اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله : «وأقيموا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه معطوف على الأمر المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر ، وهو «بالقسط» وذلك أنّ القسط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري ، وفعل ، فالتّقدير : قل : أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا ، وكما أنّ المصدر ينحلّ إلى «أنّ والفعل الماضي» نحو : عجبت من قيام زيد وخرج ، أي : من أن قام ، وخرج ، ول «أن» وللفعل المضارع كقولها : [الوافر]

٢٤٤٩ ـ للبس عباءة وتقرّ عيني

 .......... (١)

أي : لأن ألبس عباءة وتقر ، كذلك ينحل ل «أنّ» وفعل أمر ؛ لأنّها توصل بالثّلاث الصّيغ : الماضي والمضارع والأمر بشرط التّصرّف ، وقد تقدّم تحقيق هذه المسألة وإشكالها وجوابه.

وهذا بخلاف «ما» فإنّها لا توصل بالأمر ، وبخلاف «كي» فإنّها لا توصل إلا بالمضارع ، فلذلك لا ينحلّ المصدر إلى «ما» وفعل أمر ، ولا إلى «كي» وفعل ماضي أو مضارع.

وقال الزّمخشريّ (٢) : وقل أقيموا وجوهكم أي : اقصدوا عبادته ، وهذا من الزّمخشريّ يحتمل تأويلين :

أحدهما : أن يكون قوله «قل» أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون «وأقيموا» معمولا لقول أمر مقدر ، وأن يكون معطوفا على قوله : «أمر ربّي» فإنه معمول ل «قل» وإنما أظهر الزّمخشريّ «قل» مع أقيموا لتحقيق عطفيته على «أمر ربّي».

ويجوز أن يكون قوله «وأقيموا» معطوفا على أمر محذوف تقديره قل : أقبلوا وأقيموا.

وقال الجرجانيّ صاحب «النّظم» (٣) : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك ؛ لأنّ قوله (قُلْ أَمَرَ رَبِّي) قول لأن الأمر لا يكون إلا كلاما ، والكلام قول ، وكأنه قال : قل : يقول ربي : أقسطوا وأقيموا ، يعني أنّه عطف على المعنى.

و «مسجد» هنا يحتمل أن يكون مكانا وزمانا.

قال الزّمخشريّ : في وقت كلّ سجود ، وفي مكان كلّ سجود ، وكان من حقّ «مسجد» بفتح العين لضمها في المضارع ، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التّصريف (٤).

__________________

ـ ١٤٣) عن مجاهد وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(١) تقدم.

(٢) ينظر الكشاف ٢ / ٩٩.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٨.

(٤) ينظر : المفصل لابن يعيش ٦ / ١٠٧.

٨١

فصل في المراد ب (أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ)

قال مجاهد والسدي : معنى (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وجهوا حيث ما كنتم في الصّلاة إلى الكعبة (١).

وقال ابن عبّاس والضحاك : إذا حضرت الصّلاة ، وأنتم عند مسجد فصلّوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي (٢).

وقيل : معناه : اجعلوا سجودكم لله خالصا ، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة.

والأقرب هو الأوّل ؛ لأنّ الإخلاص مذكور بعده ، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنّه قال : وأخلصوا عند كلّ مسجد وادعوه مخلصين ، وذلك لا يستقيم. فإن قيل يستقيم ذلك إذا علقت الإخلاص بالدّعاء فقط.

فالجواب لما أمكن رجوعه إليهما جميعا لم يجز قصرهما على أحدهما خصوصا مع قوله : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فعم كل ما يسمى دينا ، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله : (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) هل المراد منه زمان الصّلاة أو مكانها على ما تقدم؟

قوله : «مخلصين» حال من فاعل «ادعوه» ، و «الدّين» مفعول به باسم الفاعل وله متعلق ب «مخلصين» ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه حال من «الدين» ، والمراد اعبدوه مخلصين له الطّاعة.

«والعبادة» قال ابن الخطيب (٣) : المراد به أعمال الصّلاة ، وسمّاها دعاء لأنّ الصلاة في اللّغة عبارة عن الدّعاء ، ونظيره قوله (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة : ٥].

قوله : (كَما بَدَأَكُمْ) «الكاف» في محل نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره : تعودون عودا مثل ما بدأكم.

وقيل : تقديره : تخرجون خروجا مثل ما بدأكم ذكرهما مكي (٤) ، والأوّل أليق بلفظ الآية الكريمة.

وقال ابن الأنباريّ : موضع «الكاف» في «كما» نصب ب «تعودون» وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي : تعودون كما ابتدأ خلقكم.

قال الفارسي : كما بدأكم تعودون ليس على ظاهره إذ ظاهره تعودون على البدء ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٤) عن مجاهد والسدي ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٣) عن مجاهد.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٤٨).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٨.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٣١١.

٨٢

وليس المعنى تشبيههم بالبدء ، إنّما المعنى على إعادة الخلق كما ابتدىء ، فتقدير «كما بدأكم تعودون» : كما بدأ خلقكم أي : يحيي خلقكم عودا كبدئه ، وكما أنّه لم يعن بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه ، كذلك لم يعن بالعود من غير حذف المضاف الذي هو [«الخلق» فلما حذف قام المضاف إليه مقام الفاعل ، فصار الفاعلون مخاطبين. كما أنه لما حذف المضاف](١) من قوله : «كما بدأ خلقكم» صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين (٢) : يعني أنّ الأصل كما بدأ خلقكم يعود خلقكم ، فحذف «الخلق» في الموضعين وصار المخاطبون في الأوّل مفعولين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة أيضا وفي الثاني صاروا فاعلين بعد أن كانوا مجرورين بالإضافة. و «بدأ» بالهمز أنشأ واخترع ، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثيا ورباعيا على «أفعل» فالثلاثيّ كهذه الآية ، وقد جمع بين الاستعمالين في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠] فهذا من «أبدأ» ثم قال : كيف بدأ الخلق ، هذا فيما يتعدى بنفسه.

وأما ما يتعدّى بالباء نحو : بدأت بكذا بمعنى قدّمته وجعلته أوّل الأشياء ، يقال منه : بدأت به وابتدأت به.

وحكى الرّاغب أيضا أنّه يقال من هذا : أبدأت به على «أفعل» وهو غريب.

وقولهم : أبدأت من أرض كذا أي : ابتدأت منها بالخروج والبدء السيد سمي بذلك ؛ قيل : لأنه يبدأ به في العد إذا عدّ السّادات وذكروا عليه قوله : [الوافر]

٢٤٥٠ ـ فجئت قبورهم بدءا ولمّا

فناديت القبور فلم تجبنه (٣)

أي جئت قبور قومي سيّدا ولم أكن سيّدا ، لكن بموتهم صيّرت سيّدا ، وهذا ينظر لقول الآخر : [الكامل]

٢٤٥١ ـ خلت الدّيار فسدت غير مسوّر

ومن العناء تفرّدي بالسّؤدد (٤)

و «ما» مصدريّة ، أي : كبدئكم.

فصل في معنى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)

قال ابن عبّاس : إنّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ، كما قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا(٥).

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥٨.

(٣) ينظر البيت في الهمع ٢ / ٥٧ ، المغني ١ / ٨٠ ، الصاحبي ٢١٩ ، الأشموني ٤ / ٦ ، اللسان «لمم» ، الخزانة ١٠ / ١١٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٨.

(٤) ينظر البيت في شرح الحماسة ٢ / ٧٠٨ ، أمالي المرتضى ١ / ٣٨٨ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٨.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٨٣

وقال جابر : يبعثون على ما ماتوا عليه (١).

روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث كلّ عبد على ما مات عليه ، المؤمن على إيمانه ، والكافر على كفره» (٢).

وقال أبو العالية : «عادوا على علمه فيهم» (٣).

وقال سعيد بن جبير : «كما كتب عليكم تكونون» (٤).

وقال محمد بن كعب : «من ابتدأ الله خلقه على الشّقوة صار إليها ، وإن عمل عمل أهل السّعادة ، كما أنّ إبليس كان يعمل بعمل أهل السّعادة ثم صار إلى الشّقاوة ، ومن ابتدأ خلقه على السّعادة صار إليها ، وإن عمل بأعمال أهل الشّقاوة ، كما أنّ السّحرة كانت تعمل بعمل أهل الشّقاوة فصاروا إلى السّعادة» (٥).

روى سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد يعمل فيما يرى النّاس بعمل أهل الجنّة ، وإنّه من أهل النّار ، وإنّه ليعمل فيما يرى النّاس بعمل أهل النّار ، وإنما هو من أهل الجنّة ، وإنّما الأعمال بالخواتيم» (٦).

وقال الحسن ومجاهد : كما بدأكم وخلقكم في الدّنيا ولم تكونوا شيئا ، كذلك تعودون أحياء يوم القيامة ، كما قال : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)(٧) [الأنبياء : ١٠٤].

قال قتادة : هم من التّراب وإلى التّراب يعودون ، ونظيره : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ)(٨) [طه : ٥٥] ، واعلم أنّه تعالى أمر أولا بكلمة القسط وهي لا إله إلا الله ، ثم أمر بالصّلاة

ثانيا ، ثم بيّن أنّ الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لموسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٤ ـ ١٥].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٥) عن جابر.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٠٦) كتاب الجنة : باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت حديث (٨٣ / ٣٨٧٨) وأحمد (٣ / ٣٣١ ، ٣٦٦) من حديث جابر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٦) أخرجه مسلم ١ / ١٠٦ كتاب الإيمان باب بيان غلظ تحريم النميمة (١٧٩ / ١١٢) من حديث سالم بن سعد.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٤) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٤) عن الربيع بن أنس بمعناه وعزاه لابن أبي حاتم.

٨٤

قوله تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠)

في نصب «فريقا» وجهان :

أحدهما : أنّه منصوب ب «هدى» بعده ، و «فريقا» الثّاني منصوب بإضمار فعل يفسّره قوله : «حقّ عليهم الضّلالة» من حيث المعنى والتّقدير : وأضلّ فريقا حقّ عليهم.

[قال القرطبيّ (١) : وأنشد سيبويه : [المنسرح]

٢٤٥٢ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذّئب أخشاه إذ مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا (٢)

قال الفرّاء : ولو كان مرفوعا لجاز](٣) ، وقدّره الزمخشريّ : «وخذل فريقا» لأجل مذهبه.

والجملتان الفعليتان في محلّ نصب على الحال من فاعل «بدأكم» أي : بدأكم حال كونه هاديا فريقا ومضلّا آخر.

و «قد» مضمرة عند بعضهم ، ويجوز على هذا الوجه أيضا أن تكون الجملتان الفعليّتان مستأنفتين ، فالوقف على «يعودون» على هذا الإعراب تام ، بخلاف ما إذا جعلتهما حالين ، فالوقف على قوله : «الضّلالة».

الوجه الثاني : أن ينتصب «فريقا» على الحال من فاعل «تعودون» [أي : تعودون] فريقا مهديّا ، وفريقا حاقّا عليه الضلالة ، وتكون الجملتان الفعليّتان على هذا في محلّ نصب على النّعت ل «فريقا» و «فريقا» ، ولا بدّ حينئذ من حذف عائد على الموصوف من «هدى» أي : فريقا هداهم ، ولو قدّرته «هداه» بلفظ الإفراد لجاز ، اعتبارا بلفظ «فريق» ، إلّا أنّ الأوّل أحسن لمناسبة قوله : «وفريقا حقّ عليهم» ، والوقف حينئذ على قوله : «الضّلالة» ، ويؤيّد إعرابه حالا قراءة أبي بن كعب (٤) : «تعودون فريقين : فريقا هدى ، وفريقا حقّ عليهم الضّلالة» ف «فريقين» نصب على الحال ، و «فريقا» وفريقا بدل ، أو منصوب بإضمار أعني على القطع ، ويجوز أن ينتصب «فريقا» الأول على الحال من فاعل

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٢١.

(٢) البيتان للربيع بن ضبع الفزاري. ينظر الكتاب ١ / ٩٠ ، وحماسة البحتري ص ٢٠١ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٥٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، والدرر ٥ / ٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦ ، واللسان (ضمن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٧ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٩ ، والأشباه والنظائر ٧ / ١٧٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ١١٤ ، والرد على النحاة ص ١١٥ ، والمحتسب ٢ / ٩٩ ، والقرطبي ٧ / ١٢١.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٩٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٩.

٨٥

«تعودون» و «فريقا» الثاني نصب بإضمار فعل يفسره «حقّ عليهم الضّلالة» كما تقدّم تحقيقه في كل منهما.

وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري ، فإنّه قال كلاما حسنا ، قال ـ رحمه‌الله ـ : «انتصب فريقا وفريقا على الحال من الضّمير الذي في «تعودون» ، يريد : تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين ، بعضكم أشقياء وبعضكم سعداء ، فاتصل «فريق» وهو نكرة بالضّمير الذي في «تعودون» وهو معرفة فقطع عن لفظه ، وعطف الثاني عليه».

قال : «ويجوز أن يكون الأوّل منصوبا على الحال من الضّمير ، والثاني منصوب ب «حقّ عليهم الضّلالة» ؛ لأنّه بمعنى أضلّهم ، كما يقول القائل «عبد الله أكرمته ، وزيدا أحسنت إليه» فينتصب زيدا ب «أحسنت إليه» بمعنى نفعته ؛ وأنشد : [الوافر]

٢٤٥٣ ـ أثعلبة الفوارس أم رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا (١)

نصب ثعلبة ب «عدلت بهم طهية» ؛ لأنه بمعنى أهنتهم أي : عدلت بهم من هو دونهم ، وأنشد أيضا قوله : [الكامل]

٢٤٥٤ ـ يا ليت ضيفكم الزّبير وجاركم

إيّاي لبّس حبله بحبالي (٢)

فنصب «إيّاي» بقوله : لبّس حبله بحبالي ، إذ كان معناه خالطني وقصدني.

قال شهاب الدّين : يريد بذلك أنّه منصوب بفعل مقدر من معنى الثاني لا من لفظه ، هذا وجه التّنظير.

وإلى كون «فريقا» منصوبا ب «هدى» و «فريقا» منصوبا ب «حقّ» ذهب الفراء (٣) ، وجعله نظير قوله تعالى : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١].

قوله : «إنّهم اتّخذوا» جار مجرى التّعليل ، وإن كان استئنافا لفظا ، ويدلّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر ، والعبّاس بن الفضل ، وسهل بن شعيب «أنّهم» بفتح الهمزة ، وهي نص في العلّيّة أي : حقّت عليهم الضلالة لاتّخاذهم الشياطين أولياء ، ولم يسند الإضلال إلى ذاته المقدّسة ، وإن كان هو الفاعل لها تحسينا للفظ وتعليما لعباده الأدب ، وعليه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [النحل : ٩].

فإن قيل : كيف يستقيم هذا التّعليل مع قولكم بأنّ الهدى والضّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداء؟ فالجواب : أنّ مجموع القدرة والدّاعي يوجب الفعل والدّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنّهم اتخذوا الشّياطين أولياء.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره السمين الحلبي في الدر المصون ٣ / ٢٥٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٦.

٨٦

فصل في دحض شبهة خلق الأفعال

احتجّ أهل السّنّة بهذه الآية على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى.

قالت المعتزلة (١) : «المراد فريقا هدى إلى الجنّة والثّواب ، وفريقا حقّ عليهم الضّلال أي : العذاب والصّرف عن طريق الثّواب».

قال القاضي (٢) : لأنّ هذا هو الذي يحقّ عليهم دون غيرهم ، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدّين ، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة ، وفي ذلك زوال الثّقة بالنّبوّات. وهذا الجواب ضعيف من وجهين :

الأول : أن قوله «فريقا هدى» إشارة إلى الماضي ، وعلى التّأويل الذي ذكروه يصير المعنى : أنّه تعالى سيهديهم في المستقبل ، ولو قال : إنّ المراد : أنّه تعالى حكم في الماضي أنّه سيهديهم إلى الجنّة كان هذا عدولا عن الظّاهر من غير حاجة ؛ لأنّه قد تبين بالدّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى.

والثاني : هب أن المراد من الهداية والضّلال حكم الله بذلك ، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره ، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذبا ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان صدور خلاف ذلك من العبد محالا.

قوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

قال ابن عبّاس : يريد ما سنّ لهم عمرو بن لحيّ ، وهذا بعيد بل هو محمول على عمومه ، فكلّ من شرع في باطل فهو مستحقّ للذم ، سواء حسب كونه هدى ، أو لم يحسب ذلك ، وهذه الآية تدل على أنّ الكافر الذي يظن أنّه في دينه على الحقّ والجاحد المعاند سواء ، وتدلّ أيضا على أنّ مجرّد الظن والحسبان لا يكفي في صحّة الدين ، بل لا بدّ فيه من الجزم والقطع ؛ لأنّه تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ، ولو لا أن هذا الحسبان مذموم وإلّا لما ذمهم بذلك.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(٣١)

لمّا أمرنا بإقامة الصّلاة بقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

وكان ستر العورة شرطا لصحّة الصّلاة أتبعه بذكر اللّباس.

قال ابن عبّاس : إنّ أهل الجاهليّة من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد «منى» طرحوا ثيابهم ، وأتوا المسجد عراة ، وقالوا : لا

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٤٩.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٩.

٨٧

نطوف بثياب (١) أصبنا فيها الذّنوب ، ومنهم من يقول : نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى من الذّنوب كما تعرّينا عن الثياب ، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلّقه على حقويها لتستتر به عن الحمس وهم قريش ، فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك ، وكانوا يطوفون في ثيابهم ، ولا يأكلون من الطعام إلّا قوتا.

قال الكلبيّ : كانت بنو عامر لا يأكلون في أيّام حجّهم من الطعام إلا قوتا ، ولا يأكلون دسما ، يعظّمون بذلك حجهم فقال المسلمون يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحن أحقّ أن نفعل ذلك فنزلت هذه الآية (٢).

و «كلوا» يعني : اللحم والدسم.

(وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) بتحريم ما أحلّ الله لكم من اللحم والدسم.

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الذين يفعلون ذلك.

قال ابن عباس : «كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة» (٣).

قال عليّ بن الحسين بن واقد : وقد جمع الله الطبّ كلّه في نصف آية فقال : (كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا).

فصل في معنى «الزينة»

المراد من الزّينة لبس الثياب لقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١]. يعني: الثّياب.

والزينة لا تحصل إلا بالسّتر التام للعورات ، ولذلك صار التزين بأخذ الثياب في الجمع والأعياد سنّة ، فوجب حمل الزينة على ستر العورة.

وقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزّينة هنا لبس الثياب التي تستر العورة ، وقد أمر بها بقوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) ، والأمر للوجوب ، فثبت أنّ أخذ الزّينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فهو (٤) واجب ، فوجب حمل الزّينة على اللبس عملا بالنّصّ بقدر الإمكان ، فدلّ على وجوب ستر العورة عند إقامة الصّلاة.

فإن قيل : إنّه عطف عليه قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ، وذلك أمر إباحة ، فوجب أن يكون قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ) أمر إباحة أيضا والجواب لا يلزم من ترك الظّاهر المعطوف تركه في

__________________

(١) في أ : من ثياب.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٥٠) عن ابن عباس.

(٣) ذكره السيوطي بهذا اللفظ في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة.

وأخرجه الطبري (٥ / ٤٧٢) عن ابن عباس بمعناه.

(٤) في أ : فغير.

٨٨

المعطوف عليه وأيضا فدلالة الاقتران (١) ضعيفة ، وأيضا الأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضا في الجملة.

فإن قيل هذه الآية وردت في المنع من الطواف حال العري.

فالجواب : أن العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.

إذا ثبت ذلك فقوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) يقتضي وجوب اللّبس التّام عند كل صلاة ؛ لأن اللبس التام هو الزينة.

ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعا ، فبقي الباقي داخلا تحت اللفظ.

فصل في الأصل في الأكل الحل

قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) مطلق ، يتناول جميع المطعومات والمشروبات ، فوجب أن يكون الأصل فيها الحلّ في كل الأوقات إلا ما خصّه الدّليل المنفصل ، والعقل يؤكده ؛ لأنّ الأصل في المنافع الحلّ والإباحة.

فصل في وجوب ستر العورة

قال القرطبيّ (٢) : دلّت هذه الآية على وجوب ستر العورة ، وعلى إباحة الأكل والشرب ما لم يكن سرفا ، فأمّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما يسدّ الجوعة ويسكن الظمأ مندوب إليه عقلا وشرعا ؛ لما فيه من حفظ النّفس وحراسة الحواس ، ولذلك ورد الشّرع بالنّهي عن الوصال ؛ لأنّه يضعف الجسد ، ويضعف عن العبادة.

قوله : (وَلا تُسْرِفُوا).

__________________

(١) قال بها المزني وابن أبي هريرة والصيرفي منا ، وأبو يوسف من الحنفية ، ونقله الباجي عن نصّ المالكية. (قال) : ورأيت ابن نصر يستعلها كثيرا. وقيل : إن مالكا احتج في سقوط الزكاة عن الخيل بقوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل : ٨] فقرن في الذكر بين الخيل والبغال والحمير ، والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعا ، فكذلك الخيل.

وأنكرها الجمهور فيقولون : القران في النظم لا يوجب القران في الحكم ، وصورته أن يدخل حرف الواو بين جملتين تامتين ، كل منهما مبتدأ وخبر ، أو فعل وفاعل ، بلفظ يقتضي الوجوب في الجميع أو العموم في الجميع ، ولا مشاركة بينهما في العلة ، ولم يدل دليل على التسوية بينهما ، كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤] وقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ) [النور : ٣٣] ، وكاستدلال المخالف في أن استعمال الماء ينجسه بقوله عليه‌السلام : «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة» لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه ، والبول فيه يفسده ، فكذلك الاغتسال فيه. وهو غير مرضي عند المحققين ، لاحتمال أن يكون النهي عن الاغتسال فيه لمعنى غير المعنى الذي منع من البول فيه لأجله ، ولعل المعنى في النهي عن الاغتسال لا ترتفع جنابته ، كما هو مذهب الحصري من أصحابنا. ينظر البحر المحيط ٦ / ٩٩.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٢٣.

٨٩

قيل : المراد أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدّى إلى الحرام ، ولا يكثر الإنفاق المستقبح ، ولا يتناول مقدارا كثيرا يضرّ به.

وقال أبو بكر الأصمّ (١) : المراد بالإسراف قولهم : تحريم البحيرة والسّائبة ، فإنّهم أخرجوها عن ملكهم ، وتركوا الانتفاع بها ، وحرّموا على أنفسهم في الحجّ أشياء أحلّها الله لهم ، وذلك إسراف.

واعلم أنّ حمل لفظ الإسراف على الاستكثار [و] مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي.

وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) نهاية في التهديد ؛ لأن كل من لا يحبّه الله يبقى محروما عن الثّواب ؛ لأنّ معنى محبّة الله للعبد إيصال الثّواب إليه ، فعدم هذه المحبّة عبارة عن عدم حصول الثّواب ، ومتى لم يحصل الثّواب فقد حصل العقاب لانعقاد الإجماع على أنّه ليس في الوجود مكلّف لا يثاب ولا يعاقب.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(٣٢)

قال القرطبي (٢) : لما بيّن أنّهم حرّموا من تلقاء أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم ، بيّن هنا إباحة الزّينة ، والمراد بها الملبس الحسن إذا قدر عليه صاحبه وقيل : جميع الثّياب.

وهذا استفهام معناه التّوبيخ والإنكار ، وإذا كان للإنكار فلا جواب له ؛ إذ لا يراد به استعلام ، ولذلك نسب مكيّ (٣) إلى الوهم في زعمه أنّ قوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). إلى آخره» جوابه.

قوله : «زينة الله» قال ابن عباس وأكثر المفسرين : المراد به اللّباس الذي يستر العورة(٤).

وقيل : جميع أنواع الزينة ، فيدخل فيه جميع أنواع الملبوس ، ويدخل تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه ، ويدخل تحته الرّكوب وأنواع الحلي ؛ لأنّ كل ذلك زينة ، ولو لا النّص الوارد في تحريم الذّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلا تحت هذا العموم.

ويدخل تحت الطيّبات من الرّزق كلّ ما يستلذّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات ، ويدخل تحته التّمتع بالنّساء والطيب.

روي عن عثمان بن مظعون أنّه أتى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «غلبني حديث النّفس عزمت أن أختصي ، فقال : مهلا يا عثمان ، إن خصاء أمتي الصّيام ، قال : إنّ نفسي تحدثني

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٥٢.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٢٥.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣١٣.

(٤) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ٥٢).

٩٠

بالترهب ، فقال : إنّ ترهّب أمّتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال : تحدّثني نفسي بالسّياحة ، فقال : سياحة أمّتي الغزو والحجّ والعمرة ، فقال إنّ نفسي تحدّثني أن أخرج ممّا أملك ، فقال : الأولى أن تكفي نفسك وعيالك ، وأن ترحم اليتيم ، والمساكين ، فتعطيه أفضل من ذلك ، فقال : إنّ نفسي تحدّثني أن أطلّق خولة ، فقال : إنّ الهجرة في أمّتي هجرة ما حرّم الله ، فقال : إنّ نفسي تحدّثني ألّا أغشاها ، فقال : المسلم إذا غشي أهله أو ما ملكت يمينه ، فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنّة ، وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرّة عين وفرحا يوم القيامة ، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة ، قال : فإن نفسي تحدثني إلّا آكل اللحم قال مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل. قال : فإن نفسي تحدّثني ألّا أمسّ الطّيب ، قال : مهلا فإن جبريل أمرني بالطّيب غبّا وقال : لا تتركه يوم الجمعة ، ثم قال : يا عثمان ، لا ترغب عن سنّتي فإنّ من رغب عن سنّتي فمات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي» (١).

وهذا الحديث يدلّ على أنّ هذه الشّريعة هي الكاملة ، وتدل على أن جميع الزّينة مباح مأذون إلا ما خصّه الدليل.

فصل في إباحة المنافع لابن آدم

هذه الآية تقتضي حلّ كلّ المنافع ، وهو أصل معتبر في جميع الشّريعة ؛ لأنّ كلّ واقعة إمّا أن يكون النّفع فيها خالصا أو راجحا ، أو يتساوى فيها الضّرر والنّفع ، أو يرتفعان. أما القسمان الأخيران وهما : أن يتعادل الضّرر والنفع ، أو لم يوجدا قطّ ، ففي هاتين الصّورتين يجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان ، وإن كان النّفع خالصا ؛ وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية ، وإن كان النّفع راجحا والضّرر مرجوحا يقابل المثل بالمثل ، ويبقى القدر الزّائد نفعا خالصا فيلتحق بالقسم الأوّل ، وهو الذي يكون النّفع فيه خالصا وإن كان الضّرر خالصا كان تركه نفعا خالصا ، فبهذا الطّريق صارت هذه الآية دالّة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحلّ والتحريم ، ثمّ إن وجدنا نصا خالصا في الواقعة قضينا في النّفع بالحلّ ، وفي الضّرر بالحرمة ، وبهذا الطّريق صار جميع الأحكام الّتي لا نهاية لها داخل تحت هذا النّصّ.

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

قال نفاة القياس : لو تعبّدنا الله بالقياس لكان حكم ذلك القياس إمّا أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعا ؛ لأنّ هذا النّصّ مستقلّ به ، وإن كان مخالفا

__________________

(١) ذكره الرازي بطوله في تفسيره (١٤ / ٥٢ ـ ٥٣).

٩١

كان ذلك القياس مخصصا لعموم هذا النّصّ ، فيكون مردودا ؛ لأنّ العمل بالنّصّ أولى من العمل بالقياس ، قالوا : وبهذا الطّريق يكون القرآن وحده وافيا ببيان كل أحكام الشّريعة ، ولا حاجة معه إلى شيء آخر.

قوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ).

[(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)](١) أي : بحقّها من توحيد الله ـ عزوجل ـ والتّصديق له ، فإن الله ينعم ويرزق ، فإن وحده المنعم عليه وصدّقه فقد قام بحقّ النّعمة ، وإن كفر فقد أمكن الشّيطان من نفسه.

وقيل : أي : هي للّذين آمنوا في الحياة الدّنيا غير خالصة لهم ؛ لأنّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد.

فإن قيل : هلّا قيل للذين آمنوا ولغيرهم (٢).

فالجواب : لينبه على أنّها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) [البقرة : ١٢٦] ، وسيأتي له أجوبة أخر في آخر الآية ، والمراد التّنبيه على أنّ هذه النّعم إنّما تصفو من الشوائب يوم القيامة.

قوله : «خالصة» قرأها نافع (٣) رفعا ، والباقون نصبا فالرفع من وجهين :

أحدهما : أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو «هي» ، و (لِلَّذِينَ آمَنُوا) متعلق ب «خالصة» ، وكذلك «يوم القيامة».

وقال مكيّ (٤) : «ويكون قوله : «للّذين» تبيينا ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم : سقيا لك وجدعا لك.

و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) متعلّق ب «آمنوا» ، والمعنى : قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدّنيا يوم القيامة ، أي : تخلص يوم القيامة لمن آمن في الدّنيا ، وإن كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفّار في الدّنيا ، وهو معنى حسن.

وقيل : المراد بخلوصها لهم يوم القيامة أنّهم لا يعاقبون عليها ، وإلى تفسير هذا نحا سعيد بن جبير.

الثاني : أن يكون خبرا بعد خبر ، والخبر الأوّل قوله : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) قاله الزجاج ، واستحسنه أبو علي (٥) ، و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) على هذا متعلّق بما تعلّق به الجارّ من

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٥٣.

(٣) ينظر : السبعة ٢٨٠ ، والحجة ٤ / ١٣ ، وحجة القراءات ٢٨١ ، والعنوان ٩٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٠ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٤ ، وشرح شعلة ٣٨٨ ، وإتحاف ٢ / ٤٧.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٣١٣.

(٥) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٦٨.

٩٢

الاستقرار المقدّر ، و (يَوْمَ الْقِيامَةِ) معمول ل «خالصة» كما مرّ الوجه قبله ، والتقدير : قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدّنيا ، وهي خالصة لهم يوم القيامة ، وإن كانوا في الدّنيا يشاركهم الكفّار فيها.

ولمّا ذكر أبو حيّان هذا الوجه لم يعلّق «في الحياة» إلا بالاستقرار ، ولو علق ب «آمنوا» كما تقدم في الوجه قبله لكان حسنا.

وأمّا النصب فمن وجه واحد ، وهو الحال [من الضّمير المستتر في الجارّ والمجرور قبله](١) ، والمعنى : أنّها ثابتة للّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة ، و (لِلَّذِينَ آمَنُوا) خبر «هي» فتتعلق بالاستقرار المقدّر ، وسيأتي أنّه متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم.

و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) على ما تقدّم من تعلّقه ب «آمنوا» وبالاستقرار المتعلق به للذين ، و «يوم القيامة» متعلّق أيضا بخالصة ، والتقدير : قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدّرا خلوصها لهم يوم القيامة.

وسمى الفراء (٢) نصبها على القطع ، فقال : «خالصة» نصب على القطع ، وجعل خبر «هي» في «اللّام» التي في قوله : «للّذين» ، ويعني بالقطع الحال.

وجوّز أبو علي أن يتعلّق (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بمحذوف على أنّه حال ، والعامل فيها ما يعمل في (لِلَّذِينَ آمَنُوا).

وجوّز الفارسيّ ، وتبعه مكيّ (٣) أن تتعلّق (فِي الْحَياةِ) ب «حرم» والتقدير : من حرم زينة الله في الحياة الدّنيا؟ وجوّز أيضا أن تتعلق بالطّيبات.

وجوّز الفارسي (٤) وحده أن تتعلّق بالرزق ومنع مكيّ (٥) ذلك قال : لأنّك قد فرّقت بينهما بقوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يعني أن الرّزق مصدر ، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول ، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية ، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعترض به على الأخفش.

وجوّز الأخفش أن تتعلّق (فِي الْحَياةِ) ب «أخرج» أي : أخرجها في الحياة الدّنيا ، وهذا قد رده عليه النّاس بأنه يلزم الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وهو قوله (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ).

وقوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وذلك أنّه لا يعطف على الموصول إلّا بعد تمام صلته ، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمام صلته ؛ لأنّ «الّتي أخرج» صفة

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٧.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣١٣.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ١٤.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٣١٣.

٩٣

ل «زينة» ، و «الطيّبات» عطف على «زينة» وقوله (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ) جملة أخرى قد فصلت على هذا التقدير بشيئين.

قال الفارسيّ (١) ـ كالمجيب عن الأخفش ـ : «ويجوز ذلك ، وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله : (هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ ذلك كلام يشدّ الصّلة ، وليس بأجنبي منها جدا كما جاء ذلك في قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٧].

فقوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) معطوف على «كسبوا» داخل في الصلة.

قال شهاب الدّين (٢) : هذا وإن أفاد في ما ذكر ، فلا يفيد في الاعتراض الأوّل ، وهو العطف على موصوف قبل تمام صلته ؛ إذ هو أجنبي منه ، وأيضا فلا نسلّم أنّ هذه الآية نظير آية «يونس» ، فإنّ الظاهر في آية يونس أنّه ليس فيها فصل بين أبعاض الصّلة.

وقوله «لأن (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) معترض ، و «ترهقهم» عطف على «كسبوا».

قلنا : ممنوع ، بل (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) هو خبر الموصول ، فيعترض بعدم الرّابط بين المبتدأ والخبر ، فيجاب بأنّه محذوف ، وهو من أحسن الحذوف ؛ لأنّه مجرور ب «من» التّبعيضية ، وقد نصّ النّحاة على أنّ ما كان كذلك كثر حذفه وحسن التقدير : والّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة منهم بمثلها ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ ، و «منهم» صفتها ، و «بمثلها» خبره ، والجملة خبر الموصول ، وهو نظير قولهم : السّمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، وسيأتي لهذه الآية مزيد بيان.

ومنع مكي (٣) أن يتعلق (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ب «زينة» قال : لأنّها قد نعتت ، والمصدر واسم الفاعل متى نعتا لا يعملان لبعدهما عن شبه الفعل.

قال : «ولأنّه يفرّق بين الصّلة والموصول ؛ لأنّ نعت الموصول ليس من صلته».

قال شهاب الدّين (٤) : لأنّ زينة مصدر فهي في قوة حرف موصول وصلته ، وقد تقرّر

أنّه لا يتبع الموصول إلا بعد تمام صلته ، فقد تحصل في تعلق «لِلَّذِينَ آمَنُوا» ثلاثة أوجه :

إمّا أن يتعلّق ب «خالصة» ، أو بمحذوف على أنها خبر ، أو بمحذوف على أنّها للبيان وفي تعلق (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) سبعة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق ب «آمنوا».

الثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنّها حال.

الثالث : أن يتعلق بما تعلّق به (لِلَّذِينَ آمَنُوا).

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ١٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦١.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣١٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٦١.

٩٤

الرابع : أن يتعلّق ب «حرّم».

الخامس : أن يتعلّق ب «أخرج».

السادس : أن يتعلق بقوله : «الطّيّبات».

والسابع : أن يتعلّق بالرّزق.

و «يوم القيامة» له متعلق واحد وهو «خالصة» ، والمعنى : أنّها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصة للمؤمنين فقط أخرى.

فإن قيل : إذا كان الأمر على ما زعمت من معنى الشركة بينهم في الدّنيا ، فكيف جاء قوله تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا مؤذن ظاهرا بعدم الشركة؟

فقد أجابوا عن ذلك من أوجه :

أحدها : أنّ في الكلام حذفا تقديره : قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة.

قال أبو القاسم الكرمانيّ : وكأنّه دلّ على المحذوف قوله بعد ذلك : «خالصة يوم القيامة» إذ لو كانت خالصة لهم في الدّارين لم يخص بها أحدهما.

والثاني : أن (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ليس متعلّقا بكون مطلق ، بل بكون مقيد ، يدلّ عليه المعنى ، والتقدير : قل هي غير خالصة للذين آمنوا لأنّ المشركين شركاؤهم فيها ، خالصة لهم يوم القيامة ، قاله الزمخشريّ (١) ، ودلّ على هذا الكون المقيّد مقابله وهو قوله : «خالصة يوم القيامة».

الثالث : ما ذكره الزمخشريّ ، وسبقه إليه التبريزي قال : «فإن قلت : هلا قيل [هي] للّذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت : التنبيه على أنها خلقت للّذين آمنوا على طريق الأصالة ، فإنّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [البقرة : ١٢٦].

وقال التبريزي : ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدّنيا تنبيها على أنّه إنّما خلقها للذين آمنوا بطريق الأصالة ، والكفّار تبع لهم ، ولذلك خاطب المؤمنين [بقوله] : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وهذا الثالث ليس جوابا ثالثا ، إنما هو مبين لحسن حذف المعطوف في عدم ذكره مع المعطوف عليه.

ثم قال تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) وقد تقدم.

وقوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أنّ القوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصّلوا إلى ذلك بتحصيل العلوم النظرية.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠١.

٩٥

الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣٣)

لمّا بيّن في الآية الأولى أنّ الذي حرّموه ليس بحرام بيّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات ، فحرّم أولا الفواحش ، وثانيها الإثم ، واختلفوا في الفرق بينهما ، فقيل : الفواحش : عبارة عن الكبائر ؛ لأنّ قبحها قد تفاحش أي : تزايد ، والإثم عبارة عن الصغائر ، والمعنى : أنّه حرّم الكبائر والصّغائر.

وطعن القاضي (١) في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال : الزّنا والسرقة والكفر ليس بإثم ، وهو بعيد ، وأقلّ الفواحش ما يجب فيه الحدّ ، والإثم ما لا حدّ فيه.

وقيل : الفاحشة اسم للكبيرة ، والإثم اسم لمطلق الذّنب سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وفائدته : أنّه لمّا حرّم الكبيرة أردفه بتحريم مطلق الذّنب ، لئلا يتوهم أنّ التحريم مقصور على الكبيرة ، وهذا اختيار القاضي (٢).

وقيل : إنّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللّغة اسما لكلّ ما يتفاحش وتزايد في أمر من الأمور ، إلّا أنّه في العرف مخصوص بالزّنا ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في الزنا : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢] ، ولأنّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلّا ذلك.

وإذا قيل : فلان فحاش ، فهم منه أنّه يشتم النّاس بألفاظ الوقاع ؛ فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزّنا ، فعلى هذا يكون (ما ظَهَرَ مِنْها) أي : الذي يقع منها علانية ، و «ما بطن» أي : الذي يقع منها سرّا على وجه العشق والمحبّة.

وقيل : «ما ظهر منها» : الملامسة والمعانقة ، و «ما بطن» الدّخول ، وقد تقدّم الكلام فيه في آخر السّورة قبلها.

وأما «الإثم» فالظاهر أنّه الذّئب.

وقيل : هو الخمر ، قاله المفضل ، وأنشد القائل في ذلك : [الطويل]

٢٤٥٥ ـ نهانا رسول الله أن نقرب الزّنا

وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا (٣)

وأنشد الأصمعي : [الطويل]

٢٤٥٦ ـ ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم

كأنّي شربت الإثم أو مسّني خبل (٤)

قال : وقد يسمى الخمر إثما ؛ وأنشد القائل : [الوافر]

٢٤٥٧ ـ شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول (٥)

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٥٤.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٥٤.

(٣) البيت ينظر : البحر ٤ / ٢٩٤ ، روح المعاني ٨ / ١١٢ ، الدر المصون ٣ / ٢٦٢.

(٤) البيت ينظر : البحر ٤ / ٢٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٢٦٣.

(٥) تقدم.

٩٦

ويروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن البصري [أنهما] قالا : «الإثم : الخمر» (١).

قال الحسن : «وتصديق ذلك قوله : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٩] ، والذي قاله الحذّاق : إنّ الإثم ليس من أسماء الخمر (٢).

قال ابن الأنباري : «الإثم : لا يكون اسما للخمر ؛ لأنّ العرب لم تسمّ الخمر إثما ، لا في جاهليّة ، ولا في الإسلام ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك ؛ لأنّ الخمر سبب الإثم ، بل هي معظمه ، فإنّها مؤجّجة للفتن ، وكيف يكون ذلك وكانت الخمر حين نزول هذه السّورة حلالا ؛ لأن هذه السّورة مكيّة ، وتحريم الخمر إنّما كان في «المدينة» بعد «أحد» ، وقد شربها جماعة من الصّحابة يوم «أحد» فماتوا شهداء ، وهي في أجوافهم.

وأمّا ما أنشده الأصمعيّ من قوله :

٢٤٥٨ ـ شربت الإثم ...

 .......... (٣)

نصوا على أنه مصنوع ، وأما غيره فالله أعلم».

وقال بعض المفسّرين : «الإثم : الذّنب والمعصية».

وقال الضحاك ـ رحمه‌الله ـ : «الإثم : هو الذّنب الذي لا حدّ فيه».

قوله : «والبغي بغير الحقّ» : اعلم أنّ الذّين قالوا : المراد ب «الفواحش» جميع الكبائر ، وب «الإثم» جميع الذّنوب قالوا : إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الفواحش ، وتحت الإثم ، وإنّما خصّهما الله ـ تعالى ـ بالذّكر تنبيها على أنّهما أقبح أنواع الذّنوب ، كما في قوله تبارك وتعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

وفي قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٨].

وأمّا الذين خصّوا الفاحشة بالزّنا ، والإثم بالخمر قالوا : البغي والشرك غير داخلين تحت الفواحش والإثم ، وإنّما البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفسا ، أو مالا أو عرضا ، وقد يراد البغي على سلطان الوقت.

فإن قيل : البغي لا يكون إلا بغير الحقّ ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ قوله تعالى «بغير الحقّ» حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأنّ البغي لا يكون إلّا بغير الحق.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٢٩).

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٩٧

والثاني : أنّه مثل قوله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] ، والمعنى : لا تقدموا على إيذاء النّاس بالقتل والقهر ، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغيا.

قوله : (وَأَنْ تُشْرِكُوا) منصوب المحلّ نسقا على مفعول «حرّم» أي : وحرّم إشراككم عليكم ، ومفعول الإشراك (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) وقد تقدّم بيانه في «الأنعام» ، تهكّم بهم ؛ لأنّه لا يجوز أن ينزل برهانا أن يشرك به غيره.

قوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) نسق على ما قبله أي : وحرّم قولكم عليه من غير علم ، وقد تقدّم الكلام عليه في هذه السّورة عند قوله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

فإن قيل : كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، إنّما حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر ، والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء؟

فالجواب : إن قلنا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذّنوب فيه ، وإن حملنا الفاحشة على الزّنا ، والإثم على الخمر فنقول : الجنايات محصورة في خمسة :

أحدها : الجنايات على الإنسانيّة ، فهذا إنّما يحصل بالزّنا ، وهو المراد بقوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ).

وثانيها : الجنايات على العقول ، وهي شرب الخمر ، وإليه الإشارة بقوله «والإثم».

وثالثها ورابعها : الجنايات على النّفوس والأموال ، وإليه الإشارة بقوله : (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وخامسها : الجناية على الأديان ، وهي من وجهين :

أحدهما : الطّعن في توحيد الله تبارك وتعالى.

والثاني : الطعن في أحكامه ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

فلما كانت الجنايات هذه الأشياء ، وكانت البواقي كالفروع والتّوابع ، لا جرم كان ذكرها جار مجرى ذكر الكلّ ، فأدخل فيها كلمة «إنّما» المفيدة للحصر.

فإن قيل : الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقدير الآية الكريمة : إنّما حرّم ربي المحرمات ، وهو كلام خال عن الفائدة؟

فالجواب : كون الفعل فاحشة إنّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النّهي عنه فسقط السّؤال (١).

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٥٦.

٩٨

قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(٣٤)

لما بيّن الحلال والحرام وأحوال التّكاليف ، بين أنّ لكلّ أحد أجلا معينا أي : مدة وأجل.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ وعطاء والحسن : وقت نزول العذاب بهم (١).

وقوله عزوجل : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) خبر مقدّم ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضهم أنّ التقدير : ولكلّ أحد من أمة أجل أي : عمر ، كأنّه توهم أنّ كل أحد له عمر مستقل ، وأنّ هذا مراد الآية الكريمة ، ومراد الآية أعم من ذلك.

قوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ).

قال بعضهم : كلّ موضع في القرآن العظيم من شبه هذا التّركيب ، فإن «الفاء» داخلة على «إذا» إلا في «يونس» فيأتي حكمها ، وأما سائر المواضع فقال : «لأنّها عطفت جملة على أخرى بينهما اتصال وتعقيب ، فكان الموضع موضع الفاء».

وقرأ الحسن (٢) وابن سيرين : «آجالهم» جمعا.

قوله : (لا يَسْتَأْخِرُونَ) : جواب «إذا» ، والمضارع المنفي ب «لا» إذا وقع جوابا ل «إذا» جاز أن يتلقى ب «الفاء» ، وألا يتلقى بها.

قال أبو حيّان (٣) : وينبغي (٤) أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسما مبتدأ ، فتصير الجملة اسميّة ، ومتى كانت كذلك وجب أن تتلقى «بالفاء» أو «إذا» الفجائية.

و «ساعة» نصب على الظرف ، وهي مثل في قلة الزمان.

قوله : (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) هذا مستأنف ، معناه الإخبار بأنّهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم ، بل لا بدّ من استيفائهم إيّاه ، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلّ زمان.

وقال الحوفيّ ـ رحمه‌الله ـ وغيره : إنّه معطوف على (لا يَسْتَأْخِرُونَ) ولهذا لا يجوز ؛ لأن «إذا» إنّما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلة لا الماضية ، والاستقدام بالنّسبة إلى مجيء الأجل متقدم عليه ، فكيف يترتب عليه ما تقدّمه؟ ويصير هذا من باب الإخبار بالضّروريات التي لا يجهل أحد معناها ، فيصير نظير قولك : «إذا

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٥٦) وقال : وهو قول ابن عباس والحسن ومقاتل.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩٥ ، قال ابن عطية : قال أبو الفتح : هذا هو الأظهر ؛ لأن لكل إنسان أجلا ، فأما الإفراد فلأنه جنس ، وإضافته إلى الجماعة حسّنت الإفراد ، ومثله قول الشاعر :

في حلقكم عظم وقد شجينا

وينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٩٥ ، والدر المصون ٣ / ٢٦٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٩٥.

(٤) في ب : ولا ينبغي.

٩٩

قمت فيما يأتي لم يتقدّم قيامك فيما مضى» ومعلوم أنّ قيامك في المستقبل لم يتقدّم قيامك هذا.

وقال الواحديّ : إن قيل : ما معنى هذا مع استحالة التّقديم على الأجل وقت حضوره؟ وكيف يحسن التقديم مع هذا الأجل؟

قيل : هذا على المقاربة ؛ لأنّ العرب تقول : «جاء الشّتاء» إذا قرب وقته ، ومع مقاربة الأجل يتصور الاستقدام ، وإن كان لا يتصور مع الانقضاء ، والمعنى : لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت ، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء ، وهذا بناء منه على أنّه معطوف على (لا يَسْتَأْخِرُونَ) ، وهو ظاهر أقوال المفسرين.

فصل في المراد ب «الأجل»

في المراد بهذا الأجل قولان :

قال ابن عبّاس والحسن ومقاتل : «المراد به نزول العذاب على كل أمة كذّبت رسولها».

والثاني : أن المراد به الأجل.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٣٥)

لمّا بيّن أحوال التّكاليف ، وأنّ لكلّ أمّة أجلا معينا ـ بيّن أنّهم بعد الموت إن كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن ، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدّ العذاب.

قيل : أراد «بني آدم» مشركي العرب ، وقد تقدّم إعراب نظيره في البقرة ، وهي إن الشّرطيّة ضمت إليها مؤكدة لمعنى الشّرط ، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة ، وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط ، والجزاء وهو قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ).

و «منكم» صفة ل «رسل» ، وكذلك «يقصّون» وقدّم الجار على الجملة لأنه أقرب إلى المفرد منها.

قال مقاتل : أراد بالرّسل الرّسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ إنما قال : «رسل» ، وإن كان خطابا للرّسول ـ عليه الصّلاة والسلام ـ ، وهو خاتم الأنبياء ؛ لأنه أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم.

وقيل : أراد جميع الرّسل ، وإنّما قال : «منكم» ؛ لأنّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم ، وأمعن للحجّة عليهم من جهات :

أحدها : أنّ معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة.

وثانيها : أنّ معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدّمة فلا جرم لا يقع في المعجزات

١٠٠