اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

لما شرح أنواع قبائح أفعالهم ، بين أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة.

قوله : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، أي : من جنس بعض ، ف «من» هنا لبيان الجنس وقيل : للتبعيض ، أي : إنهم إنما يتو الدون بعضهم من بعض على دين واحد ، وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق ، ثم فصل هذا الكلام فقال : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ). هذه الجملة لا محل لها ؛ لأنها مفسرة لقوله : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، وكذلك ما عطف على «يأمرون» ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح ، ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن ، إلا أن الأعظم هاهنا من المنكر الشرك والمعصية ، والمراد الأعظم هاهنا من المعروف الإيمان بالرسول (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي : يمسكونها عن الصدقة ، والإنفاق في سبيل الله. (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته في العقبى.

وإنما حملنا النسيان على الترك ، لأن من نسي شيئا لم يذكره ، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم ، ولأن النسيان ليس في وسع البشر ، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل ، وهو ما ذكرنا من الترك ؛ لأنهم تركوا أمر الله حتى صاروا كالنسي المنسي ، فجازاهم بأن صيرهم كالشيء المنسي ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ثم قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الكاملون في الفسق.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) الآية.

قال القرطبي وغيره : يقال : وعد الله بالخير وعدا ، ووعد بالشر وعيدا. وقيل : لا يقال من الشر إلا «أوعدته» و «توعدته» وهذه الآية رد عليه. لما بين في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم ، أي : جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله ، أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه ، فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ) الآية.

وقوله : «خالدين» حال من المفعول الأول للوعد ، وهي حال مقدرة ؛ لأن هذه الحال لم تقارن الوعد. وقوله : (هِيَ حَسْبُهُمْ) لا محل لهذه الجملة الاستئنافية. والمعنى : أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ، ولا يمكن الزيادة عليها.

ثم قال : (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم الله من رحمته ، (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم.

فإن قيل : معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكرارا.

فالجواب : من وجهين :

الأول : أن لهم نوعا آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولا ، ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم. وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) يدل على أن لهم مع ذلك نوعا آخر من العذاب.

فإن قيل هذا مشكل ؛ لأنه قال في النار المخلدة : (هِيَ حَسْبُهُمْ) وكونها حسبا يمنع

١٤١

من ضم شيء آخر إليه. فالجواب : أنها حسبهم في الإيلام ، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم.

والثاني : أن المراد بقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم ، وما يحذرونه من أنواع الفضائح.

قوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

فيه أوجه :

أحدها : أن هذه الكاف في محل رفع ، تقديره : أنتم كالذين ، فهي خبر مبتدأ محذوف.

الثاني : أنها في محل نصب. قال الزجاج (١) : المعنى : وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلق ب «وعد». قال ابن عطية (٢) «وهذا قلق». وقال أبو البقاء (٣) : ويجوز أن يكون متعلقا ب (تَسْتَهْزِؤُنَ) [التوبة : ٦٥]. وفي هذا بعد كبير.

وقوله : (كانُوا أَشَدَّ) تفسير لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم ، وجعل الفراء محلها نصبا بإضمار فعل ، قال : «التشبيه من جهة الفعل ، أي : فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكاف في موضع نصب. وقال أبو البقاء : «الكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضاف ، تقديره : وعدا كوعد الذين». وذكر الزمخشري وجه الرفع المتقدم ، والوجه الذي تقدم عن الفراء ، وشبهه بقول النمر بن تولب : [الكامل]

٢٨١١ ـ .........

كاليوم مطلوبا ولا طلبا (٤)

بإضمار : «لم أر».

قوله : (كَمَا اسْتَمْتَعَ) الكاف في محل نصب ، نعتا لمصدر محذوف ، أي : استمتاعا كاستمتاع الذين.

قوله : (كَالَّذِي خاضُوا) الكاف كالتي قبلها. وفي «الذي» وجوه :

أحدها : أن المعنى : وخضتم خوضا كخوض الذين خاضوا ، فحذفت النون تخفيفا ، أو وقع المفرد موقع الجمع وقد تقدم تحقيقه في أوائل البقرة ، فحذف المصدر الموصوف ، والمضاف إلى الموصول وعائد الموصول تقديره : خاضوه ، والأصل : خاضوا فيه ؛ لأنه يتعدى ب «في» فاتسع فيه فحذف الجار ، فاتصل الضمير بالفعل ، فساغ حذفه ، ولو لا هذا التدريج لما سائغ الحذف ، لما تقدم أنه متى جر العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جر الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلق مع شروط أخر تقدمت.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٥١٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٥٦.

(٣) ينظر : الإملا لأبي البقاء ٢ / ١٨.

(٤) تقدم.

١٤٢

الثاني : أن «الذي» صفة لمفرد مفهم للجمع ، أي : وخضتم خوضا كخوض الفوج الذي خاضوا ، أو الفريق الذي خاضوا والكلام في العائد كما سبق قبل.

قال بعض المفسرين : «الذي» اسم ناقص مثل «ما ، ومن» يعبر به عن الواحد والجمع ، كقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ثم قال (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧].

الثالث : أن «الذي» من صفة المصدر ، والتقدير : وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوه وعلى هذا فالعائد منصوب من غير واسطة حرف جر. وهذا الوجه ينبغي أن يكون هو الراجح ، إذ لا محذور فيه.

والرابع : أن «الذي» تقع مصدرية ، والتقدير : وخضتم خوضا. ومثله : [البسيط]

٢٨١٢ ـ فثبت الله ما آتاك من حسب

في المرسلين ونصرا كالذي نصروا (١)

أي : كنصرهم. وقول الآخر : [البسيط]

٢٨١٣ ـ يا أم عمرو جزاك الله مغفرة

ردي علي فؤادي كالذي كانا (٢)

أي : ككونه. وقد تقدم أن هذا مذهب الفراء ، ويونس ، وقد تقدم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشري (٣) «فإن قلت : أي فائدة في قوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ،) وقوله (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه ، كما أغنى (كَالَّذِي خاضُوا)؟ قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، ورضاهم بها عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به ، ثم شبه حال المخاطبين بحالهم ، وأما (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فمعطوف على ما قبله ومسند إليه ، مستغن بإسناداه إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التركيب : وخاضوا ، فخضتم كالذي خاضوا». وفي قوله (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ) إيقاع للظاهر موقع المضمر ، لنكتة ، وهو أنه كان الأصل : فاستمتعم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم ؛ فأبرزهم بصورة الظاهر تحقيرا لهم ، كقوله : (لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) [مريم : ٤٤] ، وكقوله قبل ذلك : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ،) ثم قال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة: ٦٧] وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم ، يدل به على عكسه ، وهو التحقير.

فصل

معنى الآية : إنكم فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، بالعدول عن أمر الله والأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات ، و (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً)

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لجرير : ينظر : الديوان ٥٩٤ ، والمحتسب ٢ / ١٨٩ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٨٨.

١٤٣

بطشا ومنعة ، (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) إنما استمتعوا مدة بالدنيا ، باتباع الشهوات ، ورضوا به عوضا عن الآخرة ، (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ) ، والخلاق : النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) وسلكتم سبيلهم (وَخُضْتُمْ) في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله ، والاستهزاء بالمؤمنين ، (كَالَّذِي خاضُوا) أي : كما خاضوا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي : بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف ، وفي الآخرة ؛ لأنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث أتبعوا أنفسهم في الرد على الأنبياء ، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدنيا والآخرة ، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم.

روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع، حتى إذا دخلوا حجر ضب لا تبعتموهم» قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى قال : «فمن؟» وفي روآية أبي هريرة : فهل الناس إلا هم (١)؟ فلهذا قال في المنافقين (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) ، وقال في المؤمنين : «بعضهم أولياء بعض» أي : في الدين واتفاق الكلمة ، والعون ، والنصرة ، (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) بالإيمان والطاعة والخير ، وقد تقدم الكلام على (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) عن الشرك والمعصية ، وما لا يعرف في الشرع (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) المفروضة (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) فالسين للاستقبائل ، إذ المراد رحمة خاصة ، وهي ما خبأه لهم في الآخرة. وادعى الزمخشري : أنها تفيد وجوب الرحمة وتوكيد الوعد والوعيد ، نحو : سأنتقم منك ، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونظيره : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٥] (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء : ١٥٢].

ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب ؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة ، والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما تقتضيه الحكمة.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٣١٢ ـ ٣١٣) كتاب الاعتصام : باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (٧٣٢٠) ومسلم ٤ / ٢٠٥٤ كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى (٦ ـ ٢٦٦٩).

١٤٤

نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٨٠)

قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [التوبة : ٧٢].

والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر ؛ لأنه تعالى قال بعده (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) والمعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم التي هي البساتين ، وتكون فائدة وصفها بأنها عدن ، أنها تجري مجرى دار السكن والإقامة.

وقوله : «خالدين» حال مقدرة ، كما تقدم. وقوله : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي : منازل طيبة (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : خلد وإقامة ، وفي «عدن» قولان :

أحدهما : أنه اسم علم لموضع معين في الجنة.

قال عبد الله بن عمرو «إن في الجنة قصرا يقال له عدن ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حرة ، لا يدخله إلا نبي ، أو صديق أو شهيد» (١).

قال الزمخشري : و «عدن» علم بدليل قوله (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ) [مريم : ٦١].

والقول الثاني : أنه صفة للجنة. قال الأزهري : «العدن» مأخوذ من قولك : عدن بالمكان إذا أقام به ، يعدن عدونا. وتقول : تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ، ومنه المعدن ، لمستقر الجواهر. يقال : عدن عدونا ، فله مصدران. هذا أصل هذه اللفظة لغة. وذكر المفسرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة : [المتقارب]

٢٨١٤ ـ وإن يستضيفوا إلى حلمه

يضافوا إلى راجح قد عدن (٢)

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٠.

(٢) هو في ديوانه بروآية :

وإن يستضافوا إلى حكمة

لضافوا إلى هادن قد وزن

١٤٥

أي : ثبت واستقر. ومنه «عدن» لمدينة باليمن ، لكثرة المقيمين بها.

قوله : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) التنكير يفيد التقليل ، أي : أقل شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدم من الجنات ومساكنها.

ثم قال : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : هذا هو الفوز العظيم ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله عزوجل لأهل الجنة : يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» (١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) الآية.

لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة ، وتوعدهم بأنواع العقاب ، ثم ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة ، ووعدهم بالثواب ، عاد إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية.

فإن قيل : مجاهدة المنافقين غير جائزة ، فإن المنافق يستر كفره وينكره بلسانه.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال الضحاك : مجاهدة المنافق : تغليظ القول ، وهذا بعيد ؛ لأن ظاهر قوله (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) يقتضي الأمر بجهادهما معا ، وكذا ظاهر قوله : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) راجع إلى الفريقين.

وثانيها : أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدل على أن الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر. فقال ابن مسعود : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه. وقال : لا يلقى المنافق إلا بوجه مكفهر. وقال ابن عباس : باللسان وترك الرفق (٢).

وثالثها : قال الحسن وقتادة : بإقامة الحدود عليهم (٣)

__________________

ـ وينظر : الطبري ١٤ / ٣٥٠ : واللسان (وزن) ومجاز القرآن ١ / ٢٧٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٦٣ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٤.

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٤٩٦) كتاب التوحيد : باب كلام الرب مع أهل الجنة (٥٧١٨) ومسلم (٤ / ٢١٧٦) كتاب الجنة وصغة نعيمها : باب إحلال الرضوان على أهل الجنة (٩ ـ ٢٨٢٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٦٢) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٠) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٦٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١١.

١٤٦

قال القاضي : وهذا ليس بشيء ؛ لأن إقامة الحدود واجبة على من ليس بمنافق.

قوله : (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) قال أبو البقاء : إن قيل كيف حسنت الواوهنا والفاأ أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الواو واو الحال والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم ، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم.

والثاني : أن الواو جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف ، تقديره : واعلم أن مأواهم جهنم.

الثالث : أن الكلام حمل على المعنى والمعنى أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة ، وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم. ولا حاجة إلى هذا كله ، بل هي جملة استئنافية.

قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية.

قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظل شجرة ، فقال : «إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعين الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «علام تشتمني أنت وأصحابك» فانطلق الرجل ؛ فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله عزوجل الآية (١).

وقال الكلبي : نزلت في جلاس بن سويد ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين ، فسمائهم رجسا وعابهم ، فقال جلاس : لئن كان محمد صادقا ، لنحن شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس ، وأخبره بما قال جلاس ، فقال الجلاس : كذب يا رسول الله ؛ فأمرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحلفا عند المنبر ؛ فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ، ولقد كذب علي عامر ، فقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد قاله ، وما كذبت عليه ، ثم رفع عامر يديه إلى السماء فقال : اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون : آمين ، فنزل جبريل عليه‌السلام قبل أن يتفرقوا بهذه الآية ، حتى بلغ (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) ، فقام الجلاس ، فقال : يا رسول الله أسمع الله قد عرض علي التوبة ، صدق عامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته وأنا أستغفر الله ، وأتوب إليه ، فقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منه ، ثم تاب وحسنت توبته (٢).

وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي لما قال (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٦٣) وزاد نسبته إلى الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١١ ـ ٣١٢) عن الكلبي والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١٠٨.

١٤٧

الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨]. وأراد به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي ، فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل فنزلت الآية. وقال القاضي : الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك ، وهم خمسة عشر رجلا تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الواد بالليل ، وكان عمار بن ياسر آخذا بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل ، وقعقعة السلاح ، فالتفت ، فإذا قوم متلثمون. فقال : إليكم يا أعداء الله ، فهربوا والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادعاء الرسالة ، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج.

فإن قيل : قوله : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) يدل على أنهم أسلموا من قبل ، وهم لم يكونوا مسلمين.

فالجواب : أن المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب ؛ لأنهم لما نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وقوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم ، ولم يصلوا إلى مقصودهم وقال السدي : «هو قولهم إذا قدمنا المدينة ؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا فلم يصلوا إليه» (١).

قوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه).

في الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ، أي : وما كرهوا وعابوا إلا إغناء الله إياهم وهو من باب قولهم : ما لي عندك ذنب إلا أن أحسنت إليك ، أي : إن كان ثم ذنب فهو هذا ، فهو تهكم بهم ؛ كقوله: [الطويل]

٢٨١٥ ـ ولا عيب فينا غير عرق لمعشر

كرام وأنا لا نخط على النمل (٢)

وقول الآخر : [المنسرح]

٢٨١٦ ـ ما نقموا من بني أمية إل

لا أنهم يحلمون إن غضبوا

وأنهم سادة الملوك ولا

يصلح إلا عليهم العرب (٣)

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٢.

(٢) ينظر : العمدة لا بن رشيق ٢ / ٤٩ ، والبحر ٥ / ٧٤ ، واللسان (نحل) والتهذيب ٥ / ٣٦٦ نما ، والدر المصون ٣ / ٤٨٥.

(٣) البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر : ديوانه ٤ ، وطبقات فحول الشعراء ٥٣٣ ، ومجاز القرآن ١ / ١٧٠ ، والأغاني ٤ / ١٦٠ ، وغريب القرآن ١٩٠ ، واللسان نقم ، والتهذيب ٩ / ٢٠٢ (نقم) ، والبحر المحيط ٥ / ٧٤ ، وزاد المسير ٣ / ٤٧١ ، والخزانة ٧ / ٢٨٨ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٥.

١٤٨

والثاني : أنه مفعول من أجله ، وعلى هذا فالمفعول به محذوف ، تقديره : وما نقموا منهم الإيمان إلا لأجل إغناء الله إياهم. وقد تقدم الكلام على «نقم» [الأعراف : ١٢٦].

قيل : إن مولى الجلاس قتل ، فأمر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى.

وقال الكلبي : كانوا قبل قدوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة في ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم استغنوا بالغنائم (١).

قوله : (فَإِنْ يَتُوبُوا) أي : من نفاقهم : (يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) أي : يعرضوا عن التوبة (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالخزي ، وفي «الآخرة» بالنار (وَما لَهُمْ) في الأرض (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) الآية.

(عاهَدَ اللهَ) فيه معنى القسم ، فلذلك أجيب بقوله : «لنصدقن» ، وحذف جواب الشرط لدلالة هذا الجواب عليه ، و «اللام» للتوطئة ، ولا يمتنع الجمع بين القسم واللام الموطئة له.

وقال أبو البقاء (٢) : فيه وجهان :

أحدهما : تقديره : «عاهد ، فقال : لئن آتانا».

والثاني : أن يكون «عاهد» بمعنى : قال ، فإن العهد قول. ولا حاجة إلى هذا.

قوله : (لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَ) قرأهما الجمهور بالنون الثقيلة. والأعمش (٣) بالخفيفة.

قال الزجاج الأصل : «لنصدقن» ، ولكن التاأ أدغمت في الصاد ، لقربها منها.

قال الليث : المتصدق : المعطي ، والمتصدق : السائل. قال الأصمعي ، والفراء : هذا خطأ ، فالمتصدق هو المعطي ، قال تعالى : (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [يوسف : ٨٨] واعلم أن هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين ؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) [التوبة : ٦٢] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة : ٤٩] (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ(٤) اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) [التوبة : ٧٥].

والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال «أما

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٢) والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ١٠٩.

(٢) ينظر : الإملا لأبي البقاء ٢ / ١٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٢ ، البحر المحيط ٥ / ٧٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٥.

١٤٩

لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت».

ثم راجعه بعد ذلك ، فقال : يا رسول الله : ادع الله أن يرزقني مالا ، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال : فاتخذ غنما ؛ فنمت كما ينمو الدود ، حتى ضاقت بها المدينة فتنحى عنها ، ونزل واديا من أوديتها ، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر ، ويصلي في غنمه سائر الصلوات ، ثم كثرت ونمت ، فتباعد حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة ؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ، فذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال : «ما فعل ثعلبة»؟.

قالوا : يا رسول الله ؛ اتخذ غنما ما يسعها واد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا ويح ثعلبة» فأنزل الله تعالى آية الصدقات ؛ فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من بني سليم ، ورجلا من جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها ، وقال لهما : «مرا بثعلبة بن حاطب ، وبرجل من بني سليم ، فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة ؛ فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هذه إلا الجزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إلي ، فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما رأياها قالا : ما هذه عليك ؛ قال خذاه فإن نفسي بذلك طيبة ، فمرا على الناس ، وأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، اذهبا حتى أرى رأيي ، قال فأقبلا ، فلما رآهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال قبل أن يكلماه : يا ويح ثعلبة ، ثم دعا للسلمي بخير ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ؛ فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) الآية على قوله : (وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة : ١٠٣] وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أقارب ثعلبة ؛ فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة ، قد أنزل الله عزوجل فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : إن لله منعني أن أقبل منك صدقتك ؛ فجعل يحثو الترائب على رأسه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أمرتك فلم تطعني» ؛ فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته ؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقبض أبو بكر ، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ، ثم لم يقبلها عثمان ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦) والواحدي في «أسباب النزول» ص (١٩١ ـ ١٩٢) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٢ ـ ٣١٣) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٢٨٩ ـ ٢٩١) من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة.

وذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣ / ١٣٥) : سنده ضعيف.

وقال ابن حجر في «تخريج الكشاف» ص ٧٧ : إسناداه ضعيف جدا.

١٥٠

وقال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : أتى ثعلبة مشهدا من الأنصار ؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كل ذي حق حقه ، وتصدقت منه ، وو صلت منه القرابة ، فمات ابن عم له ، فورث منه مالا ، فلم يف بما قال ؛ فأنزل الله هذه الآية (١).

وقال الحسن ومجاهد : نزلت في ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعودا وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقن ، فلما رزقهما بخلا به. والمشهور الأول (٢).

فإن قيل : إن الله أمره بإخراج الصدقة ؛ فكيف يجوز للرسول أن لا يقبلها منه؟.

فالجواب : لا يبعد أن يقال : إن الله تعالى منع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره ، فلا يمتنع عن أداء الصدقات ، أو أنه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء ، لا على وجه الإخلاص ، وأعلم الله الرسول بذلك ؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة ، ويحتمل أيضا أن الله تعالى لما قال : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ؛ فلهذا امتنع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أخذ تلك الصدقة.

فإن قيل : المنافق كافر ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله.

فالجواب : أن المنافق قد يكون عارفا بالله ، إلا أنه كان منكرا لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فلكونه عارفا بالله يمكنه أن يعاهد الله ، ولكونه منكرا لنبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، كان كافرا.

وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلما ، ثم لما بخل بالمال ، ولم يف بالعهد صار منافقا ، ولفظ الآية يدل على ذلك لقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) [التوبة : ٧٨].

فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان ، أو يكفى النية؟.

فالجواب : قال بعضهم : تكفي النية ، وأن قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) [التوبة : ٧٥] كان شيئا نووه في أنفسهم لقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [التوبة : ٧٨]. وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتلفظ باللسان ، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل» وأيضا فقول (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) يشعر ظاهره بالقول باللسان.

فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال ، وهو على قسمين واجب وغير واجب ، والواجب قسمان :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٦٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤٢٧) عن الحسن ومجاهد.

١٥١

قسم واجب بأصل الشرع كالزكاة ، والنفقات الواجبة.

وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد كالنذور.

فقوله : «لنصدقن» هل يتناول الأقسام الثلاثة ، أولا؟.

فالجواب : أن الصدقات التي ليست واجبة ، غير داخلة في الآية ، لقوله : (بَخِلُوا بِهِ) والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب ؛ ولأنه تعالى ذمهم بهذا الترك ، وتارك المندوب لا يذم.

بقي القسمان الواجبان ؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية ، لا محالة بقي الواجب بالنذر ، والظاهر أن اللفظ لا يدل عليه ؛ لأنه ليس في الآية إلا قوله (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) وهذا ليس فيه إشعائر بالنذر ، لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الزكوات والنفقات الواجبة إن وسع الله عليه.

فإن قيل : لفظ الآية يدل على أن الذي لزمهم إنما بسبب هذا الالتزام ، والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام ، وإنما تلزم بملك النصاب وحلول الحول.

فالجواب : قوله : «لنصدقن» لا يوجب أن يفعلوا ذلك على الفور ؛ لأنه إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل ، وهذا النذر لا يوجب الفور ؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا : (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : في أوقات لزوم الصلاة ؛ فثبت بما قررنا أن الداخل تحت هذا العهد ، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشرع ، ويؤكد هذا ما روي في سبب النزول أن الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداة الزكاة.

فصل

المراد من «الفضل» هاهنا : إيتاء المال بأي طريق كان ، إما بتجارة ، أو غنيمة أو غير ذلك. والمراد ب «الصالحين» : الصالح ضد المفسد ، والمفسد عبارة عمن بخل بما يلزمه في التكليف ، فالصالح : من يعمل بعمل أهل الصلاح من صلة الرحم والنفقة في الخير ، ونحو ذلك.

ثم قال تعالى : (فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ).

قال الليث : يقال : أعقب فلانا ندامة ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك ، قال الهذلي : [الكامل]

٢٨١٧ ـ أودى بني وأعقبوني حسرة

بعد الرقاد وعبرة لاتقلع (١)

__________________

(١) ينظر : خزانة الأدب ١ / ٤٢٠ ، وشرح التصريح ٢ / ٦١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٦٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٩٨ ، واللسان (عقب) ، وأوضح المسالك ٣ / ١٩٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٣١.

١٥٢

ويقال : أكل فلان أكلة فأعقبته سقما ، وأعقبه الله خيرا ، والمعنى : أخلفهم في قلوبهم أي: صير عاقبة أمورهم النفاق ، وقيل : عاقبهم بنفاق في قلوبهم ، يقال : عاقبته وأعقبته بمعنى.

فصل

«فأعقبهم» فعل ، ولا بد من إسناداه إلى شيء تقدم ذكره ، والذي تقدم ذكره هو الله تعالى ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ، ولا يجوز إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح ، لأن هذه الثلاثة أعمال الخير ؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب ؛ لأن النفاق عبارة عن الكفر ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثرا في حصول الجهل في القلب ؛ لأن ترك الواجب عدم ، والجهل وجود ، والعدم لا يكون مؤثرا في الوجود ؛ لأن البخل والتولي والإعراض ، قد يوجد في كثير من الفساق ، مع أنه لا يحصل معه النفاق ؛ ولأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه ، سواء كان هذا الترك جائزا شرعا أو محرما شرعا ؛ لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثرا ؛ ولأنه تعالى قال : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة : ٧٧] فلو كان فعل الإعقاب مسندا إلى البخل ، والتولي ، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ؛ لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ، ومعلوم أنه كلام باطل ؛ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياء المتقدم ذكراها إلا إلى الله تعالى ؛ فوجب إسناداه إليه ؛ فصار المعنى : أن الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قاله الزجاج ، إن معناه : أنهم لما ضلوا في الماضي فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فالضمير في قوله : «يلقونه» عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله : «فأعقبهم» مسندا إلى الله تعالى.

قال القاضي «المراد من قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة». وهذا بعيد ؛ لأنه عدول عن الظّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلا عقليا ، قوبلوا بدليل عقلي. والله أعلم.

فصل

ظاهر الآية يدلّ على أنّ نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورث النّفاق ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك ، ويجتهد في الوفاء. ومذهب الحسن البصري : أنّه يوجب

١٥٣

النفاق لا محالة لهذه الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسّلام : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقا وإن صلّى وصام وزعم أنّه مؤمن ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (١).

ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجل فقال له : إن أولاد يعقوب حدّثوه في قولهم (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٧] فكذبوه ، ووعدوه في قولهم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢] فأخلفوه ، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل نحكم بكونهم منافقين؟ قيل : فتوقف الحسن في مذهبه.

وفسّر عمرو بن عبيد الحديث فقال «إذ حدّث عن الله كذب عليه ، وعلى دينه ، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله ، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرّ فكان قلبه على خلاف لسانه».

قوله : (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) قال الجبائيّ «تمسّكوا في إثبات رؤية الله بقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل قوله في صفة المنافقين (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) وأجمعوا على أنّ الكفّار لا يرونه ؛ فدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية.

ويؤيده قوله عليه الصلاة والسّلام «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» (٢) وأجمعوا على أنّ المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا».

قال ابن الخطيب «وهذا دليل ضعيف ؛ لأنّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرّؤية في هذه الآية ، وفي الخبر لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصّور ، كما إذا أدخلنا التّخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا أن نخصّص جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك».

قوله : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي : أنّ الله أعقبهم ذلك النّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد ، وعلى كذبهم. وقرأ الجمهور «يكذبون» مخففا ، وأبو (٣) رجاء مثقلا.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) الآية.

قرأ الجمهور «يعلموا» بالياء من تحت. وقرأ عليّ بن أبي طالب ، والحسن (٤) ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ١٨١) وقال : رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٢ ، البحر المحيط ٥ / ٧٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٢ ، البحر المحيط ٥ / ٧٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٨٥.

١٥٤

والسلمي بالخطاب ، التفاتا للمؤمنين دون المنافقين والسّر : ما ينطوي عليه صدورهم والنّجوى : ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، مأخوذ من «النّجو» وهو الكلام الخفي كأنّ المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما ، ونظيره قوله تعالى : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٤] وقوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] وقوله : (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المجادلة : ٩] ، والمعنى : أنّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتّناجي فيما بينهم ، مع علمهم بأنّه تعالى يعلم ذلك من حالهم ، كما يعلم الظّاهر ، وأنّه يعاقب عليه كما يعاقب على الظّاهر.

قال : (وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) والعلّام : مبالغة في العالم ، والغيب : ما كان غائبا عن الخلق.

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية.

في (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) أوجه :

أحدها : أنه مرفوع على إضمار مبتدأ ، أي : هم الذين.

الثاني : أنّه في محل رفع بالابتداء ، و (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حال من «المطّوّعين».

و (فِي الصَّدَقاتِ) متعلق ب «يلمزون» ، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) نسق على «المطّوّعين» أي : يعيبون المياسير ، والفقراء. وقال مكيّ : (وَالَّذِينَ) خفض ، عطفا على «المؤمنين» ولا يحسن عطفه على «المطّوّعين» ؛ لأنه لم يتمّ اسما يعد ؛ لأنّ «فيسخرون» عطف على «يلمزون» هكذا ذكره النّحاس في الإعراب له ، وهو عندي وهم منه.

قال شهاب الدّين (١) : «والأمر فيه كما ذكر ، فإنّ «المطّوّعين» قد تمّ من غير احتياج لغيره».

وقوله : «فيسخرون» نسق على الصّلة ، وخبر المبتدأ : الجملة من قوله (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) هذا أظهر إعراب قيل هنا.

وقيل : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) نسق على (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) ، ذكره أبو البقاء وهذا لا يجوز ؛ لأنّه يلزم الإخبار عنهم بقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) ، وهذا لا يكون ، إلّا بأن كان (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) منافقين ، وأمّا إذا كانوا مؤمنين ، كيف يسخر الله منهم؟. وقيل : (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) نسق على «المؤمنين» ، قاله أبو البقاء.

قال أبو حيّان (٢) : «وهو بعيد جدّا». ووجه بعده : أنّه يفهم أنّ (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) ليسوا مؤمنين ؛ لأن أصل العطف الدلالة على المغايرة ، فكأنّه قيل : يلمزون المطّوّعين من

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٨٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٧٧.

١٥٥

هذين الصنفين : المؤمنين ، والذين لا يجدون ؛ فيكون (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) مطّوّعين غير مؤمنين.

وقال أبو البقاء (١) : (فِي الصَّدَقاتِ) متعلق ب «يلمزون» ، ولا يتعلّق ب «المطّوّعين» لئلّا يفصل بينهما بأجنبي. وهذا فيه نظر ؛ إذ قوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) حال ، والحال ليست بأجنبيّ ، وإنّما يظهر في ردّ ذلك أن «يطّوّع» إنّما يتعدى بالباء ، لا ب «في» وكون «في» بمعنى «الباء» خلاف الأصل. وقيل : «فيسخرون» خبر المبتدأ ودخلت الفاء ، لما تضمّنه المبتدأ من معنى الشرط ، وفي هذا الوجه بعد من حيث إنّه يقرب من كون الخبر في معنى المبتدأ ، فإنّ من عاب إنسانا وغمزه علم أنّه يسخر منه فيكون كقولهم : «سيّد الجارية مالكها».

الثالث : أن يكون محلّه نصبا على الاشتغال ، بإضمار فعل يفسّره (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) من طريق المعنى ، نحو : عاب الذين يلمزون ، سخر الله منهم.

الرابع : أن ينصب على الشتم.

الخامس : أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ).

وقرىء (٢) «يلمزون» بضم الميم ، وقد تقدّم أنّها لغة ، وقرأ الجمهور «جهدهم» بضمّ الجيم.

وقرأ ابن (٣) هرمز وجماعة «جهدهم» بالفتح. فقيل : لغتان بمعنى واحد. وقيل المفتوح المشقّة والمضموم : الطّاقة ، قاله القتيبيّ ، وقيل : المضموم شيء قيل يعاش به والمفتوح : العمل.

وقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) يحتمل أن يكون خبرا محضا ، وأن يكون دعاء.

فصل

اعلم أنّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصّدقات.

قال المفسّرون : حثّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصّدقة ؛ فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، فقال : يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف درهم ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت ، وفيما أمسكت» (٤). فبارك الله في مال عبد الرحمن ، حتّى إنّه خلف امرأتين يوم أن مات ؛ فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستون ألفا وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٣ ، البحر المحيط ٥ / ٧٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٦.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) تقدم تخريجه وهو حديث تصدق عبد الرحمن بن عوف بأمواله لنصرة جيش المسلمين.

١٥٦

وجاء أبو عقيل الأنصاري واسمه الحبحاب ، بصاع من تمر ، وقال : يا رسول الله بتّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلت صاعين من تمر ؛ فأمسكت أحدهما لعيالي ، وجئت بالآخر ؛ فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينثره على الصّدقات ؛ فلمزهم المنافقون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنّه أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصّدقات ؛ فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات ، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصما ، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي : طاقتهم.

والجهد : شيء قليل يعيش به المقلّ ، والجهد بالفتح ، والجهد بالضمّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل. (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) يستهزئون منهم ، (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي : جازاهم على السخرية. وقال الأصمّ : المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البرّ مع أنّه لا يثيبهم عليها ؛ فكان ذلك كالسخرية ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية.

قال ابن عبّاس : إنّ عند نزول الآية في المنافقين ، قالوا : يا رسول الله ، استغفر لنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سأستغفر لكم» ؛ فنزل قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] لفظه أمر ، ومعناه خبر ، تقديره : استغفرت لهم ، أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم (١).

قال الضحاك : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله قد رخّص لي فلأزيدنّ على السبعين لعلّ الله أن يغفر لهم» فأنزل الله عزوجل (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٢).

قوله : (سَبْعِينَ مَرَّةً) منصوب على المصدر ، كقولك : ضربته عشرين ضربة ؛ فهو لعدد مرّاته وقوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) قد تقدّم الكلام على هذا عند قوله : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) [التوبة : ٥٣] ؛ وأنّه نظير قوله : [الطويل]

٢٨١٨ ـ أسيئي بنا أو أحسني لا مسيئة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (٣)

قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ١١٦).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٣١٥).

(٣) تقدم.

١٥٧

مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(٨٥)

قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ) الآية.

«بمقعدهم» متعلق ب «فرح» ، وهو يصلح لمصدر «قعد» ، وزمانه ومكانه.

قال الجوهريّ «قعد قعودا ومقعدا ، جلس ، وأقعده غيره» والمخلف : المتروك ، أي : خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ والمؤمنون ، لمّا علموا تثاقلهم عن الجهاد والمراد ب «المقعد» ههنا المصدر ، أي ؛ بقعودهم وإقامتهم بالمدينة. وقال ابن عبّاس: يريد : المدينة ؛ فعلى هذا هو اسم مكان.

فإن قيل : إنّهم احتالوا حتى تخلّفوا عن رسول الله ؛ فكان الأولى أن يقال : فرح المتخلفون فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ الرسول عليه الصلاة والسّلام منع أقواما من الخروج معه لعلمه أنّهم يفسدون ويشوشون ، وكان هذا في غزوة تبوك ؛ فهؤلاء كانوا مخلّفين لا متخلّفين.

وثانيها : أنّ أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في قوله بعد هذه الآية : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] ، فلمّا منعهم الله من الخروج صاروا مخلفين.

وثالثها : أنّ من يتخلّف عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، يوصف بأنّه مخلف من حيث إنّه لم ينهض ، وبقي وأقام.

قوله : «خلاف رسول الله» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على المصدر بفعل مقدر مدلول عليه بقوله «مقعدهم» ؛ لأنّه في معنى تخلّفوا ، أي : تخلّفوا خلاف رسول الله.

الثاني : أنّ «خلاف» مفعول من أجله ، والعامل فيه إمّا «فرح» ، وإمّا «مقعد» أي: فرحوا ؛ لأجل مخالفتهم رسول الله ، حيث مضى هو للجهاد ، وتخلّفوا هم عنه ، أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبريّ ، والزجاج ، ومؤرّج ، وقطرب. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ (١) «خلف» بضم الخاء وسكون اللّام.

والثالث : أن ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أي : تخلّف بعد ذهابهم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٦٦ ، البحر المحيط ٥ / ٨١ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٧.

١٥٨

قال الأخفش (١) وأبو عبيدة : إنّ «خلاف» بمعنى : «خلف» ، وأنّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه : بعد رسول الله. ويؤيده قراءة ابن عبّاس ، وأبو (٢) حيوة ، وعمرو بن ميمون «خلف» بفتح الخاء وسكون اللّام.

وعلى هذا القول ، الخلاف : اسم للجهة المعينة كالخلف ، وذلك أنّ المتوجّه إلى قدّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدّامة في كونها جهة متوجّها إليها ، و «خلاف» بمعنى «خلف» مستعمل ، وأنشد أبو عبيدة للأحوص : [الكامل]

٢٨١٩ ـ عقب الرّبيع خلافهم فكأنّما

بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا (٣)

وقول الآخر : [الطويل]

٢٨٢٠ ـ فقل للّذي يبقى خلاف الذي مضى

تأهّب لأخرى مثلها فكأن قد (٤)

قوله تعالى : (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : إنّهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهوا الذهاب إلى الغزو.

واعلم أنّ الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب ، إلّا أنّه أعاده للتّأكيد ، أو لعلّ أن المراد أنّ طبعه مال إلى الإقامة ؛ لأجل إلفه البلدة ، واستئناسه بأهله وولده ، وكره الخروج إلى الغزو ؛ لأنّه تعريض للمال والنفس للقتل ، وأيضا منعهم عن الخروج شدة الحرّ في وقت خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو المراد من قوله : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) ، فأجاب الله عن هذا الأخير بقوله : (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي : يعلمون ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود ، أي : بعد هذه الدّار ، دار أخرى ، وبعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضا هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية.

وأنشد الزمخشريّ لبعضهم : [الطويل]

٢٨٢١ ـ مسرّة أحقاب تلقّيت بعدها

مساءة يوم أريها شبه الصّاب

فكيف بأن تلقى مسرّة ساعة

وراء تقضّيها مساءة أحقاب (٥)

قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) الآية.

«قليلا ، وكثيرا» فيهما وجهان :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للأخفش ٢ / ٣٣٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٩٦ ، المحرر الوجيز ٣ / ٦٦ ، البحر المحيط ٥ / ٨١ ، الدر المصون ٣ / ٤٨٧.

(٣) البيت للحارث بن خالد المخزومي. ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٦٤ ، والطبري ١٤ / ٢٩٨ والتفسير الكبير ١٦ / ١٤٩ ، واللسان (خلف) و (عقب) ، والبحر المحيط ٥ / ٨٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٥٥٤.

(٤) ينظر : معجم الشعراء ٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٨٠ ، واللسان (خلف) والدر المصون ٣ / ٤٨٧.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٠٥ ، والتفسير الكبير ١٦ / ١٤٩ ، ١٥٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٧٩ ، والدر المصون ٣ / ٤٨٨.

١٥٩

أظهرهما : أنّهما منصوبان على المصدر ، أي : ضحكا قليلا وبكاء كثيرا ؛ فحذف الموصوف ، وهو أحد المواضع المطّرد فيها حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه.

والثاني : أنّهما منصوبان على ظرفي الزمان ، أي : زمانا قليلا ، وزمانا كثيرا والأول أولى ؛ لأنّ الفعل يدلّ على المصدر بشيئين : بلفظه ومعناه ، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلّ عليه بلفظه ، بل بهيئته الخاصّة.

وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلّا أنّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة ، لقوله تعالى بعده (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

قوله : «جزاء» فيه وجهان :

الأول : قال الزّجّاج : إنّه مفعول لأجله ، أي : سبب الأمر بقلّة الضّحك ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و «بما» متعلق ب «جزاء» ، لتعديته به ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفته.

والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعل مقدّر ، أي : يجزون جزاء. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) في الدنيا من النّفاق.

قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) الآية.

«رجع» يتعدّى كهذه الآية الكريمة ، ومصدره : «الرّجع» ، كقوله (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) [الطارق : ١١]. ولا يتعدّى ، نحو : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] في قراءة من بناه للفاعل. والمصدر : الرّجوع ، كالدّخول.

والمعنى : فإن ردّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة ، ومعنى «الرجع» مصير الشّيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال : رجعته رجعا ، كقولك : رددته ردا.

وقوله : (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) إنّما خصّص ؛ لأنّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين ، (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) معك في غزوة أخرى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) في سفر ، (وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وهذا يجري مجرى الذّم واللّعن لهم ، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم ؛ لأنّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضّرورة من دين محمّد عليه الصّلاة والسّلام ، ولمّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان ، كان ذلك تصريحا بكونهم خارجين عن الإسلام ، ونظيره قوله تعالى (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ) إلى قوله (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) [الفتح : ١٥] ، ثم إنّه تعالى علّل ذلك المنع بقوله (إِنَّكُمْرَضِيتُمْ) أي : لأنكم رضيتم (بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) في غزوة تبوك.

قال أبو البقاء : (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ظرف. قال أبو حيّان (١) «يعني ظرف زمان وهو بعيد».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨٢.

١٦٠