اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

[القصص : ٥٦]. وفي رواية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمّه «قل : لا إله إلّا الله أشهد لك بها يوم القيامة» ، قال : لو لا أن تعيّرني قريش ، يقولون : إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ؛ فنزل قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية (١). قال الواحديّ : «وقد استبعده الحسين بن الفضل ؛ لأنّ هذه السّورة من آخر القرآن نزولا ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام».

قال ابن الخطيب «وليس هذا بمستبعد ؛ فإنّه يمكن أن يقال : إنّ النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) وروي عن علي بن أبي طالب أنّه سمع رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية».

وفي رواية : فأنزل الله عزوجل (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) إلى قوله (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤].

فصل

قال القرطبيّ : «تضمّنت هذه الآية قطع موالاة الكفّار حيّهم وميّتهم ؛ لأنّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز ، فإن قيل : صحّ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم أحد حين كسرت رباعيته وشجّ وجهه : «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» (٢) فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجواب أنّ ذلك القول من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على سبيل الحكاية عمّن تقدّمه من الأنبياء ، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنّي أنظر إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي نبيّا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدّم عن وجهه ويقول «ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون» وروى البخاريّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمّن قبله».

قال القرطبيّ : لأنّه قاله ابتداء عن نفسه. وجواب ثان : أنّ المراد بالاستغفار في الآية : الصّلاة. قال عطاء بن أبي رباح : الآية في النّهي عن الصّلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة.

جواب ثالث : أنّ الاستغفار للأحياء جائز ؛ لأنّه مرجو إيمانهم ، ويمكن تألفهم بالقول الجميل ، وترغيبهم في الدّين بخلاف الأموات».

قوله : (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) كقوله : «أعطوا السائل ولو على فرس» وقد تقدّم أنها حال معطوفة على حال مقدرة. وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: ١١٣] كالعلّة للمنع من الاستغفار لهم.

__________________

(١) انظر الحديث السابق.

(٢) تقدم تخريجه.

٢٢١

قوله : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ).

في تعلّق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها : أنّه لا يتوهم إنسان أنّه تعالى منع محمّدا من بعض ما أذن لإبراهيم فيه.

وثانيها : أنه تعالى لمّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات ، بيّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضا في دين إبراهيم ؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة أكمل ، وأقوى.

وثالثها : أنّه تعالى وصف إبراهيم بكونه حليما أي : قليل الغضب ، وبكونه أواها ، أي : كثير التّوجع والتّفجّع عند نزول المضار بالنّاس ، ومن كان موصوفا بهذه الصّفة كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديدا ؛ فكأنه قيل : إنّ إبراهيم مع جلالة قدره ، وكونه موصوفا بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر ، فمنع غيره أولى.

قوله : (وَعَدَها إِيَّاهُ). اختلف في الضمير المرفوع ، والمنصوب المنفصل ، فقيل ـ وهو الظاهر ـ إنّ المرفوع يعود على «إبراهيم» ، والمنصوب على «أبيه» ، يعني : أنّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له ، ويؤيد هذا قراءة الحسن ، وحماد الرّواية (١) ، وابن السّميفع ومعاذ القارىء «وعدها أباه» بالباء الموحدّة. وقيل : المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل «إبراهيم». وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنّه يؤمن ؛ فذلك طمع في إيمانه.

فصل

دلّ القرآن على أنّ إبراهيم استغفر لأبيه ، لقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦] وقوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١] وقال : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] وقال أيضا (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤] ، والاستغفار للكافر لا يجوز.

فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ؛ فلذا استغفر له ، فلمّا تبيّن له أنّه لا يؤمن وأنّه عدو لله ، تبرّأ منه. وقيل : إنّ الواعد «إبراهيم» وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران :

الأول : أنّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام ، وكان يقول له آمن حتى تتخلّص من العقاب ، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفار ، فلمّا أخبره تعالى بأنّه يموت كافرا ترك تلك الدّعوة.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٥ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٨.

٢٢٢

والثاني : أنّ من النّاس من حمل قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق ، قالوا : ويدل عليه قوله : «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا».

فصل

اختلفوا في السّبب الذي تبيّن إبراهيم به أنّ أباه عدوّ لله. فقيل : بالإصرار والموت وقيل : بالإصرار وحده. وقيل : بالوحي. فكأنه تعالى يقول : لمّا تبيّن لإبراهيم أنّ أباه عدو لله تبّرأ منه ؛ فكونوا كذلك ، لأنّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله : (اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النحل : ١٢٣]. قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ.). الأوّاه : الكثير التأوه ، وهو من يقول : أوّاه ، وقيل : من يقول : أوّه ، وهو أنسب ؛ لأنّ «أوه» بمعنى : أتوجع ، ف «الأوّاه» : فعّال مثال مبالغة من ذلك ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا ؛ لأنّ أمثله المبالغة إنّما تطّرد في الثّلاثي وقد حكى قطرب فعله ثلاثيا ، فقال : يقال : آه يئوه ، ك : قام يقوم ، «أوها».

وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يقال من «أوّه» بمعنى : أتوجّع ، فعل ثلاثي ، إنما يقال : أوّه تأويها ، وتأوّه تأوها ؛ قال الراجز : [الرجز]

٢٨٥٠ ـ فأوّه الرّاعي وضوضى أكلبه (١)

وقال المثقب العبديّ : [الوافر]

٢٨٥١ ـ إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرّجل الحزين (٢)

وقال الزمخشريّ : «أوّاه : فعّال ، من أوّه ، ك : «لئّال» من اللّؤلؤ ، وهو الذي يكثر التّأوّه».

قال أبو حيان «وتشبيه «أوّاه» من «أوّه» ك «لئّال» من اللؤلؤ ليس بجيد ؛ لأنّ مادة «أوّه» موجودة في صورة «أوّاه» ، ومادة «لؤلؤ» مفقودة في «لئّال» ؛ لاختلاف التركيب إذ «لئّال» ثلاثي ، و «لؤلؤ» رباعيّ ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية».

قال شهاب الدّين : «لئّال» ، و «لؤلؤ» كلاهما من الرّباعي المكرر ، أي : إنّ الأصل لام وهمزة ثم كرّرنا ، غاية ما في الباب أنّه اجتمع الهمزتان في «لئّال» فأدغمت أولاهما في الأخرى ، وفرق بينهما في «لؤلؤ» وقال ابن الأثير في قوله عليه‌السلام : «أوه عن الرّبا» كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء ، وربّما

__________________

(١) ينظر : الطبري ١٤ / ٥٣٥ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٨.

(٢) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٧٠ ، طبقات فحول الشعراء ١ / ٢٧٣ ، جامع البيان ١٤ / ٣٥٤ ، الخصائص ٣ / ٣٨ ، ابن يعيش ٤ / ٣٩ ، معاني الزجاج ٢ / ٤٧٤ ، زاد المسير ٣ / ٥١٠ ، التهذيب ٦ / ٨٠ اللسان : أوه ، المفضليات ٥٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٨.

٢٢٣

قلبوا الواو ألفا فقالوا : آه من كذا ، وربّما شدّدوا الواو وكسروها وسكّنوا الهاء فقالوا «أوّه» وربما حذفوا مع التّشديد الهاء فقالوا : «أوّ» وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول «أوّه».

وقال الجوهريّ : بعضهم يقول «آوّه» بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء ؛ لتطويل الصوت بالشّكاية ، وربّما أدخلوا فيه التّاء فقالوا «أوّتاه» بمدّ وبغير مدّ.

فصل

قال عليه الصلاة والسّلام : «الأوّاه : الخاشع المتضرّع» (١) وعن عمر : أنّه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأوّاه ، فقال : «الدّعّاء» (٢). ويروى أن زينب تكلّمت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما غيّر لونه ؛ فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسّلام : «دعها فإنّها أوّاهة» فقيل يا رسول الله ، وما الأواهة؟ قال : «الدّاعية الخاشعة المتضرّعة» (٣).

وقيل : معنى كون إبراهيم أوّاها ، كلّما ذكر لنفسه تقصيرا ، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوّه إشفاقا من ذلك واستعظاما له. وعن ابن عبّاس : الأوّاه ، المؤمن التّواب (٤).

وقال عطاء وعكرمة : هو الموقن (٥). وقال مجاهد والنخعيّ : هو الفقيه (٦). وقال الكلبيّ وسعيد بن المسيّب : هو المسبّح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة (٧). وقال أبو ذرّ : هو المتأوه ؛ لأنه كان يقول «آه من النّار قبل ألا تنفع آه» (٨). و «الحليم» معلوم.

وإنّما وصفه بهذين الوصفين ههنا ؛ لأنّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشّفقة والخوف ، ومن كان كذلك فإنّه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، ثم إنّه مع هذه الصفات تبرّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمّا ظهر له إصراره على الكفر ، فأنتم بهذا المعنى أولى.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) الآية.

__________________

(١) أخرجه ابن عساكر (٢ / ٧٦) والطبري (٦ / ٤٩٨).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٢).

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٦٧).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري (٦ / ٤٩٦) عن ابن عباس وعطاء وعكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٠٩ ـ ٥١٠) وعزاه إلى ابن جرير وأبي الشيخ عن ابن عباس. وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥١٠) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٩٧).

(٨) أخرجه الطبري (٦ / ٤٩٨).

٢٢٤

لمّا منع المسلمين من أن يستغفروا للمشركين ، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية ، فلمّا نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين.

وأيضا فإنّ أقواما من المسلمين الذين استغفروا للمشركين ، كانوا ماتوا قبل نزول هذه الآية فوقع الخوف في قلوب المسلمين أنّه كيف يكون حالهم ؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلّا بعد أن يبيّن لهم أنّه يجب عليهم أن يتّقوه ويحترزوا عنه فهذا وجه حسن في النّظم.

فصل

معنى الآية : ما كان الله ليحكم عليكم بالضّلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ).

قال مجاهد : «بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة» (١). وقال الضحاك : «ما كان الله ليعذّب قوما حتى يبيّن لهم ما يأتون وما يذرون» (٢). وقال مقاتل والكلبيّ : هذا في المنسوخ ، وذلك أنّ قوما قدموا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ، ولا علم لهم بذلك ، ثم قدموا بعد ذلك المدينة ؛ فوجدوا الخمر قد حرّمت والقبلة قد صرفت ، فقالوا يا رسول الله : قد كنت على دين ونحن على غيره ، فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ)(٣) الناسخ ، وقيل : المعنى : أنّه أضله عن طريق الجنّة أي : صرفه ومنعه من التوجّه إليه.

وقالت المعتزلة : المراد من هذا الإضلال ، الحكم عليهم بالضلال ؛ واحتجّوا بقول الكميت: [الطويل]

٢٨٥٢ ـ وطائفة قد أكفروني بحبّكم

 ......... (٤)

قال ابن الأنباري «وهذا التّأويل فاسد ؛ لأنّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل ، واحتجاجهم ببيت الكميت باطل ؛ لأنه يلزم من قولنا : أكفر في الحكم صحة قولنا : أضلّ. وليس كل موضع صح فيه صح فيه «فعل» فإنّه يجوز أن يقال «كسر» ، و «قتل» ، ولا يجوز «أكسر» ، و «أقتل» ؛ بل يجب فيه الرّجوع إلى السماع».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٠) وذكره البغوي (٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ينظر : الرازي ١٦ / ١٦٨.

٢٢٥

قوله : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). الآية.

فيها فوائد :

أحدها : أنّه تعالى لمّا أمر بالبراءة من الكفّار ، بيّن أنّه له ملك السموات والأرض ، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم.

وثانيها : أنّ المسلمين قالوا : لمّا أمرتنا بالانقطاع عن الكفّار ؛ فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا ، وأولادنا ، وإخواننا ، فكأنّه قيل : إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم ، فالإله المالك للسّموات والأرض ، المحيي المميت ناصركم ؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم.

وثالثها : أنّه تعالى لمّا أمر بهذه التكاليف الشّاقة كأنّه قال : وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي ، لكوني إلهكم ، ولكونكم عبيدا لي.

قوله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)(١١٩)

قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) الآية.

لمّا شرح أحوال غزوة تبوك ، وأحوال المتخلّفين عنها ، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) الآية. تاب الله : تجاوز وصفح ، ومعنى توبته على النبيّ : مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلّف ، فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلّف عنه.

وقيل : توبة الله عليهم استنقاذهم من شدّة العسرة. وقيل : خلاصهم من نكاية العدوّ وعبّر عن ذلك بالتوبة ـ وإن خرج عن عرفها ـ لوجود معنى التّوبة فيه ، وهو الرّجوع إلى الحالة الأولى. وقيل : افتتح الكلام به ؛ لأنّه كان سبب توبتهم ، فذكره معهم ، كقوله تعالى : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١]. وقيل : لا يبعد أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي ، إلّا أنّه تعالى تاب عليهم ، وعفا عنهم ، لأجل تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد ، ثم إنّه تعالى ضمّ ذكر الرسول إلى ذكرهم ، تنبيها على عظم مراتبهم في الدّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إليهم في قبول التوبة.

قوله : «... اتّبعوه» يجوز فيه وجهان :

٢٢٦

أحدهما : أنّه اتباع حقيقي ، ويكون عليه الصلاة والسّلام خرج أولا ، وتبعه أصحابه. وأن يكون مجازا ، أي : اتبعوا أمره ونهيه. وساعة العسرة عبارة عن وقت الخروج إلى الغزو ، وليس المراد حقيقة السّاعة ، بل كقولهم «يوم الكلاب» ، و : [الطويل]

٢٨٥٣ ـ .........

عشيّة قارعنا جذام وحميرا (١)

فاستعيرت «السّاعة» لذلك ؛ كما استعير «الغداة» و «العشيّة» في قوله : [الطويل]

٢٨٥٤ ـ غداة طفت علماء بكر بن وائل

 ......... (٢)

وقوله : [الطويل]

٢٨٥٥ ـ إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى

 ..........(٣)

فصل

في المراد بساعة العسرة قولان :

الأول : أنها غزوة تبوك ، والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّا في ذلك السّفر. والعسرة : تعذر الأمر وصعوبته. قال جابر «حصلت عسرة الظهر ، وعسرة الماء ، وعسرة الزّاد»(٤).

أمّا عسرة الظهر ؛ فقال الحسن : كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم (٥).

وأمّا عسرة الزّاد ، فربما مصّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها ، حتّى لا يبقى من

__________________

(١) البيت لزفر بن الحارث وتمامه :

وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة

عشية لاقينا جذام وحميرا

ينظر : الحماسة ١ / ١٥٥ ، الكشاف ٢ / ٢١٨ ، المغني ٢ / ٦٣٦ العيني ٢ / ٣٨٢ ، التصريح ١ / ٢٤٩ ، شرح الألفية لابن الناظم ١٩٧ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٨٢ ، أوضح المسالك ٢ / ٤٣١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٩.

(٢) صدر البيت وقائله قطرى بن الفجاءة وعجزه :

وعاجت صدور الخيل شطر تميم

ينظر : ديوانه ص (١٧٤) الوساطه (٤٥٠) ابن الشجرى ٩٧ البحر ٥ / ١١٠ معانى الفراء ٢ / ٣٧٧ ، الكشاف ٢ / ٢٤٨ ، شرح شواهد الشافيه ٤٩٨ ، اسرار العريه ص (٤٢٩) ، شرح المفصل ١٠ / ١٥٤ ، ١٥٥ ، الحماسه ١ / ٢٢١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٩.

(٣) صدر البيت لحاتم الطائى وهو فى الديوان (٤٦) وروايته هكذا :

متى يأت يوما وارثي يبتغي الغنى

بجد جمع كف غير ملء وللصفر

ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٨ ، البحر ٥ / ١١١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠٩.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٢).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٣).

٢٢٧

التّمرة إلّا النواة ، وكان معهم شيء من شعير مسوّس ، فكان أحدهم إذا وضع اللّقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللّقمة. وأمّا عسرة الماء ، فقال عمر : خرجنا في قيظ شديد ، وأصابنا فيه عطش شديد ؛ حتّى إنّ الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ، ويشربه (١).

وهذه تسمى غزوة العسرة (٢) ، ومن خرج فيها فهو جيش العسرة ، وجهزهم عثمان وغيره من الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ.

والثاني : قال أبو مسلم «يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال ، والأوقات الشديدة على الرّسول ، وعلى المؤمنين ؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن ، كقوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) [الأحزاب : ١٠] وقوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) [آل عمران : ١٥٢] الآية ، والمقصود منه وصف المهاجرين ، والأنصار بأنّهم اتّبعوا الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم».

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ) قرأ حمزة وحفص (٣) عن عاصم «يزيغ» بالياء

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) غزوة تبوك : في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ـ لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حصار الطائف إلى المدينة بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد حشدوا له جمعا كثيرا يريدون غزوه في عقر داره فأراد أن يلاقيهم على حدود بلادهم قبل أن يغشوه على غرة فسار بجيشه حتى وصل تبوك. وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته فآثرت الانسحاب بجيشها لتتحصن في داخل بلاد الشام فرأى النبي عليه الصلاة والسّلام أن من الحكمة ألا يتبعهم داخل بلادهم فلم يتبعهم وهناك جاءه يوحنا بن رؤبة فصالحه على الجزية كما صالحه أهل جرباء وأهل أذرح من بلاد الشام ـ وأرسل رسول الله خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل فأتى به خالد أسيرا بعد أن قتل أخاه فحقن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه ، وصالحه على الجزية وأخلى سبيله وأقام بضع عشرة ليلة لم يقدم عليه الروم ، ولا العرب المتنصرة فعاد إلى المدينة ولما بلغ ملك الروم ما فعله يوحنا أمر بقتله ، وصلبه عند قريته. لم يكن من المعقول بعد ذلك أن يتهاون المسلمون فيما أصابهم من قتل رسولهم وأبطالهم ومعاهدهم الذي أمنوه على نفسه وماله بأخذ الجزية ، وإعطاء العهد كما أنه لم يكن معقولا أن الروم بعد أن رأوا حضور المسلمين للقصاص يكفون عن مناجزتهم والإيقاع بهم أينما وجدوا لذلك سبيلا.

لهذا عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر حياته إلى تجهيز جيش آخر تحت إمرة أسامة بن زيد. ولكن لم يكد يتم أمره حتى قبض الرسول صلوات الله عليه وانتقل إلى الرفيق الأعلى ، وتولى أمر المسلمين بعده صاحبه أبو بكر فارتأى رضي الله عنه أن الحزم في إنفاذ هذا الجيش حتى لا يطمع في الإسلام أعداؤه ويتألب عليه خصومه ، وتوالت بعد ذلك حروب الروم حتى فتح المسلمون بلادهم في عهد أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما بعد نضال عنيف ، وحروب كثيرة.

(٣) ينظر : السبعة ص (٣١٩) ، الحجة ٤ / ٢٣٤ ، حجة القراءات ص (٣٢٥) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٧ ، إتحاف ٢ / ١٠٠.

٢٢٨

من تحت والباقون بالتاء من فوق. فالقراءة الأولى تحتمل أن يكون اسم «كاد» ضمير الشّأن و «قلوب» مرفوع ب «يزيغ» ، والجملة في محلّ نصب خبرا لها ، وأن يكون اسمها ضمير القوم ، أو الجمع الذي دلّ عليه ذكر (الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ، ولذلك قدّره أبو البقاء ، وابن عطيّة : «من بعد ما كاد القوم». وقال أبو حيان (١) ـ في هذه القراءة ـ «فيتعيّن أن يكون في «كاد» ضمير الشّأن ، وارتفاع «قلوب» ب «يزيغ» ، لامتناع أن يكون «قلوب» اسم «كاد» ، و «يزيغ» في موضع الخبر ؛ لأنّ النّية فيه التأخير ولا يجوز : من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء» قال شهاب الدّين (٢) : ولا يتعيّن ما ذكر في هذه القراءة ، لما تقدّم من أنّه يجوز أن يكون اسم «كاد» ضميرا عائدا على الجمع أو القوم ، والجملة الفعليّة خبرها ، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك. وقوله : لامتناع أن يكون «قلوب» اسم «كاد» لزم أن يكون «يزيغ» خبرا مقدما ؛ فيلزم أن يرفع ضميرا عائدا على «قلوب» ، ولو كان كذلك للزم تأنيث الفعل ؛ لأنّه حينئذ مسند إلى ضمير مؤنث مجازي ؛ لأنّ جمع التّكسير يجري مجرى المؤنث مجازا. وأمّا قراءة التّاء من فوق ؛ فتحتمل أن يكون في «كاد» ضمير الشّأن ، كما تقدّم ، و «قلوب» مرفوع ب «تزيغ» وأنّث لتأنيث الجمع ، وأن يكون «قلوب» اسمها ، و «تزيغ» خبر مقدّم ، ولا محذور في ذلك ؛ لأنّ الفعل قد أنّث.

وقال أبو حيّان (٣) : وعلى كلّ واحد من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرّر في علم النّحو من أنّ خبر أفعال المقاربة لا يكون إلّا مضارعا رافعا ضمير اسمها ؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيّد بغير «عسى» من أفعال المقاربة ، ولا يكون سببيا ، وذلك بخلاف «كان» فإن خبرها يرفع الضمير والسببي لاسم «كان» ، فإذا قدّرنا فيها ضمير الشّأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر ، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم «كاد» ، بل ولا سببيا له ، وهذا يلزم في قراءة التّاء أيضا. وأما توسط الخبر ؛ فهو مبنيّ على جواز مثل هذا التركيب في مثل : «كان يقوم زيد» ، وفيه خلاف والصحيح المنع. وأمّا الوجه الأخير ؛ فضعيف جدا ، من حيث أضمر في «كاد» ضميرا ، ليس له على من يعود إلّا بتوهّم ومن حيث يكون خبر «كاد» رافعا سببيا. قال شهاب الدّين (٤) : كيف يقول «والصّحيح المنع» وهذا التركيب موجود في القرآن ، كقوله تعالى: (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف : ١٣٧] (كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) [الجن : ٤] ، وفي قول امرىء القيس : [الطويل]

٢٨٥٦ ـ وإن تك ساءتك منّي خليقة

 ......... (٥)

فهذا التركيب واقع لا محالة. وإنّما اختلفوا في تقديره : هل من باب تقديم الخبر ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١١١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٠٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١١٢.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥١٠.

(٥) تقدم.

٢٢٩

أم لا؟ فمن منع ؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح متى كان كذلك ؛ امتنع تقديمه على المبتدأ ، لئلّا يلتبس بباب الفاعل ؛ فكذلك بعد نسخه ، ومن أجاز فلأمن اللّبس. ثم قال أبو حيّان : «ويخلّص من هذه الإشكالات اعتقاد كون «كاد» زائدة ، ومعناها مراد ، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر ، فتكون مثل «كان» إذا زيدت ، يراد معناها ولا عمل لها ، ويؤيّد هذا التأويل قراءة ابن (١) مسعود «من بعد ما زاغت» بإسقاط «كاد» وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤] مع تأثّرها بالعامل وعملها فيما بعدها ؛ فأحرى أن يدّعى زيادتها ، وهي ليست عاملة ولا معمولة» قال شهاب الدّين زيادتها أباه الجمهور ، وقال به من البصريين الأخفش وجعل منه (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] وتقدّم الكلام [البقرة : ٢٠٥] على ذلك. وقرأ الأعمش (٢) ، والجحدريّ «تزيغ» بضم التاء ، وكأنّه جعل «أزاغ» ، و «زاغ» بمعنى. وقرأ أبيّ (٣) «كادت» بتاء التأنيث.

فصل

«كاد» عند بعضهم تفيد المقاربة ، وعند آخرين تفيد المقاربة مع عدم الوقوع و «الزيغ» الميل ، أي : من بعد ما كاد تميل قلوب فريق منهم ، أو بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدّين بل أراد الميل للتخلف ، والانصراف ؛ فهذه التوبة توبة عن تلك المقاربة.

واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم ، فقيل : همّ بعضهم عند تلك الشدّة العظيمة أن يفارق الرسول ، لكنه صبر واحتسب ؛ فلذلك قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) لمّا صبروا وندموا على ذلك الأمر اليسير. وقال آخرون : بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة ، فلمّا نالتهم الشّدة ، وقع ذلك في قلوبهم ، ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفا من أن يكون معصية ؛ فلذلك قال تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ).

فإن قيل : ذكر التوبة في أوّل الآية ، وفي آخرها ، فما فائدة التّكرار؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّه تعالى ابتدأ بذكر التّوبة قبل ذكر الذّنب تطيبا لقلوبهم ثم لمّا ذكر الذّنب أردفه مرة أخرى بذكر التوبة ؛ تعظيما لشأنهم.

وثانيها : إذا قيل : عفا السّلطان عن فلان ثمّ عفا عنه ، دلّ على أنّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوّة ، قال عليه الصلاة والسّلام : «إنّ الله ليغفر ذنب الرّجل المسلم عشرين مرّة» (٤) وهذا معنى قول ابن عبّاس في قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٩٣ البحر المحيط ٥ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٥١٠.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) تقدم.

٢٣٠

يريد ازداد عنهم رضا (١). قال ابن عبّاس : من تاب الله عليه لم يعذّبه أبدا (٢). وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء.

وثالثها : أنه قال (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) وهذا الترتيب يدلّ على أنّ المراد أنّه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ، ثمّ إنه تعالى زاد عليه فقال : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية ، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلّا يبقى في خاطر أحد شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثمّ قال تعالى (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وهما صفتان لله تعالى ، ومعناهما متقارب ، ويمكن أن تكون الرّأفة عبارة عن إزالة الضّرر ، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة.

وقيل : إحداهما للرّحمة السّالفة ، والأخرى للمستقبلة.

قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) الآية.

قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ) يجوز أن ينسق على «النبيّ» ، أي : تاب على النبي ، وعلى الثلاثة ، وأن ينسق على الضّمير في «عليهم» أي : تاب عليهم ، وعلى الثلاثة ، ولذلك كرّر حرف الجر.

وقرأ جمهور النّاس «خلّفوا» مبنيّا للمفعول مشددا ، من : خلّفه يخلّفه.

وقرأ أبو (٣) مالك كذلك إلّا أنّه خفّف اللّام. وقرأ عكرمة ، وزر (٤) بن حبيش ، وعمرو بن عبيد ، وعكرمة بن هارون المخزوميّ ، ومعاذ القارىء «خلفوا» مبنيّا للفاعل مخففا من : «خلفه».

والمعنى : الذين خلفوا ، أي : فسدوا ، من : خلوف الفم. ويجوز أن يكون المعنى أنهم خلفوا الغازين في المدينة. وقرأ أبو العالية (٥) ، وأبو الجوزاء كذلك ، إلّا أنّهما شدّدا اللام وقرأ أبو رزين ، وعلي (٦) بن الحسين ، وابناه : زيد ، ومحمد الباقر ، وابنه جعفر الصادق : «خالفوا» بألف ، أي : لم يوافقوا الغازين في الخروج.

قال الباق ر «ولو خلّفوا لم يكن لهم».

وقرأ الأعمش (٧) «وعلى الثّلاثة المخلّفين». و «الظّن» هنا بمعنى العلم ؛ كقوله : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٥ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٥١١.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٣١٨ ، البحر المحيط ٥ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٥١١.

(٦) ينظر : السابق.

(٧) ينظر : السابق.

٢٣١

٢٨٥٧ ـ فقلت لهم : ظنّوا بألفي مدجّج

سراتهم في الفارسيّ المسرّد (١)

وقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤١] ؛ لأنّه تعالى ذكر هذا الوصف في معرض المدح والثناء ، ولا يكون ذلك إلا مع علمهم. وقيل : هو على بابه ؛ لأنّه عليه الصلاة والسّلام وقف أمرهم على الوحي ، فهم لم يقطعوا بأنّ الله ينزل في شأنهم قرآنا ، بل كانوا مجوّزين لذلك ، أو كانوا قاطعين بأنّ الله ينزل الوحي ببراءتهم ، ولكنهم جوّزوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشّدّة ، فالظّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة.

قوله : (أَنْ لا مَلْجَأَ) «أن» هي المخففة سادّة مسدّ المفعولين ، و «لا» وما في حيّزها الخبر ، و (مِنَ اللهِ) خبرها ، ولا يجوز أن تتعلق ب «ملجأ» ، ويكون (إِلَّا إِلَيْهِ) الخبر لأنه كان يلزم إعرابه ؛ لأنّه يكون مطوّلا.

وقد قال : بعضهم : إنّه يجوز تشبيه الاسم المطوّل بالمضاف فينتزع ما فيه من تنوين ونون ، كقوله : [الطويل]

٢٨٥٨ ـ أراني ولا كفران لله أيّة

 ......... (٢)

وقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا صمت يوم إلى اللّيل» (٣) برفع «يوم» وقد تقدم ذلك [الأنفال ٤٨].

قوله : (إِلَّا إِلَيْهِ) استثناء من ذلك العامّ المحذوف ، أي : لا ملجأ لأحد إلّا إليه كقولك : «لا إله إلّا الله».

فصل

هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ).

واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل : ليس المراد أنهم أمروا بالتّخلف ، أو حصل الرّضا من الرّسول بذلك ، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلانا؟ فيقول : بموضع كذا ، لا يريد به أنّه أمره بالتخلّف ، بل لعلّه قد نهاه عنه ، وإنّما يريد أنّه تخلّف عنه.

وقيل : لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزو ؛ فأذن لهم الرّسول

__________________

(١) تقدم.

(٢) صدر بيت لكثير عزة وعجزه :

لنفس لقد طالبت غير منيل

وهو في ديوانه (٥٠٨) وروايته هكذا :

أراني ولا كفران لله إنما

أواخي من الأقوام كل بخيل

ينظر : الخصائص ١ / ٣٣٧ والمغني ٢ / ٣٩٤ واللسان (أوأ) والدر المصون ٣ / ٥١١.

(٣) أخرجه عبد الرزاق (١١٤٥٠ ، ١٣٨٩٩) والبيهقي (٦ / ٥٧ ـ ٧ / ٤٦١) والطحاوي (١ / ٢٨٠).

٢٣٢

ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في قدر تحصيل الآلات ، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل ، فصح أن يقال : خلفهم الرسول.

وقيل : إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) والمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة. قال كعب بن مالك ، وهو أحد الثلاثة : قول الله في حقنا (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ليس من تخلفنا إنّما هو تأخير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا ؛ يشير إلى قوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ).

فصل

هؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك الشّاعر ، وهلال بن أميّة الذي نزلت فيه آية اللعان ، ومرارة بن الرّبيع.

وفي قصتهم قولان :

الأول : أنّهم ذهبوا خلف الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، قال الحسن : كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاه ما خلّفني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا أمرك ؛ فاذهبي في سبيل الله ، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفعل ، وكان للثاني أهل فقال : يا أهلاه ما خلّفني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أمرك ؛ فلأكابدن المفاوز حتّى أصل إليه وفعل. والثالث : ما كان ذا مال ولا أهل فقال : ما لي سبب إلا الضّن بالحياة ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل قوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) [التوبة : ١٠٦].

والثاني ـ وهو قول الأكثرين ـ : أنهم ما ذهبوا خلف الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال كعب : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب حديثي ، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عليه الصلاة والسّلام : «ما الذي حبس كعبا» فلمّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم ، وأتيته فقلت : إن كراعي ، وزادي كان حاضرا ، واحتبست بذنبي ، فاستغفر لي فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، ثمّ إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة ، وأمر بمباينتهم ، حتى أمر بذلك نساءهم ؛ فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وجاءت امرأة هلال بن أميّة وقالت : يا رسول الله لقد بكى ، حتّى خفت على بصره ، حتّى إذا مضى خمسون يوما أنزل الله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ) [التوبة : ١١٧] وقوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حجرته ، وهو عند أمّ سلمة فقال : «الله أكبر ؛ قد أنزل الله عذر أصحابنا» فلمّا صلّى الفجر ذكر ذلك لأصحابه ، وبشرهم بأنّ الله تاب عليهم ؛ فانطلقوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعب : توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال : «لا» فقلت : نصفه ، قال : «لا» ، قلت : فثلثه ، قال : «نعم».

٢٣٣

فصل

معنى (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) تقدّم تفسيره في هذه السّورة وسببه : إعراض الرسول عنهم ، ومنع المؤمنين من مكالمتهم ، وأمر أزواجهم باعتزالهم ، وبقائهم على هذه الحالة خمسين يوما ، وقيل : أكثر حتّى ضاقت عليهم أنفسهم ، أي : ضاقت صدورهم بالغمّ والهمّ ، ومجانبة الأولياء ، ونظر النّاس إليهم بعين الإهانة ، و «ظنّوا» أي : استيقنوا (أَنْ لا مَلْجَأَ) لا مفزع من الله إلا إليه.

قال ابن الخطيب : يقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسّلام : «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك ، وأعوذ بك منك».

قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) فيه وجوه :

أحدها : قال أهل السّنّة : المراد منه أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فقوله : (تابَ عَلَيْهِمْ) يدلّ على أنّ التوبة فعل الله وقوله : «ليتوبوا» يدلّ على أنّها فعل العبد ؛ فهو نظير قوله: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) [التوبة : ٨٢] مع قوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ) [النجم : ٤٣] وقوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) [الأنفال : ٥] مع قوله (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [التوبة : ٤٠] وقوله (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) [يونس : ٢٢] مع قوله (قُلْ سِيرُوا) [الأنعام : ١١].

وثانيا : تاب عليهم في الماضي ليكون داعيا لهم إلى التوبة في المستقبل.

وثالثها : أصل التوبة الرّجوع أي : تاب عليهم ؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك.

ورابعها : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي : ليداوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها.

وخامسها : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) لينتفعوا بالتوبة (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

واعلم أنّ ذكر «الرّحيم» عقب ذكر «التّواب» يدلّ على أنّ قبول التوبة لمحض الرحمة والكرم ، لا لأجل الوجوب ، كما تقول المعتزلة ، وذلك يقوي أنّه لا يجب عقلا على الله قبول التوبة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) الآية.

لمّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة ، ذكر ما يكون كالزّاجر عن فعل مثل ما مضى ، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد ، أي : اتّقوا الله في مخالفة أمر الرسول (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي : مع النبي وأصحابه في الغزوات ، ولا تتخلّفوا عنها ، وتجلسوا مع المنافقين في البيوت.

قال نافع : (مَعَ الصَّادِقِينَ) أي : مع محمد. وقال سعيد بن جبير : مع أبي بكر وعمر(١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥٠٩).

٢٣٤

وقال ابن جريج : مع المهاجرين ، لقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) إلى قوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١) [الحشر : ٨].

وقال ابن عباس : مع الذين صدقت نياتهم ؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم ، وخرجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك بإخلاص ونيّة (٢). وقيل : من الذين صدقوا في الاعتراف بالذّنب ، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة.

فصل

دلّت الآية على فضيلة الصّدق ، وكمال درجته. قال ابن مسعود : إنّ الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيّه شيئا ثم لا ينجز له ، اقرءوا إن شئتم (٣) ، وقرأ الآية.

وروي أنّ رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنّي أريد أن أومن بك إلّا أنّي أحبّ الزّنا ، والخمر ، والسرقة ، والكذب ، والناس يقولون : إنك تحرم هذه الأشياء ، ولا طاقة لي على تركها بأسرها ، فإن قنعت منّي بترك واحد منها آمنت بك ، فقال عليه الصّلاة والسّلام «اترك الكذب» ؛ فقبل ذلك ثمّ أسلم ، فلمّا خرج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرضوا عليه الخمر ، فقال : إن شربت الخمر فسألني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شربها ، وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحدّ عليّ ، فتركها ، ثمّ عرضوا عليه الزّنا ؛ فجاء ذلك الخاطر ، فتركه ، وكذا في السرقة ، فعاد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : ما أحسن ما قلت ، لمّا منعتني من الكذب انسدت أبواب المعاصي عليّ ، وتاب عن الكلّ (٤) وقال ابن مسعود : «عليكم بالصّدق فإنّه يقرب إلى البرّ ، والبرّ يقرب إلى الجنّة ، وإنّ العبد ليصدق ؛ فيكتب عند الله صدّيقا ، وإياكم والكذب ، فإنّ الكذب يقرب إلى الفجور ، والفجور يقرّب إلى النار ، وإن الرّجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّابا ، ألا ترى أنه يقال : صدقت ، وبررت ، وكذبت ، وفجرت» (٥).

وقيل في قول إبليس : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص : ٨٢ ، ٨٣] إن إبليس لو لم يذكر هذا الاستثناء لصار كاذبا في ادعاء إغواء الكلّ ، فكأنه استنكف عن الكذب ؛ فذكر هذا الاستثناء ، وإذا كان الكذب شيئا يستنكف منه إبليس ، فالمسلم أولى أن يستنكف منه ومن فضائل الصّدق أنّ الإيمان منه لا من سائر الطّاعات ، ومن معايب الكذب أنّ الكفر منه لا من سائر الذنوب.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٣٧).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٧٦).

(٥) أخرجه البخاري ١٠ / ٥٢٣ كتاب الأدب ، باب قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ....» (٦٠٩٤) ومسلم ٤ / ٢٠١٢ كتاب البر والصلة باب قبح الكذب (١٠٣ ـ ٢٦٠٧).

٢٣٥

قوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١٢٢)

قوله تعالى (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية.

لمّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد ؛ أكد ذلك بالنّهي في هذه الآية عن التخلف عنه. قال المفسرون : ظاهره خبر ومعناه نهي ، كقوله تعالى (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] ، (وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) سكان البوادي : مزينة وجهينة ، وأشجع وأسلم ، وغفار ، قاله ابن عباس. وقيل : يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، فإنّ اللفظ عامّ ، والتخصيص تحكم ، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلّفوا عن رسول الله إذا غزا ، (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أي : لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدّعة حال ما يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحرّ والمشقّة ، والمعنى : ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لنفسه. يقال : رغبت بنفسي عن هذا الأمر ، أي : توقفت عنه وتركته ، وأرغب بفلان عن هذا الأمر ، أي : أبخل به عليه ولا أتركه.

وظاهر الآية وجوب الجهاد على الكل ، إلّا ما خصّه الدّليل من المرضى ، والضعفاء ، والعاجزين. ولمّا منعهم من التخلف ، بيّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلّا وهو يوجب الثّواب العظيم عند الله تعالى.

وذكر أمورا منها بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) مبتدأ وخبر ، والإشارة به إلى ما تضمّنه انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه. (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) وهو العطش ، يقال : ظمىء يظمأ ظمأ ، فهو ظمآن وهي ظمأى ، وفيه لغتان : القصر والمد ، وبالمد قرأ عمرو (١) بن عبيد ، نحو : سفه سفاها ، والظّمء : ما بين الشّربتين.

ومنها : قوله : (وَلا نَصَبٌ) أي : إعياء وتعب. (وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ، يقال : فلان خميص البطن ، ومنها قوله : (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ). «موطئا» مفعل ، من : وطىء ، ويحتمل أن يكون مصدرا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١١٤ ، الدر المصون ٣ / ٥١١.

٢٣٦

بمعنى : الوطء وأن يكون مكانا ، والأوّل أظهر ؛ لأنّ فاعل «يغيظ» يعود عليه من غير تأويل ، بخلاف كونه مكانا ، فإنّه يعود على المصدر ، وهو الوطء ، الدالّ عليه مكان الموطىء. والمعنى : لا يضع الإنسان قدمه ، ولا يضع فرسه حافره ، ولا يضع بعيره خفه ، بحيث يصير ذلك سببا لغيظ الكفار. قوله : (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) قال ابن الأعرابي : يقال : غاظه ، وغيّظه ، وأغاظه بمعنى واحد ، أي : أغضبه. وقرأ زيد (١) بن عليّ «يغيظ» بضمّ الياء.

وقوله : (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) النّيل : مصدر ؛ فيحتمل أن يكون على بابه ، وأن يكون واقعا موقع المفعول به ، وليس ياؤه مبدلة من «واو» كما زعم بعضهم ، بل ناله ينوله مادة أخرى ، وبمعنى آخر ، وهو «المناولة» ، يقال : نلته أنوله ، أي : تناولته ، ونلته أناله ، أي : أدركته. والمعنى : ولا ينالهم من العدو أسرا ، أو قتلا ، أو هزيمة قليلا كان أو كثيرا (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) أي كان ذلك قربة عند الله لهم.

قال قتادة : «هذا الحكم من خواص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلّف عنه إلّا بعذر» (٢) وقال ابن زيد : هذا حين كان المسلمون قلّة فلمّا كثروا نسخها الله بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٣). وقال عطيّة : ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم ، وهذا هو الصحيح ؛ لأنّ إجابة الرّسول واجبة ، وكذلك غيره من الأئمة.

قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعيّ ، وابن المبارك ، وابن جابر ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنّها لأوّل هذه الأمّة وآخرها ، وذلك لأنا لو سوّغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهاد.

قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي : تمرة فما فوقها ، وعلاقة سوط فما فوقها (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) قال الزمخشريّ : «الوادي» : كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسبيل ، وهو في الأصل فاعل من : ودى ، إذا سال ، ومنه «الوديّ». وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على «أودية» ، وليس بقياس ، وكان قياسه «الأوادي» ، ك «أواصل» جمع : «واصل» ، والأصل : وواصل ، قلبت «الواو» الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده ، حتى قالوا : «أقيت» في «وقيت». وحكى الخليل ، وسيبويه ، في تصغير واصل اسم رجل «أويصل» ، ولا يقولون غيره قال النّحّاس (٤) «ولا أعرف فاعلا وأفعلة سواه» وقد استدرك هذا عليه ؛ فزادوا : ناد وأندية ؛ وأنشدوا : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١١٤ ، الدر المصون ٣ / ٥١١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥١١).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥١١).

(٤) ينظر : إعراب القرآن ٢ / ٤٥.

٢٣٧

٢٨٥٩ ـ وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل (١)

والنّادي المجلس.

وقال الفرّاء : إنّه يجمع على «أوداء» ك «صاحب وأصحاب» ؛ وأنشد لجرير : [الوافر]

٢٨٦٠ ـ عرفت ببرقة الأوداء رسما

محيلا طال عهدك من رسوم (٢)

وزاد الرّاغب في «فاعل وأفعلة» : «ناج وأنجية» فقد كملت ثلاثة ألفاظ ، في «فاعل وأفعلة». ويقال : أوداه : أي : أهلكه ؛ كأنهم تصوّروا منه إسالة الدّم. وسميت الدّية دية ؛ لأنّها في مقابلة إسالة الدّم. ومنه «الودي» وهو ماء الفحل عند المداعبة ، وما يخرج عند البول ، و «الوديّ» بكسر الدال وتشديد الياء : صغار النّحل.

قوله : (إِلَّا كُتِبَ) هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من «ظمأ» وما عطف عليه أي : لا يصيبهم ظمأ إلا مكتوبا. وأفرد الضّمير في «به» ، وإن تقدّمته أشياء ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة ، أي : كتب لهم بذلك عمل صالح.

قال ابن عبّاس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة (٣).

وقوله : (إِلَّا كُتِبَ) كنظيره. والمضمر : يحتمل أن يعود على العمل الصالح المتقدم ، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «ينفقون» و «يقطعون» ، أي : إلّا كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله : «ليجزيهم» متعلق ب «كتب» وقوله : (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فيه وجهان :

الأول : أنّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح ، والله تعالى يجزيهم على الأحسن ، وهو الواجب والمندوب دون المباح.

والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء ، أي : يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل ، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف» (٤).

قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية.

يمكن أن يقال هذه الآية من بقيّة أحكام الجهاد ، ويمكن أن يقال إنّه كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ٤٩٤ برواية الوداء في موضع الأوداء والبحر المحيط ٥ / ٩٢ واللسان (ودى) والقرطبي ٨ / ١٨٥ والدر المصون ٣ / ٥١٢.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٨ / ١٨٥).

(٤) أخرجه الترمذي ٤ / ١٤٥ كتاب فضل الجهاد : باب ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله (١٦٢٨) والنسائي ٦ / ٤٩ كتاب الجهاد : باب فضل النفقة في سبيل الله (٣١٨٦) وأحمد ٤ / ٣٤٥.

٢٣٨

أمّا الأول فنقل عن ابن عبّاس أنّه عليه الصلاة والسّلام كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلّف عنه إلّا منافق أو صاحب علة. فلمّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن شيء من الغزوات مع الرسول ، ولا عن سرية. فلمّا قدم الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ المدينة ، وأرسل السّرايا إلى الكفّار ، نفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة ؛ فنزلت هذه الآية (١). والمعنى : لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد ، بل يجب أن يصيروا طائفتين ، طائفة تبقى في خدمة الرسول ، وطائفة أخرى تنفر للجهاد ، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجا إلى الجهاد ، وأيضا كانت التّكاليف والشّرائع تنزل ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيما بحضرة الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يتعلّم تلك الشرائع والتكاليف ، ويبلغها للغائبين ، وبهذا الطريق يتمّ أمر الدّين ، وعلى هذا القول ففيه احتمالان :

أحدهما : أن تكون الطّائفة المقيمة هم الذين يتفقّهون في الدّين لملازمتهم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ومشاهدتهم التنزيل ؛ فكلما نزل تكليف وشرع ؛ عرفوه وحفظوه ، فإذا رجعت الطائفة النّافرة من الغزو ؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التّكاليف والشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار ، والتقدير : فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين ، ولينذروا قومهم ، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى.

والاحتمال الثاني : أنّ التفقة صفة للطائفة النافرة قاله الحسن. والمعنى : فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين (٢) ، أي : أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين ، وأنّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين ؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنّ الله تعالى خصهم بالنّصرة ، والتأييد وأنّ الله تعالى يريد إعلاء دين محمد ، وتقوية شريعته ؛ فإذا رجعوا إلى قومهم من الكفّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر ، والفتح ، والظفر ، لعلهم يحذرون ؛ فيتركوا الكفر والنفاق.

وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ ؛ فتقريره أنّ الله تعالى ، لمّا بيّن في هذه السورة أمر الهجرة ، ثم أمر الجهاد ، وهما عبادتان بالسّفر ، بيّن أيضا عبادة التفقه من جهة الرّسول وله تعلق بالسفر ، فقال : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إلى حضرة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ليتفقهوا في الدّين ، بل ذلك غير واجب ، وليس حاله كحال الجهاد مع الرسول الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له.

ثم قال : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) يعني من الفرق الساكنين في البلاد ، طائفة

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٧٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥١٦) بنحوه وذكره البغوي (٢ / ٣٣٩).

٢٣٩

إلى حضرة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ليتفقهوا في الدّين ، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم ؛ فينذروا ويحذروا قومهم ، لكي يرجعوا عن كفرهم ، وعلى هذا فالمراد وجوب الخروج إلى حضرة الرّسول للفقه والتعلّم.

فإن قيل : أفتدلّ الآية على وجوب الخروج للتفقه في كلّ زمان؟.

فالجواب : متى عجز عن التفقه إلّا بالسّفر ؛ وجب عليه السّفر ، وفي زمان الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان الأمر كذلك ؛ لأنّ الشريعة ما كانت مستقرة ، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد ، وشرع حادث. وأمّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة ؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السّفر.

قوله : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) «لو لا» تحضيضية ، والمراد به الأمر ؛ لأنّ «لو لا» إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل «هلّا» ؛ لأنّ «هلّا» كلمتان «هل» وهو استفهام وعرض ؛ لأنك إذا قلت للرّجل : هل تأكل؟ فكأنّك عرضت ذلك عليه ، و «لا» وهو جحد ، ف «هلّا» مركب من أمرين : العرض ، والجحد. فإذا قلت : هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت : هل فعلت. ثم قلت معه «لا» أي : ما فعلت ، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب ، وهكذا الكلام في «لو لا» لأنك إذا قلت : لو لا دخلت عليّ ، ولو لا أكلت عندي ، فمعناه أيضا عرض وإخبار عن سرورك به ، لو فعل ، وهكذا الكلام في «لوما» ومنه قوله : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [الحجر : ١٧] ف «لو لا» ، و «هلّا» و «لوما» ألفاظ متقاربة ، والمراد بها : الترغيب والتحضيض. و «منهم» يجوز أن يكون صفة ل «فرقة» ، وأن يكون حالا من «طائفة» ؛ لأنّها في الأصل صفة لها. وعلى كلا التّقديرين فيتعلق بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال : إنّ (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) حال من «طائفة» و «منهم» صفة ل «فرقة». ويجوز أن يكون (مِنْ كُلِّ) متعلقا ب «نفر». وفي الضمير من قوله «ليتفقّهوا» قولان :

أحدهما : أنّه للطّائفة النّافرة.

والثاني : للطائفة القاعدة ، والضّمير في «رجعوا» عائد على النّافرة. قال ابن العربي ، والقاضي أبو بكر ، والشيخ أبو الحسن : «إنّ الطّائفة ههنا واحد ، ويقضون على وجوب العمل بخبر الواحد ، وهو صحيح ، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد ، وأنّ مقابله وهو التّواتر لا ينحصر».

قال القرطبي : «أنص ما يستدل به على أنّ الواحد يقال له : طائفة قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] أي : نفسين ، بدليل قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : ١٠] فجاء بلفظ التثنية ، وأما الضمير في : «اقتتلوا» وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين».

٢٤٠