على النضر بن الحارث ، كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللّات والعزّى.

وقال أبو مسلم : «الشّفيع هاهنا هو الثاني ، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال : الزوج والفرد». فمعنى الآية : خلق الله السموات والأرض وحده لا شريك يعينه ، ثم خلق الملائكة والجنّ والبشر ، وهو المراد من قوله (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي : لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود ، إلّا من بعد أن قال له : كن حتّى كان. ثم قال

٢٦٠