اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

قال شهاب الدّين (١) «لأنّ الظّاهر أنّها منصوبة على المصدر. وفي التفسير : أول خرجة خرجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى : أول مرّة من الخروج».

قال الزمخشريّ «فإن قلت : «مرّة» نكرة ، وضعت موضع المرات ، للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها ، وهو دالّ على واحدة من المّرات؟ قلت : أكثر اللّغتين : أن يقال هند أكبر النساء ، وهي أكبرهنّ ، ثم إنّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا يكاد يعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة».

والمعنى : أنّ الحاجة في المرّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلّفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم ؛ فبعد ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفت إليكم.

قوله : (مَعَ الْخالِفِينَ) هذا الظّرف يجوز أن يكون متعلقا ب «اقعدوا» ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من فاعل «اقعدوا». والخالف : المتخلّف بعد القوم.

قال الأخفش ، وأبو عبيدة : «الخالفون» جمع ، واحدهم «خالف» ، وهو من يخلف الرجل في قومه. والمعنى : مع الخالفين من الرّجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون.

وقال الفرّاء : المراد : ب «الخالفين» «المخالفين» ، يقال : عبد خالف ، إذا كان مخالفا. وقال الأخفش : فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفا لهم ، وقال الليث : يقال هذا رجل خالفة ، أي : مخالف كثير الخلاف ، فإذا جمع قلت : الخالفون. وقال الأصمعيّ : الخالف : هو الفاسد ، يقال : خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفا ، إذا فسد ومنه «خلوف فم الصّائم» ، والمراد بهم : النّساء والصبيان والرّجال العاجزون ؛ فلذلك جاز جمعه للتّغليب. وقال قتادة : الخالفون : النّساء» (٢) وهو مردود ، لأجل الجمع. وقرأ عكرمة ، ومالك (٣) بن دينار (مَعَ الْخالِفِينَ) مقصورا من «الخالفين» ؛ كقوله : [الرجز]

٢٨٢٢ ـ مثل النّقا لبّده ضرب الظّلل (٤)

وقوله : [الرجز]

٢٨٢٣ ـ .... عردا

 .......... برد(٥)

يريد : «الظّلال» و «عردا» : باردا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨٨.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٨).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٧ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٨ ،

(٤) ينظر : المحتسب ١ / ١٨١ ، ٢٩٩ ، والخصائص ٣ / ١٣٤ ، واللسان (طلل) ، والبحر المحيط ٥ / ٨٣.

(٥) ينظر : الخصائص ٢ / ٣٦٥ ، والمحتسب ١ / ٢٩٩ ، واللسان (برد) ، (عرد).

١٦١

قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية.

«منهم» صفة ل «أحد» ، وكذلك الجملة من قوله : «مات» ، في موضع جر أيضا كأنه قيل : على أحد منهم ميت ، ويجوز أن يكون «منهم» حالا من الضّمير في «مات» أي : مات حال كونه منهم ، أي : متّصفا بصفة النّفاق ، كقولهم : أنت مني ، يعني : على طريقتي و «أبدا» ظرف منصوب بالنهي ، وهذا الظّرف متعلق ب «أحد» ، والتقدير : ولا تصل أبدا على أحد منهم.

فصل

اعلم أنّه تعالى أمر رسوله أن يهينهم ، ويذلهم ، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمّ منعه في هذه الآية من أن يصلي على من مات منهم. روى ابن عبّاس : أنّه لمّا أشتكى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، عاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ، ويقوم على قبره ، ثمّ إنه أرسل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب منه قميصه ، ليكفن فيه ؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فردّه ، وطلب الذي يلي جلده ليكفّن فيه ، فقال عمر : لم تعطي قميصك للرجس النّجس؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ قميصي لا يغني عنه من الله شيئا ، ولعلّ الله أن يدخل به ألفا في الإسلام» وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ؛ فلمّا رأوه يطلب القميص ، ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألف.

فلمّا مات جاء ابنه يعرفه ، فقال عليه الصلاة والسّلام لابنه : «صلّ عليه وادفنه» ، فقال : إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصلّ عليه مسلم ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليصلّي عليه ؛ فجاء عمر فقال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين القبلة ؛ لئلّا يصلي عليه ، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال : «ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا» (١) ، وهذا يدلّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر ؛ وذلك لأنّ الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق ، ومنها : «آية تحريم الخمر» [المائدة : ٩٠] ، ومنها : «آية تحويل القبلة» [البقرة : ١٤٢] ، ومنها : آية أمر النّساء بالحجاب ، وهذه الآية ؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصبا عاليا ، ودرجة رفيعة في الدّين ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيّا»(٢).

قال القرطبيّ : إن قال قائل ، كيف قال له عمر : أتصلي عليه ، وقد نهاك الله أن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١٨٤) كتاب التفسير : باب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ... حديث (٤٦٧٠) ومسلم (٤ / ١٨٦٥) كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل عمر رضي الله عنه حديث (٢٥ / ٢٤٠٠) من حديث ابن عمر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٧٨) كتاب المناقب : باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حديث (٣٦٨٦) بلفظ : لو كان نبيّ بعدي لكان عمر بن الخطاب وقال الترمذي : حسن غريب.

١٦٢

تصلّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له : يحتمل أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث ، وجاء : في أربع ؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] الآية ، ويحتمل أن يكون أن يكون فهم ذلك من قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] فإن قيل : كيف يجوز أن يرغب الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في الصّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره ، وأنّ صلاة الرّسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تجري مجرى الإجلال والتّعظيم وأيضا فالصّلاة عليه تتضمّن الدّعاء له ، وذلك محظور ؛ لأنّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافر ألبتة ، وأيضا دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟.

فالجواب : لعلّ السّبب فيه ، أنّه لمّا طلب من الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ القميص الذي يمسّ جلده ، ليدفن فيه ، غلب على ظنّ الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أنه آمن ؛ لأنّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر ، وإيمان الكافر ، فلمّا رأى منه إظهار الإسلام ، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه ، غلب على ظنّه إسلامه ؛ فبنى على هذا الظّن ، ورغب في الصلاة عليه ، فلمّا نزل جبريل عليه‌السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ؛ امتنع من الصلاة عليه وأمّا دفع القميص إليه ، فقيل : إنّ العباس عم الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لمّا أسر ببدر لم يجدوا له قميصا ، وكان رجلا طويلا ؛ فكساه عبد الله قميصه. وقيل : إنّ المشركين قالوا له يوم الحديبية : إنّا لا ننقاد لمحمّد ، ولكنّا ننقاد لك ، فقال : لا ، إنّ لي في رسول الله أسوة حسنة ؛ فشكر رسول الله له ذلك. قال ابن عينية : كانت له عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد فأحبّ أن يكافئه.

وقيل : إنّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلا ، لقوله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) فلمّا طلب القميص منه دفعه إليه ، لهذا المعنى. وقيل : إنّ منع القميص لا يليق بأهل الكرم وذلك أنّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين ؛ فالرسول أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلّ الله تعالى أوحى إليه ، أنّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سببا لدخول نفر من المنافقين في الإسلام ، فقيل لهذا الغرض ، كما روي فيما تقدّم ، وقيل : إنّ الرّأفة والرحمة كانت غالبة عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] فامتنع من الصّلاة عليه ، لأمر الله تعالى ، ودفع القميص رأفة ورحمة.

واعلم أنّ قوله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) يحتمل تأبيد النّفي ، ويحتمل نفي التأبيد والأول هو المقصود ؛ لأنّ قرائن هذه الآية دالّة على أنّ المقصود منعه من أن يصلّي على أحد منهم منعا كلّيّا دائما.

ثم قال : «ولا تقم على قبره» وفيه وجهان :

١٦٣

الأول : قال الزّجّاج «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له» فمنع منه ههنا. الثاني : قال الكلبي : «لا تقم بإصلاح مهمّات قبره ، ولا تتولّ دفنه» (١) ، من قولهم : قام فلان بأمر فلان ، إذا كفاه أمره ، ثمّ إنه تعالى علّل المنع من الصّلاة عليه ، والقيام على قبره بقوله : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ).

فإن قيل : الفسق أدنى حالا من الكفر ، فلما علل بكونه كافرا ؛ فما فائدة وصفه بعد ذلك بالفسق؟.

فالجواب : أنّ الكافر قد يكون عدلا في دينه ، وقد يكون فاسقا في دينه خبيثا ممقوتا عند قومه ، بالكذب ، والخداع ، والمكر ، وهذه أمور مستقبحة في جميع الأديان ، فالمنافقون لمّا كانوا موصوفين بهذه الصفات ، وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر ، تنبيها على أنّ طريقة النّفاق طريقة مذمومة عند جميع العالم.

فإن قيل : قوله (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ) صريح بأنّ ذلك النّهي معلّل بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى ، وهو محال ، فإنّ حكم الله قديم ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل المحدث بالقديم محال.

فالجواب : أنّ البحث في هذه المسألة طويل ، وظاهر هذه الآية يدلّ عليه.

فصل

قال القرطبي (٢) : قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) نصّ في الامتناع من الصلاة على الكفّار ، وليس فيه دليل على الصّلاة على المؤمنين ، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصّلاة على المؤمنين؟ فقيل : يؤخذ ؛ لأنّه علّل المنع من الصّلاة على الكفّار لكفرهم لقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ،) فإذا زال وجبت الصّلاة ، لقوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] يعني : الكفّار ؛ فدلّ على أنّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون.

وقيل : إنّما تؤخذ الصّلاة من دليل خارج ، وهو الأحاديث ، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطاب وتركه.

فصل

جمهور العلماء على أنّ التكبير في الصّلاة على الميّت أربع تكبيرات. وقال ابن سيرين : كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة ، وعن ابن مسعود ، وزيد بن أرقم : يكبر خمسا وعن عليّ : ست تكبيرات.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٢٢).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ١٤٠.

١٦٤

فصل

قال القرطبيّ : ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالك. وكذا أبو حنيفة والثوري ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «إذا صلّيتم على الميّت فأخلصوا له الدّعاء» (١) وذهب الشافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ، ومحمد بن سلمة ، وأشهب ، وداوود : إلى أنه يقرأ بالفاتحة ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» (٢).

والسّنّة أن يقف الإمام عند رأس الرجل ، وعند عجيزة المرأة.

قوله تعالى : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ) الآية.

قيل : هذا تأكيد للآية السّابقة. وقال الفارسيّ : «ليست للتأكيد ؛ لأنّ تيك في قوم وهذه في آخرين ، وقد تغاير لفظا الآيتين ؛ فهنا (وَلا) بالواو ، لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : «ولا تصلّ ... ولا تقم» ، (وَلا تُعْجِبْكَ) ، فناسب ذلك «الواو» ، وهناك ب «الفاء» ، لمناسبة تعقيب قوله : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [التوبة : ٥٤] أي : للإنفاق ، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهاه عن الإعجاب ب «فاء» التعقيب. وهنا (وَأَوْلادُهُمْ) دون «لا» لأنّه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة «لا» لأنّه نهي عن كل واحد واحد ، فدلّ مجموع الآيتين على النّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين».

قال ابن الخطيب (٣) «السّبب فيه : أنّ مثل هذا التّرتيب يبتدأ فيه بالأدنى ثمّ يترقّى إلى الأشرف ، فيقال : لا يعجبني أمر الأمير ، ولا أمر الوزير ، وهذا يدلّ على أنّه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم ، وفي هذه الآية يدلّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم».

وهنا قال (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ) ، وهناك قال «ليعذّبهم» ، فأتى ب «اللّام» المشعرة بالغلية ومفعول الإرادة محذوف ، أي : إنّما يريد الله اختبارهم بالأموال والأولاد ـ وأتى ب «أن» ؛ لأنّ مصبّ الإرادة التّعذيب ، أي : إنّما يريد الله تعذيبهم ، فقد اختلف متعلّق الإرادة في الآيتين. هذا هو الظّاهر. وقال ابن الخطيب «فائدته : التّنبيه على أنّ التعليل في أحكام الله تعالى محال ، وإنّما ورد حرف التعليل زائدا ومعناه «أن» لقوله تعالى (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) [البينة : ٥] ، أي : «وما أمروا إلا بأن يعبدو الله». وهناك (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وهنا

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣١٩٩) وابن ماجه (١٤٩٧) والبيهقي (٤ / ٤٠) وابن حبان (٧٥٥ ـ موارد) من حديث أبي هريرة.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٦ / ١٢٣.

١٦٥

سقطت «الحياة» ، تنبيها على خسّيّة الدّنيا وأنّها لا تستحق أن تسمّى حياة ، لا سيما وقد ذكرت بعد ذكر موت المنافقين ؛ فناسب ألّا تسمّى حياة».

قوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٩٠)

قوله تعالى : (وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) الآية.

«إذا» لا تقتضي تكرارا بوضعها ، وإن كان بعض النّاس فهم ذلك منها هنا ، وقد تقدّم ذلك أوّل البقرة ؛ وأنشد عليه : [البسيط]

٢٨٢٤ ـ إذا وجدت أوار الحبّ في كبدي

 ......... (١)

وأنّ هذا إنّما يفهم من القرائن ، لا من وضع «إذا».

قوله : (أَنْ آمِنُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنّها تفسيرية ؛ لأنّه قد تقدّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه.

والثاني : أنّها مصدرية ، على حذف حرف الجرّ ، أي : بأن آمنوا.

وفي قوله : «استأذنك» التفات من غيبة إلى خطاب ، وذلك أنّه قد تقدّم لفظ «رسوله» ، فلو جاء على الأصل لقيل : استأذنه.

فصل

اعلم أنّه تعالى بيّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التّخلف عن رسول الله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، والقعود عن الغزو ، وزاد ههنا ، أنّه متى نزلت آية فيها الأمر بالغزو مع الرسول ، استأذن أو لو الثروة والقدرة منهم في التخلّف عن الغزو ، وقالوا للرّسول عليه الصلاة والسّلام : ذرنا نكن مع القاعدين ، أي : مع الضّعفاء من النّاس والسّاكنين في البلد.

و «السّورة» يجوز أن يراد تمامها وأن يراد بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كلّه وبعضه وقيل : المراد ب «السّورة» براءة ؛ لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد.

قوله (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ).

__________________

(١) تقدم.

١٦٦

الخوالف : جمع خالف من صفة النّساء ، وهذه صفة ذمّ ؛ كقول زهير : [الوافر]

٢٨٢٥ ـ وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء؟

فإن تكن النّساء مخبّآت

فحقّ لكلّ محصنة هداء (١)

وقال آخر : [الخفيف]

٢٨٢٦ ـ كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذّيول (٢)

وقال النّحّاس (٣) «يجوز أن تكون الخوالف من صفة الرّجال ، بمعنى أنّها جمع «خالفة» يقال : رجل خالفة ، أي : لا خير فيه». فعلى هذا يكون جمعا للذكور ، باعتبار لفظه. وقال بعضهم : إنّه جمع «خالف» ، يقال : رجل خالف ، أي : لا خير فيه. وهذا مردود ، فإنّ «فواعل» لا يكون جمعا ل «فاعل» ، وصفا لعاقل ، إلّا ما شذّ ، من نحو : فوارس ، ونواكس وهوالك.

ثم قال تعالى : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة : ٨٧] وقد تقدّم الكلام في الطّبع والختم ، أوّل البقرة.

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) الآية.

ومعنى هذا الاستدراك : أنّه إن تخلّف هؤلاء المنافقون عن الغزو ؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩] وقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [فصلت : ٣٨] ، ولمّا وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ، ذكر ما حصل لهم من الفوائد ، وهي أنواع ، أوّلها : قوله (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) والخيرات : جمع خيرة ، على «فعلة» بسكون العين ، وهو المستحسن من كلّ شيء ، وغلب استعماله في النّساء ، ومنه قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن: ٧٠] ؛ وقول الشّاعر : [الكامل]

٢٨٢٧ ـ ولقد طعنت مجامع الرّبلات

ربلات هند خيرة الملكات (٤)

قال المفسّرون : هي الجواري الحسان والجنّة. وقال ابن عبّاس : «الخيرات» لا يعلم معناه إلّا الله ، كما قال جلّ ذكره (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٥) [السجدة : ١٧]. وقيل المراد : ب «الخيرات» الثّواب.

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة ينظر : ديوانه (٣٣٨) ، البحر ٥ / ٨٥ ، إعراب النحاس ٢ / ٢٢٩ ، ٢٣٠ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٠.

(٣) ينظر : إعراب القراءات للنحاس ٢ / ٣٤.

(٤) البيت لرجل من بني عدي جاهلي. ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٦٧ ، ٢ / ٢٤٦ ، جامع البيان ١٤ / ٤١٥ ، التهذيب ٧ / ٥٤٦ ، الدر ٣ / ٤٩٠.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٨).

١٦٧

وثانيها : قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ،) والمراد منه : التخلص من العقاب.

وثالثها : قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتّفسير للخيرات والفلاح ، ويحتمل أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة ، والفلاح على منافع الدّنيا ، كالغزو ، والثروة ، والقدرة ، والغلبة ، و (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه ، ودرجة عالية.

قوله تعالى : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية.

لمّا شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب.

قرأ الجمهور «المعذّرون» بفتح العين وتشديد الذّال ، وهي تحتمل وجهين :

أن يكون وزنه «فعّل» مضعّفا ، ومعنى التّضعيف فيه التكليف ، والمعنى : أنه توهّم أنّ له عذرا ، ولا عذر له.

والثاني : أن يكون وزنه «افتعل» ، والأصل : «اعتذر» ، فأدغمت التاء في الذال بأن قلبت تاء الافتعال ذالا ، ونقلت حركتها إلى السّاكن قبلها ، وهو العين ، ويدلّ على هذا قراءة سعيد بن جبير «المعتذرون» على الأصل ، وإليه ذهب الأخفش ، والفرّاء وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزّجّاج ، وابن الأنباري ، والاعتذار قد يكون بالكذب ، كما في قوله (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة : ٩٤] ، وكان ذلك الاعتذار فاسدا ، لقوله : (لا تَعْتَذِرُوا) ، وقد يكون بالصّدق ، كقول لبيد : [الطويل]

٢٨٢٨ ـ .........

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (١)

يريد : فقد جاء بعذر.

وقرأ زيد بن عليّ (٢) ، والضحاك ، والأعرج ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضا ، ويعقوب ، والكسائي «المعذرون» بسكون العين وكسر الذّال مخففة من أعذر ، يعذر ك «أكرم ، يكرم» ، وهم المبالغون في العذر.

وقرأ مسلمة (٣) «المعّذّرون» بتشديد العين والذال ، من «تعذّر» بمعنى اعتذر.

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص (٢١٤) ، الأشباه والنظائر ٧ / ٩٦ ، الأغاني ١٣ / ٤٠ ، بغية الوعاة ١ / ٤٢٩ خزانة الأدب ٤ / ٣٣٧ ، ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، الخصائص ٣ / ٢٩ ، الدرر ٥ / ١٥ ، شرح المفصل ٣ / ١٤ ، العقد الفريد ٢ / ٧٨ ، ٣ / ٥٧ ، المقاصد النحوية ٣ / ٣٧٥ ، المنصف ٣ / ١٣٥ أمالي الزجاجي ص ٦٣ ، شرح الأشموني ٢ / ٣٠٧ ، شرح عمدة الحافظ ص (٥٠٧) ، المقرب ١ / ٢١٣ ، همع الهوامع ٢ / ٤٩ ، ١٥٨ ، اللسان (غدر).

(٢) ينظر : حجة القراءات ص (٣٢١) ، إتحاف ٢ / ٩٦ ، الكشاف ٢ / ٣٠٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٩ ، البحر المحيط ٥ / ٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٩ ، البحر المحيط ٥ / ٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٠.

١٦٨

قال أبو حاتم : أراد «المتعذّرون» والتاء لا تدغم في العين ، لبعد المخارج وهي غلط منه ، أو عليه.

قوله «ليؤذن» متعلق ب «جاء» ، وحذف الفاعل ، وأقيم الجارّ مقامه ، للعلم به ، أي: ليأذن لهم الرسول.

فصل

أمّا قراءة التخفيف فهم الكاذبون في العذر ، وأمّا قراءة التشديد ، فمحتملة لأن يكونوا صادقين ، وأن يكونوا كاذبين. قال ابن عبّاس «هم الّذين تخلّفوا بعذر بإذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١) وهو قول بعض المفسرين أيضا ، قال : المعذرون ، كانوا صادقين ؛ لأنّه تعالى لمّا ذكرهم قال بعدهم (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فلمّا ميّزهم عن الكاذبين دلّ على أنّهم ليسوا كاذبين. وقال الضّحّاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفاعا عن أنفسهم ، فقالوا : يا نبيّ الله : إن نحن غزونا معك أغارت أعراب طيىء على حلائلنا ، وأولادنا ، ومواشينا ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نبّأني الله من أخباركم ، وسيغنيني الله عنكم (٢).

وروى الواحديّ عن أبي عمرو : أنّه لمّا قيل له هذا الكلام قال : إنّ أقواما تكلّفوا عذرا بباطل فهم الذين عناهم بقوله : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) ، وتخلّف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله تعالى ؛ فهم المرادون بقوله (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) ، فأوعدهم بقوله: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) في الدّنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنّار.

وإنّما قال «منهم» ؛ لأنّه تعالى كان عالما بأنّ بعضهم سيؤمن ، فذكر بلفظة «من» الدّالة على التّبعيض.

وقرأ الجمهور «كذبوا» بالتّخفيف ، أي : كذبوا في أيمانهم. وقرأ الحسن (٣) في المشهور عنه وأبيّ ، وإسماعيل «كذّبوا» بالتّشديد ، أي : لم يصدّقوا ما جاء به الرّسول عن ربّه ولا امتثلوا أمره.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٨).

(٢) انظر المصدر السابق. وقرأ بها كذلك نوح.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٠٠ ، المحرر الوجيز ٣ / ٧٠ ، البحر المحيط ٥ / ٨٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.

١٦٩

يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٤)

ثمّ ذكر أهل العذر فقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) قال ابن عبّاس : يعني : الزّمنى ، والمشايخ والعجزة.

وقيل : هم الصّبيان. وقيل : النّسوان. (وَلا عَلَى الْمَرْضى) وهم أصحاب العمى ، والعرج والزمانة ومن كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ، (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) يعني : الفقراء ؛ لأنّ حضورهم يكون كلّا ووبالا على المجاهدين ، «حرج» إثم. وقيل : ضيق عن القعود في الغزو. ثم إنّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطا معيّنا ، فقال (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ). قرأ أبو (١) حيوة : «نصحوا الله» بغير لام. وقد تقدّم أن «نصح» يتعدّى بنفسه وباللام. والنّصح : إخلاص العمل من الغشّ. ومنه : التّوبة النصوح. قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له. قال عليه الصلاة والسّلام : «الدّين النّصيحة» ثلاثا. قالوا لمن؟ قال : «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم» (٢).

قال العلماء : النّصيحة لله : إخلاص الاعتقاد في الوحدانيّة ، ووصفه بصفات الألوهيّة وتنزيهه عن النّقائص ، والرّغبة في محابه ، والبعد من مساخطه. والنّصيحة لرسوله : التصديق بنبوّته والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبّته ومحبّة آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنّته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والنفقة فيها ، والذب عنها ، ونشرها ، والدّعاء إليها ، والتخلّق بأخلاقه الكريمة ، وكذا النصح لكتاب الله قراءته ، والتفقه فيه ، والذّب عنه ، وتعليمه وإكرامه ، والتخلّق به.

والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحقّ ، وتثبيتهم فيما أغفلوه من أمر المسلمين ، ولزوم طاعتهم ، والقيام بواجب حقهم. وأمّا النصح للعامّة : فهو ترك معاداتهم وإرشادهم ، وحب الصّالحين منهم ، والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم. والمعنى : أنّهم إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف ، ولا يثيروا الفتن ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمّات بيوتهم ، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ، فهذه أمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧٠ ، البحر المحيط ٥ / ٨٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.

(٢) تقدم.

١٧٠

ثم قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) فقوله (مِنْ سَبِيلٍ) فاعل بالجار قبله لاعتماده على النّفي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين ف «من» مزيدة فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل. والمعنى : أنّه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). قال قتادة : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه (١). وقال الضحاك نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريرا (٢).

فصل

قال بعضهم : في هذه الآية نوع من البديع ، يسمّى التلميح ، وهو أن يشار إلى قصة مشهورة ، أو مثل سائر ، أو شعر نادر ، في فحوى كلامك من غير ذكره ؛ ومنه قوله : [البسيط]

٢٨٢٩ ـ اليوم خمر ويبدو في غد خبر

والدّهر من بين إنعام وإبآس (٣)

يشير إلى قول امرىء القيس لمّا بلغه قتل أبيه : «اليوم خمر ، وغدا أمر».

وقول الآخر : [الطويل]

٢٨٣٠ ـ فو الله ما أدري أأحلام نائم

ألمّت بنا أم كان في الرّكب يوشع؟ (٤)

يشير إلى قصّة يوشع عليه الصلاة والسّلام ، واستيقافه الشّمس.

وقول الآخر : [الطويل]

٢٨٣١ ـ لعمرو مع الرّمضاء والنّار تلتظي

أرقّ وأحفى منك في ساعة الكرب (٥)

أشار إلى البيت المشهور : [البسيط]

٢٨٣٢ ـ المستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرّمضاء بالنّار (٦)

فكأنه قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) اشتهر ما هو بمعناه بين النّاس ؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمّا ذكر أبو حيان التلميح لم يقيّده بقوله : «من غير ذكره». ولا بدّ منه لأنّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباسا وتضمينا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٩).

(٣) البيت لبشار بن برد ينظر : ديوانه (٤ / ١٠٠) ، البحر ٥ / ٨٨ ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.

(٤) البيت لأبي تمام : ينظر : ديوانه (٣٨٧) العمدة (٢ / ٨٨) ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.

(٥) البيت لأبي تمام ينظر : ديوانه (٣٨٧) العمدة ٢ / ٨٨ ، معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، الدر المصون ٣ / ٤٩١.

(٦) ينظر البيت في : عمدة ابن رشيق (٢ / ٨٨) معاهد التنصيص ٤ / ٢٠١ ، ٢٠٢ ، شرح شواهد الشافية (١١١) ، اللسان : دعص.

١٧١

فصل

اختلفوا في قوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) هل يفيد العموم؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأنّ اللفظ مقصور على أقوام معيّنين نزلت الآية فيهم. وقال آخرون : بلى ؛ لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب ، والمحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلّا الله ، فكلّ من قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين ؛ فدلّ هذا اللفظ بعمومه على أنّ الأصل حرمة القتل ، وحرمة أخذ المال وأن لا يتوجه عليه شيء من التّكاليف ، إلّا بدليل منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلا معتبرا في الشريعة ، في تقرير أنّ الأصل براءة الذّمة ، إلى أن يرد نص خاص.

قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ). فيه أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «الضّعفاء» ، أي : ليس على الضعفاء ، ولا على الذين إذا ما أتوك ، فيكونون داخلين في خبر «ليس» مخبرا بمتعلقهم عن اسمها ، وهو «حرج».

الثاني : أن يكون معطوفا على «المحسنين» فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله : (مِنْ سَبِيلٍ) ، فإنّ (مِنْ سَبِيلٍ) يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون اسم «ما» الحجازية ، و «من» مزيدة في الوجهين.

الثالث : أن يكون (وَلا عَلَى الَّذِينَ) خبرا لمبتدأ محذوف ، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوك .. إلى آخر الصلة ، حرج ، أو سبيل وحذف لدلالة الكلام عليه ، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه ، لأنّه تقدير مستغنى عنه إذ قدّر شيئا يقوم مقامه هذا الموجود في اللفظ والمعنى. وهذا الموصول ، أعني قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ ،) يحتمل أن يكون مندرجا في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وألا يكونوا مندرجين ، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقون ، إلّا أنّهم لم يجدوا مركوبا. وقرأ معقل (١) بن هارون «لنحملهم» بنون العظمة ، وفيها إشكال ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجد ما يحملكم عليه الله.

قوله : «قلت» فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنّه جواب «إذا» الشّرطيّة ، و «إذا» وجوابها في موضع الصّلة ، وقعت الصّلة جملة شرطية ، وعلى هذا ؛ فيكون قوله : «تولّوا» جوابا لسؤال مقدر كأنّ قائلا قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله : «تولّوا».

الثاني : أنّه في موضع نصب على الحال ، من «أتوك» ، أي : إذا أتوك ، وأنت قائل : لا أجد ما أحملكم عليه ، و «قد» مقدرة ، عند من يشترط ذلك في الماضي الواقع حالا ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٢.

١٧٢

كقوله : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠] في أحد أوجهه كما تقدّم ، وإلى هذا نحا الزمخشريّ.

الثالث : أن يكون معطوفا على الشّرط ؛ فيكون في محلّ جر بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف ، والتقدير : وقلت ، وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني ، وتبعه ابن عطيّة ، إلا أنّه قدّر العاطف فاء أي : فقلت.

الرابع : أن يكون مستأنفا. قال الزمخشريّ «فإن قلت : هل يجوز أن يكون قوله : «قلت لا أجد» استئنافا مثله؟ ـ يعني مثل : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) [التوبة : ٩٣] ـ كأنّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولّوا ، فقيل : ما لهم تولّوا باكين؟ قلت لا أجد ما أحملهم عليه إلّا أنّه وسط بين الشرط والجزاء ، كالاعتراض؟ قلت : نعم ، ويحسن» انتهى.

قال أبو حيّان «ولا يجوز ، ولا يحسن في كلام العرب ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي» قال شهاب الدين : وما أدري ما سبب منعه ، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظا ومعنى؟ وذلك لأنّ تولّيهم على حالة فيض الدّمع ليس مرتبا على مجرّد مجيئهم له عليه الصلاة والسّلام ليحملهم ، بل على قوله لهم : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ) وإذا كان كذلك فقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لهم ذلك سبب في بكائهم ؛ فحسن أن يجعل قوله : (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ) جوابا لمن سأل عن علة تولّيهم ، وأعينهم فائضة دمعا ، وهو المعنى الذي قصده أبو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في «قلت» يكون جواب الشّرط قوله : «تولّوا» ، وقوله «لتحملهم» علة ل «أتوك». وقوله : (لا أَجِدُ) هي المتعدية لواحد ؛ لأنّها من «الوجد» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة ، أو موصوفة.

فصل

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ التّولّي في القرآن على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى الانصراف ، قال تعالى : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) [التوبة : ٩٢] ومثله قوله تعالى (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) [القصص : ٢٤] أي : انصرف.

الثاني : بمعنى : «أبى» ، قال تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) [المائدة: ٤٩] أي : أبوا أن يؤمنوا ؛ ومثله قوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) [النساء : ٨٩].

الثالث : بمعنى «أعرض» قال تعالى (وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠].

الرابع : الإعراض عن الإقبال ، قال تعالى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥].

قوله : (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «تولّوا». قال الزمخشريّ «تفيض من الدّمع ، كقولك : تفيض دمعا». وقد تقدّم الكلام على هذا في المائدة مستوفى عند قوله (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣] وأنّه جعل (مِنَ الدَّمْعِ) تمييزا ، و «من» مزيدة وتقدّم الرّد عليه في ذلك هناك.

١٧٣

قوله : «حزنا» في نصبه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه مفعول من أجله ، والعامل فيه «تفيض» قاله أبو حيان. لا يقال : إنّ الفاعل هنا قد اختلف ، فإنّ الفيض مسند للأعين ، والحزن صادر من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وجب جرّه بالحرف ؛ لأنّا نقول : إنّ الحزن يسند للأعين أيضا مجازا ، يقال : عين حزينة وسخينة ، وعين مسرورة وقريرة ، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النّاصب له «تولّوا» ، وحينئذ يتّحد فاعلا العلّة والمعلول حقيقة.

الثاني : أنّه في محلّ نصب على الحال ، أي : تولّوا حزينين ، أو تفيض أعينهم حزينة ، على ما تقدّم من المجاز.

الثالث : أنه مصدر ناصبه مقدر من لفظه ، أي : يحزنون حزنا ، قاله أبو البقاء. وهذه الجملة التي قدّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضا في محلّ نصب على الحال ، إمّا من فاعل «تولّوا» ، وإمّا من فاعل «تفيض».

قوله : (أَلَّا يَجِدُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه مفعول من أجله ، والعامل فيه «حزنا» إن أعربناه مفعولا له ، أو حالا. وأمّا إذا أعربناه مصدرا فلا ؛ لأنّ المصدر لا يعمل إذا كان مؤكدا لعامله. وعلى القول بأنّ «حزنا» مفعول من أجله ، يكون (أَلَّا يَجِدُوا) علة العلة يعني أن يكون علّل فيض الدّمع بالحزن ، وعلّل الحزن بعدم وجدان النّفقة ، وهو واضح وقد تقدّم نظير ذلك في قوله : (جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) [المائدة : ٣٨].

الثاني : أنه متعلق ب «تفيض». قال أبو حيان (١) : ولا يجوز ذلك على إعرابه «حزنا» مفعولا له والعامل فيه «تفيض» ، إذ العامل لا يقتضي اثنين من المفعول له إلّا بالعطف ، أو البدل.

فصل

قال المفسّرون : هم سبعة نفر سموا البكائين ، معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن معقل المزني ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله : إنّ الله ندبنا للخروج معك ، فاحملنا (٢). واختلفوا في قوله «لتحملهم» قال ابن عبّاس : سألوه أن يحملهم على الدّوابّ (٣) ، وقيل : سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فتولّوا وهم يبكون

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٤٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٩).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٩).

١٧٤

وقال الحسن : نزلت في أبي موسى الأشعري ، وأصحابه ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضبا فقال : «والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه» فتولّوا يبكون ، فدعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعطاهم ذودا. فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال : «أما إنّي إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلّا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني»(١).

ولمّا قال تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) قال في هذه الآية : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) في التخلف : (وَهُمْ أَغْنِياءُ).

قوله : «... رضوا» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه مستأنف ، كأنّه قال قائل : ما بالهم استأذنوا في القعود ، وهم قادرون على الجهاد؟ فأجيب بقوله : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) ، وإليه مال الزمخشريّ.

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ البخاري (١١ / ٥١٧) كتاب الأيمان والنذور باب قوله تعالى : لا يؤاخذكم ... حديث (٦٦٢٣) ومسلم (٣ / ١٢٦٨) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا حديث (٧ / ١٦٤٩) وأحمد (٤ / ٣٩٨) والطيالسي (١ / ٢٤٧ ـ منحة) حديث (١٢١٧) وأبو داود (٣٢٧٦) والنسائي (٧ / ١٠٠٩) وابن ماجه (١ / ٦٨١) رقم (٢١٠٧) والطبراني في «الصغير» (١ / ٥٦ ـ ٥٧) والبيهقي (١٠ / ٥١) من حديث أبو موسى.

وللحديث شواهد : عن عدي بن حاتم :

أخرجه مسلم (٣ / ١٢٧٢ ـ ١٢٧٣) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا ... حديث (١٦ / ١٨ / ١٦٥١) وأحمد (٤ / ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨) والطيالسي (١٢١٨ ـ منحة) والدارمي (٢ / ١٨٦) والنسائي (٧ / ١٠ ـ ١١) وابن ماجه (١ / ٦٨١) رقم (٢١٠٨) والحاكم (٤ / ٣٠٠ ـ ٣٠١) والبيهقي (١٠ / ٣٢) وعن عبد الرحمن بن سمرة :

أخرجه البخاري (١١ / ٥١٦ ـ ٥١٧) كتاب الأيمان والنذور حديث (٦٦٢٢) ومسلم (٣ / ١٢٧٣ ـ ١٢٧٤) كتاب الأيمان حديث (٩ / ١٦٥٢) وأحمد (٥ / ٦٢) والطيالسي (١٢١٩ ـ منحة) والدارمي (٢ / ١٨٦) والنسائي (٧ / ١٢) وأبو داود (٣٢٧٧) وابن الجارود (٩٢٩) والبيهقي (١٠ / ٣١) والخطيب (٢ / ٤٠٠).

وعن عبد الله بن عمرو :

أخرجه أحمد (٢ / ٢١٢) وأبو داود (٣٢٧٤) وابن ماجه (١ / ٦٨٢).

وعن مالك الجشمي :

أخرجه النسائي (٧ / ١١) وابن ماجه (١ / ٦٨١) رقم (٢١٠٩).

وعن عدي بن حاتم :

أخرجه مسلم (٣ / ١٢٧٣) كتاب الأيمان : باب ندب من حلف يمينا حديث (١٧ / ١٦٥١).

ومن حديث عائشة :

أخرجه الحاكم (٤ / ٣٠١) وصححه.

ومن حديث أبي الدرداء :

أخرجه الحاكم (٤ / ٣٠١) وصححه والبيهقي (١٠ / ٥٢).

١٧٥

والثاني : أنّه في محلّ نصب على الحال ، و «قد» مقدّرة في قول. وتقدّم الكلام في : الخوالف». (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) قوله : (وَطَبَعَ) نسق على «رضوا» تنبيها على أنّ السّبب في تخلّفهم رضاهم بقعودهم ، وطبع الله على قلوبهم ، وقوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى) فأتى ب «على» ، وإن كان قد يصل ب «إلى» ؛ لأنّ «على» تدلّ على الاستعلاء ، وقلة منعة من تدخل عليه ، نحو : لي سبيل عليك ، ولا سبيل لي عليك ، بخلاف «إلى» فإذا قلت : لا سبيل عليك ، فهو مغاير لقولك : لا سبيل إليك ، ومن مجيء «إلى» معه قوله : [الطويل]

٢٨٣٣ ـ ألا ليت شعري هل إلى أمّ سالم

سبيل؟ فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (١)

وقول الآخر : [البسيط]

٢٨٣٤ ـ هل من سبيل إلى خمر فأشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجّاج (٢)

قوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ).

روي أنّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفرا ، فلمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل ، فقال الله (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) لم نصدقكم.

قوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّها المتعدّية إلى مفعولين.

أولهما : «نا» ، والثاني : (مِنْ أَخْبارِكُمْ) ، وعلى هذا ففي «من» وجهان :

أحدهما : أنّها غير زائدة ، والتقدير : قد نبّأنا الله أخبارا من أخباركم ، أو جملة من أخباركم ، فهو في الحقيقة صفة للمفعول المحذوف.

والثاني : أنّ «من» مزيدة عند الأخفش ؛ لأنّه لا يشترط فيها شيئا ، والتقدير : قد نبّأنا الله أخباركم.

الوجه الثاني ـ من الوجهين الأولين ـ : أنّها متعدية لثلاثة ، ك «أعلم» ، فالأول ، والثاني ما تقدّم ، والثالث محذوف اختصارا للعلم به ، والتقدير : نبّأنا الله من أخباركم كذبا ، ونحوه. قال أبو البقاء (٣) : «قد يتعدّى إلى ثلاثة ، والاثنان الآخران محذوفان تقديره : أخبارا من أخباركم مثبتة. و (مِنْ أَخْبارِكُمْ) تنبيه على المحذوف وليست «من» زائدة ، إذ لو كانت زائدة ، لكانت مفعولا ثانيا ، والمفعول الثالث محذوف ، وهو خطأ ، لأنّ المفعول الثاني متى ذكر في هذا الباب لزم ذكر الثالث».

وقيل : «من» بمعنى «عن». قال شهاب الدّين «قوله : إنّ حذف الثالث خطأ» إن

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لفريعة بنت همام ينظر شرح المفصل لابن يعيش (٧ / ٢٧) ، البحر ٥ / ٩٢ الخزانة ٤ / ٨٠ ، ٨٨ حاشية الشهاب ٤ / ٣٥٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٩٤ ، ولسان العرب (منى) ، سر صناعة الإعراب ص ٢٧١.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٠.

١٧٦

عنى حذف الاقتصار فمسلّم ، وإن عنى حذف الاختصار فممنوع ، وقد تقدّم مذاهب النّاس في هذه المسألة.

وقوله : (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) علّة لانتفاء تصديقهم. ثم قال : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) فيما تستأنفون ، أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

فإن قيل : لمّا قال : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) فلم لم يقل ، ثمّ تردّون إليه؟.

فالجواب : أنّ في وصفه تعالى بكونه (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ما يدلّ على كونه مطلعا على بواطنهم الخبيثة ، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد ، وفيه تخويف شديد ، وزجر عظيم لهم.

قوله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٠٢)

قوله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) الآية.

لمّا حكى عنهم أنّهم يعتذرون إليكم ، ذكر هنا أنّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة (إِذَا انْقَلَبْتُمْ) انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروج. (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي : لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم.

ثم قال تعالى : (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسّلام (١).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١٣) عن ابن عباس.

١٧٧

وقال مقاتل : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة : «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» (١). ثمّ ذكر العلّة في وجوب الإعراض عنهم ، فقال : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) والمعنى : أن خبث بواطنهم رجس روحاني ، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية ؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى. وقيل : إنّ عملهم قبيح. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي : منزلهم. قال الجوهريّ : المأوى : كل مكان يأوي إليه شيء ليلا أو نهارا ، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أويّا ، على «فعول» ، وإواء ، وأويته إذا أنزلته بك ، فعلت وأفعلت ، بمعنى عن أبي زيد. ومأوي الإبل ـ بكسر الواو ـ لغة في مأوى الإبل خاصّة ، وهو شاذ.

قوله : «جزاء ..» يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر ، أي : يجزون جزاء ، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة ؛ لأنّ كونهم يأوون في جهنم في معنى المجازاة ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله.

قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) الآية.

لمّا بيّن في الآية الأولى أنّهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم ، بين ههنا أيضا أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ، ثمّ إنّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم ، وذكر العلّة في ذلك النهي وهي أن : (اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) الآية.

لمّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجا منها ، ونائيا عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد. قال قتادة : «لأنّهم أبعد عن معرفة السنن» (٢) وقيل : لأنّهم أقسى قلبا ، وأكذب قولا ، وأغلظ طبعا ، وأبعد عن استماع التنزيل ، ولذا قال تعالى في حقّهم : (وَأَجْدَرُ) أي : أخلق. (أَلَّا يَعْلَمُوا). ولمّا دلّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم ، ترتب على ذلك أحكام :

منها : أنّه لا حقّ لهم في الفيء والغنيمة ، لقوله عليه الصلاة والسّلام في حديث بريدة : «... ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين» (٣). ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ، لتحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة ؛ لأنّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول ، وأجازها الشافعيّ إذا كان عدلا ، وهو الصحيح.

قوله : «الأعراب» صيغة جمع ، وليس جمعا ل «عرب» قاله سيبويه ، وذلك لئلّا يلزم

__________________

(١) انظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٥٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٨١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٣٥٧) كتاب الجهاد : باب جواز الإغارة على الكفار (٣ / ١٧٣٠).

١٧٨

أن يكون الجمع أخصّ من الواحد ، فإنّ العرب هذا الجيل الخاص ، سواء سكن البوادي ، أم سكن القرى.

وأمّا الأعراب ، فلا يطلق إلّا على من كان يسكن البوادي فقط ، وقد تقدّم عند قوله تعالى: (رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] ، أوّل الفاتحة. ولهذا الفرق نسب إلى «الأعراب» على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على «أعاريب». قال أهل اللغة : «يقال : رجل عربيّ ، إذا كان نسبه في العرب ، وجمعه العرب ، كما يقال : يهوديّ ومجوسيّ ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع ، فيقال : اليهود والمجوس ، ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدويا ، ويطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العرب ، أو من مواليهم. ويجمع الأعرابي على الأعراب ، والأعاريب ، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي ، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ ، غضب ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعراب ويدلّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسّلام «حبّ العرب من الإيمان» (١) وأما الأعراب فقد ذمّهم الله تعالى في هذه الآية. وأيضا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنّما هم عرب ، وهم متقدّمون في مراتب الدّين على الأعراب ، قال عليه الصلاة والسّلام «لا تؤمّنّ امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولا أعرابيّ مهاجرا» (٢).

فصل

قال بعض العلماء : الجمع المحلى بالألف واللّام الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة ، قالوا : لأنّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق ؛ وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق ، دفعا للإجمال. قالوا : إذا ثبت هذا فقوله «الأعراب» المراد منه جمع معيّنون من منافقي الأعراب ، كانوا يو الون منافقي المدينة ، فانصرف هذا اللّفظ إليهم.

فصل

سمي العرب عربا ، لأنّ أباهم : يعرب بن قطعان ، فهو أوّل من نطق بالعربيّة ، وقيل : سمّوا عربا ؛ لأنّ ولد إسماعيل نشئوا ب «عربة» وهي تهامة ، فنسبوا إلى بلدهم ،

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ٨٧) وأبو نعيم (٢ / ٣٣٣) والطبراني في الأوسط كما في «المجمع» (١٠ / ٥٦) من طريق الهيثم عن أنس به وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورده الذهبي بقوله : قلت : الهيثم متروك وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٥٦) وقال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه الهيثم بن جماز وهو متروك.

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٤٣) كتاب إقامة الصلاة : باب في فرض الجمعة حديث (١٠٨١) والبيهقي (٣ / ٩٠ ، ١٧١) قال البوصيري : إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوى.

١٧٩

وكلّ من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنّهم إنّما تولّدوا من ولد إسماعيل ، وقيل : سمّوا عربا ؛ لأنّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول ، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم «جرهم» فربي بينهم ، وكانوا عربا قبل إسماعيل ، ولأن «يعرب» من ولد إسماعيل ، وكان حميلا عربيا.

وأمّا الثاني لأن إسماعيل تعلّم العربيّة في «جرهم» حين نزلوا عند هاجر بمكّة.

والصحيح أنّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عاد وثمود ، وطسم ، وجديس ، وجرهم ، والعماليق ، وآدم يقال : إنّه كان ملكا ، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر ، وبنوه قبيلة يقال لها «وبار» هلكوا بالرما انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمّ منازلهم ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [الرجز]

٢٨٣٥ ـ وكرّ دهر على وبار

فهلكت جهرة وبار (١)

وأمّا الثالث ، فكلّ لسان معرب عمّا في ضمير صاحبه ، وإنّما يظهر ما قاله النسابون ، أنّ سام بن نوح أبو العرب ، وفارس ، والروم ، فدل على أنّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح.

قال بعضهم : والصحيح إن شاء الله تعالى ـ أن آدم نطق بالعربيّة ، وغيرها من الألسنة ، لقوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

ولا شكّ أنّ اللّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحة والجزالة ، لا توجد في سائر الألسنة.

قال بعض الحكماء : حكمة الرّوم في أدمغتهم ؛ لأنّهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة اليونان في أفئدتهم لكثرة ما لهم من المباحث العقليّة ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوة ألفاظهم ، وعذوبة عباراتهم.

فصل

اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين :

الأول : أنّهم أشدّ كفرا ونفاقا ، والسبب فيه وجوه :

أحدها : أنّ أهل البدو يشبهون الوحوش.

وثانيها : استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يزيد في التيه ، والتّكبر ، والفخر ، والطيش عليهم.

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر : ديوانه (٢٨١) شرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٤٠ ، شرح الأشموني ٢ / ٥٣٨ ، شرح التصريح ٢ / ٢٢٥ ، شرح شذور الذهب ص ١٢٥ ، شرح المفصل ٤ / ٦٤ ، ٦٥ ، الكتاب ٣ / ٢٧٩ ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٥٨ ، همع الهوامع ١ / ٢٩ أمالي ابن الحاجب ص (٣٦٤) أوضح المسالك ٤ / ١٣٠ ، المقتضب ٣ / ٣٧٥٢٥٠ المقرب ١ / ٢٨٢ ، اللسان (وبر) وروي «ومر» بدل «وكر».

١٨٠