اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وعلى الثاني [يكون] الأصل دلّلهما ، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدلت الثّالث حرف لين كقولهم : تظنّيت في تظنّنت ، وقصّيت أظفاري في قصصت. وقال : [الرجز]

٢٤٣٨ ـ تقضّي البازي إذا البازي كسر (١)

فصل في معنى «فدلاهما بغرور»

قال ابن عبّاس «فدلّاهما بغرور» أي غرهما باليمين وكان آدم يظنّ أنّ أحدا لا يحلف كاذبا بالله (٢).

وعن ابن عمر أنّه كان إذا رأى من عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق فقيل له إنّهم يخدعونك فقال : من خدعنا بالله ؛ انخدعنا له (٣).

قيل معناه ما زال يخدعه ، ويكلمه بزخرف من القول باطل.

وقيل حطّهما من منزلة الطّاعة إلى حالة المعصية ، ولا يكون الدلوى إلّا من علوّ إلى أسفل.

قوله : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ) «الذّوق» وجود الطّعم بالفم ، ويعبر به عن الأكل وقيل: الذّوق مسّ الشّيء باللّسان ، أو بالفم يقال فيه : ذاق يذوق ذوقا مثل صام ، يصوم صوما ، ونام ينام نوما.

وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البرّ قصدا إلى معرفة طعمه ، ولو لا أنّه تعالى ذكر في آية أخرى أنّهما أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدلّ على الأكل ؛ لأنّ الذّائق قد يكون ذائقا من دون أكل.

قوله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي ظهرت عورتهما وزال اللّباس عنهما.

روي عن ابن عباس أنّه قال : قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة وظهرت لهما عورتهما ، وتهافت لباسهما حتى أبصر كلّ واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه فكانا لا يريان ذلك(٤).

قوله «وطفقا» طفق من أفعال الشّروع كأخذ وجعل ، وأنشأ وعلّق وهبّ وانبرى ،

__________________

(١) البيت للعجاج وهو من أرجوزة له ، وبعده :

إذا الكرام ابتدروا الباع بدر

ينظر ديوانه ٢٨ ، مجاز القرآن ٢ / ٣٠٠ ، الخصائص ٢ / ٩٠ ، والطبري ٣٠ / ١١٧ ، والاقتضاب ٤١٣ ، وشواهد الكشاف ٢ / ١٤٩ ، المحتسب ١ / ١٥٧ ، الكامل ٣٠ / ٤٧ ، الهمع ٢ / ١٥٧ ، الأشموني ٤ / ٣٣٦ ، ابن يعيش ١٠ / ٢٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٠.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١١٦) والرازي في «تفسيره» (١٤ / ٤١.

(٣) انظر تفسير الرازي (١٤ / ٤١.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٥٣.

٦١

فهذه تدلّ على التّلبّس بأوّل الفعل ، وحكمها حكم أفعال المقاربة من كون خبرها لا يكون إلّا مضارعا ، ولا يجوز أن يقترن ب «أن» لمنافاتها لها ؛ لأنها للشّروع وهو حال و «أن» للاستقبال ، وقد يقع الخبر جملة اسمية كقوله : [الوافر]

٢٤٣٩ ـ وقد جعلت قلوص بني سهيل

من الأكوار مرتعها قريب (١)

وشرطيّة ك «إذا» كقول عمر : «فجعل الرّجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا».

ويقال طفق بفتح الفاء وكسرها ، وطبق بالباء الموحدة أيضا ، والألف اسمها ، و «يخصفان» خبرها.

وقرأ أبو السمال : «وطفقا» بفتح الفاء. وقرأ الزّهريّ (٢) : «يخصفان» بضم حرف المضارعة من أخصف وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون أفعل بمعنى فعل.

والثاني : أن تكون الهمزة للتّعدية ، والمفعول على هذا محذوف ، أي : يخصفان أنفسهما ، أي : يجعلان أنفسهما خاصفين.

وقرأ الحسن ، والأعرج (٣) ومجاهد وابن وثّاب «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء ، والصّاد مشدودة ، والأصل يختصفان ، فأدغمت التّاء في الصّاد ، ثم أتبعت الخاء للصّاد في حركتها ، وسيأتي نظير هذه القراءة في «يونس» و «يس» نحو (يَهْدِي) [يونس : ٣٥] و (يَخِصِّمُونَ) [يس : ٤٩].

وروى محبوب عن الحسن كذلك إلّا أنّه فتح الخاء ، فلم يتبعها للصّاد وهي قراءة (٤) يعقوب وابن بريدة.

وقرأ (٥) عبد الله «يخصّفان» بضمّ الياء والخاء وكسر الصّاد مشدودة وهي من «خصّف» بالتّشديد ، إلّا أنّه أتبع الخاء للياء قبلها في الحركة ، وهي قراءة عسرة النّطق.

ويدلّ على أنّ أصلها من خصّف بالتّشديد قراءة بعضهم «يخصّفان» كذلك ، إلّا أنّه بفتح الخاء على أصلها.

__________________

(١) البيت لرجل من بني بحتر ينظر : تخليص الشواهد ٣٢٠ خزانة الأدب ٥ / ١٢٠ ، ٩ / ٣٥٢ ، شرح الأشموني ١ / ١٢٨ ، شرح التصريح ١ / ٢٠٤ ، الدرر ٢ / ١٥٢ ، شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣١٠ ، شرح شواهد المغني ٦٠٦ ، مغني اللبيب ٢٣٥ همع الهوامع ١ / ١٣٠ ، المقاصد النحوية ٢ / ١٧٠ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨١ ، والدر المصون ٣ / ٢٥١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٨٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٨١ ، والدر المصون ٣ / ٢٥١.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ١٩ ، وستأتي في «يس آية ٤٩».

(٥) يعني ب «عبد الله» هو ابن يزيد كما في البحر ٤ / ٢٨١ ، وينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥١.

٦٢

و «الخصف» : الخرز في النّعال ، وهو وضع طريقة على أخرى وخرزهما ، والمخصف : ما يخصف به ، وهو الإشفى.

قال رؤبة : [الكامل]

٢٤٤٠ ـ ..........

 ... أنفها كالمخصف(١)

والخصفة أيضا : الحلّة للتّمر ، والخصف : الثّياب الغليظة ، وخصفت الخصفة : نسجتها (٢) ، والأخصف : الخصيف طعام يبرق ، وأصله أن يوضع لبن ونحوه في الخصفة فيتلوّن بلونها.

وقال العبّاس يمدح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المنسرح]

٢٤٤١ ـ ... طبت في الظّلال وفي

مستودع حيث يخصف الورق (٣)

يشير إلى الجنّة أي حيث يخرز ، ويطابق بعضها فوق بعض.

فصل

قال المفسّرون : جعلا يخصفان ويرقعان ويلزقان ويصلان عليهما من ورق الجنّة ، وهو ورق التّين حتى صار كهيئة الثّوب.

قال الزّجّاج (٤) : يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوءاتهما.

وروى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان آدم طوالا كأنّه نخلة سحوق (٥) كثير شعر الرّأس ، فلما وقع بالخطيئة بدت له سوأته ، وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنّة ،

__________________

(١) البيت لأبي كبير الهذلي ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ١١٠ ، اللسان (خصف) ، التهذيب ٢ / ١٨٦ (فرش) الدر المصون ٣ / ٢٥٠.

(٢) في ب : فتحتها.

(٣) البيت ينظر : اللسان (خصف) ، ابن الشجري ٢ / ٣٣٧ ، أمالي الزجاج (٦٥) ، حاشية الشهاب ٤ / ١٥٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٥١.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤١.

(٥) ونخلة سحوق : طويلة. وأنشد ابن بري للمفضل النكري :

كان جذع سحوق

وفي حديث قسّ : كالنخلة السّحوق أي الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني ؛ قال الأصمعي : لا أدري لعل ذلك مع انحناء يكون ، والجمع سحق ؛ فأما قول زهير :

كأنّ عينيّ في غربي مقتّلة

من النواضح ، تسقي جنّة سحقا

فإنه أراد نخل جنّة فحذف إلا أن يكونوا قد قالوا جنّة سحق ، كقولهم ناقة علط وامرأة عطل.

الأصمعي : إذا طالت النخلة مع انجراد فهي سحوق ، وقال شمر : هي الجرداء الطويلة التي لا كرب لها ؛ وأنشد :

وسالفة كسحوق اللّيا

ن ، أضرم فيها الغويّ السّعر

شبه عنق الفرس بالنخلة الجرداء. ينظر لسان العرب (سحق).

٦٣

فعرضت له شجرة من شجر الجنّة فحبسته بشعره فقال لها أرسليني ؛ قالت : لست بمرسلتك ، فناداه ربّه : يا آدم أين تفرّ قال : لا يا رب ، ولكني استحييتك» (١).

وفي الآية دليل على أنّ كشف العورة قبيح من لدن آدم ، ألا ترى أنّهما كيف بادرا إلى السّتر ، لما تقرّر في عقلهما من قبح كشف العورة.

قوله : «عليهما» قال أبو حيّان (٢) : الأولى أن يعود الضّمير في «عليهما» على عورتيهما ، كأنّه قيل : يخصفان على سوأتيهما ، وعاد بضمير الاثنين ؛ لأنّ الجمع يراد به اثنان.

ولا يجوز أن يعود الضّمير على آدم وحوّاء ؛ لأنّه تقرّر في علم العربيّة أنّه لا يتعدّى من فعل الظّاهر والمضمر المتّصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظا أو محلّا في غير باب «ظنّ» ، و «قعد» ، و «عدم» ، و «وجد» لا يجوز زيد ضربه ، ولا ضربه زيد ، ولا زيد مرّ به ، ولا مرّ به زيد ، فلو جعلنا الضّمير في «عليهما» عائدا على آدم وحوّاء للزم من ذلك تعدّي يخصف إلى الضّمير المنصوب محلّا ، وقد رفع الضّمير المتّصل ، وهو الألف في «يخصفان» ، فإن أخذ ذلك على حذف مضاف مراد ؛ جاز ذلك ، تقديره : يخصفان على بدنيهما.

قال شهاب الدّين (٣) : ومثل ذلك فيما ذكر (وَهُزِّي إِلَيْكِ) [مريم : ٢٥]. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ (٤) جَناحَكَ) [القصص : ٣٢].

وقول الشاعر : [المتقارب]

٢٤٤٢ ـ هوّن عليك فإنّ الأمور

بكفّ الإله مقاديرها (٤)

وقوله : [الطويل]

٢٤٤٣ ـ دع عنك نهبا صيح في حجراته

ولكن حديثا ما حديث الرّواحل (٥)

قوله : «من ورق» يحتمل وجهين :

أن تكون «من» لابتداء الغاية وأن تكون للتّبعيض.

و «ناداهما ربّهما» لم يصرّح هنا باسم المنادى للعلم به.

وقوله : «ألم أنهكما» يجوز أن تكون هذه الجملة التقديريّة مفسّرة للنداء لا محلّ لها

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨١.

(٣) الدر المصون ٣ / ٣٥١.

(٤) تقدم.

(٥) البيت لامرىء القيس ينظر ديوانه ٩٤ ، خزانة الأدب ١٠ / ١٥٩ ، ١١ / ١٧٧ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٤٠ ، الدرر ٤ / ١٤٠ ، لسان العرب (صيح) ، (حجر) ، (رسس) ، (سقط) ، مغني اللبيب ١ / ١٥٠ ، المقاصد النحوية ٣ / ٣٠٧ ، همع الهوامع ٢ / ٢٩ ، الجنى الداني ٢٤٤ ، الصاحبي (١٨) المقرب ١ / ١٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٥١ وفي أول البيت خرم ، وهو حذف الأول من «فعولن» التي في أول البحر الطويل.

٦٤

ويحتمل أن يكون ثمّ قول محذوف ، هي معمولة له أي : فقال : ألم أنهكما.

وقال بعضهم : هذه الجملة في محلّ نصب بقول مقدّر ذلك القول حال تقديره : وناداهما قائلا ذلك.

و «لكما» متعلّق ب «عدوّ» لما فيه من معنى الفعل ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف على أنّها حال من «عدوّ» ؛ لأنّها لو تأخّرت لجاز أن تكون وصفا له.

فصل في قوله «ألم أنهكما»

معنى قوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) يعني : عن الأكل منها وأقل لكما : إنّ الشّيطان لكما عدوّ مبين.

قال ابن عبّاس : بيّن العداوة حيث أبى السّجود ، وقال : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ).

قوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٢٣)

قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا :) ضررناها بالمعصية ، وتقدّم تفسيرها في سورة البقرة ، وأنّها تدلّ على صدور الذّنب منه عليه الصّلاة والسّلام ، إلّا أنّا نقول : هذا الذّنب إنّما صدر عنه قبل النّبوّة (١).

وفي قوله : «قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا» فائدة : حذف حرف النداء هنا تعظيم المنادى ، وتنزيهه.

قال مكّي (٢) : كثر نداء الرّبّ بحذف «يا» من القرآن ، وعلّة ذلك أن في حذف «يا» من نداء الرّب معنى التّعظيم والتنزيه ؛ وذلك أنّ النداء فيه طرف من معنى الأمر ؛ لأنّك إذا قلت : يا زيد فمعناه : تعال يا زيد أدعوك يا زيد ، فحذفت «يا» من نداء الرّبّ ليزول معنى الأمر وينقص ، لأنّ «يا» تؤكّده ، وتظهر معناه ، فكان في حذف «يا» الإجلال ، والتعظيم ، والتنزيه.

قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ) هذا شرط حذف جوابه لدلالة جواب القسم المقدّر عليه ، فإن قيل : حرف الشّرط لام التّوطئة للقسم مقدرة كقوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣] ويدلّ على ذلك كثرة ورود لام التّوطئة قبل أداة الشّرط في كلامهم. وتقدّم إعراب ما بعد ذلك في البقرة.

قوله تعالى : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ)(٢٤)

وهذا خطاب يجب أن يتناول الثلاثة الذين تقدّم ذكرهم وهم : آدم ، وحوّاء ، وإبليس ، فالعداوة ثابتة بين الإنس والجنّ ، لا تزول ألبتّة.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٢.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٠٨.

٦٥

قوله تعالى : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)(٢٥)

الكناية عائدة إلى الأرض المذكورة في قوله : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

وقرأ الأخوان (١) وابن ذكوان «تخرجون» هنا ، وفي الجاثية [٣٥] (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) ، وفي الزخرف [١١] : و (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) ، وفي أوّل الروم [١٩] : (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آياتِهِ).

قرءوا الجميع مبنيا للفاعل ، والباقون قرءوه مبنيّا للمفعول ، وفي أوّل الرّوم خلاف عن ابن ذكوان ، واحترزنا بأوّل الروم [٢٥] عن قوله : (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [فإنّه قرأ](٢) مبنيا للفاعل (٣) من غير خلاف ، ولم يذكر بعضهم موافقة ابن ذكوان للأخوين في الجاثية. والقراءتان واضحتان.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)(٢٦)

في نظم الآية وجهان :

أحدهما : أنّه تعالى لمّا بيّن أنّه أمر آدم وحوّاء بالهبوط إلى الأرض ، وجعل الأرض لهما مستقرّا بين بعده أنّه تعالى أنزل كلّ ما يحتاجون إليه في الدّنيا ، ومن جملة ما يحتاج إليه في الدّين والدّنيا اللّباس (٤).

والثاني : أنّه تعالى لمّا ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة ، وأنّه كان يخصف الورق على عورتيهما ، أتبعه بأن بيّن أنّه خلق اللّباس للخلق ، ليستروا به عورتهم ، ونبه بتكون الأشياء التي يحصل منها اللّباس ، فصار كأنّه تعالى أنزل اللّباس أي : أنزل أسبابه ، فعبّر بالسّبب عن المسبّب.

وقيل : معنى «أنزلنا» أي : خلقنا لكم.

وقيل : كلّ بركات الأرض منسوبة إلى السّماء كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [لحديد: ٢٥] وإنّما يستخرج الحديد من الأرض ، وقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦].

وسبب نزول هذه الآية أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها ، فكان الرّجال يطوفون بالنّهار ، والنّساء باللّيل عراة (٥). قال قتادة :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٧٩ ، والحجة ٤ / ٩ ـ ١٠ ، وحجة القراءات ٢٨٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٧٧ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩١ ، ٢٩٢ ، وشرح شعلة ٣٨٧ ، وإتحاف ٢ / ٤٥.

(٢) في الدر : قرىء.

(٣) ينظر القراءة السابقة.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٢.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٥٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٠) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

٦٦

كانت المرأة تطوف ، وتضع يدها على فرجها ، وتقول : [الرجز]

٢٤٤٤ ـ اليوم يبدو بعضه أو كلّه

وما بدا منه فلا أحلّه

فأمر الله تعالى بالسّتر فقال : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ)(١) يستر عوراتكم ، واحدتها سوءة ، سمّيت بها ؛ لأنّه يسوء صاحبها انكشافها ، فلا يطوف عاريا.

قوله : «يواري» : في محلّ نصب صفة ل «لباسا».

وقوله : «وريشا» يحتمل أن يكون من باب عطف الصّفات ، والمعنى : وصف اللّباس بشيئين : مواراة السّوءة ، والزّينة ، وعبّر عنها بالرّيش لأنّ الرّيش زينة للطّائر ، كما أنّ اللّباس زينة للآدميّين ، ولذلك قال الزّمخشريّ (٢) : «والرّيش لباس الزّينة ، استعير من ريش الطّير ؛ لأنّه لباسه وزينته».

ويحتمل أن يكون من باب عطف الشّيء على غيره أي : أنزلنا عليكم لباسين ، لباسا موصوفا بالمواراة ، ولباسا موصوفا بالزّينة ، وهذا اختيار الزّمخشريّ ، فإنّه قال بعد ما حكيته عنه آنفا : «أي : أنزلنا عليكم لباسين ، لباسا يواري سوءاتكم ، ولباسا يزيّنكم ؛ لأنّ الزّينة غرض صحيح كما قال تعالى : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨] (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) [النحل : ٦] وعلى هذا ، فالكلام في قوة حذف موصوف ، وإقامة صفته مقامه ، والتّقدير : ولباسا ريشا أي : ذا ريش».

فصل في وجوب ستر العورة

قال القرطبيّ (٣) : استدلّ كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب ستر عوراتهم ، وذلك يدلّ على الأمر بالسّتر ، ولا خلاف في وجوب ستر العورة.

واختلفوا في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب : هي القبل والدّبر فقط ، وهو قول أهل الظّاهر ، وابن أبي عبلة والطّبريّ لقوله تعالى : (لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ) ، وقوله : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) [الأعراف : ٢٢] ، وقوله : (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) [الأعراف : ٢٧].

وفي البخاريّ عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسر الإزار عن فخذه حتّى إنّي أنظر إلى بياض فخذ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مالك : «ليست السّرّة بعورة ، وأكره له أن يكشف فخذه».

__________________

(١) أخرجه مسلم ٤ / ٤٣٢٠ كتاب التفسير باب في قوله تعالى : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ حديث (٢٥ / ٣٠٢٨) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا قال : «كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها ، وتقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله

فما باد منه فلا أحله

فنزلت هذه الآية : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ).

(٢) ينظر الكشاف للزمخشري ٢ / ٩٠٧.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١١٧.

٦٧

وقال الشافعيّ : «ليست السّرّة ولا الركبتان من العورة على الصحيح».

وقال أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشام : «كلّ شيء من الحرة عورة ، حتى ظفرها ، وهو حسن».

وعن أحمد بن حنبل : «وعورة الأمة ما بين السّرّة والرّكبة وأم الولد أغلظ حالا من الأمة».

و «الرّيش» فيه قولان :

أحدهما : أنه اسم لهذا الشّيء المعروف.

والثاني : أنّه مصدر يقال : راشه يريشه ريشا إذا جعل فيه الرّيش ، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين ، وهذا هو التّحقيق.

وقرأ عثمان (١) وابن عبّاس والحسن ومجاهد وقتادة والسّلميّ وعليّ بن الحسين وابنه زيد ، وأبو رجاء ، وزرّ بن حبيش وعاصم ، وأبو عمرو ـ في رواية عنهما ـ : «ورياشا» ، وفيها تأويلان :

أحدهما ـ وبه قال الزّمخشريّ (٢) ـ : أنّه جمع ريش ، فيكون كشعب وشعاب ، وذئب وذئاب ، وقدح وقداح.

والثاني : أنّه مصدر أيضا ، فيكون ريش ورياش مصدرين ل «راشه الله ريشا ورياشا» أي: أنعم عليه.

وقال الزجاج (٣) : «هما اللّباس ، فعلى هذا هما اسمان للشّيء الملبوس ، كما قالوا : لبس ولباس».

وجوّز الفراء (٤) أن يكون «رياش» جمع «ريش» ، وأن يكون مصدرا فأخذ الزّمخشريّ بأحد القولين ، وغيره بالآخر ، وأنشدوا قول الشاعر : [الوافر]

٢٤٤٥ ـ وريشي منكم وهواي معكم

وإن كانت زيارتكم لماما (٥)

روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال : «كلّ شيء يعيش به الإنسان ، من متاع ، أو مال ، أو مأكول ، فهو ريش (٦) ورياش» وقال ابن السكّيت : «الرّياش مختص بالثّياب ، والأثاث ، والرّيش قد يطلق على سائر الأموال» (٧).

قال ابن عباس ومجاهد والضّحاك والسّدّيّ : «وريشا يعني مالا ، يقال تريش «الرّجل إذا تموّل» (٨).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٨٣ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٣.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٩٧.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٦٢.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٧٥.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٣.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : معالم التنزيل ٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

٦٨

وقيل : الرّيش : الجمال كما تقدّم أي : ما يتجملون به من الثّياب.

وقوله : (وَلِباسُ التَّقْوى).

قرأ نافع (١) وابن عامر والكسائيّ : «لباس» بالنّصب ، والباقون بالرّفع. فالنّصب نسقا على «لباسا» أي : أنزلنا لباسا مواريا وزينة ، وأنزلنا أيضا لباس التّقوى ، وهذا يقوّي كون «ريشا» صفة ثانية ل «لباسا» الأولى إذ لو أراد أنّه صفة لباس ثان لأبرز موصوفه ، كما أبرز هذا اللّباس المضاف للتّقوى.

وأما الرّفع فمن خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون «لباس» مبتدأ ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «خير» خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأوّل ، والرّابط هنا اسم الإشارة ، وهو أحد الرّوابط الخمسة المتفق عليها ، ولنا رابط سادس ، فيه خلاف تقدّم التنبيه عليه. وهذا الوجه هو أوجه الأعاريب في هذه الآية الكريمة.

الثاني : أن يكون «لباس» خبر مبتدأ محذوف أي : وهو لباس ، وهذا قول أبي إسحاق (٢) ، وكأنّ المعنى بهذه الجملة التّفسير للباس المتقدم ، وعلى هذا ، فيكون قوله «ذلك» جملة أخرى من مبتدأ وخبر.

وقدّره مكي (٣) بأحسن من تقدير الزّجّاج فقال : «وستر العورة لباس التّقوى».

الثالث : أن يكون «ذلك» فصلا بين المبتدأ وخبره ، وهذا قول الحوفيّ ، ولا نعلم أنّ أحدا من النّحاة أجاز ذلك ، إلّا أنّ الواحديّ قال : [ومن قال] إن ذلك لغو لم يكن على قوله دلالة ؛ لأنّه يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا.

قال شهاب الدّين (٤) : «فقوله «لغو» هو قريب من القول بالفصل ؛ لأنّ الفصل لا محلّ له من الإعراب على قول جمهور النّحويين من البصريين والكوفيين.

الرابع : أن يكون «لباس» مبتدأ و «ذلك» بدل منه ، أو عطف بيان له ، أو نعت ، و «خير» خبره ، وهو معنى قول الزّجّاج وأبي عليّ (٥) ، وأبي بكر بن الأنباريّ ، إلا أنّ الحوفي قال : وأنا أرى ألّا يكون «ذلك» نعتا ل «لباس التّقوى» ؛ لأنّ الأسماء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللّام ، وما أضيف إلى الألف واللّام ، وسبيل النّعت أن يكون مساويا للمنعوت ، أو أقلّ منه تعريفا ، فإن كان قد تقدّم قول أحد به فهو سهو.

قال شهاب الدّين (٦) : أمّا القول به فقد قيل كما ذكرته عن الزّجّاج والفارسي وابن

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٠ ، والحجة ٤ / ١٢ ، وحجة القراءات ٢٨٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٧٨ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٣ ، وشرح شعلة ٣٨٧ ، وإتحاف ١ / ٤٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٦٣.

(٣) ينظر : المشكل ٢ / ٣٠٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥٣.

(٥) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣٦٢.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥٤.

٦٩

الأنباريّ ، ونصّ عليه أبو عليّ في «الحجّة» ، أيضا وذكره الواحديّ.

وقال ابن عطيّة : «هو أنبل الأقوال».

وذكر مكيّ (١) الاحتمالات الثلاثة : أعني كونه بدلا ، أو بيانا ، أو نعتا ، ولكن ما بحثه الحوفيّ صحيح من حيث الصّناعة ، ومن حيث إنّ الصّحيح في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة ؛ ولكن قد يقال : القائل بكونه نعتا لا يجعله أعرف من ذي الألف واللام.

الخامس : جوّز أبو البقاء (٢) أن يكون «لباس» مبتدأ ، وخبره محذوف أي : ولباس التّقوى ساتر عوراتكم وهذا تقدير لا حاجة إليه.

وإسناد الإنزال إلى اللّباس : إمّا لأنّ «أنزل» بمعنى «خلق» كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] ، وإمّا على ما يسمّيه أهل العلم التدريج ، وذلك أنّه ينزّل أسبابه ، وهي الماء الذي هو سبب في نبات القطن والكتّان ، والمرعى الذي تأكله البهائم ذوات الصّوف والشّعر ، والوبر التي يتّخذ منها الملابس ؛ ونحوه قول الشاعر : [الرجز]

٢٤٤٦ ـ أقبل في المستنّ من سحابه

أسنمة الآبال في ربابه (٣)

فجعله جائيا للأسنمة التي للإبل مجازا لمّا كان سببا في تربيتها ، وقريب منه قول الآخر : [الوافر]

٢٤٤٧ ـ إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٤)

وقال الزّمخشريّ (٥) : جعل ما في الأرض منزّلا من السماء ؛ لأنّه قضي ثمّ وكتب ، ومنه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦].

وقال ابن عطيّة (٦) : «وأيضا فخلق الله وأفعاله ، إنّما هي من علو في القدر والمنزلة» ، وقد تقدّم الكلام عليه أول الآية.

وفي قراءة عبد (٧) الله وأبيّ «ولباس التّقوى خير» بإسقاط «ذلك» وهي مقوّية للقول بالفصل والبدل وعطف البيان.

وقرأ النّحويّ (٨) : «ولبوس» بالواو ورفع السّين. فأمّا الرّفع فعلى ما تقدّم في

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣٠٩.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٧١.

(٣) البيت ينظر : الكامل ٣ / ٩١ ، مشاهد الإنصاف ٣ / ٤٣٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٤.

(٤) البيت لمعاوية بن مالك ينظر اللسان (سمو).

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٩٧.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٨٨.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٨٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٨٣ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٤.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٤.

٧٠

«لباس» ، وأمّا «لبوس» فلم يعينوها : هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠]؟ أو بضمّ اللّام على أنّه جمع؟ وهو مشكل ، وأكثر ما يتخيّل له أن يكون جمع لبس بكسر اللام بمعنى ملبوس.

قوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) مبتدأ وخبر ، والإشارة به إلى جميع ما تقدّم من إنزال اللّباس والرّيش ولباس التّقوى.

وقيل : بل هو إشارة لأقرب مذكور ، وهو لباس التقوى فقط.

فصل في المراد ب «لباس التقوى»

اختلفوا في لباس التّقوى ، فقيل : هو نفس الملبوس ، وقيل : غيره. وأما الأوّل ففيه (١) وجوه :

أحدها : هو اللّباس المواري للسّوءة ، وإنّما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنّه خير ؛ لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يتعبّدون بالعري في الطّواف بالبيت ، فجرى هذا التّكرير مجرى قول القائل : «قد عرّفتك الصّدق في أبواب البرّ ، والصّدق خير لك من غيره» ، فيعيد ذكر الصّدق ليخبر عنه بذلك المعنى.

وثانيها : لباس التّقوى هو الدّروع والجواشن (٢) والمغافر ، وما يتقى به في الحروب.

وثالثها : لباس التّقوى ما يلبس لأجل إقامة الصّلاة.

ورابعها : هو الصّوف والثّياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع.

وأمّا القول الثّاني ، فيحمل لباس التّقوى على المجاز.

وقال قتادة والسّدّيّ وابن جريج : هو الإيمان.

وقال ابن عباس : هو العمل الصّالح (٣).

وقال عثمان بن عفّان والكلبيّ : السّمت الحسن (٤).

وقال الكلبيّ : العفاف والتّوحيد ؛ لأنّ المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريا من الثّياب ، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيا (٥).

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٤ / ٤٣.

(٢) أخرجه الطبري (٤ / ٤٥٨) عن قتادة والسدي وابن جريج وذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٤٣ ـ ٤٤) وابن كثير (٣ / ٣٩٦) والقرطبي (٧ / ١١٩) وأبو حيان في «البحر المحيط» (٤ / ٢٨٤).

(٣) أخرجه الطبري ٥ / ٤٥٨ عن قتادة والسدي وابن جريج وذكره الرازي في تفسيره ١٤ / ٤٣ ـ ٤٤ ، وابن كثير.

(٤) أخرجه الطبري ٥ / ٤٥٨ ، وذكره الرازي في تفسيره ١٤ / ٤٣ ـ ٤٤ ، وابن كثير ٣ / ٣٩٦ ، وأبو حيان في البحر المحيط ٤ / ٢٨٤.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٧١

وقال عروة بن الزّبير : هو خشية الذّم.

وقال الحسن وسعيد : هو الحياء ؛ لأنّه يبعث على التّقوى (١).

وإنما حمل لفظ اللّباس على هذه المجازات ؛ لأنّ اللّباس الذي يفيد التقوى ليس إلّا هذه الأشياء.

وقوله : «ذلك خير» قال أبو عليّ الفارسيّ (٢) : معناه : ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به ، وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللّباس والرّياش الذي يتجمّل به.

وأضيف اللّباس إلى التّقوى ، كما أضيف إلى الجوع في قوله : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) [النحل : ١١٢].

وقوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي : الدّالة على فضله ورحمته على عباده ، لعلهم يذّكّرون النّعمة.

قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(٢٧)

اعلم أنّ المقصود من ذكر قصص الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ حصول العبرة لمن يسمعها ، فالله ـ تعالى ـ لما ذكر قصّة آدم ، وبيّن فيها شدّة عداوة الشّيطان «كما أخرج أبويكم من الجنّة» ، وذلك لأن الشّيطان لما بلغ بكيده ، ولطف وسوسته إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزّلة الموجبة لإخراجه من الجنّة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حقّ بني آدم (٣) أولى.

فقوله : «لا يفتننّكم» هو نهي للشّيطان في الصّورة ، والمراد نهي المخاطبين عن متابعته والإصغاء إليه ، والمعنى : لا يصرفنكم الشيطان عن الدّين كما فتن أبويكم في الإخراج من الجنّة ، وقد تقدّم معنى ذلك في قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) [الأعراف : ٢].

وقرأ ابن وثّاب (٤) وإبراهيم : «لا يفتننّكم» [بضمّ] حرف المضارعة من أفتنه بمعنى حمله على الفتنة.

وقرأ زيد (٥) بن عليّ : «لا يفتنكم» بغير نون توكيد.

قوله : «كما أخرج» : نعت لمصدر محذوف أي : لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج

__________________

(١) ينظر : المصادر السابقة.

(٢) ينظر الرازي ١٤ / ٤٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨٤ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨٤ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٥.

٧٢

أبويكم. ويجوز أن يكون التّقدير : لا يخرجنّكم بفتنته إخراجا مثل إخراج أبويكم.

و «أبويكم» واحده أب للمذكّر ، وأبة للمؤنّث ، فعلى هذا قيل «أبوان».

فصل في دحض شبهة من نسب المعاصي إلى الله

قال الكعبيّ : هذه حجّة على من نسب المعاصي إلى الله تعالى ؛ لأنه تعالى نسب خروج آدم وحوّاء ، وسائر وجوه المعاصي إلى الشّيطان ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى [بريء عنها ، فيقال له : لم قلتم إنّ كون هذا العمل منسوبا إلى الشّيطان يمنع من كونه منسوبا إلى الله تعالى؟](١) ولم لا يجوز أن يقال إنّه تعالى لمّا خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوبا إلى الله؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الدّاعية بعد تزيين الشيطان وتحسينه تلك الأعمال ، عند ذلك الكافر ، كان منسوبا إلى الشّيطان؟

فصل في إخراج آدم من الجنة عقوبة له

ظاهر الآية يدلّ على أنّه تعالى إنّما أخرج آدم وحوّاء من الجنة ، عقوبة لهما على تلك الزّلّة ، وظاهر قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] يدلّ على أنّه تعالى خلقهما لخلافة الأرض ، فأنزلهما من الجنّة إلى الأرض لهذا المقصود ، فكيف الجمع بين الوجهين؟

وجوابه : ربما قيل حصل بمجموع الأمرين ، وأنّه خلقه ليجعله خليفة في الأرض ، وجعل سبب نزوله إلى الأرض وإخراجه من الجنّة هي الزلة.

قوله : «ينزع» جملة في محل نصب على الحال ، وفي صاحبها احتمالان :

أحدهما : أنّه الضّمير في «أخرج» العائد على الشّيطان ، وأضاف نزع اللّباس إلى الشّيطان ، وإن لم يباشر ذلك ؛ لأنّه كان بسبب منه ، فأسند إليه كما تقول : «أنت فعلت هذا» لمن حصل ذلك الفعل بسبب منه.

والثاني : أنّه حال من أبويكم ، وجاز الوجهان ؛ لأنّ المعنى يصحّ على كلّ من التّقديرين ، والصّناعة مساعدة لذلك ، فإنّ الجملة مشتملة على ضمير الأبوين ، وعلى ضمير الشّيطان.

قال أبو حيّان (٢) : فلو كان بدل «ينزع» نازعا تعيّن الأوّل ؛ لأنه إذ ذاك لو جوّز الثّاني لكان وصفا جرى على غير من هو له ، فكان يجب إبراز الضّمير ، وذلك على مذهب البصريّين.

قال شهاب الدّين : يعني أنّه يفرّق بين الاسم والفعل ، إذا جريا على غير ما هما له في المعنى ، فإن كان اسما كان مذهب البصريّين ما ذكر ، وإن كان فعلا لم يحتج إلى

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨٤.

٧٣

ذلك ، وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة ، وأنّ ابن مالك سوّى بينهما ، وأنّ مكيّا له فيها كلام مشكل.

وجيء بلفظ «ينزع» مضارعا على أنّه حكاية حال كأنّها قد وقعت وانقضت.

والنّزع : الجذب للشّيء بقوّة عن مقرّه ، ومنه : (تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [القمر : ٢٠].

ومنه نزع القوس وتستعمل في الأعراض ، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب ، ونزع فلان كذا سلبه ، ومنه (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) [النازعات : ١] لأنّها تقلع أرواح الكفرة بشدّة ، ومنه المنازعة وهي المخاصمة.

والنّزع عن الشّيء كفّ عنه ، والنّزع : الاشتياق الشّديد ، ومنه نزع إلى وطنه ونزع إلى مذهب كذا نزعة ، وأنزع القوم : نزعت إبلهم إلى مواطنها ، ورجل أنزع أي : زال شعره ، والنّزعتان بياض يكتنف النّاصية ، والنّزعة أيضا الموضع من رأس الأنزع ، ولا يقال : امرأة نزعاء إذا كان بها ذلك ، بل يقال لها : زعراء ، وبئر نزوع : أي قريبة القعر لأنّها ينزع منها باليد.

فصل في معنى «اللباس»

اختلفوا في اللّباس الذي نزع عنهما ، فقيل : النّور (١) ، وقيل : التّقى (٢).

وقيل : ثياب الجنّة ، وهذا أقرب ؛ لأنّ إطلاق اللّباس يقتضيه ، والمقصود : تأكيد التّحذير لبني آدم.

واللام في قوله : (لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) لام العاقبة كما ذكرنا في قوله : «ليبدي لهما».

وقال ابن عبّاس : يرى آدم سوءة حوّاء ، وترى حواء سوءة آدم (٣).

قوله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) هو تأكيد للضّمير المتّصل ليسوّغ العطف عليه ، كذا عبارة بعضهم.

قال الواحديّ (٤) : أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله : [(اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥].

قال شهاب الدّين (٥) : ولا حاجة إلى التّأكيد في مثل هذه الصّورة](٦) لصحّة العطف إذ الفاصل هنا موجود ، وهو كاف في صحة العطف ، فليس نظير (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٢) وعزاه لعبد بن حميد عن وهب بن منبه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٢) عن مجاهد.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٤٥) عن ابن عباس.

(٤) ينظر الرازي ١٤ / ٤٥.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٥٥.

(٦) سقط من أ.

٧٤

وقد تقدّم بحث في (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) ، وهو أنّه ليس من باب العطف على الضّمير لمانع ذكر ثمّ.

و «قبيله» المشهور قراءته بالرّفع نسقا على الضّمير المستتر ، ويجوز أن يكون نسقا على اسم «إنّ» على الموضع عند من يجيز ذلك ، ولا سيّما عند من يقول : يجوز ذلك بعد الخبر بإجماع.

ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر فتحصّل في رفعه ثلاثة أوجه.

وقرأ اليزيديّ (١) «وقبيله» نصبا ، وفيها تخريجان :

أحدهما : أنّه منصوب نسقا على اسم «إنّ» لفظا إن قلنا : إنّ الضّمير عائد على «الشّيطان» ، وهو الظّاهر.

والثاني : أنّه مفعول معه أي : يراكم مصاحبا لقبيله.

والضّمير في «إنّه» فيه وجهان :

الظّاهر منهما كما تقدّم أنه للشّيطان.

والثاني : أن يكون ضمير الشّأن ، وبه قال الزّمخشريّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.

والقبيل : الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا من جماعة شتّى ، قاله أبو عبيد وجمعه قبل ، والقبيلة : الجماعة من أب واحد ، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة.

وقال ابن قتيبة (٢) : قبيله : أصحابه وجنده ، وقال : «هو وقبيله» أي هو ومن خلق من قبله.

قال القرطبيّ (٣) : قبيله : جنوده.

وقال مجاهد : يعني الجنّ والشّياطين (٤).

وقال ابن زيد : نسله (٥) ، وقيل : خيله.

قوله : (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) «من» لابتداء غاية الرؤية و «حيث» ظرف لمكان انتفاء الرّؤية ، و «لا ترونهم» في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليه ، هذا هو الظّاهر في إعراب هذه الآية.

ونقل عن أبي إسحاق (٦) كلام مشكل ، نذكره لئلّا يتوهّم صحّته من رآه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨٥ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٥ ، والكشاف ٢ / ٩٨.

(٢) ينظر الرازي ١٤ / ٤٥.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٢٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٢) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٦) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٦٣.

٧٥

قال أبو إسحاق : ما بعد «حيث» صلة لها ؛ وليست بمضافة إليه.

قال الفارسيّ : هذا غير مستقيم ، ولا يصحّ أن يكون ما بعد «حيث» صلة لها ؛ لأنّه إذا كان صلة لها ؛ وجب أن يكون للموصول فيه ذكر ، كما أن في سائر صلات الموصول ذكرا للموصول ، فخلوّ الجملة التي بعد «حيث» من ضمير يعود على حيث دليل على أنّها ليست صلة ل «حيث» ، وإذا لم تكن صلة ؛ كانت مضافة.

فإن قيل : نقدّر العائد في هذا كما نقدّر [العائد] في الموصولات ، فإذا قلت : «رأيتك حيث زيد قائم» كان التّقدير : حيث قائمه ولو قلت : «رأيتك حيث قام زيد» كان التقدير : حيث قام زيد فيه ، ثم اتسع في الحرف فحذف ، واتّصل الضّمير فحذف ، كما يحذف في قولك: زيد الذي ضربت أي الذي ضربته.

فالجواب : لو أريد ذلك لجاز استعمال هذا الأصل فتركهم لهذا الاستعمال دليل على أنّه ليس أصلا له.

قال شهاب الدّين : أما أبو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى «الّذي» ، لا يقول بذلك أحد ، وإنّما يزعم أنّها ليست مضافة للجملة بعدها ، فصارت كالصّلة لها أي : كالزّيادة ، وهو كلام متهافت ، فالرّد عليه من هذه الحيثيّة لا من حيثية اعتقاده لكونها موصولة.

ويحتمل أن يكون مراده أنّ الجملة لمّا كانت من تمام معناها بمعنى أنّها مفتقرة إليها كافتقار الموصول لصلته أطلق عليها هذه العبارة.

ويدلّ على ذلك أنّ مكّيا (١) ذكر في علة بنائها فقال : «ولأنّ ما بعدها من تمامها كالصّلة والموصول» إلا أنّه يرى أنّها مضافة لما بعدها.

وقرىء (٢) «من حيث لا ترونه» بالإفراد ، وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الضّمير عائدا على الشّيطان وحده دون قبيله لأنه هو رأسهم ، وهم تبع له ، ولأنّه المنهيّ عنه أوّل الكلام.

والثاني : أن يعود عليه وعلى قبيله ، ووحّد الضّمير إجراء له مجرى اسم الإشارة في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

ونظير هذه القراءة قول رؤبة : [الرجز]

٢٤٤٨ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (٣)

وقد تقدّم هذا البيت بحكايته معه في البقرة.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣١٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٨٥ ، والدر المصون ٣ / ٢٥٦.

(٣) تقدم.

٧٦

فصل في المراد بالآية

معنى الآية : أنّ الشّيطان يراكم يا بني آدم هو وقبيله وجنوده ، وقال ابن عبّاس : «هو وولده» (١).

وقال قتادة : «قبيله الجنّ والشّياطين من حيث لا ترونهم» (٢).

قال مالك بن دينار : إن عدوا يراك ولا تراه لشديد الموتة إلّا من عصم الله.

فصل في بيان رؤية الجن الإنس

قال أهل السّنّة : إنّهم يرون الإنس ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا ، والإنس لا يرونهم ؛ لأنّه تعالى لم يخلق هذه الإدراك في عيون الإنس.

وقالت المعتزلة (٣) : الوجه في أنّ الإنس لا يرون الجنّ لرقة أجسام الجنّ ، ولطافتها ، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس ، والوجه في أن يرى بعض الجنّ بعضا أنّ الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجنّ ويزيد فيه ، ولو زاد تعالى في قوّة أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم وعلى هذا كون الإنس مبصرا للجن موقوف عند المعتزلة إما على زيادة كثافة أجسام الجنّ أو على زيادة قوّة أبصار الإنس.

وقوله (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يدل على أنّ الإنس لا يرون الجنّ لأن قوله (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص.

فصل في تغير الجن في صور مختلفة

قال بعض العلماء : لو قدر الجنّ على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاءوا وأرادوا ؛ لوجب أن ترتفع الثّقة عن معرفة النّاس فلعلّ هذا الذي أشاهده ، وأحكم عيه بأنّه ولدي ، أو زوجتي جنّي صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص ، وأيضا ، ولو كانوا قادرين على تخبيط النّاس وإزالة عقولهم عنهم مع أنّه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس ، فلم لا يفعلون ذلك في حق البشر ؛ وفي حقّ العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزّهّاد أكثر وأقوى ، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنّه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه ، ويؤكّد ذلك قوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم : ٢٢].

قال مجاهد : قال إبليس : أعطينا أربعا : نرى ولا نرى ، ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى (٤).

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٥٥.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٥٥.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٤٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٢) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد.

٧٧

قوله (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

يحتمل أن يكون «جعل» بمعنى «صيّر» ، أي : صيّرنا الشّياطين أولياء.

وقال الزّهراويّ «جعل» هنا بمعنى «وصف» وهذا لا يعرف في جعل وكأنه فرارا من إسناد جعل الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى الله تعالى وكأنّها نزعة اعتزاليّة.

و «للّذين» متعلّقة ب «أولياء» ؛ لأنه في معنى الفعل ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه صفة ل «أولياء».

فصل في المراد ب «أولياء»

معنى «أولياء» أي : أعوانا وقرناء للّذين لا يؤمنون.

قال الزّجّاج : سلطناهم عليهم يزيدون في غيّهم كقوله (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] واحتج أهل السنة بهذا النص على أنّه تعالى هو الذي سلّط الشّيطان عليهم حتى أضلهم واغواهم (١).

وقالت المعتزلة (٢) : معنى قوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) هو أنّا حكمنا بأنّ الشّيطان ولي لمن لا يؤمن ، قالوا : ومعنى قوله : (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) [مريم : ٨٣] هو أنّا خلينا بينهم وبينهم كما يقال لمن لا يربط الكلب في داره ولا يمنعه من الوثوب على الداخل أنّه أرسل عليهم كلبه.

والجواب أن القائل إذا قال : إن فلانا جعل هذا ثوبا أبيض أو أسود ، لم يفهم منه أنّه حكم به بل يفهم منه أنه حصل السّواد أو البياض فيه ، فكذلك هاهنا وجب حمل الجعل على التّأثير والتّحصيل لا على مجرد الحكم وأيضا فهب أنّه تعالى حكم بذلك لكن مخالفة حكم الله توجب كونه كاذبا وهو محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكون العبد قادرا على خلاف ذلك ؛ وجب أن يكون محالا وأما قولهم إن قوله تعالى (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) [مريم : ٨٣] أي خلّينا بينهم وبين الكافرين ، فهو ضعيف ؛ ألا ترى أنّ أهل السّوق يؤذي بعضهم بعضا ، ويشتم بعضهم بعضا ثم إنّ زيدا وعمرا إذا لم يمنع بعضهم عن بعض لا يقال إنّه أرسل بعضهم على البعض ، بل لفظ الإرسال إنّما يصدق إذا كان تسلط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا هاهنا.

قوله تعالى : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢٨)

هذه الجملة الشّرطيّة لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنّها استئنافيّة وهو الظّاهر وجوّز ابن عطيّة (٣) أن تكون داخلة في حيّز الصّلة لعطفها عليها.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ٤٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩١.

٧٨

قال ابن عطيّة (١) ليقع التوبيخ بصفة قوم قد فعلوا أمثالا للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم.

قوله : «وجدنا» يحتمل أن يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه ، ويحتمل أن يكون بمعنى : لقينا ، فيكون مفعولا ثانيا على الأول وحالا على الثاني.

فصل في المراد من الآية

قوله (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) قال ابن عبّاس ، ومجاهد : هي طوافهم بالبيت عراة (٢).

وقال عطاء : الشّرك.

وقيل : ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسّائبة وغيرها ، وهو اسم لكلّ فعل قبيح بلغ النّهاية في القبح ، فالأولى أن يحكم بالتعميم ، وفيه إضمار معناه : وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا : وجدنا عليها آباءنا.

قيل : ومن أين أخذ آباؤكم؟ قالوا : الله أمرنا بها.

واعلم أنّه ليس المراد أنّ القوم كانوا يعتقدون أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنّ الله أمرهم بها ، فإنّ ذلك لا يقوله عاقل ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش ، والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات والله أمرهم بها ثمّ إنّه تعالى حكى عنهم أنّهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين :

أحدهما : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا).

والثاني : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).

فأمّا الحجّة الأولى فما ذكر الله عنها جوابا لأنّها محض التّقليد ، وهو طريقة فاسدة في عقل كلّ أحد ؛ لأنّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التّقليد حقا للزم الحكم بأنّ كلّ واحد من المتناقضين حقّا وذلك باطل ، ولما كان فساد هذا الطّريق ظاهرا جليا لم يذكر الجواب عنه.

وأمّا الحجّة الثّانية وهي قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) فقد أجاب الله عنها بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) والمعنى أنّه لما بين على لسان الأنبياء والرّسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة ، فكيف يمكن القول بأنّ الله تعالى أمرنا بها.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) حذف المفعول الأوّل للعلم به أي لا يأمر أحدا أو لا يأمركم يا مدّعين ذلك.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٩١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٣) عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٤٣) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.

وذكره أيضا عن مجاهد (٣ / ١٤٣) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٧٩

فصل

قالت المعتزلة : قوله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) إشارة إلى أنّه لما كان موصوفا في نفسه بكونه من الفحشاء ؛ امتنع أن يأمر الله به ، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشا مغايرا لتعلق الأمر والنّهي به.

والجواب : لما ثبت بالاستقراء أنّه تعالى لا يأمر إلّا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمّا يكون مفسدة لهم ، فقد صحّ هذا التّعليل.

قوله : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) والمعنى أن قولكم : إنّ الله أمركم بهذه الأفعال إمّا لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة ، أو عرفتم ذلك بطريق الوحي عن الأنبياء.

أما الأول : فباطل بالضّرورة.

وأما الثاني : فباطل على قولكم لأنّكم تنكرون نبوّة الأنبياء على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كفّار قريش ، وهم كانوا منكرين أصل النّبوّة ، وإذا كان كذلك ، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى ، فكان قولهم : إنّ الله أمرنا بها قولا على الله بما لا يعلمون ، وإنّه باطل.

قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) مفعول به ، وهذا مفرد في قوة الجملة ؛ لأنّ ما لا يعلمون ممّا يتقولونه على الله ـ تعالى ـ كلام كثير من قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) كتبحير البحائر وتسييب السّوائب ، وطوافهم بالبيت عراة إلى غير ذلك وكذلك حذف المفعول من قوله : (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ).

فصل في دحض شبهة لنفاة القياس

استدلّ بهذه الآية نفاة القياس ؛ لأنّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوما لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذّمّ : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقد تقدّم جواب عن مثل هذه الدلالة.

قوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)(٢٩)

قال ابن عبّاس : أمر ربّي ب «لا إله إلا الله» لقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) إلى قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ)(١) [آل عمران : ١٨].

وقال الضحاك : هو بالتوحيد.

وقال مجاهد ، والسّدّيّ : بالعدل (٢).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ٤٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤٦٤) عن مجاهد والسدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ـ

٨٠