اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التوبة

مدنية. وهي مائة وثلاثون آية ، وأربعة آلاف وثمان وسبعون (١) كلمة ، وعشرة آلاف ، وأربع مائة وثمان وثمانون حرفا.

ولها عدّة أسماء : براءة ، التّوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشرّدة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافزة ، المنكّلة ، المدمدمة ، سورة العذاب.

قال الزمخشريّ : «لأنّ فيها التّوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النّفاق : أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين : تبحث عنها وتشهرها وتحفز عنها ، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم».

وعن حذيفة : إنّكم تسمّونها سورة التوبة ، والله ما تركت أحدا إلّا نالت منه (٢).

وعن ابن عباس في هذه السّورة قال : إنّها الفاضحة ، ما زالت تنزل فيهم ، وتريهم حتّى خشينا أنها لا تدع أحدا (٣) ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النّضير.

فصل في إسقاط التسمية من هذه السورة

في إسقاط التسمية من أولها وجوه :

الأول : روى ابن عبّاس قال : قلت لعثمان بن عفّان : ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين ، وإلى الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما وما فصلتم ب : بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّما نزلت عليه سورة يقول : «ضعوها في

__________________

(١) في ب وتسعون.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٣١) والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٣١) من حديث حذيفة.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٣١) رواه الطبراني في «الأوسط» ورجاله ثقات.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٦) وعزاه إلى أبي سعيد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٦٥).

٣

موضع كذا» فكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فقرنت بينهما (١).

قال ابن العربيّ «هذا دليل على أنّ القياس أصل في الدّين ؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفّان وأعيان الصّحابة ، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النّصّ ، ورأوا أنّ قصة «براءة» شبيهة بقصّة «الأنفال» فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بيّن دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنّك بسائر الأحكام»؟.

قال القاضي : «لا يبعد أن يقال : إنّه عليه الصّلاة والسّلام بيّن كون هذه السّورة تالية لسورة الأنفال ؛ لأنّ القرآن مرتّب من قبل الله تعالى ، ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل ، ولو جوّزنا في بعض السّور ألّا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي ، لجوّزنا مثله في سائر السور ، وفي آيات السورة الواحدة ، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجة».

والصّحيح : أنّه عليه الصّلاة والسّلام أمر بوضع هذه السّورة ، بعد سورة الأنفال وحيا ، فإنه عليه الصّلاة والسّلام حذف «بسم الله الرحمن الرّحيم» من أول هذه السّورة وحيا.

الوجه الثاني : روي عن أبي بن كعب أنه قال : إنما توهموا ذلك ، لأنّ في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى ، والسّؤال المذكور عائد هنا ، لأنّ هذا الوجه إنّما يتم إذا قلنا : إنّهم إنّما وضعوا هذه السّورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلّة.

الوجه الثالث : أنّ الصّحابة اختلفوا في أنّ سورة الأنفال ، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان؟ قال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأنّ كليهما نزلتا في القتال ، ومجموعهما هذه السّورة السابعة من الطّوال ، وهي سبع ، وما بعدها المئون ، وهذا قول ظاهر ؛ لأنّهما معا مائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة.

ومنهم من قال سورتان ، فلمّا ظهر الاختلاف من الصّحابة في هذا الباب ، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان ، وما كتبوا «بسم الله الرّحمن الرّحيم»

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٥٧ ، ٦٩) وأبو داود (٧٨٦ ، ٧٨٨) والترمذي (٣٠٨٦) والحاكم (١ / ٢٢١ ، ٣٣٠) والبيهقي (٢ / ٤٠٢) وفي «دلائل النبوة» (٧ / ١٥٢ ـ ١٥٣) وابن حبان (٤٥٢ ـ موارد) وابن أبي داود في «المصاحف» ص (٣٢) وأبو جعفر النحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص (١٦٠) والبغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٥) من طريق عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس قال : قلت لعثمان .... فذكره.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلّا من حديث عوف عن يزيد الفارسي عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

٤

تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة ، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإماميّة ؛ لأنه لمّا وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصّحابة لم يقطعوا بأحد القولين ، وهذا يدل على أنّ هذا الاشتباه كان حاصلا ، فلمّا لم يتسامحوا بهذا القدر من الشّبهة دلّ على أنّهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتّغيير ، وذلك يبطل قول الإماميّة.

الوجه الرابع : أنّه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا ، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكليّة. ثم إنّه تعالى صرّح بهذا المعنى في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِه) فلمّا كان هذا عين ذلك الكلام ، وتأكيدا له وتقريرا له ، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين ، وترك كتابة البسملة تنبيها على أنّ هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.

الوجه الخامس : قال القرطبيّ : «قيل : إنه كان من شأن العرب في الجاهليّة ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة ، فلمّا نزلت سورة براءة بنقض العهد الذي كان بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين ، أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابته بغير بسملة ، وبعث بها عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة».

قال ابن عباس : سألت عليّا ـ رضي الله عنه ـ : لم لم تكتب «بسم الله الرحمن الرّحيم» ههنا؟ قال : لأنّ «بسم الله الرحمن الرحيم» أمان ، وهذه السّورة نزلت بالسّيف ونبذ العهد ، وليس فيها أمان (١).

ويروى أنّ سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء : ٩٤] فقيل له : أليس لنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى أهل الحرب «بسم الله الرحمن الرّحيم»؟ فأجاب عنه : بأنّ ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى ، ولم ينبذ إليهم عهدهم ، ألا ترى أنّه قال في آخر الكتاب (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧].

وأما هذه السّورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد ، فظهر الفرق.

الوجه السادس : قالت الشافعيّة : لعلّ الله تعالى لمّا علم من بعض النّاس أنّهم يتنازعون في كون «بسم الله الرّحمن الرّحيم» من القرآن ، أمر بأن لا تكتب ههنا ، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة ، فإنّها لما لم تكن آية من هذه السّورة لا جرم لم تكتب وذلك يدلّ على أنّها لمّا كتبت في أول سائر السّور وجب كونها آية من كلّ سورة ، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال : لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة؟.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٧) وعزاه إلى أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.

قلت : وقد أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٣٣٠).

٥

قال القرطبيّ (١) : «وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم : أنّه لمّا سقط أولها سقط «بسم الله الرحمن الرّحيم» معا ، وروي ذلك عن عجلان ؛ أنّه بلغه أنّ سورة «براءة» كانت تعدل البقرة أو قربها ، فذهب منها ؛ فلذلك لم يكتب بينهما «بسم الله الرّحمن الرّحيم» وقال سعيد بن جبير : كانت قبل سورة الطلاق البقرة».

قال القرطبيّ : «والصحيح أنّ البسملة لم تكتب ؛ لأنّ جبريل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما نزل بها في هذه السّورة ، قاله القشيريّ».

وفي قول عثمان «قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها» دليل على أنّ السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن «براءة» ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك ، وكانتا تدعيان القرينتين ؛ فوجب أن تجمعا وتضمّ إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّ.

قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٤)

قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية.

الجمهور على رفع براءة ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّها رفع بالابتداء ، والخبر قوله «إلى الّذين» وجاز الابتداء بالنّكرة ؛ لأنّها تخصّصت بالوصف بالجارّ بعدها ، وهو قوله من الله كما تقول رجل من بني تميم في الدّار.

والثاني : أنّها خبر ابتداء مضمر ، أي : هذه الآيات براءة ، ويجوز في من الله أن يكون متعلقا بنفس براءة ؛ لأنها مصدر ، كالثّناءة والدّناءة. وهذه المادة تتعدّى ب «من» ، تقول : برئت من فلان ، أبرأ براءة ، أي : انقطعت العصبة بيننا ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون المسوّغ للابتداء بالنّكرة على الوجه الأوّل هذا. وإلى الّذين متعلق بمحذوف على الأوّل ، لوقوعه خبرا ، وبنفس «براءة» على الثّاني ، ويقال : برئت ، وبرأت من الدين ، بالكسر والفتح ، وقال الواحديّ : «ليس فيه إلّا لغة واحدة ، كسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل». وليس كذلك ، بل نقلهما أهل اللغة ، وقرأ (٢) عيسى بن عمر «براءة» بالنصب على إضمار فعل أي اسمعوا براءة.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٤١.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤ ، البحر المحيط ٥ / ٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٠.

٦

وقال ابن عطيّة «أي : الزموا براءة ، وفيه معنى الإغراء» وقرىء (١) «من الله» بكسر نون «من» على أصل التقاء السّاكنين ، أو على الإتباع لميم «من» وهل لغيّة ، فإنّ الأكثر فتحها مع لام التّعريف ، وكسرها مع غيرها ، نحو «من ابنك» ، وقد يعكس الأمر فيهما ، وحكى أبو عمر عن أهل نجران أنّهم يقرءون كذلك ، بكسر النون مع لام التّعريف.

فإن قيل : ما السّبب في أنّ نسب البراءة إلى الله ورسوله ، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟ فالجواب : قد أذن الله في معاهدة المشركين ، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاهدهم ، ثم إنّ المشركين نقضوا العهد ؛ فأوجب الله النّبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك ، وقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا ممّا عاهدتم من المشركين. روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون ، وأرجفوا بالأراجيف ، وجعل المشركون ينقضون العهد ، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم ، التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الزجاج : «براءة» أي : قد برىء الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا.

فإن قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العهد؟.

فالجواب : لا يجوز أن ينقض العهد إلّا على ثلاثة أوجه :

فالأول : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم ، فينبذ العهد إليهم ، حتّى يستووا في معرفة نقض العهد ، لقوله (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] وقال أيضا : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) [الأنفال : ٥٦].

الثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به ، فلمّا أمر الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط.

الثالث : أن يكون مؤجلا فتنقضي المدّة وينقضي العهد ، ويكون الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد ، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة ، فأمّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد ألبتّة ؛ لأنّه يجري مجرى الغدر وخلف القول ، والله ورسوله بريئان منه ؛ ولهذا المعنى قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] ، وقيل : إنّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلّا بنو ضمرة وبنو كنانة.

قوله : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الخطاب مع أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم ؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون ، فكأنّهم «عاقدوا» وعاهدوا.

__________________

(١) وهي قراءة أهل نجران.

ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤ ، البحر المحيط ٥ / ٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٠.

٧

قوله «فسيحوا». قال ابن الأنباري : «هذا على إضمار القول ، أي : قل لهم فسيحوا» ويكون التفاتا من الغيبة إلى الخطاب ، كقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) [الإنسان : ٢١ ـ ٢٢] ، ويقال : ساح يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا أي : انساب ، لسيح الماء في الأماكن المنبسطة ، قال طرفة : [السريع]

٢٧٤٢ ـ لو خفت هذا منك ما نلتني

حتّى ترى خيلا أمامي تسيح (١)

و (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ظرف ل «سيحوا» ، وقرىء (٢) «غير معجزي الله» بنصب الجلالة على أنّ النون حذفت تخفيفا ، وقد تقدّم تحريره.

فصل

المعنى : قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين : (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : غير فائتين ولا سابقين : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي: مذلهم بالقتال في الدّنيا والعذاب في الآخرة.

واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة ، فقال الزهريّ : «إن براءة نزلت في شوال ، وهي أربعة أشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم» ، والصّواب الذي عليه الأكثرون : أنّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر ، ومن لم يكن له عهد ، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما ، وقيل : ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول ؛ لأنّ الحجّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النّسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلّ عليه قوله عليه الصّلاة والسّلام :

«ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض» (٣).

فصل

اختلف العلماء في هذا التأجيل ، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال جماعة : هذا تأجيل للمشركين ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر ، ثمّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله ، فيقتل حيث يدرك ويؤسر إلّا أن يتوب.

__________________

(١) البيت ليس في ديوان طرفة وهو له ينظر : القرطبي ٨ / ٦٤ البحر المحيط ٥ / ٨ روح المعاني ١٠ / ٤٣ ، حاشية الشهاب ٤ / ٢٩٧ الدر المصون ٣ / ٤٤٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٤١.

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٣٧) والبخاري (٨ / ١٧٥) كتاب التفسير : باب إن عدة الشهور عند الله .....

حديث (٤٦٦٢) ومسلم (٣ / ٣١٠٥) كتاب القسامة : باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال حديث (٢٩ / ١٦٧٩) من حديث أبي بكرة.

٨

وقال الكلبيّ : إنما كانت الأربعة أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر ، فأمّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

قال الحسن «أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال من قاتله من المشركين ، فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] وكان لا يقاتل إلّا من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم ، وأجلهم أربعة أشهر ، فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ، ولا من لم يكن له عهد ، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر ، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل» (١).

والمقصود من هذا الإعلام أمور :

أولها : أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ، ويعلموا أنّه ليس لهم بعد هذه المدة إلّا أحد أمور ثلاثة :

إمّا الإسلام أو قبول الجزية أو السيف ، فيصير ذلك حاملا لهم على الإسلام.

وثانيها : لئلّا ينسب المسلمون إلى نكث العهد.

وثالثها : أراد الله أن يعمّ جميع المشركين بالجهاد ، فعمّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر ، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ، ولا يصحّ ذلك إلا بنقض العهود.

ورابعها : أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحج في السّنة الآتية ، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلّا يشاهد العراة ، وقيل : نزل هذا قبل تبوك.

وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما : نزلت في أهل مكّة. وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عاهد قريشا عام الحديبية ، على أن يضعوا الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها ، وأعانتهم قريش بالسّلاح فلمّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ، ونقضوا العهد ، خرج عمرو بن سالم الخزاعيّ ، حتى وقف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : [الرجز]

٢٧٤٣ ـ لاهمّ إنّي ناشد محمّدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

كنت لنا أبا وكنّا ولدا

ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أبدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجرّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

أبيض مثل الشّمس يسمو صعدا

إن سيم خسفا وجهه تربّدا

إنّ قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٥ / ١٧٥).

٩

هم بيّتونا بالهجير هجّدا

وقتلونا ركّعا وسجّدا

وزعموا أن لست تدعو أحدا

وهم أذلّ وأقلّ عددا (١)

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا نصرت إن لم أنصركم» ، ثمّ تجهّز إلى مكة ، ففتح مكّة سنة ثمان من الهجرة ، فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحجّ ، ثم قال : إنّه يحضر المشركون ، فيطوفون عراة.

فبعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ، ليقيم للنّاس الحجّ ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة «براءة» ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث عليّا على ناقتة العضباء ليقرأ على النّاس «براءة» وأمره أن يؤذن بمكّة ، ومنى ، وعرفة أن قد برئت ذمة الله ، وذمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلّ مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان ، فرجع أبو بكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، أنزل في شأني شيء؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلّا رجل من أهلي ، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار ، وأنّك صاحبي على الحوض؟ قال : بلى يا رسول الله ، فسار أبو بكر أميرا على الحجّ ، وعليّ ليؤذن ب «براءة» ، فلمّا كان قبل التّروية بيوم خطب أبو بكر النّاس ، وحدّثهم عن مناسكهم ، وأقام للنّاس الحجّ ، والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحجّ ، حتّى إذا كان يوم النّحر ، قام عليّ بن أبي طالب فأذّن في النّاس بالذي أمر به ، وقرأ عليهم سورة «براءة» (٢).

قال زيد بن يثيع : سألنا عليّا بأي شيء بعثت في الحجّ؟ قال «بعثت بأربع : ألّا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنّة إلّا نفسّ مؤمنة ، ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا». ثمّ حجّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة عشر حجة الوداع (٣).

وكان السّبب في بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا ، أنّ العرب تعارفوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألّا يتولّى ذلك إلا سيدهم ، أو رجل من رهطه ، فبعث عليّا إزاحة للعلّة ، لئلّا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود.

__________________

(١) تنظر هذه الأبيات وهي لعمرو بن سالم الخزاعي في الاستيعاب لابن عبد البر ٤ / ٦٣١ أيام العرب في الجاهلية (٩٧) السيرة لابن هشام ٤ / ٣٠٠ والدر المنثور للسيوطي ٣ / ٢١٥ والآلوسي في روح المعاني ١٠ / ٤٤.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧) عن ابن إسحاق ومجاهد.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٥٧) كتاب التفسير : باب سورة الأنفال رقم (٣٠٩٢) والحاكم (٣ / ٥٢).

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧٩) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والنحاس وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

١٠

والدليل على أنّ أبا بكر كان هو الأمير ، أنّ عليّا لمّا لحقه قال : أمير أو مأمور؟ فقال : مأمور ، ثم ساروا وقال أبو هريرة «بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين يوم النّحر ، يؤذّن بمنى ألّا يحجّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».

قوله وأذان. رفع بالابتداء ، أي : أذان صادر ، أو إعلام واصل ، ومن الله إمّا صفة ، أو متعلق به ، وإلى النّاس الخبر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : وهذا إعلام ، والجارّان متعلقان به ، كما تقدّم في براءة. قال أبو حيّان (١) : «ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على «براءة» ، كما لا يقال «عمرو» معطوف على «زيد» في : زيد قائم وعمرو قاعد».

وقرأ الضحاك (٢) وعكرمة وأبو المتوكل «وإذن» بكسر الهمزة وسكون الذّال ، وقرأ العامّة «أن الله» بفتح الهمزة على أحد وجهين ، إمّا كونه خبرا ل «أذان» ، أي : الإعلام من الله براءة من المشركين. وضعّف أبو حيان هذا الوجه ، ولم يذكر تضعيفه. وإمّا على حذف حرف الجرّ ، أي : بأنّ الله ، ويتعلّق هذا الجارّ إمّا بنفس المصدر ، وإمّا بمحذوف على أنه صفة ويوم منصوب بما تعلّق به الجارّ في قوله إلى النّاس. وزعم بعضهم أنّه منصوب ب «أذان» وهو فاسد من وجهين :

أحدهما : وصف المصدر قبل عمله.

الثاني : الفصل بينه وبين معموله بأجنبي ، وهو الخبر ، وقرأ (٣) الحسن والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران ، مذهب البصريين إضمار القول ، ومذهب الكوفيين إجراء الأذان مجرى القول.

فصل

والأذان : الإعلام ، قال الأزهري (٤) : «آذنته إيذانا. فالأذان يقوم مقام الإيذان ، وهو المصدر الحقيقي» ومنه : أذان الصّلاة ، ومنه قوله عليه الصّلاة والسّلام للّاتي غسّلن ابنته زينب : «فإذا فرغتن فآذنّني» (٥) أي : أعلمنني ، فلمّا فرغنا آذنّاه ، أي : أعلمناه ، والأذان معروف.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٤١.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : تهذيب اللغة ١٥ / ١٦.

(٥) أخرجه البخاري (٣ / ١٥٧) كتاب الجنائز : باب هل تكفن المرأة في إزار الرجل حديث (١٢٥٧ ، ١٢٥٨ ، ١٢٥٩) ومسلم (٢ / ٦٤٦ ـ ٦٤٧) باب في غسل الميت (٣٦ / ٩٣٩) وأبو داود (٢ / ٦٠ ـ ٦١) والنسائي (١ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧) والترمذي (٢ / ١٣٠ ـ ١٣١) وابن ماجه (١ / ٤٤٥) وأحمد (٥ / ٨٤ ـ ٨٥) من حديث أم عطية.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

١١

ونقل النووي في «التهذيب» عن الهرويّ قال : ويقال فيه الأذان ، والأذين ، والإيذان قال : وقال شيخي : الأذين هو المؤذن المعلم بأوقات الصلوات «فعيل» بمعنى «مفعل» [وقولهعليه‌السلام : «ما أذن الله كأذنه» (١) بكسر الذال منه ، وقوله : «كأذنه» بفتح الذال ، والأذن بضم الذال وسكونها : أذن الحيوان ، مؤنثة ، وتصغيرها : أذينة. و «إذن» في قوله عليه‌السلام: «فلا إذن» حرف مكافأة وجواب ، يكتب بالنون ، وإذا وقفت على «إذن» قلت كما تقول : رأيت زيدا. قاله الجوهري](٢).

قوله : (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) متعلق بنفس «بريء» ، كما يقال : برئت منه ، وهذا بخلاف قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١] فإنّها هناك تحتمل هذا ، وتحتمل أن تكون صفة ل «براءة».

قوله ورسوله الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف أي : ورسوله بريء منهم ، وإنّما حذف ، للدلالة عليه.

والثاني : أنه معطوف على الضمير المستتر في الخبر ، وجاز ذلك للفصل المسوّغ للعطف ، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير : برىء الله ورسوله [من المشركين](٣).

الثالث : أنه معطوف على محلّ اسم «أنّ» وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياسا على المكسورة ، قال ابن عطيّة (٤) «ومذهب الأستاذ ـ يعني ابن الباذش ـ على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [«أنّ» إذ هو معرب ، قد ظهر فيه عمل العامل ، وأنه لا فرق بين «أنّ» وبين «ليت» والإجماع على أن لا موضع لما دخلت عليه](٥) هذه».

قال أبو حيّان : «وفيه تعقّب ؛ لأنّ كون «أنّ» لا موضع لما دخلت عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل «ليس زيد بقائم» وما في الدّار من رجل ، فإنه ظهر عمل العامل ولهما موضع وقوله : «بالإجماع» يريد أنّ «ليت» لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع ، وليس كذلك ؛ لأن الفراء خالف ، وجعل حكم «ليت» وأخواتها جميعا حكم «إنّ» بالكسر».

قال شهاب الدين (٦) قوله : «بدليل ليس زيد بقائم ..» إلى آخره قد يظهر الفرق بينهما ، فإنّ هذا العامل ، وإن ظهر عمله فهو في حكم المعدوم ، إذ هو زائد ، فلذلك اعتبرنا الموضع معه ، بخلاف «أنّ» بالفتح ، فإنّه عامل غير زائد ، وكان ينبغي أن يردّ عليه قوله : وأن لا فرق بين «أنّ» وبين «ليت» فإنّ الفرق قائم ، وذلك أنّ حكم الابتداء قد انتسخ مع «ليت» ،

__________________

(١) أخرجه البخاري ١٣ / ٥١٨ كتاب التوحيد : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الماهر بالقرآن ..... (٢٥٤٤) ، ومسلم ١ / ٥٤٥ كتاب صلاة المسافرين باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (٢٣٣ ـ ٧٩٢).

(٢) سقط في ب.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٤١.

١٢

و «لعلّ» ، و «كأنّ» لفظا ومعنى ، بخلافه مع «إنّ» ، و «أنّ» ، فإنّ معناه معهما باق. وقرأ عيسى بن (١) عمر ، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق «ورسوله» بالنّصب ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، والثاني : أنه مفعول معه.

قاله الزمخشريّ. وقرأ (٢) الحسن «ورسوله» بالجرّ ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنه مقسم به ، أي : ورسوله إن الأمر كذلك ، وحذف جوابه لفهم المعنى.

والثاني : أنه على الجواز ، كما أنهم نعتوا وأكّدوا على الجواز ، وقد تقدّم تحقيقه. وهذه القراءة يبعد صحتها عن الحسن ، للإبهام ، حتّى يحكى أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرأ «ورسوله» بالجر ، فقال الأعرابيّ : إن كان الله قد برىء من رسوله فأنا بريء منه ، فلبّبه (٣) القارىء إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فحكى الأعرابيّ الواقعة ، فحينئذ أمر عمر بتعليم العربيّة. ويحكى أيضا هذه عن أمير المؤمنين عليّ ، وأبي الأسود الدّؤلي ـ رضي الله عنهما ـ قال أبو البقاء : «ولا يكون عطفا على «المشركين» لأنّه يؤدي إلى الكفر». وهذا واضح.

فصل

قال بعض المفسرين قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جملة تامة مخصوصة بالمشركين ، وقوله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى ، وهي عامة في حق جميع النّاس ؛ لأنّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك ، من حيث إنّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعا ، فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباح فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه ، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر ، وهو الجمع الأعظم ، ليصل ذلك الخبر إلى الكل ، فيشتهر. وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ).

فصل

اختلفوا في يوم الحجّ الأكبر ، فقال ابن عباس في رواية عكرمة «إنّه يوم عرفة» وهو قول عمر ، وسعيد بن المسيب ، وابن الزبير ، وعطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، وإحدى الروايتين عن علي(٤) ، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : خطب رسول

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٥ ، المحرر الوجيز ٢ / ٧ ، البحر المحيط ٥ / ٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٢.

(٢) انظر السابق.

(٣) لبب الرجل جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره اللسان [لبب].

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١٠ ـ ٣١١) عن عمر وعلي وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي جحيفة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٨٢) عن عمر بن الخطاب وزاد نسبته إلى ابن سعد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٢٦٨) عن ابن عباس وعمر وابن الزبير وقال : وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب.

١٣

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشيّة عرفة ، فقال : «أمّا بعد فإنّ هذا يوم الحج الأكبر» لأنّ معظم أفعال الحج فيه (١) ، وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف يوم النّحر عند الجمرات ، وقال : «هذا يوم الحج الأكبر» وقال عليه الصلاة والسّلام الحج عرفة (٢) ولأنّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة ؛ لأنّ من أدركه ، فقد أدرك الحجّ ، ومن فاته فقد فاته الحجّ.

وقال ابن عبّاس في رواية عطاء يوم الحج الأكبر : يوم النحر (٣) ، وهو قول النخعيّ ، والشعبيّ ، والسديّ ، وإحدى الروايتين عن عليّ ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير.

وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال : يوم الحجّ الأكبر أيّام منى كلها (٤) ، وهو مذهب سفيان الثّوري ، وكان يقول : يوم الحجّ الأكبر : أيامه كلها ، كما يقال : يوم صفين ، ويوم الجمل ، ويراد به الحين والزمان.

وأما تسميته بيوم الحج الأكبر ، فإن قلنا : إنّه يوم عرفة ؛ فلأنه أعظم واجباته ، ومن فاته الحجّ ، وكذلك إن قلنا : إنّه يوم النحر ، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه ، وقال الحسن : سمّي بذلك لاجتماع المسلمين والمشركين فيه ، وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر ، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال : عيد الكفّار فيه سخط. وهذا الطّعن ضعيف ؛ لأنّ المراد أنّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف ، فلذلك وصف بالأكبر.

وقيل سمّي بذلك ؛ لأن المسلمين والمشركين حجّوا في تلك السّنة ، وقيل : الأكبر الوقوف بعرفة والأصغر النّحر ، قاله مجاهد ، ونقل عن مجاهد : الأكبر القران ، والأصغر الإفراد (٥) ، فإن قيل : قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقوله (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) لا فرق بينهما ، فما فائدة هذا التكرار؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ المقصود من الأوّل البراءة من العهد ، ومن الثاني : البراءة التي هي

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٨٢) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن المسور بن مخرمة.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١١ ـ ٣١٢) عن علي وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير وأبي جحيفة والشعبي والنخعي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٨١) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.

وذكره عن أبي جحيفة وعزاه لابن أبي شيبة.

وعن عبد الله بن أبي أوفى وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبي الشيخ.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٨) عن علي وعبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وقال : وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١٦) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٨) عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٦٨).

١٤

نقيض الموالاة ، ويدلّ على هذا الفرق في البراءة الأولى برىء إليهم ، وفي الثانية برىء منهم.

الثاني : أنّه تعالى في الكلام الأوّل ، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد ، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن ، تنبيها على أنّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم.

قوله «فإن تبتم» عن الشرك ، وأخلصتم التّوحيد : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الإيمان (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) وذلك وعيد عظيم.

ثم قال (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في الآخرة ، والبشارة ـ ههنا ـ وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال : تحيتهم الضرب ، وإكرامهم الشّتم.

قوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه استثناء منقطع ، والتقدير : لكن الذين عاهدتم فأتمّوا إليهم عهدهم ، وإلى هذا نحا الزّمخشري (١) ، فإنه قال : «فإن قلت : ممّا استثنى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) ؛ لأنّ الكلام خطاب للمسلمين ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ، فقولوا لهم : سيحوا إلّا الذين عاهدتم منهم ، ثمّ لم ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم ، والاستثناء بمعنى الاستدراك ، كأنه قيل بعد أن أمروا في النّاكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا ، فأتمّوا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم.

الثاني : أنّه استثناء متصل ، وقبله جملة محذوفة ، تقديره : اقتلوا المشركين المعاهدين إلّا الذين عاهدتم ، وفيه ضعف ؛ قاله الزّجّاج ، فإنّه قال : «إنّه عائد إلى قوله : «براءة» والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلّا الذين لم ينقضوا العهد».

الثالث : أنّه مبتدأ ، والخبر قوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ) قاله أبو البقاء ، وفيه نظر ؛ لأنّ الفاء تزاد في غير موضعها ، إذ المبتدأ لا يشبه الشّرط ؛ لأنّه لأناس بأعيانهم ، وإنما يتمشّى على رأي الأخفش ، إذ يجوّز زيادتها مطلقا ، والأولى أنّه منقطع ، لأنّا لو جعلناه متصلا مستثنى من المشركين في أوّل السّورة ، لأدّى إلى الفصل بين المستثنى ، والمستثنى منه بجمل كثيرة.

قوله (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) الجمهور «ينقصوكم» بالصّاد المهملة ، وهو يتعدّى لواحد ، ولاثنين ، ويجوز ذلك فيه هنا ف «كم» مفعول أول ، و «شيئا» إمّا مفعول ثان ، وإمّا مصدر ، أي : شيئا من النقصان ، أو : لا قليلا ، ولا كثيرا من النقصان.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٥.

١٥

وقرأ عطاء بن السائب (١) الكوفي وعكرمة ، وابن السمينفع ، وأبو زيد «ينقضوكم» بالضاد المعجمة وهي على حذف مضاف ، أي : ينقضوا عهدكم ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

قال الكرماني : «وهي مناسبة لذكر العهد». أي : إن النقض يطابق العهد ، وهي قريبة من قراءة العامة ، فإن من نقض العهد فقد نقص من المدة ، إلا أن قراءة العامة أوقع لمقابلها التمام.

فصل

ومعنى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهم بنو ضمرة حي من كنانة ، أمر الله رسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم ، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا ، أي : لم ينقضوا شيئا من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه ، (وَلَمْ يُظاهِرُوا) لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من عدوكم ، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) الذي عاهدتموهم عليه ، أي : أوفوا بعهدهم : (إِلى مُدَّتِهِمْ) إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي : إن هذه الطائفة لما اتقوا النقض ، ونكث العهد ، استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضا عن النقض والنكث.

قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)(٧)

قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) الآية.

قال اللي ث «يقال سلخت الشهر : إذا خرجت منه». و «الانسلاخ» هنا من أحسن الاستعارات ، وقد بين ذلك أبو الهيثم ، فقال : «يقال : أهللنا شهر كذا ، أي : دخلنا فيه ، فنحن نزداد كل ليلة منه إلى مضي نصفه لباسا ، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا إلى أن ينقضي وينسلخ» ؛ وأنشد : [الطويل]

٢٧٤٤ ـ إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله

كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي (٢)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٧ ، البحر المحيط ٥ / ١١ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٣.

(٢) البيت في تهذيب الأزهري ١٧ / ١٧١ واللسان [سلخ] وتفسير القرطبي ٨ / ٧٢ والبحر المحيط ٥ / ١١ ، والدر المصون ٣ / ٤٤٣.

١٦

والألف واللام في (الْأَشْهُرُ) يجوز أن تكون للعهد ، والمراد بها : الأشهر المتقدمة في قوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، والعرب إذا ذكرت نكرة ، ثم أرادت ذكراها ثانيا أتت بضميره ؛ أو بلفظه معرفا ب «أل» ، ولا يجوز حينئذ أن نصفه بصفة تشعر بالمغايرة ، فلو قيل : «رأيت رجلا ، فأكرمت الرجل الطويل» لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز ، كقولك : فأكرمت الرجل المذكور ، ومنه هذه الآية ، فإن (الْأَشْهُرُ) قد وصفت ب (الْحُرُمُ) ، وهي صفة مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة ، ويجوز أن يراد بها غير الأشهر المتقدمة ، فلا تكو ن «أل» للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين.

قالوا : المراد بالأشهر الحرم : الأربعة ، رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم.

وقال مجاهد وابن إسحاق : «هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوما» (١)

وقيل لها حرم : لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم.

فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم ، والله تعالى يقول : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ). قيل : لما كان القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم.

قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).

اعلم أنه تعالى أمر بعد انقضاء الأشهر الحرم بأربعة أشياء :

أولها : قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أي : على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرم.

وثانيها : (وَخُذُوهُمْ) أي : أسروهم.

وثالثها : (وَاحْصُرُوهُمْ) والحصر : المنع ، أي : امنعوهم من الخروج إن تحصنوا ، قاله ابن عباس (٢).

وقال الفراء «امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الشام».

ورابعها : قوله (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ). في انتصاب (كُلَّ) وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الظرف المكاني.

قال الزجاج (٣) «نحو : ذهبت مذهبا». ورد عليه الفارسي هذا القول من حيث إنه ظرف مكان مختص ، والمكان المختص لا يصل إليه الفعل بنفسه بل بواسطة ؛ في نحو : صليت في الطريق وفي البيت ، ولا يصل بنفسه إلا في ألفاظ محصورة بعضها ينقاس ،

__________________

(١) أخرجه الطبري ف ي «تفسيره» (٦ / ٣١٩) عن ابن إسحاق وذكره البغوي ف ي «تفسيره» (٢ / ٢٦٩) عن ابن إسحاق ومجاهد.

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٧٦.

١٧

وبعضها يسمع ، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة : [الكامل]

٢٧٤٥ ـ لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب (١)

وهو أنه جعله مما حذف فيه الحرف اتساعا ، لا على الظرف ، لأنه ظرف مكان مختص.

قال أبو حيان (٢) «إنه ينتصب على الظرف ؛ لأن معنى (وَاقْعُدُوا) لا يراد به حقيقة القعود ، وإنما يراد : ارصدوهم ، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المائدة ، ومتى اتفقا في المائدة لفظا ، أو معنى ، وصل إليه بنفسه ، تقول : جلست مجلس القاضي ، وقعدت مجلس القاضي ، والآية من هذا القبيل».

والثاني : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، وهو «على» ، أي : على كل مرصد قاله الأخفش ، وجعله مثل قول الآخر : [الطويل]

٢٧٤٦ ـ تحن فتبدي ما بها من صبابة

وأخفي الذي لو لا الأسى لقضاني (٣)

وهذا لا ينقاس ، بل يقتصر فيه على السماع ، كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ) [الأعراف : ١٦] ، أي : على صراطك ، اتفق الكل على تقدير «على» ، وقال بعضهم : هو على تقدير الباء ، أي : بكل مرصد ، نقله أبو البقاء ، وحينئذ تكون الباء بمعنى «في» فينبغي أن تقدر «في» لأن المعنى عليها ؛ وجعله نظير قول الشاعر : [الوافر]

٢٧٤٧ ـ نغالي اللحم للأضياف نيئا

ونرخصه إذا نضج القدور (٤)

و «المرصد» مفعل من : رصده يرصده ، أي : رقبه يرقبه ، وهو يصلح للزمان والمكان والمصدر ، قال عامر بن الطفيل : [الكامل]

٢٧٤٨ ـ ولقد علمت وما إخالك ناسيا

أن المنية للفتى بالمرصد (٥)

والمرصاد : المكان المختص بالترصد ، والمرصد : يقع على الراصد ، سواء كان مفردا أم مثنى أم مجموعا ، وكذلك يقع عل ى «المرصود». وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن : ٢٧] يحتمل كل ذلك ؛ وكأنه في الأصل مصدر ، فلذلك التزم فيه الإفراد والتذكير.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ١٢.

(٣) تقدم.

(٤) البيت ذكره الفراء في المعاني ٢ / ٣٨٣ والزجاج ١ / ١٩١ والأخفش ١ / ٣٥٠ والأزهري في التهذيب «غِلًّا» واللسان «غِلًّا» والصحاح «غلا» والزمخشري في أساس البلاغ ة «غلو».

(٥) البيت في ديوان عامر بن الطفيل هكذا :

فيئي إليك فلا هوادة بيننا

بعد الفوارس إذ ثووا بالمرصد

وهو في ديوانه (ص ٥٧) مجاز القرآن ١ / ٢٥٣ القرطبي ٨ / ٧٣ البحر المحيط ٥ / ٥ الدر المصون ٣ / ٤٤٤ اللسان رصد.

١٨

ومعنى الآية : اقعدوا لهم على كل طريق ـ والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو يريد : كونوا لهم رصدا ، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا.

قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم ، ويدخلوا مكة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لمن تاب (رَحِيمٌ) به.

واحتجوا بهذه الآية على قتل تارك الصلاة ؛ لأن الله تعالى أباح دم الكفار مطلقا ثم حرمها عند التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا لم توجد الثلاثة ، فإباحة الدم بحالها.

قال الحسين بن الفضل : «هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء» (١).

قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) الآية.

روى ابن عباس : أن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ : إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى ، فهل نقتل؟ فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : «لا» لأن الله قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) أي : فأمنه حتى يسمع كلام الله (٢).

فتقرير النظم : أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين ، دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم ، وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم ، وذلك يقتضي أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه ، بل يطالب إما بالإسلام ، وإما بالقتل ، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة ، وبين أن الكافر إذا جاء طالبا الدليل والحجة ، أو طالبا لا ستماع القرآن ، فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله.

قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ) كقوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) [النساء : ١٧٦] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور.

قال ابن الخطيب (٣) : (أَحَدٌ) مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وتقديره : «وإن استجارك أحد ، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء ، لأن «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره». قوله (حَتَّى يَسْمَعَ) يجوز أن تكون هنا للغاية ، وأن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين تتعلق بقوله (فَأَجِرْهُ) ، وهل يجوز أن تكون هذه المسألة من باب التنازع أم لا؟ وفيه غموض ، وذلك أنه يجوز من حيث المعنى أن تعلق (حَتَّى) بقوله (اسْتَجارَكَ) ، أو بقوله (فَأَجِرْهُ) إذ يجوز تقديره : وإن استجارك أحد حتى يسمع كلام الله فأجره ، حتى

__________________

(١) ذكره البغوي ف ي «تفسيره» (٢ / ٢٦٩).

(٢) انظر تفسير الرازي (١٥ / ١٨١).

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٨١.

١٩

يسمع كلام الله. والجواب : أنه لا يجوز عند الجمهور ، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي ، فإنا لو جعلناه من التنازع ، وأعمالنا الأول مثلا ، لاحتاج الثاني إليه مضمرا على ما تقرر ، وحينئذ يلزم أن (حَتَّى) تجر المضمر ، و «حتى» لا تجره الا فى ضرورة شعر كقوله : [الوافر] ٢٧٤٩ ـ

فلا والله لا يلقى اناس

فتى حتاك يا ابن ابى يزيد

(١) واما عند من يجيز ان تجر المضمر ؛ فلا يمتنع ذلك عنده ، ويكون من إعمال الثاني لحذفه ، ويكون كقولك : فرحت ومررت بزيد ، أي : فرحت به ، ولو كان من إعمال الأول لم يحذفه من الثاني ، وقوله : (كَلامَ اللهِ) من باب إضافة الصفة لموصوفها ، لا من باب إضافة المخلوق للخالق ، و (مَأْمَنَهُ) يجوز أن يكون مكانا ، أي : مكان أمنه ، وأن يكون مصدرا ، أي : ثم أبلغه أمنه.

فصل في المراد من الآية

معنى الآية : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم أي : استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، ليسمع كلام الله (فَأَجِرْهُ) ، وأمنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فيما له وعليه من الثواب والعقاب. (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي : إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه ، وهو دار قومه ، فإن قاتلك بعد ذلك ، وقدرت عليه فاقتله. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) ، لا يعلمون دين الله وتوحيده ، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله.

قال الحس ن «هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة» (٢).

فصل

قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر ، والمؤمن ، والزنديق ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ؛ ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، ثم من المعلوم بالضرورة ، أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة ، لأن تكلم الله بهذه الحروف ، إما أن يكون معا ، أو على الترتيب ، فإن تكلم بها معا لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم ؛ لأن الكلام لا يحصل منتظما إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب ، فلو حصلت معا ، لما حصل الانتظام ، فلم يحصل الكلام ، وإن حصلت متاعاقبة ؛ لزم أن ينقضي المتقدم ، ويحدث المتأخر ، وذلك يوجب الحدوث ، فدل هذا على أن كلام الله محدث ـ قالوا فإن قلتم : إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات فهو باطل ؛

__________________

(١) ينظر البيت في الخزانة (٩ / ٤٧٤) المقرب ١ / ١٩٤ الجنى الداني (٥٤٤) العيني ٣ / ٢٦٥ الأشموني ٢ / ٢١٠ رصف المباني (١٨٥) شرح الرضي ٢ / ٢٦ ، الدرر ٢ / ١١٦ الهمع ٢ / ٢٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٤٤.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٧٠).

٢٠