اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

وثالثها : أنّهم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا ، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدّ الجهات فسادا.

ورابعها : أنّ من أصبح وأمسى مشاهدا لوعظ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبياناته الشافية ، كيف يكون مساويا لمن لم يؤثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره؟.

وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ، لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية. و «أشدّ» أصله : أشدد ، وقد تقدم. وقوله «كفرا» نصب على الحال ، و «نفاقا» عطف عليه ، و «أجدر» عطف على «أشدّ».

الحكم الثاني : قوله : (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا ..) «أجدر» أي : أحقّ وأولى ؛ يقال : هو جدير وأجدر ، وحقيق وأحقّ ، وخليق وأخلق ، وقمن بكذا ، كلّه بمعنى واحد ، قال الليث : جدر يجدر جدارة ، فهو جدير ، ويثنّى ويجمع ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٢٨٣٦ ـ بخيل عليها جنّة عبقريّة

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا (١)

وقد نبّه الرّاغب على أصل اشتقاق هذه المادة ، وأنّها من الجدار ، أي : الحائط ، فقال : «والجدير : المنتهى ، لانتهاء الأمر إليه ، انتهاء الشّيء إلى الجدار». والذي يظهر أنّ اشتقاقه من : الجدر ، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنّه ثابت كثبوت الجدر في قولك : جدير بكذا.

وقوله : (أَلَّا يَعْلَمُوا) أي : بألّا يعلموا ، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلاف المشهور بين الخليل والكسائي ، مع سيبويه والفراء. والمراد بالحدود : ما أنزل الله على رسوله ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السّنن. (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما في قلوب خلقه : «حكيم» فيما فرض عليهم من فرائضه.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً).

نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. «من» مبتدأ ، وهي إما موصولة ، وإمّا موصوفة.

و «مغرما» مفعول ثان ؛ لأنّ «اتّخذ» هنا بمعنى «صيّر». والمغرم : الخسران ، مشتق من الغرام ، وهو الهلاك ؛ لأنّه سببه ، ومنه : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥]. وقيل أصله الملازمة ، ومنه الغريم ، للزومه من يطالبه ، والمغرم : مصدر كالغرامة ، والمغرم التزام ما لا يلزم. قال عطاء : لا يرجون على إعطائه ثوابا ؛ ولا يخافون على إمساكه عقابا ، وإنّما ينفق مغرما ورياء (٢). و «يتربّص» عطف على «يتّخذ» ، فهو إمّا صلة ، وإما صفة. والتّربّص : الانتظار. وقوله : (بِكُمُ الدَّوائِرَ) فيه وجهان :

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٠).

١٨١

أظهرهما : أنّ الياء متعلقة بالفعل قبلها.

والثاني : أنها حال من «الدّوائر» قاله أبو البقاء وليس بظاهر ، وعلى هذا يتعلق بمحذوف على ما تقرّر. و «الدّوائر» جمع «دائرة» وهي ما يحيط بالإنسان من مصيبة ونكبة ، تصوّرا من الدّائرة المحيطة بالشّيء من غير انفلات منها ، وأصلها : «داورة» ؛ لأنّها من دار يدور ، أي : أحاط ، ومعنى «تربّص الدّوائر» أي : انتظار المصائب ؛ قال : [الطويل]

٢٨٣٧ ـ تربّص بها ريب المنون لعلّها

تطلّق يوما أو يموت حليلها (١)

قال يمان بن رئاب : «يعني ينقلب الزّمان عليكم فيموت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهر المشركون». قوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذه الجملة معترضة بين جمل هذه القصّة ، وهي دعاء على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابن كثير (٢) وأبو عمرو هنا : «السّوء» ، وكذا الثانية في الفتح بالضّم والباقون بالفتح.

وأمّا الأولى في الفتح ، وهي «ظنّ السّوء».

فاتفق على فتحها السبعة. فأمّا المفتوح فقيل : هو مصدر.

قال الفرّاء (٣) : «فتح السّين هو الوجه ؛ لأنّه مصدر يقال : سؤته سوءا ، ومساءة ، وسوائية ، ومسائية ، وبالضّم الاسم ، كقولك : عليهم دائرة البلاء والعذاب».

قال أبو البقاء : «وهو الضّرر ، وهو مصدر في الحقيقة». يعني أنّه في الأصل كالمفتوح ، في أنّه مصدر ، ثمّ أطلق على كل ضرر وشرّ. وقال مكي : «من فتح السّين فمعناه الفساد والرّداءة ، ومن ضمّها فمعناه الهزيمة والبلاء والضّرر». وظاهر هذا أنّهما اسمان لما ذكر. ويحتمل أن يكونا في الأصل مصدرا ، ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره : المضموم العذاب والضرر ، والمفتوح: الذم ، ألا ترى أنّه أجمع على فتح (ظَنَّ السَّوْءِ) [الفتح : ٦] وقوله : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨] ، إذ لا يليق ذكر العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن : «المضموم : العذاب ، والمفتوح ذمّ ل «دائرة» كقولك : رجل سوء ، في نقيض رجل عدل ؛ لأنّ من دارت عليه يذمّها». يعني أنّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغة ، ثم أضيفت لصفتها ، كقوله تعالى : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) [مريم : ٢٨]. قال أبو حيّان «وقد حكي بالضّمّ» ؛ وأنشد الأخفش : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣١٦) ، الحجة للقراءات السبعة ٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٩ ، حجة القراءات ص (٣٢١) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٢ ، إتحاف ٢ / ٩٦.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٥٠.

١٨٢

٢٨٣٨ ـ وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما

بصاحبه يوما أحال على الدّم (١)

وفي «الدائرة» مذهبان :

أظهرهما : أنها صفة على فاعلة ، ك «قائمة». وقال الفارسيّ : «يجوز أن تكون مصدرا كالعافية ، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء ، أو السوء لما عرف منها معنى السّوء ؛ لأنّ دائرة الدّهر لا تستعمل إلّا في المكروه ، والمعنى : يدور عليهم البلاء والحزن ، فلا يرون في محمد ، ودينه إلّا ما يسوؤهم». ثم قال (وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولهم ، «عليم» بنيّاتهم.

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية.

لمّا بيّن أنّ في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرما ، بيّن هنا أنّ منهم أيضا من يؤمن بالله واليوم الآخر. قال مجاهد : هم بنو مقرن من مزينة (٢). وقال الكلبيّ هم أسلم ، وغفار ، وجهينة (٣). وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأسلم وغفار ، وشيء من مزينة وجهينة ، خير عند الله يوم القيامة ، من أسد وغطفان وهوازن وتميم» (٤).

قوله : (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) ف «قربات» مفعول ثان ل «يتّخذ» كما مرّ في (مَغْرَماً) [التوبة : ٩٨] ولم يختلف قرّاء السبعة في ضمّ الرّاء من «قربات» ، مع اختلافهم في راء «قربة» كما سيأتي ، فيحتمل أن تكون هذه جمعا ل «قربة» بالضّم ، كما هي قراءة ورش عن نافع ، ويحتمل أن تكون جمعا للساكنها ، وإنّما ضمّت إتباعا ، ك «غرفات» ، وقد تقدّم التّنبيه على هذه القاعدة ، وشروطها عند قوله : (فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] أول البقرة.

قال الزجاج : يجوز في «القربات» أوجه ثلاثة ، ضم الراء ، وإسكانها ، وفتحها.

والمعنى : أنّهم يتخذون ما ينفقونه سببا لحصول القربات عند الله.

قوله : (عِنْدَ اللهِ) في هذا الظرف ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه متعلق ب «يتّخذ» والثاني : أنّه ظرف ل «قربات» ، قاله أبو البقاء. وليس بذلك.

الثالث : أنه متعلق بمحذوف ، لأنّه صفة ل «قربات». قوله : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) فيها وجهان :

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر : ديوانه ٢ / ١٨٧ ، جامع البيان ١٤ / ٤٣١ ، التهذيب ٥ / ٢٤٦ العقد الفريد ٦ / ٢٤٢ ، التفسير الكبير ٦ / ١٦٧ ، معاني الأخفش ٢ / ٥٥٩ اللسان (حول) ، الدر المصون ٣ / ٤٩٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٢) وزاد نسبته إلى سنيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢١).

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٥٥) كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل غفار وأسلم وجهينة ـ حديث (١٩١ / ٢٥٢١) من حديث أبي هريرة.

١٨٣

أظهرهما : أنّها نسق على «قربات» ، وهو ظاهر كلام الزمخشري ، فإنّه قال : «والمعنى أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله وصلوات الرسول ، لأنّه كان يدعو للمتصدّقين بالخير ، كقوله : اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى». والثاني ـ وجوّزه ابن عطية ولم يذكر أبو البقاء غيره ـ : أنها منسوقة على (ما يُنْفِقُ) ، أي : ويتّخذ بالأعمال الصّالحة صلوات الرسول قربة.

قوله : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ) الضمير في «إنّها» قيل : عائد على «صلوات». وقيل : على النّفقات أي : المفهومة من «ينفقون». وقرأ (١) ورش «قربة» بضمّ القاف والرّاء ، والباقون بسكونها ، فقيل : لغتان. وقيل : الأصل السكون ، والضّم إتباع. وقد تقدّم الخلاف بين أهل التصريف ، هل يجوز تثقيل «فعل» إلى «فعل»؟ وأنّ بعضهم جعل «يسرا ، عسرا» بضمّ السين فرعين على سكونها ، وقيل : الأصل «قربة» بالضّمّ ، والسكون تخفيف ، نحو : كتب ورسل ، وهذا أجرى على لغة العرب ، إذ مبناها الهرب من الثّقل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكّنه شهادة من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه. قال معناه الزمخشريّ ، قال : وكذلك سيدخلهم وما في السّين من تحقيق الوعد.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لسيّآتهم «رحيم» بهم حيث وفقهم لهذه الطّاعات.

قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) الآية.

(وَالسَّابِقُونَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مبتدأ ، وفي خبره ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه الجملة الدعائية من قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ).

والثاني : أنّ الخبر قوله : «الأوّلون» ، والمعنى : والسّابقون إلى الهجرة الأوّلون من أهل هذه الملّة ، أو السابقون إلى الجنّة الأولون من أهل الهجرة.

الثالث : أنّ الخبر قوله : (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) والمعنى فيه الإعلام بأنّ السابقين من هذه الأمّة من المهاجرين والأنصار ، ذكر ذلك أبو البقاء. وفي الوجهين الأخيرين تكلّف.

الثاني من وجهي «السّابقين» : أن يكون نسقا على (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) ، أي : ومنهم السابقون ، وفيه بعد ، والجمهور على جرّ «الأنصار» نسقا على «المهاجرين» يعني أنّ السابقين من هذين الجنسين.

وقرأ جماعة (٢) كثيرة أجلّاء : عمر بن الخطّاب ، وقتادة ، والحسن ، وسلام ، وسعيد

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٧) ، الحجة ٤ / ٢٠٩ ـ ٢١٢ ، حجة القراءات ص (٣٢٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ، إتحاف ٢ / ٩٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٤ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٥ ، البحر المحيط ٥ / ٩٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٧.

١٨٤

ابن أبي سعيد ، وعيسى الكوفيّ ، وطلحة ، ويعقوب (وَالْأَنْصارِ) برفعها ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّه مبتدأ ، وخبره (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ). والثاني : عطفه على «السّابقون» ، وقد تقدّم ما فيه ، فيحكم عليه بحكمه.

قوله : «بإحسان» متعلق بمحذوف ، لأنّه حال من فاعل «اتّبعوهم». وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يرى أن الواو ساقطة من قوله : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ويقول : إنّ الموصول صفة لمن قبله ، حتى قال له زيد بن ثابت : إنّها بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فأتوه به ، فقال له : تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، وأوسط الحشر (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) وآخر الأنفال (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا). وروي أنّه سمع رجلا يقرؤها بالواو ، فقال : من أقرأك؟ فقال : أبيّ ، فدعاه ، فقال : أقرأنيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنّك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صدقت ، وإن شئت قل : شهدنا وغبتم ، ونصرنا وخذلتم ، وآوينا وطردتم ، ومن ثمّ قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة ، لا يبلغها أحد بعدنا(١).

فصل

لمّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتّخذون ما ينفقون قربات عند الله ، وما أعد لهم ، بين أنّ فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها ، وهي منازل السّابقين الأولين. واختلفوا فيهم ، فقال ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وابن سيرين ، وجماعة : هم الذين صلّوا إلى القبلتين (٢) ، وقال عطاء بن أبي رباح : هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية (٣). وقال أبو مسلم : من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم. وقال ابن الخطيب : «والصحيح عندي أنّهم السّابقون في الهجرة ، والنصرة ، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا». واختلفوا هل يتناول جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة ، والنصرة أم يتناول بعضهم؟ فقال قوم: إنّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا ، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة ، لأنّ كلمة «من» للتّبعيض.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٣) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ عن محمد بن كعب القرظي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٤) عن أبي موسى وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين وقتادة.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢١).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٣) وعزاه إلى الطبري وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأبي نعيم في «المعرفة» عن أبي موسى وإلى ابن المنذر وأبي نعيم عن ابن سيرين وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وأبي نعيم في «المعرفة» عن سعيد بن المسيب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٣) عن الشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة وذكره البغوي أيضا في «تفسيره» (٢ / ٣٢١) عن الشعبي.

١٨٥

ومنهم من قال : بل يتناول جميع الصحابة ؛ لأنّ جملة الصّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة «من» في قوله (مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) ليست للتّبعيض ، بل للتبيين ، كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، وذهب إلى هذا كثير من النّاس.

روى حميد بن زياد أنّه قال : قلت يوما لمحمّد بن كعب القرظيّ : ألا تخبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينهم؟ وأردت الفتن ، فقال : إنّ الله قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنّة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال : سبحان الله! ألا تقرأ قوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ الجنّة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطا ، قلت : وما ذاك الشّرط؟ فقال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك ، أو يقال : المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول ، وهو ألّا يقولوا فيهم سوءا ، وألّا يوجهوا الطّعن فيما أقدموا عليه (١). قال حميد بن زياد : فكأنّي ما قرأت هذه الآية قط ، قال أبو منصور البغداديّ التميمي : أصحابنا مجمعون على أنّ أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريّون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.

فصل

واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنّها أوّل من آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال جابر : أوّل من أسلم وصلّى عليّ بن أبي طالب (٢). قال مجاهد وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين (٣). وقال ابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي : أوّل من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق (٤). وقال الزهريّ وعروة بن الزّبير : أوّل من أسلم زيد بن حارثة (٥). وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول : «أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ومن الصّبيان عليّ ، ومن العبيد زيد بن حارثة» (٦). قال ابن إسحاق : لمّا أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله ، وكان رجلا محسنا سهلا ، وكان تاجرا ، ذا خلق ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه ، لعلمه وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٥) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه عن حميد بن زياد.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢١).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٢) والرازي (١٦ / ١٣٥).

١٨٦

بن أبي وقّاص وطلحة بن عبيد الله ؛ فجاء بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أسلموا وصلّوا معه ، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلام ، ثم تتابع النّاس في الدّخول في الإسلام ، أمّا السابقون من الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلا ، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهؤلاء سباق الأنصار. ثمّ بعث رسول الله ، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلّمهم القرآن ؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان (١).

والمراد بالمهاجرين الذين هجروا قومهم وعشيرتهم ، وفارقوا أوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه ، وآووا أصحابه.

(وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) [التوبة : ١٠٠] قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب «من» للتبعيض. وقيل : هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء : الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالتّرحم والدّعاء (٢). ثم جمع الله في الثّواب فقال : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) وقرأ ابن (٣) كثير : «تجري من تحتها» ب «من» الجارّة ، وهي مرسومة في مصاحف مكّة. والباقون «تحتها» بدونها ولم ترسم في مصاحفهم. وأكثر ما جاء القرآن موافقا لقراءة ابن كثير في غير موضع.

قوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ...) خبر مقدّم ، و «منافقون» مبتدأ ، و (مِنَ الْأَعْرابِ) لبيان الجنس. (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) يجوز أن يكون نسقا على «من» المجرورة ب «من» ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ ، وهو «منافقون» بهما ، كأنّه قيل : المنافقون من قوم حولكم ، ومن أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات ، إذ عطفت خبرا على خبر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : «مردوا» مستأنفا لا محلّ له. ويجوز أن يكون الكلام تمّ عند قوله : «منافقون» ويكون قوله (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبرا مقدما ، والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه ـ وهي جملة ـ مطّرد مع «من» التّبعيضية ، وقد مرّ تحريره ، نحو : «منّا ظعن ، ومنّا أقام» والتقدير : ومن أهل المدينة قوم ، أو أناس مردوا ، وعلى هذا فهو من عطف الجمل. ويجوز أن يكون «مردوا» على الوجه الأوّل صفة ل «منافقون» وقد فصل بينه وبين صفته بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) ، والتقدير : وممّن حولكم ، ومن أهل المدينة منافقون ماردون.

قال ذلك الزجاج ، وتبعه الزمخشريّ ، وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيّان ، للفصل بين الصّفة وموصوفها.

__________________

(١) انظر : المصدر السابق.

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٥ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٥ ، البحر المحيط ٥ / ٩٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٨.

١٨٧

قال : «فيصير نظيره في الدّار زيد ، وفي القصر العاقل». يعني ففصلت بين «زيد» ، و «العاقل» بقولك : «وفي القصر». وشبّه الزمخشريّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثّاني ، وإقامة صفته مقامه بقوله : [الوافر]

٢٨٣٩ ـ أنا ابن جلا ....

 ......... (١)

قال أبو حيّان (٢) : «إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسن ، وإن كان شبّهه به في خصوصيته فليس بحسن ؛ لأنّ حذف الموصوف مع «من» مطّرد ؛ وقوله : [الوافر]

٢٨٤٠ ـ أنا ابن جلا ....

 ......... (٣)

ضرورة ؛ كقوله : [الرجز]

٢٨٤١ ـ يرمي بكفّي كان من أرمى البشر (٤)

والبيت المشار إليه ، هو قوله : [الوافر]

٢٨٤٢ ـ أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا

متى أضع العمامة تعرفوني (٥)

وللنّحاة في هذا البيت تأويلات :

أحدها : ما تقدم. والآخر : أنّ هذه الجملة محكيّة ؛ لأنّها قد سمّي بها هذا الرّجل ، فإنّ «جلا» فيه ضمير فاعل ، ثم سمّي بها وحكيت كما قالوا : شاب قرناها ، وذرّى حبّا (٦) ، وقوله : [الرجز]

__________________

(١) قطعة من بيت وهو بتمامه :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

وهو لسحيم بن وثيل. ينظر : الكتاب ٣ / ٢٠٧ ، مجالس ثعلب ١ / ١٧٦ ، ابن يعيش ١ / ٦١ ، ٣ / ٥٩ ، ٦٢ ، البحر ٥ / ٩٧ ، المغني ١ / ١٦٠ ، ٣٣٤ ، العيني ٤ / ٣٤٦ ، التصريح ٢ / ٢٢١ ، الهمع ١ / ٣٠ ، الأشموني ٣ / ٣٣٤ ، الخزانة ١ / ٢٥٥ الاشتقاق ص (٢٢٤) ، الأصمعيات ص (١٧) ؛ جمهرة اللغة ص ٤٩٥ ، ١٠٤٤ ، الدرر ١ / ٩٩ ، المفصل ٣ / ٦٢ ، الشعر والشعراء ٢ / ٦٤٧ المقاصد النحوية ٤ / ٣٥٦ أمالي ابن الحاجب ص (٤٥٦) أوضح المسالك ٤ / ١٢٧ ، شرح قطر الندى ص ٨٦ المقرب ١ / ٢٨٣ ، اللسان : ثنى ، الدر المصون ٣ / ٤٩٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٩٧.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) البناء الذي يشترك فيه الأسماء والأفعال وذلك بأن يسمى بمثل ضرب وعلم وظرف فإنه منصرف معرفة كان أو نكرة لأنه يكون في الأسماء كثرته في الأفعال من غير غلبة فنظير ضرب في الأفعال من الأسماء جبل وقلم ، ونظير علم كتف ورجل ونظير ظرف عضد ويقظ وليس ذلك في أحدهما أغلب منه في الآخر فلم يكن الفعل أولى به فلم يكن سببا ، ومذهب عيسى بن عمر هو أنه متى سمي بالفعل كان كونه على صيغة الفعل سببا فيجتمع مع العلمية فيمتنع من الصرف فلذلك يمتنع صرف قتل وخرج إذا سمي بهما لأن فيه وزن الفعل مع العلمية.

ومذهب سيبويه والخليل وجمهور الناس أن المعتبر في وزن الفعل إما خصوصية وزيد لا يكون إلّا من ـ

١٨٨

٢٨٤٣ ـ نبّئت أخوالي بني يزيد

ظلما علينا لهم فديد (١)

والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنّه فعل فارغ من الضّمير ، وإنّما لم ينوّن ؛ لأنّه عنده غير منصرف ، فإنه يمنع بوزن الفعل المشترك ، فلو سمّي ب «ضرب ، وقتل» منعهما ، أمّا مجرد الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع به ألبتّة ، نحو : جمل ، وجبل (٢). والمراد بأهل المدينة : الأوس والخزرج. و «مردوا» أي : مهروا ، وتمرّنوا ، وثبتوا على النفاق.

وقال ابن إسحاق : لجّوا فيه وأبوا غيره. وقال ابن زيد : أقاموا عليه ولم يتوبوا (٣). وقد تقدّم الكلام على هذه المادّة في النّساء ، عند قوله : (شَيْطاناً مَرِيداً) [النساء : ١١٧].

قوله : (لا تَعْلَمُهُمْ) هذه الجملة في محلّ رفع أيضا صفة ل «منافقون» ، ويجوز أن

__________________

ـ الفعل وإما أن تكون في أول الفعل زيادة كزيادة الفعل سواء في الأصل اسما أو فعلا فلا فرق بين أرنب وأخرج إذا سمي بهما في أنهما غير مصروفين ولا فرق بين جبل وقتل إذا سمي بهما في أنهما مصروفان وهذا هو الصحيح الذي يدل عليه ما نقله الثقات العرب الفصحاء وليس في البيت حجة عند سيبويه لاحتمال أن يكون سمي بالفعل وفيه ضمير فاعل ويكون جملة ، والجمل تحكى إذا سمي بها نحو برق نحره وشاب قرناها أو يكون جملة غير مسمى بها في موضع الصفة لمحذوف والتقدير أنا ابن رجل جلا فلا يكون فيه على كلا الوجهين حجة أما الزمخشري فيقول إن جلا ليس علما وإنما هو فعل ماض مع ضميره صفة لموصوف محذوف. لكن يرد عليه أن الجملة إذا كانت صفة لمحذوف فشرط موصوفها أن يكون بعضا من متقدم مجرور بمن أو «في» ويراه ابن الحاجب ابن ذي جلا بالتنوين على حذف مضاف.

(١) البيت لرؤبة ينظر : ملحقات ديوانه (١٧٢) ، شرح المفصل لابن يعيش ١ / ٢٨ ، التصريح ١ / ١١٧ ، الأشموني ١ / ١٣٢ ، المغني ٢ / ٦٢٦ ، الخزانة (١ / ٢٧٠) ، العيني ١ / ٣٨٨ ، ١ / ٢٧٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٩.

(٢) لا يخلو ـ يزيد ـ إما أن يكون منقولا من قولك : يزيد المال أو من قولك : المال يزيد ، فإن كان من الأول فهو مفرد ووجب أن يعرب إعراب المفردات في باب منع الصرف ولم يفعل به ذلك ههنا فدلّ على أنه منقول من الثاني فيكون جملة والجملية إذا سمي بها وجب حكايتها والدليل على وجوب حكايتها أن كلّ اسم علم مركب حكمه بعد التسمية في الإعراب والبناء حكمه قبل التسمية ما لم يمنع مانع وهذا قبل التسمية جملة ليس لها إعراب باعتبار الجملية فوجب بقاؤها وإنما كانت الجمل لا إعراب لها باعتبارء الجملية ، لأن المقتضي للإعراب مفقود ، وذلك أن المقتضي للإعراب اعتوار المعاني المختلفة على المفردات والجمل ليست كذلك ، ووجه ثان وهو أن المسمى بالجملة المنقولة غرضه بقاء صورة الجملة فيها ولو أعربت الجملة خرجت عن صورتها. ووجه ثالث وهو أنه يتعذر إعرابها لأنها لو أعربت لم يخل إما أن يعرب الأول والثاني أو هما جميعا ، وباطل إعراب الأول ، لأنه في المعنى بمثابة الزاي من زيد ، والإعراب لا يكون وسطا وباطل إعراب الثاني لأنه يؤدي إلى أن يكون الأول معربا مبنيا وباطل إعرابهما جميعا لأن إعرابا واحدا في وجه واحد لا يستقيم أن يكون لشيئين قال ابن يعيش وفي نسخ المفصل يزيد بالياء وصوابه تزيد بالتاء المعجمة بثنتين من فوقها وهو تزيد بن حلوان أبو قبيلة معروفة إليه تنسب البرود التزيدية.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٦) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٣).

١٨٩

تكون مستأنفة ، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدّى لاثنين ، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثّاني للدلالة عليه بتقدّم ذكر المنافقين ؛ ولأنّ النفاق من صفات القلب ، لا يطلع عليه. وأن تكون العرفانية فتتعدّى لواحد ، قاله أبو البقاء. وأمّا (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) فلا يجوز أن تكون إلّا على بابها ، لما تقدّم في الأنفال ، وإن كان الفارسيّ في إيضاحه صرّح بإسناد المعرفة إليه تعالى ، وهو محذور لما تقدّم. قوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) تقدّم الكلام في نصب (مَرَّةٍ) [التوبة : ١٣] ، وأنّه من وجهين ، إمّا المصدرية ، وإمّا الظرفية ، فكذلك هذا ، وهذه التثنية يحتمل أن يكون المراد بها شفع الواحد ، وعليه الأكثر ، واختلفوا في تفسيرها ، وألّا يراد بها التثنية الحقيقية ، بل يراد بها التّكثير ، كقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] ، أي : كرّات ، بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] ، أي : مزدجرا ، وهو كليل ، ولا يصيبه ذلك إلّا بعد كرّات ، ومثله «لبّيك ، وسعديك ، وحنانيك».

وروى عياش (١) عن أبي عمرو «سنعذّبهم» بسكون الباء ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركات ك (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] وبابه ، وإن كان باب «ينصركم» أحسن تسكينا ، لكون الرّاء حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمّتان ، بخلاف غيره ، وقد تقدّم تحريره.

وقال أبو حيّان : وفي مصحف أنس (٢) «سيعذّبهم» بالياء ، وقد تقدّم أنّ المصاحف كانت مهملة من النقط والضبط بالشكل ، فكيف يقال هذا؟!.

فصل

وأمّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السّديّ والكلبيّ : قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : «اخرج يا فلان فإنّك منافق اخرج يا فلان ...» فأخرج من المسجد ناسا ، وفضحهم ، فهذا هو العذاب الأول.

والثاني : عذاب القبر (٣). وقال مجاهد : الأول القتل والسبي ، والثاني عذاب القبر (٤) ، وعنه رواية أخرى عذّبوا بالجوع مرّتين (٥). وقال قتادة : بالدبيلة في الدّنيا ، وعذاب القبر (٦). وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدّنيا ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٩٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧٦ ، البحر المحيط ٥ / ٩٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٧) عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٦) من هذا الطريق وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والطبراني في «الأوسط» وأبي الشيخ وابن مردويه وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٣) عن الكلبي والسدي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٦) وذكره البغوي (٢ / ٣٢٣).

(٥) انظر المصدر السابق.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٣).

١٩٠

والأخرى عذاب القبر (١). وعن ابن عبّاس : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر (٢). وقال ابن إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ، ودخولهم فيه من غير حسبة ، ثم عذاب القبر (٣). وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم ، وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، ثم عذاب القبر ، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنّم ثمّ يردّون إلى عذاب عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسن : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر (٤).

قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) الآية.

(وَآخَرُونَ) نسق على «منافقون» أي : وممّن حولكم آخرون ، أو من أهل المدينة آخرون. ويجوز أن يكون مبتدأ ، و «اعترفوا» صفته ، والخبر قوله : «خلطوا». قوله : «وآخر» نسق على «عملا». قال الزمخشريّ : «فإن قلت : قد جعل كلّ واحد منهما مخلوطا ، فما المخلوط به؟ قلت : كلّ واحد مخلوط ومخلوط به ؛ لأنّ المعنى : خلط كل واحد منهما بالآخر ، كقولك : خلطت الماء واللّبن ، تريد : خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللّبن ؛ لأنّك جعلت الماء مخلوطا ، واللّبن مخلوطا به ، وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللّبن مخلوطين ، ومخلوطا بهما ، كأنّك قلت : خلطت الماء باللبن ، واللبن بالماء». ثمّ قال «ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشّاة : شاة ودرهما ، بمعنى : شاة بدرهم».

قال شهاب الدّين : «لا يريد أنّ الواو بمعنى الباء ، وإنّما هذا تفسير معنى» وقال أبو البقاء (٥) : «ولو كان بالباء جاز أن تقول : خلطت الحنطة والشعير ، وخلطت الحنطة بالشّعير».

قوله : (عَسَى اللهُ) يجوز أن تكون الجملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون في محلّ رفع خبرا ل «آخرون» ويكون قوله «خلطوا» في محلّ نصب على الحال ، و «قد» معه مقدّرة ، أي : قد خلطوا. فتلخّص في : «آخرون» أنّه معطوف على «منافقون» ، أو مبتدأ مخبر عنه ب «خلطوا» ، أو بالجملة الرجائية.

فصل

قيل : إنّهم قوم من المنافقين ، تابوا عن النّفاق ؛ لأنّه عطف على قوله (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٧) وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٢) ذكره الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٨) والبغوي (٢ / ٣٢٣).

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري (٦ / ٤٥٨) عن الحسن والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٣) والرازي (١٦ / ١٣٨).

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٢١.

١٩١

الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ) والعطف يوهم التّشريك ، إلّا أنّه تعالى وفقهم للتوبة. وقيل : إنّهم قوم من المسلمين تخلّفوا عن غزوة تبوك ، كسلا ، لا نفاقا ، ثم ندموا على ما فعلوا وتابوا.

وروي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وروى عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة ، أحدهم أبو لبابة (١). وقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانية (٢). وقال قتادة والضحاك : كانوا سبعة. وقالو جميعا أحدهم أبو لبابة (٣). وقال قوم : نزلت في أبي لبابة خاصة ، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس : أنهم كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمّا بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخل المسجد وصلى ركعتين ، وكانت عادته كلّما قدم من سفر ، فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ؛ فقالوا : هؤلاء تخلّفوا عنك ، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلقهم ويرضى عنهم ، فقال : «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك ، فتصدق بها عنّا وطهرنا ، فقا ل «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» ؛ فنزل قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(٤) [التوبة : ١٠٣] الآية.

والاعتراف : عبارة عن الإقرار بالشّيء عن معرفة ، ومعناه : أنّهم أقرّوا بذنبهم.

والعمل الصّالح : هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم. والعمل السيّىء : هو تخلّفهم.

وقيل : العمل الصّالح : خروجهم مع الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى سائر الغزوات ، والعمل السيّىء : تخلفهم عن غزوة تبوك.

فصل

قالوا : إنّ الكلام ينزل على عرف النّاس ، فالسّلطان إذا التمس المحتاج منه شيئا ؛ فإنه لا يجيب إلّا بالتّرجي ب «لعل ، أو عسى» ، تنبيها على أنّه ليس لأحد أن يلزمني شيئا ؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل ، فهذا المعنى هو فائدة ذكر «عسى». والاعتراف بمجرّده لا يكون توبة ، إلّا إذا اقترن به النّدم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل.

فصل

دلّت هذه الآية على عدم القول بالإحباط ، وأنّ الطّاعة تبقى موجبة للمدح

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٣٩).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦١).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٦٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٧ ـ ٤٨٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

١٩٢

والثّواب ، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب ؛ لأنّ قوله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢] يدلّ على أن كلّ واحد منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ، لأنه وصفه بالاختلاط ، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما ، لأن الاختلاط صفة للمختلطين ، وحصول الوصف حال عدم الموصوف محال ؛ فدلّ على بقاء العملين حال الاختلاط.

فصل

قوله : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) يقتضي أنّ هذه التّوبة إنّما تحصل في المستقبل. وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) يدلّ على أنّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي ، وذلك يدلّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقرونا بنفس التوبة ؛ بل كان مقدما على التوبة ، والتوبة إنما حصلت بعده.

قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١٠٦)

قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) قال الحسن : هذا راجع إلى الذين تابوا ؛ لأنهم بذلوا أموالهم للصّدقة ؛ فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبرا في كمال توبتهم ، فتكون جارية مجرى الكفارة. وليس المراد منها الصدقة الواجبة ، وإنّما هي كفارة الذنب (١). وهذا بناء على القول بأنّهم ليسوا منافقين ، ويدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسّلام : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فلو كانت واجبة لم يقل ذلك. وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسّلام : أخذ الثلث وترك الثلثين (٢). والواجبة ليست كذلك. وقيل : إنّ الزكاة كانت واجبة عليهم ، فلمّا تابوا عن تخلفهم عن الغزو ، وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم. وهذا بناء على أنّهم كانوا منافقين.

وقيل : هذا كلام مبتدأ ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزّكاة من الأغنياء ، وعليه أكثر الفقهاء ، واستدلّوا بقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة). فدلّ على أنّ المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها ؛ لأنّ «من» للتبعيض ، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به ، بل المصرح به قوله : «صدقة» ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان ، وإن كان في غاية

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٢ / ٣٢٤).

(٢) انظر : المصدر السابق. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨٨) وعزاه إلى البيهقي عن سعيد بن المسيب.

١٩٣

القلّة مثل الحبّة الواحدة من الحنطة ، أو الجزء الحقير من الذّهب ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيّة والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] أمرا بأخذ تلك الصّدقة المعلومة ، لكي يزول الإجمال. وليست إلّا الصدقة التي وصفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ست ثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك ، وأجاب الأوّلون بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال ، وظهر تعلق الآية بما قبلها ، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها.

قوله : (.. مِنْ أَمْوالِهِمْ ..) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «خذ» ، و «من» تبعيضية.

والثاني : أن تتعلّق بمحذوف ؛ لأنّها حال من «صدقة» ، إذ هي في الأصل صفة لها ، فلمّا قدّمت نصبت حالا. والصّدقة : مأخوذة من الصّدق ، وهي دليل على صحّة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنّه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصّدقات.

قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ) يجوز أن تكون التّاء في «تطهّرهم» خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن تكون للتنبيه ، والفاعل ضمير الصدقة ، فعلى الأوّل تكون الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «خذ». ويجوز أن تكون صفة ل «صدقة» ، ولا بدّ حينئذ من حذف عائد ، تقديره : تطهّرهم بها ، وحذف «بها» ، لدلالة ما بعده عليه. وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل «صدقة» ليس إلّا ، وأمّا «تزكّيهم» فالتاء فيه للخطاب لا غير ، لقوله «بها» ، فإنّ الضمير يعود على الصّدقة فاستحال أن يعود الضمير من «تزكّيهم» إلى الصّدقة. وعلى هذا فتكون الجملة حالا من فاعل «خذ» على قولنا : إنّ «تطهّرهم» حال منه ، وإنّ التّاء فيه للخطاب. ويجوز أيضا أن تكون صفة إن قلنا : إنّ «تطهّرهم» صفة ، والعائد منها محذوف. وجوّز مكيّ أن يكون «تطهّرهم» صفة ل «صدقة» ، على أنّ التّاء للغيبة ، و «تزكّيهم» حالا من فاعل «خذ» ، على أنّ التاء للخطاب ، وردّوه عليه بأنّ الواو عاطفة ، أي : صدقة مطهّرة ، ومزكيا بها ، ولو كان بغير واو جاز ، ووجه الفساد ظاهر ، فإنّ الواو مشتركة لفظا ومعنى ، فلو كانت (وَتُزَكِّيهِمْ) عطفا على «تطهّرهم» للزم أن يكون صفة كالمعطوف عليه ؛ إذ لا يجوز اختلافهما ، ولكن يجوز ذلك على أنّ «تزكّيهم» خبر مبتدأ محذوف ، وتكون الواو للحال ، تقديره : وأنت تزكّيهم ، وفيه ضعف ، لقلّة نظيره في كلامهم. وتلخّص من ذلك أنّ الجملتين يجوز أن تكونا حالين من فاعل «خذ» على أن تكون التاء للخطاب ، وأن تكونا صفتين ل «صدقة» على أنّ التاء للغيبة ، والعائد محذوف من الأولى ، وأن يكون «تطهّرهم» حالا ، أو صفة ، و «تزكّيهم» حالا على ما جوّزه مكيّ ، وأن يكون «تزكّيهم» خبر مبتدأ محذوف ، والواو للحال. وقرأ الحسن (١) «تطهرهم» مخفّفا من «أطهر» عدّاه بالهمزة.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٧ ، البحر المحيط ٥ / ٩٩ ، الدر المصون ٣ / ٥٠١.

١٩٤

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ الزّكاة تتعلّق بالأموال لا بالذّمة ، لقوله (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) فلو مات أخذت من التّركة. وقال الشّافعيّ : إنّها تتعلّق بالذّمة ، فلو فرط حتى هلك النصاب ، وجبت الزّكاة ؛ لأنّ الذي هلك ما كان محلا للحق. ودلّت الآية أيضا على أنّ الزّكاة إنّما وجبت طهرة للآثام ؛ فلا تجب إلا على البالغ. وهو قول أبي حنيفة. وإذا قلنا : تتعلّق بالمال وجبت في مال الصّبي ، وفي مال المديون.

فصل

معنى التّطهّر ما روي أن الصدقة أوساخ النّاس ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ ؛ فكان دفعها جاريا مجرى التّطهر. والتّزكية : مبالغة في التطهر ، وقيل : التّزكية بمعنى الإنماء ، وقيل : الصّدقة تطهرهم من نجاسة الذّنب والمعصية ، والرسول يزكيهم ، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء. ولذلك يقول السّاعي له : آجرك الله فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله لك طهورا.

قوله : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ). قرأ الأخوان (١) ، وحفص «إنّ صلاتك» ، وفي هود (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] بالتّوحيد ـ والباقون «إن صلاتك» ، «أصلواتك» بالجمع فيهما ، وهما واضحتان ، إلّا أنّ الصلاة هنا : الدّعاء ، وفي تيك : العبادة. قال أبو عبيد : وقراءة الإفراد أولى ؛ لأنّ الصّلاة أكثر ، قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة: ٤٣] والصلوات جمع قلّة ، تقول : ثلاث صلوات ، وخمس صلوات.

قال أبو حاتم : وهذا غلط ، لأنّ بناء الصلوات ليس للقلة ، قال تعالى : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ولم يرد التّقليل ، وقال : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ) [سبأ : ٣٧] ، وقال (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) [الأحزاب : ٣٥]. والسّكن : الطمأنينة. وقال ابن عبّاس: رحمة لهم (٢). وقال أبو عبيدة : تثبيتا لقلوبهم ؛ ومن الطمأنينة قوله : [البسيط]

٢٨٤٤ ـ يا جارة الحيّ ألّا كنت لي سكنا

إذ ليس بعض من الجيران أسكنني (٣)

ف «فعل» بمعنى «مفعول» ، كالقبض بمعنى : المقبوض ، والمعنى : يسكنون إليها.

قال أبو البقاء : «ولذلك لم يؤنّثه». لكن الظّاهر أنّه هنا بمعنى «فاعل» ، لقوله : «لهم». ولو كان كما قال لكان التّركيب «سكن إليها» أي : مسكون إليها ، فقد ظهر أنّ المعنى : مسكّنة لهم.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٣١٧ ـ ٣١٨) ، الحجة ٤ / ٢١٣ ، حجة القراءات ص (٣٢٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٢ ، إتحاف ٢ / ٩٧.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣٢٤).

(٣) ينظر البيت في البحر ٥ / ١٠٠ ، الدر المصون ٣ / ٥٠١ ، تفسير الماوردي ٢ / ١٦٣.

١٩٥

فصل

قال ابن عبّاس : معنى الصّلاة عليهم : أن يدعو لهم (١). وقال آخرون : معناه أن يقول لهم اللهمّ صلّ على فلان ، ونقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنّ آل أبي أوفى لمّا أتوه بالصّدقة قال : «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» (٢).

واختلفوا في وجوب الدّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة ، قال بعضهم : يجب. وقال بعضهم : يستحبّ. وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرض ، ويستحب في التّطوع. وقيل : يجب على الإمام ، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. ثم قال : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية.

لمّا قال في الآية الأولى (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ولم يصرّح في قبول توبتهم ، صرّح في هذه الآية بأنه يقبل التّوبة عن عباده ، وأنّه يأخذ الصّدقات ، أي : يقبلها. قال أبو مسلم قوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلّا أنّ المقصود منه التقرير في النّفس ، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب ، وإزالة الشّك عنه أن يقولوا : أما علمت أنّ من علّمك يجب عليك خدمته ، أما علمت أنّ من أحسن إليك يجب عليك شكره ، فبشّر الله هؤلاء التّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيدا بقوله : (هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وقرأ الحسن (٣) بخلاف عنه «ألم تعلموا» قال أبو حيّان : «وفي مصحف (٤) أبيّ «ألم تعلموا» بالخطاب ، وفيه احتمالات ، أحدها : أن يكون خطابا للمتخلّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء؟ وأن يكون التفاتا من غير إضمار قول ، والمراد : التّائبون ، وأن يكون على إضمار قول ، أي : قل لهم يا محمد : ألم تعلموا».

قوله : (هُوَ يَقْبَلُ) «هو» مبتدأ ، و «يقبل» خبره ، والجملة خبر «أنّ» ، و «أنّ» وما في حيّزها سادة مسدّ المفعولين ، أو مسدّ الأول. ولا يجوز أن يكون «هو» فصلا ، لأنّ ما بعده لا يوهم الوصفيّة ، وقد تقدّم تحرير ذلك ، قوله : (عَنْ عِبادِهِ) متعلق ب «يقبل» وإنّما تعدّى ب «عن» فقيل : لأنّ معنى «من» ومعنى «عن» متقاربان.

قال ابن عطيّة (٥) : «وكثيرا ما يتوصّل في موضع واحد بهذه وبهذه ، نحو : «لا

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٤٦).

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ٤٢٣ ، كتاب الزكاة ، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (١٤٩٧ ، ٤١٦٦ ، ٦٣٣٢ ، ٦٣٥٩) ، ومسلم ٢ / ٥٦ ، كتاب الزكاة باب الدعاء لمن أتى بصدقته (١٧٦ ـ ١٧٨).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٩ ، البحر المحيط ٥ / ١٠٠ ، الدر المصون ٣ / ٥٠١.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧٩.

١٩٦

صدقة إلّا عن غنى ، ومن غنى» ، وفعل ذلك فلان من أشره وبطره ، وعن أشره وبطره». وقيل : لفظة «عن» تشعر ببعد ما ، تقول : جلس عن يمين الأمير ، أي : مع نوع من البعد. والظّاهر أنّ «عن» للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوز عن عباده بقبول توبتهم ، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد ؛ فمعناه المجاوزة ، وإذا قلت «منه» فمعناه ابتداء الغاية. قال القاضي : «لعلّ «عن» أبلغ ؛ لأنّه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التّوبة التي قبلت» قوله : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) فيه سؤال : وهو أنّ ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ الآخذ هو الله تعالى ، وقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) يدلّ على أنّ الآخذ هو الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، وقوله عليه الصلاة والسّلام لمعاذ «خذها من أغنيائهم» (١) يدلّ على أنّ آخذ تلك الصدقات معاذ ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسّ يشهد أن آخذها هو الفقير ، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟.

والجواب من وجهين :

الأول : أنّه تعالى لمّا قال (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) ثمّ ذكر ههنا أنّ الآخذ هو ، علم منه أنّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله ، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأن الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ، ونظيره قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠].

والثاني : أنّه أضيف إلى الرسول ، بمعنى أنّه يأمر بأخذها ، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النّاس ، وأضيف إلى الفقير ، بمعنى أنّه هو الذي يباشر الأخذ ، ونظيره أنّه أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) [الأنعام : ٦٠] ، وأضافه إلى ملك الموت بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) [السجدة : ١١] وأضافة إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] ، فأضيف إلى الله بالخلق ، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النّوع من العمل ، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت ، فكذا ههنا.

قوله : (هُوَ التَّوَّابُ) يجوز أن يكون فصلا ، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله.

فصل

روى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «والّذي نفسي بيده ما من عبد يتصدّق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلّا طيبا ، ولا يصعد إلى السّماء إلّا الطّيب إلّا كأنما يضعها في يد الرّحمن فيربيها له كما يربّي أحدكم فلوّه حتّى إنّ اللّقمة لتأتي يوم القيامة ، وأنّها لمثل الجبل العظيم» ، ثم قرأ : «أنّ الله هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات» (٢).

قوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) الآية.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٩٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي الشيخ.

١٩٧

قال ابن الخطيب «هذا كلام جامع للتّرغيب والتّرهيب ؛ لأنّ المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبدا ، ولهذا قال إبراهيم لأبيه : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [إبراهيم : ٤٢] ، وليس المقصود من هذه الحجّة التي ذكرها إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ القدح في إلهيّة الصّنم ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم بالضّرورة أنّه حجر وخشب ، وأنّه عرضة لتصرف المتصرفين ، فمن شاء أحرقه ، ومن شاء كسره ، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلها؟ بل المقصود أنّ أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أتباع الفلاسفة القائلين بأنّ إله العالم موجب بالذّات ، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار ، فقال : الموجب بالذّات إذا لم يكن عالما بالجزئيات ، ولم يكن قادرا على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ، ولا يرى تضرّع المساكين ، فأيّ فائدة في عبادته؟ فكان المقصود من دليل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ الطّعن في قول من يقول : إنّ إله العالم موجب بالذّات.

أمّا إذا كان فاعلا مختارا ، وكان عالما بالجزئيات ، فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة وذلك لأنّ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك ، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدّنيا والآخرة ، فقوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) ترغيب عظيم للمطيعين ، وترهيب عظيم للمذنبين فكأنّه قال : اجتهدوا في المستقبل ، فإنّ لعملكم في الدنيا حكما وفي الآخرة حكما.

أمّا حكمه في الدّنيا ، فهو أنّه يراه الله ويراه الرسول ويراه المؤمنون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة ، فثبت أنّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاج إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده».

فصل

دلّت هذه الآية على كونه تعالى رائيا للمرئيات ؛ لأنّ الرّؤية المعدّاة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعدّاة إلى مفعولين هي العلم ، كقولك : رأيت زيدا فقيها ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد ، فتكون بمعنى الإبصار ، فدلّت على كونه مبصرا للأشياء كما أنّ قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] يدلّ على كونه مبصرا للأشياء ، ويقوّي هذا أنّه تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فلو كانت هذه الرؤية هي العلم ؛ لزم التّكرار الخالي عن الفائدة.

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ كلّ موجود فإنّه يصحّ رؤيته ، لما بيّنّا من أنّ الرّؤية معدّاة إلى مفعول واحد ، والقوانين اللّغوية شاهدة بأنّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد

١٩٨

معناها : الإبصار ثم إنّه تعالى عدّى هذه الرّؤية إلى عملهم ، والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهات والخواطر ، وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسّكنات ؛ فوجب كونه تعالى رائيا للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائيا للحركات والسّكنات فلمّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائيا لأعمال القلوب ، فأجاب بأنّه تعالى عطف عليه قوله (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) وهم إنّما يرون أفعال الجوارح ؛ فلما تقيّدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حقّ المعطوف ؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقّ المعطوف عليه ، وهذا استدلال ضعيف ؛ لأنّ العطف لا يفيد إلّا أصل التّشريك. فأمّا التسوية في كلّ الأمور فغير واجب فدخول التّخصيص في المعطوف لا يوجب دخول التّخصيص في المعطوف عليه ، ويمكن بأن يقول الجبائيّ : رؤية الله تعالى حاصلة في الحال ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال ، لقوله : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) فدلّ على أنّ المراد ليس هو الرّؤية ، بل المراد منه الجزاء على الأعمال ، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ، وقد يجاب : بأنّ إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلو حملنا هذه الرّؤية على إيصال الجزاء ، لزم التّكرار وهو غير جائز.

فصل

ذكروا في الفائدة في ذكر الرسول ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين :

الأول : أنّ أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصّالح هو ما يحصل له من المدح والتّعظيم ، فإذا علم أنّه إذا فعل ذلك الفعل عظّمه الرسول والمؤمنون ، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ، فكأنه قيل : إن كنت من المحقّين في عبودية الحق ، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى ، وإن كنت من الضّعفاء المشغولين بثناء الخلق ، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلق ، وهو الرسول والمؤمنون.

الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، لقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ، والرسول شهيد الأمّة ، لقوله: (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ؛ فثبت أنّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصحّ إلّا بعد الرّؤية ؛ فذكر الله أنّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم ، والمقصود التنبيه على أنّهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين ، بأنّهم أهل الصّدق والسّداد والعفاف والرشاد.

قوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ). قال ابن عباس : الغيب : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه (١). قال حكماء الإسلام : الموجودات الغائبة عن الحسّ علل أو

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٥١).

١٩٩

كالعلل للموجودات المحسوسة ، وعندهم أنّ العلم بالعلّة علة للعلم بالمعلول ؛ فوجب كون العلم بالغيب سابقا على العلم بالشّهادة ؛ فلهذا السّبب أينما جاء الكلام في القرآن كان الغيب مقدما على الشهادة.

فصل

إن حملنا قوله تعالى : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) على الرّؤية ، ظهر أنّ معناه مغايرا لمعنى قوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ،) وإن حملنا تلك الرّؤية على العلم أو على إيصال الثواب ، كان قوله (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) جاريا مجرى التفسير لقوله (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله : (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : ما يظهر في القيامة من حال الثّواب والعقاب.

(فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمّ يجازيكم عليها ؛ لأنّ المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلّا بعد التّعريف ، ليعرف كلّ أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم.

قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) الآية.

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو (١) ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم «مرجؤون» بهمزة مضمومة بعدها «واو» ساكنة. والباقون «مرجون» دون همز ، وهذا كقراءتهم (٢) في الأحزاب «ترجىء» [الأحزاب : ٥١] بالهمز ، والباقون بدونه.

وهما لغتان ، يقال : أرجأته ، وأرجيته ، ك : أعطيته. ويحتمل أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياء بدلا من الهمزة ؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيرا ، ك : قرأت ، وقريت ، وتوضّأت وتوضّيت. والإرجاء : التأخير. وسميت المرجئة بهذا الاسم ؛ لأنّهم لا يجزمون القول بمغفرة التّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.

قوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) يجوز أن تكون هذه الجملة في محل رفع خبرا للمبتدأ ، و «مرجون» يكون على هذا نعتا للمبتدأ ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون في محلّ نصب على الحال ، أي : هم مؤخّرون إمّا معذّبين ، وإمّا متوبا عليهم ، و «إمّا» هنا للشّك بالنسبة للمخاطب ، فناس يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عذرا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم. وإمّا للإبهام بالنّسبة إلى أنّه أبهم على المخاطبين.

__________________

(١) ينظر : حجة القراءات ص (٣٢٣) ، إعراب القراءات ١ / ٢٥٥ ، إتحاف ٢ / ٩٧ ـ ٩٨ ، الكشاف ٢ / ٣٠٨ ، المحرر الوجيز ٣ / ٨٠ ، البحر المحيط ٥ / ١٠١ ، الدر المصون ٣ / ٥٠١.

(٢) ستأتي في سورة الأحزاب آية (٥١).

٢٠٠