اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أميّة بن خلف الجمحيّ ، والعاصي بن منبه بن الحجّاج.

ثم قال : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : يسلم أمره إلى الله ، ويثق به ، فإنّ الله حافظه وناصره ؛ لأنّه عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه ، والرحمة والثواب إلى أوليائه.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) الآية.

لمّا شرح أحوال الكفّار ، شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم.

قرأ ابن عامر والأعرج (١) «تتوفّى» بتاء التأنيث ، لتأنيث الجماعة ، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان ، أظهرهما ـ لموافقة قراءة من تقدّم ـ : أنّ الفاعل هم الملائكة ، وإنما ذكّر للفصل ؛ ولأنّ التأنيث مجازي.

والثاني : أنّ الفاعل ضمير الله تعالى ، لتقدم ذكره و «الملائكة» مبتدأ ، و «يضربون» خبره ، وفي هذه الجملة حينئذ وجهان :

أحدهما : أنّها حال من المفعول.

والثاني : أنّها استئنافية ، جوابا لسؤال مقدر ، وعلى هذا فيوقف على (الَّذِينَ كَفَرُوا) بخلاف الوجهين قبله.

وضعّف ابن عطية وجه الحال بعدم الواو ، وليس بضعيف لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خالية من «واو» نظما ونثرا ، وعلى كون «الملائكة» فاعلا ، يكون «يضربون» جملة حالية ، سواء قرىء بالتأنيث أم بالتذكير ، وجواب «لو» محذوف للدلالة عليه ، أي : رأيت أمرا عظيما.

فصل

المعنى : ولو عاينت ؛ لأنّ «لو» ترد المضارع إلى الماضي ، كما ترد «إن» الماضي إلى المضارع.

قال الواحديّ ـ رحمه‌الله ـ : «معنى يتوفى الذين كفروا ، يقبضون أرواحهم» قيل : عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم. وقيل : أراد المشركين الذين قتلوا ببدر ، كانت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم.

قال سعيد بن جبير ، ومجاهد : يريد : أستاههم ولكن الله تعالى حيّي يكنّي (٢).

وقال ابن عباس «كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٣٢ ، إتحاف ٢ / ٨١ ، حجة القراءات ص (٣١١).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٦).

٥٤١

بالسيف وإذا ولّوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم» (١) وقال ابن جريح «يريد ما أقبل منهم وما أدبر يضربون أجسادهم كلها». والمراد بالتوفي : القتل.

قوله (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) هذا منصوب بإضمار قول الملائكة ، أي : يضربونهم ويقولون لهم : ذوقوا. وقيل : الواو في «يضربون» للمؤمنين أي : يضربونهم حال القتال ، وحال توفّي أرواحهم الملائكة.

قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد ، يضربون بها الكفّار ، فتلتهب النّار في جراحاتهم ؛ فذلك قوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : «هذا يوم القيامة ، تقول لهم خزنة جهنم : ذوقوا عذاب الحريق» (٢) وقال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : «يقولون لهم ذلك بعد الموت» (٣).

قوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).

أي : ذلك الضرب الذي وقع بكم ، أو عذاب الحريق : «بما قدّمت أيديكم» بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ.

قال الواحديّ : «يجوز أن يقال «ذلك» مبتدأ ، وخبره «بما قدّمت أيديكم» ويجوز أن يكون خبره محذوفا ، والتقدير : ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم ، ويجوز أن يكون محل «ذلك» نصبا والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم».

فصل

فإن قيل : قوله (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) يقتضي أنّ فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع لوجوه ، أولها : أنّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها : أن اليد ليست محلّا للمعرفة والعلم ، فلا يتوجّه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها.

فالجواب : أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة.

واعلم أنّ الإنسان جوهر واحد ، وهو الفعال ، وهو الدراك ، وهو المؤمن ، وهو الكافر وهو المطيع ، وهو العاصي ، وهذه الأعضاء آلات له ، وأدوات له في الفعل ؛ فأضيف الفعل في الظّاهر إلى الآله ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان.

فإن قيل : إنّه جعل هذا العقاب ، إنّما تولّد من الفعل الذي صدر عنه ، والعقاب إنما يتولّد من العقائد الباطلة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٦) والرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٤٢).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) انظر : المصدر السابق.

٥٤٢

فالجواب : أنّا بيّنا أنّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد ، فأطلق على المسبب اسم السّبب وهذا من أشهر وجوه المجاز.

قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

في محل «أنّ» وجهان :

أحدهما : النصب بنزع الخافض يعني : بأنّ الله.

والثاني : أنّك إن جعلت قوله : «ذلك» في موضع رفع ، جعلت «أنّ» في موضع رفع أيضا ، أي : وذلك أنّ الله.

قال الكسائيّ : «ولو كسرت ألف «أنّ» على الابتداء كان صوابا ، وعلى هذا التقدير يكون كلاما مبتدأ منقطعا عمّا قبله».

فصل

قالت المعتزلة (١) : لو كان الله تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالما ، وأيضا قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) يدلّ على أنه تعالى إنّما لم يكن ظالما بهذا العذاب ؛ لأنّ العبد قدّم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدلّ على أنّه لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالما في هذا العذاب ، وأيضا : لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالما ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مستقصاة في آل عمران.

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية.

لمّا بيّن ما أنزله بأهل بدر من الكفّار عاجلا وآجلا ، أتبعه بأن بيّن أنّ هذه طريقته وسنته ودأبه في الكل فقال (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ).

قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما «هو أن آل فرعون أيقنوا أنّ موسى نبي الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصّدق فكذّبوه ، فأنزل الله عقوبته ، كما أنزل بآل عمران» (٢).

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : كعادة الذين من قبلهم ، وتقدّم الكلام على «كدأب» في آل عمران.

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) والغرض منه : التّنبيه على أن لهم عذابا مدخرا سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ، ثمّ ذكر ما يجري مجرى العلّة في العقاب الذي أنزله بهم ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) ، «ذلك» مبتدأ وخبر أيضا ، كنظيره أي : ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أنّ الله.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٤٣.

(٢) ذكره الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٦٦) والبغوي (٢ / ٢٥٦).

٥٤٣

قوله «لم يك» قال أكثر النحاة : إنّما حذفت النون ؛ لأنّها لم تشبه الغنّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفا ، فحذفت تشبيها بها ، كما تقول : لم يدع ، ولم يرم.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «وهذا ينتقض بقولهم : لم يزن ، ولم يخن ، ولم يسمع حذف النون ههنا».

وأجاب علي بن عيسى فقال : إنّ «كان» و «يكون» أم الأفعال ، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى «كان» ، فقولنا : ضرب ، معناه : كان ضرب ، ويضرب معناه : يكون ضرب ، وهكذا القول في الكلّ ؛ فثبت أنّ هذه الكلمة أم الأفعال ، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف ، بخلاف قولنا : لم يخن ، ولم يزن ، فإنّه لا حاجة إلى ذكرها كثيرا ، فظهر الفرق.

فصل

معنى الآية إنّ الله لا يغيّر ما أنعم على قوم ، حتى يغيّروا ما بهم بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غيّر الله ما بهم ، فسلبهم النعمة.

فصل

قال القاضي (١) «معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، وتسهيل السبل ، والمقصود : أن يشتغلوا بالعبادة والشّكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق ، فقد غيّروا نعم الله على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن».

قال : «وهذا من أوكد ما يدلّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحدا بالعذاب والمضرة ، وأنّ الذي يفعله لا يكون إلّا جزاء على معاص سلفت ، لو كان تعالى خلقهم ، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنّار كما يقوله القوم لما صحّ ذلك».

وأجيب : بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي ؛ إلّا أنّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معلّلة بفعل الإنسان ؛ لأنّ حكم الله بذلك التغيير وإرادته ، لمّا كان لا يحصل إلّا عند إتيان الإنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثرا في حدوث صفة في ذات الله تعالى ، ويكون الإنسان مغيرا صفة الله ومؤثرا فيها ، وذلك محال في بديهة العقل ؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحقّ أنّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلو لا حكمه وقضاؤه أولا لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال.

ثم قال : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٤٤.

٥٤٤

قوله : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

فإن قيل : إنه تعالى ذكر : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) مرتين ، فما فائدته؟.

فالجواب من وجوه ، منها : أنّ الكلام الثّاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول ؛ لأنّ الأول فيه ذكر أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم ، وذلك تفصيل ، ومنها : أنّه أريد بالأوّل ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت ، وبالثاني ما ينزل بهم في القبر وفي الآخرة ، ومنها : أنّ الكلام الأول هو قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) والكلام الثاني هو قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) فالأوّل إشارة إلى أنّهم أنكروا دلائل الإلهية ، والثاني إشارة إلى أنّه سبحانه ربّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة ، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها ، وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول الأخذ ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدلّ على أنّ للكفر أثرا عظيما في حصول الإهلاك ، ومنها : أنّ الأول دأب في أن هلكوا لمّا كفروا ، وهذا دأب في أن لم يغيّر الله نعمتهم حتّى يغيروها هم.

ومنها : قال الكرمانيّ : «يحتمل أن يكون الضمير في : «كفروا» في الآية الأولى عائدا على قريش ، والضمير في : «كذّبوا» في الثانية عائدا على آل فرعون والذين من قبلهم ، كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ، أهلكنا بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالريح ، وبعضهم بالغرق ، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف لما كذبوا ، وأغرقنا آل فرعون».

(وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) جمع الضمير في : «كانوا» ، وجمع : «ظالمين» مراعاة لمعنى «كل» لأنّ «كلّا» متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاة لفظها تارة ، ومعناها أخرى. وإنّما اختير هنا مراعاة المعنى ؛ لأجل الفواصل ، ولو روعي اللّفظ فقيل مثلا وكلّ كان ظالما ، لم تتّفق الفواصل.

قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)(٥٩)

قوله تعالى (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

لمّا وصف كلّ الكفار بقوله : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) أي : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان :

الأولى : الكافر المستمر على كفره مصرّا عليه.

الثانية : أن يكون ناقضا للعهد ، فقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إشارة إلى

٥٤٥

استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وقوله : (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) إشارة إلى نقض العهد.

قال الكلبيّ ومقاتل : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه (١).

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أي : عاهدنهم.

قيل : عاهدت بعضهم ، وقيل : أدخل «من» لأن معناه : أخذت منهم العهد. (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ).

قال ابن عباس «هم بنو قريظة ، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعانوا المشركين على قتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانيا ، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٢) ، (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) لا يخافون الله في نقض العهد.

قوله «الّذين عاهدتّ» يجوز فيه أوجه :

أحدها : الرّفع على البدل من الموصول قبله ، أو على النّعت له ، أو على عطف البيان ، أو النصب على الذّمّ ، أو الرفع على الابتداء ، والخبر قوله (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) بمعنى : من تعاهد منهم ، أي : من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفرت بهم فاصنع كيت وكيت ، فدخلت الفاء في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رحمه‌الله تعالى.

و «منهم» يجوز أن يكون حالا من عائد الموصول المحذوف ، إذ التقدير : الذين عاهدتهم ، أي : كائنين منهم ، ف «من» للتبعيض. وقيل : هي بمعنى : «مع».

وقيل : الكلام محمول على معناه ، أي : أخذت منهم العهد.

وقيل : زائدة أي : عاهدتهم. والأقوال الثلاثة ضعيفة ، والأول أصحّ.

(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ)(٣).

قال ابن عباس «فنكل بهم من خلفهم» (٣).

وقال سعيد بن جبير : «أنذر بهم من خلفهم» (٤).

العامّة على الدال المهملة في «فشرّد». وأصل التّشريد : التّطريد والتفريق والتبديد.

وقيل : التفريق مع الاضطراب ، والمعنى : فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٧).

(٢) انظر : «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٧).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٧).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧١) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٧).

٥٤٦

بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجاءوا لحربك فعلا من الحرب والتنكيل ، يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن ، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد.

وقرأ الأعمش (١) بخلاف عنه : «فشرّذ» بالذال المعجمة.

وقال أبو حيّان (٢) رحمه‌الله تعالى : «وكذا هي في مصحف عبد الله».

قال شهاب الدين (٣) : «وقد تقدّم أنّ النّقط والشّكل أمر حادث ، أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟».

قيل : وهذه المادة ـ أعني : الشين ، والرّاء ، والذال المعجمة ـ مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءة أوجه ، أحدها : أنّ الذّال بدل من مجاورتها ، كقولهم : خراديل وخراذيل.

الثاني : أنه مقلوب من «شذر» ، من قولهم : تفرّقوا شذر مذر ، ومنه : الشّذر الملتقط من المعدن ؛ لتفرّقه ؛ قال : [الطويل]

٢٧٢٣ ـ غرائر في كنّ وصون ونعمة

يحلّين ياقوتا وشذرا مفقّرا (٤)

الثالث : أنه من شذر في مقاله ، إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاء ، ومعناه غير لائق هنا.

وقال قطرب : «شرّذ» بالمعجمة ، التنكيل ، وبالمهملة : التّفريق. وهذا يقوّي قول من قال : إن هذا المادّة ثابتة في لغة العرب.

قوله (مَنْ خَلْفَهُمْ) مفعول : «شرّد». وقرأ الأعمش بخلاف (٥) عنه وأبو حيوة (مَنْ خَلْفَهُمْ) جارا ومجرورا ، والمفعول على هذه القراءة محذوف ، أي : فشرّد أمثالهم من الأعداء ، وأناسا يعملون بعملهم ، والضميران في (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) الظّاهر عودهما على (مَنْ خَلْفَهُمْ) ، أي : إذا رأوا ما حلّ بالمناقضين تذكّروا. وقيل : يعودان على المثقفين ، وليس له معنى طائل.

قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ).

مفعول انبذ محذوف ، أي : انبذ إليهم عهودهم ، أي : اطرحها ، ولا تكترث بها

__________________

(١) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٨١ ، الكشاف ٢ / ٢٣٠ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٠٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٢٨.

(٤) البيت لامرىء القيس ينظر : ديوانه (٥٩) الجمهرة ٢ / ٣٩٩ [رفق] التهذيب ٩ / ١١٨ اللسان ٥ / ٣٤٤٧ البحر المحيط ٤ / ٥٠٤ الدر المصون ٣ / ٤٢٩.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٣ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٩.

٥٤٧

و (عَلى سَواءٍ) حال إمّا من الفاعل ، أي : انبذها ، وأنت على طريق قصد ، أي : كائنا على عدل ، فلا تبغتهم بالقتال بل أعلمهم به ، وإمّا من الفاعل والمفعول معا ، أي : كائنين على استواء في العلم ، أو في العداوة.

وقرأ العامّة بفتح السّين ، وزيد بن علي بكسرها (١) ، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة.

فصل

المعنى : وإمّا تعلمنّ يا محمد (مِنْ قَوْمٍ) معاهدين : «خيانة» نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر ، كما يظهر من قريظة والنضير : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح «إليهم» عهدهم (عَلى سَواءٍ).

يقول : أعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلا معنويا للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامهم ، وأن تكون مستأنفة ، سيقت لذمّ من خان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونقض عهده.

قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

قرأ ابن (٢) عامر وحمزة وحفص عن عاصم «يحسبنّ» بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) [النور : ٥٧] كذلك ، خلا حفصا ، والباقون بتاء الخطاب ، وفي قراءة الغيبة تخريجات كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدّ من التنبيه هنا على ما تقدّم ، فمنها : أنّ الفعل مسند إلى ضمير يفسّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب.

أو يكون الضمير عائدا على : (مَنْ خَلْفَهُمْ).

وعلى هذه الأقوال ، فيجوز أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعولا أول و «سبقوا» جملة في محل نصب مفعولا ثانيا.

وقيل : الفعل مسند إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوف تقديره : ولا يحسبنّهم الذين كفروا سبقوا ، ف «هم» مفعول أول ، و «سبقوا» في محل الثاني ، أو يكون التقدير : لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا. وهو في المعنى كالذي قبله.

وقال قوم : بل «أن» الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيّزها سادة مسدّ المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، فحذفت «أن» الموصولة وبقيت صلتها ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٩.

(٢) ينظر : السبعة ص (٣٠٧) ، الحجة ٤ / ١٥٤ ـ ١٥٥ ، حجة القراءات ص (٣١٢) إعراب القراءات ١ / ٢٣٠ ، إتحاف ٢ / ٨١ ـ ٨٢.

٥٤٨

كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) [الروم : ٢٤] وقوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر : ٦٤].

قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف «أن» الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العرب : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه ؛ وقوله : [الطويل]

٢٧٢٤ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 .......... (١)

ويؤيد هذا الوجه قراءة (٢) عبد الله «أنهم سبقوا».

وقال قوم : بل «سبقوا» في محلّ نصب على الحال ، والسادّ مسدّ المفعولين : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، وتكون «لا» مزيدة ليصح المعنى.

قال الزمخشريّ (٣) ـ بعد ذكره هذه الأوجه ـ «وليست هذه القراءة التي تفرّد بها حمزة بنيّرة» وقد ردّ عليه جماعة هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزة ، بل وافقه عليها من قرّاء السبعة ابن عامر أسنّ القراء وأعلاهم إسنادا ، وعاصم في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصري ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى. وقد ردّ عليه أبو حيان أيضا أنّ (لا يَحْسَبَنَّ) واقع على (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) وتكون «لا» صلة ، بأنّه لا يتأتّى على قراءة حمزة ، فإنّه يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءة حمزة على هذا التخريج؟.

قال شهاب الدّين (٤) : «هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : (لا يَحْسَبَنَّ) وقوله : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، حتى نلزمه ما ذكر» وأما قراءة الخطاب فواضحة ، أي : لا تحسبنّ يا محمد ، أو يا سامع ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) مفعول أول ، والثاني : «سبقوا» ، وقد تقدّم في آل عمران وجه أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنّما أتى بتاء التأنيث ، لأنه بمعنى «القوم» ، كقوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] ، وقرأ الأعمش (٥) «ولا يحسب الذين كفروا» بفتح الباء.

وتخريجها على أن الفعل مؤكد بنون التّوكيد الخفيفة ، فحذفها ؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذف له التنوين ؛ فهو كقوله : [المنسرح]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : حجة القراءات ص (٣١٢) الكشاف ٢ / ٢٣١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٥ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٥ ـ ٥٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٣١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٣٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٤ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٠.

٥٤٩

٢٧٢٥ ـ لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما والدّهر قد رفعه (١)

أي : لا تهينن ، ونقل بعضهم : «ولا تحسب الذين» من غير توكيد ألبتّة ، وهذه القراءة بكسر الباء ، على أصل التقاء الساكنين.

قوله : «سبقوا» أي : فاتوا. نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتّاء فعلى الخطاب.

قوله (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) قرأ ابن عامر (٢) بالفتح ، والباقون بالكسر. فالفتح إمّا على حذف لام العلة ، أي : لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجه الاستبعاد أنّها تعليل للنّهي ، أي : لا تحسبنّهم فائتين ؛ لأنّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حسبان لفوتهم ؛ لأنّهم لا يعجزون ، وإمّا على أنّها بدل من مفعولي الحسبان.

وقال أبو البقاء (٣) : «إنّه متعلق ب «حسب» ، إمّا مفعول ، أو بدل من سبقوا».

وعلى كلا الوجهين تكون «لا» زائدة ، وهو ضعيف ، لوجهين :

أحدهما : زيادة «لا».

والثاني : أن مفعول «حسب» إذا كان جملة ، وكان مفعولا ثانيا كانت «إنّ» فيه مكسورة ؛ لأنّه موضع ابتداء وخبر.

وقرأ العامة : «لا يعجزون» بنون واحدة خفيفة مفتوحة ، وهي نون الرفع. وقرأ ابن (٤) محيصن «يعجزوني» بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدّم الخلاف في ذلك في سورة الأنعام في : (أَتُحاجُّونِّي).

قال الزجاج : «الاختيار الفتح في النّون ، ويجوز كسرها ، على أنّ المعنى : لا يعجزونني وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين» ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [الوافر]

٢٧٢٦ ـ تراه كالثّغام يعلّ مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني (٥)

وقال متمم بن نويرة : [الكامل]

__________________

(١) تقدم برقم ٤٤٨.

(٢) ينظر : حجة القراءات ص (٣١٢) ، السبعة ص (٣٠٨) ، الحجة للقراء السبعة ٤ / ١٥٧ ، إعراب القراءات ١ / ٢٣٠ ، إتحاف ٢ / ٨٢.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٩.

(٤) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٣٠ ، إتحاف ٢ / ٨٢ ، الحجة ١ / ٢٣٠ ، الكشاف ٢ / ٢٣١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٥ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٠ ـ ٤٣١.

(٥) البيت تقدم وهو لعمرو بن معد يكرب ، وليس لعمر بن أبي ربيعة ينظر : الكتاب ٣ / ٥٢٠ وشرح المفصل ٣ / ٩١ الهمع ١ / ٩٥ والعيني ١ / ٣٧٩.

٥٥٠

٢٧٢٧ ـ ولقد علمت ولا محالة أنّني

للحادثات فهل تريني أجزع؟ (١)

قال الأخفش : «فهذا البيت يجوز على الاضطرار». وقرأ ابن محيصن (٢) أيضا «يعجزونّ» بنون مشددة مكسورة ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مجتزئا عنها بالكسرة ، وعنه أيضا فتح العين (٣) وتشديد الجيم وكسر النون ، من «عجّز» مشددا.

قال أبو جعفر : «وهذا خطأ من وجهين :

أحدهما : أنّ معنى «عجّزه» ضعّفه وضعّف أمره. والآخر: كان يجب أن يكون بنونين».

قال شهاب الدّين : «أمّا تخطئة النّحاس له فخطأ ؛ لأن الإتيان بالنّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمّا «عجّز» بالتشديد فليس معناه مقتصرا على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بطّأ ، وثبّط ، والقراءة معناها لائق بأحد المعنيين». وقرأ طلحة (٤) بكسر النون خفيفة.

قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٦٣)

قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

لمّا أوجب على رسوله أن يشرّد من صدر منه نقض العهد ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكفّار.

وقيل : إنّ الصحابة لمّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألّا يعودوا لمثله ، وأن يعدّوا للكفار ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة. والإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة. والمراد بالقوة : الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح.

قال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ على المنبر «ألا إنّ القوّة الرّمي ألا إنّ القوّة الرّمي ألا إنّ القوّة الرّمي» (٥).

__________________

(١) البيت ينظر : في الوساطة ٣١٩ شرح المفضليات للتبريزي ١ / ١٦٤ البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ الدر المصون ٣ / ٤٣٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٣١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٣١.

(٤) انظر السابق.

(٥) أخرجه مسلم كتاب الإمارة ١٦٧ والترمذي (٣٠٨٣) وأبو داود (٢٥١٤) وابن ماجه (٢٨١٣) وأحمد (٤ / ١٥٧) والبيهقي (١٠ / ١٣) وسعيد بن منصور (٢٤٤٨) والطيالسي (١١٨٢).

٥٥١

وقال بعضهم : القوة هي الحصون.

وقال أهل المعاني : هذا عام في كل ما يتقوى به على الحرب.

وقوله عليه الصلاة والسلام «القوّة هي الرّمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «الحجّ عرفة» (١) و «النّدم توبة» لا ينفي اعتبار غيره.

فإن قيل : قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) كان يكفي ، فلم خصّ الرمي والخيل بالذكر؟.

فالجواب : أنّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الّتي عقد الخير في نواصيها ، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان ، وبها يجال في الميدان ، خصّها بالذّكر تشريفا وأقسم بغبارها تكريما ، فقال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) [العاديات : ١] الآيات ، ولمّا كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوّ ، وأقربها تناولا للأرواح ، خصّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر لها ؛ ونظير هذا قوله تعالى : (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٨٩] بعد ذكر الملائكة ، ومثله كثير.

قوله «من قوّة» في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنّه الموصول ، والثاني : أنه العائد عليه ، إذ التقدير : ما استطعتموه حال كونه بعض القوة ، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس.

قوله : «ومن رباط» ، جوّزوا فيه أن يكون جمع «ربط» مصدر : ربط يربط ، نحو : كعب وكعاب ، وكلب وكلاب ، وأن يكون مصدرا ل «ربط» ، نحو : صاح صياحا.

قالوا : لأنّ مصادر الثلاثي لا تنقاس ، وأن يكون مصدر : «رابط» ، ومعنى المفاعلة : أنّ ارتباط الخيل يفعله كلّ واحد لفعل الآخر ، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضا ، قال معناه ابن عطيّة.

قال أبو حيّان : قوله «مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس» ليس بصحيح ، بل لها مصادر منقاسة ذكرها النحويون.

قال شهاب الدّين (٢) : «في المسألة خلاف مشهور ، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياس حتى يردّ عليه بالخلاف ؛ فإنّه قد يكون اختيار أحد المذاهب ، وقال به ، فلا يردّ عليه بالقول الآخر».

وقال الزمخشريّ : «والرّباط : الخيل التي تربط في سبيل الله ويجوز أن يسمّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع : ربيط يعني : بمعنى مربوط ، ك : فصيل وفصال. والمصدر هنا مضاف لمفعوله».

__________________

(١) أخرجه الطيالسي (١ / ٢٢٠ ـ منحة) رقم (١٠٥٦) وأحمد (٤ / ٣٣٥) والدارمي (٢ / ٥٩) وأبو داود (١٩٤٩) والترمذي (٣ / ٢٣٧) رقم (٨٨٩) والنسائي (٥ / ٢٥٦) وابن ماجه (٢ / ١٠٠٣) رقم (٣٠١٥) وابن الجارود رقم (٤٦٨) والدارقطني (٢ / ٢٤٠ ـ ٢٤١) والحاكم (١ / ٤٦٤) والبيهقي (٥ / ١١٦) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٣١.

٥٥٢

وقرأ الحسن (١) ، وأبو حيوة ، ومالك بن دينار : «ومن ربط» بضمتين ، وعن الحسن أيضا (٢) «ربط» بضم وسكون ، نحو : كتاب وكتب.

قال ابن عطيّة (٣) «وفي جمعه ، وهو مصدر غير مختلف نظر».

قال شهاب الدّين «لا نسلّم والحالة هذه أنه مصدر ، بل حكى أبو زيد أنّ «الرّباط» الخمسة من الخيل فما فوقها ، وأن جمعها «ربط» ولو سلّم أنّه مصدر فلا نسلّم أنّه لم تختلف أنواعه ، وقد تقدّم أنّ «رباطا» يجوز أن يكون جمعا ل «ربط» المصدر ، فما كان جوابا هناك ، فهو جواب هنا».

فصل

قال القرطبي (٤) : «روى أبو حاتم عن أبي زيد : الرّباط من الخيل : الخمس فما فوقها ، وجماعته «ربط» ، وهي التي ترتبط ، يقال منه : ربط يربط ربطا ، وارتبط يرتبط ارتباطا ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو» قال : [الكامل]

٢٧٢٨ ـ أمر الإله بربطها لعدوّه

في الحرب إنّ الله خير موفّق (٥)

روي أنّ رجلا قال لابن سيرين : إنّ فلانا أوصى بثلث ماله للحصون ، فقال : هي للخيل ؛ ألم تسمع قول الشاعر : [الكامل]

٢٧٢٩ ـ ولقد علمت على تجنّبي الرّدى

أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى (٦)

قال عكرمة : «رباط الخيل : الإناث» (٧) وهو قول الفرّاء ؛ لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها ، ذكره الواحديّ.

ولقائل أن يقول : بل حمل اللّفظ على الفحول أولى ؛ لأنّ المقصود برباط الخيل المحاربة عليها ، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو ، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها.

ولمّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي ، وهو كونه خيلا مربوطا سواء كانت فحولا أو إناثا.

__________________

(١) ينظر : إتحاف ٢ / ٨٢ ، الكشاف ٢ / ٢٣٢ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٢٥.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٣٧.

(٦) ينظر البيت في الكشاف ٢ / ١٦٦ تفسير الرازي ١٥ / ١٨٥ حاشية الشهاب ٤ / ٢٨٨.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٤٩) وعزاه إلى أبي الشيخ والبيهقي في «شعب الإيمان».

٥٥٣

وروي عن خالد بن الوليد «أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث ، لقلّة صهيلها» (١).

روى ابن محيريز قال : «كان الصّحابة يستحبّون ذكور الخيل عند الصفوف ، وإناث الخيل عند الشتات والغارات» (٢).

قال عليه الصّلاة والسّلام : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» (٣) وروى أبو هريرة قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله ، وتصديقا بوعده ، كان شبعه وريّه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة» (٤).

فصل

وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح ، واتخاذ الخزائن والخزان [لها عدة] للأعداء ، ويؤيده حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله ، وقوله عليه الصلاة والسلام في حقّ خالد : «وأمّا خالد فإنّكم تظلمون خالدا فإنّه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» (٥). وما روي أنّ امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله ، فأراد زوجها الحجّ ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجّ فريضة من الله» ؛ ولأنّه مال ينتفع به في وجه قربة ، فجاز أن يوقف كالرباع.

ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ؛ لأنّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم.

قوله «ترهبون» يجوز أن يكون حالا من فاعل : «أعدّوا» ، أي : حصّلوا لهم هذا

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٩).

(٢) انظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه مالك (١ / ٣١٠) وأحمد (٤٦١٦ ـ شاكر) والبخاري (٢٨٤٩ ، ٣٦٤٤) ومسلم (١٨٧١) والنسائي (٦ / ٢٢١) وابن ماجه (٢٧٨٧) من حديث ابن عمر وأخرجه أحمد (٤ / ٣٧٥ ، ٣٧٦) والبخاري (٣٨٥٠ ، ٣٨٥٢ ، ٣٢٢٩) ومسلم (١٨٧٣) والترمذي (١٦٧٥) والنسائي (٦ / ٢٢٢) وابن ماجه (٢٣٠٥) والحميدي (٨٤١ ، ٨٤٢) من حديث عروة البارقي.

وأخرجه أحمد (١٤٤ ، ١٢٧ ، ١٧١) والبخاري (٢٨٥١) ومسلم (١٨٧٤) والنسائي (٦ / ٢٢١) من حديث أنس.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ٦٧) كتاب الجهاد باب من احتبس فرسا حديث (٢٨٥٣) والنسائي (٦ / ٢٢٥) وأحمد (٢ / ٣٧٤) والحاكم (٢ / ٩٢) والبيهقي (١٠ / ١٦) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٣٢) من حديث أبي هريرة.

(٥) أخرجه البخاري كتاب الجهاد : باب بغلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١ / ٣١٦) ومسلم (١ / ٣١٦).

٥٥٤

حال كونكم مرهبين ، وأن يكون حالا من مفعوله ، وهو الموصول ، أي : أعدّوه مرهبا به.

وجاز نسبته لكلّ منهما ؛ لأنّ في الجملة ضميريها ، هذا إذا أعدنا الضمير من «به» على «ما» الموصولة ، أمّا إذا أعدناه على الإعداد المدلول عليه ب : «أعدّوا» ، أو على «الرّباط» ، أو على : «القوّة» بتأويل الحول ؛ فلا يتأتّى مجيئها من الموصول ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير «لهم» ، كذا نقله أبو حيّان عن غيره ، فقال : «ترهبون» قالوا : حال من ضمير «أعدّوا» ، أو من ضمير «لهم» ، ولم يتعقّبه بنكير ، وكيف يصحّ جعله حالا من الضمير في «لهم» ولا رابط بينهما؟ ولا يصحّ تقدير ضمير في جملة «ترهبون» لأخذه معموله. وقرأ الحسن (١) ويعقوب ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو : «ترهبون» مضعّفا عدّاه بالتضعيف ، كما عدّاه العامّة بالهمزة ، والمفعول الثّاني على كلتا القراءتين محذوف ؛ لأنّ الفعل قبل النّقل بالهمزة ، أو بالتّضعيف متعدّ لواحد ، نحو : «رهّبتك» والتقدير : ترهّبون عدوّ الله قتالكم ، أو لقاءكم.

وزعم أبو حاتم أنّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن (٢) بياء الغيبة وتخفيف «يرهبون» ، وهي قراءة واضحة ، فإنّ الضمير حينئذ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير «لهم» ، فإنّهم إذا خافوا خوّفوا من وراءهم.

قوله (عَدُوَّ اللهِ) العامّة قرءوا بالإضافة ، وقرأ السلميّ (٣) منونا ، و «لله» بلام الجرّ ، وهو مفرد ، والمراد به الجنس ، فمعناه : أعداء لله.

قال صاحب اللّوامح «وإنما جعله نكرة بمعنى العامّة ؛ لأنّها نكرة أيضا لم تتعرّف بالإضافة إلى المعرفة ؛ لأنّ اسم الفاعل بمعنى الحال ، أو الاستقبال ، ولا يتعرّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف ، وأمّا (وَعَدُوَّكُمْ) فيجوز أن يكون كذلك نكرة ، ويجوز أن يتعرّف لأنه قد أعيد ذكره ، ومثله : رأيت صاحبا لكم ، فقال لي صاحبكم» يعني : أن «عدوّا» يجوز أن يلمح فيه الوصف فلا يتعرّف ، وألّا يلمح فيتعرف.

قوله «وآخرين» نسق على (عَدُوَّ اللهِ) ، و (مِنْ دُونِهِمْ) صفة ل «آخرين».

قال ابن عطيّة : (مِنْ دُونِهِمْ) بمنزلة قولك : دون أن تكون هؤلاء ، ف «دون» في كلام العرب ، و (مِنْ دُونِ) تقتضي عدم المذكور بعدها من النّازلة التي فيها القول ؛ ومنه المثل: [الكامل]

__________________

(١) وقرأ بها أيضا رويس.

ينظر : إتحاف ٢ / ٨٢ ، الكشاف ٢ / ٢٣٢ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٣١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٦ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٨ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٢.

٥٥٥

٢٧٣٠ ـ ..........

وأمرّ دون عبيدة الوذم (١)

يعني : أنّ الظّرفية هنا مجازية ، لأنّ «دون» لا بد أن تكون ظرفا حقيقة ، أو مجازا.

قوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) في هذه الآية قولان :

أحدهما : أنّ «علم» هنا متعدّية لواحد ؛ لأنها بمعنى «عرف» ، ولذلك تعدّت لواحد.

والثاني : أنّها على بابها ، فتتعدى لاثنين ، والثاني محذوف ، أي : لا تعلمونهم فازعين ، أو محاربين.

ولا بدّ هنا من التّنبيه على شيء ، وهو أنّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله : (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) بل يجب أن يقال : إنّها المتعدية إلى اثنين ، وأنّ ثانيهما محذوف ، لما تقدّم من الفرق بين العلم والمعرفة. منها : أنّ المعرفة تستدعي سبق جهل ، ومنها : أن متعلقها الذوات دون النسب ، وقد نصّ العلماء على أنّه لا يجوز أن يطلق ذلك ـ أعني الوصف بالمعرفة ـ على الله تعالى.

فصل

قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ).

قال الحسن وابن زيد : «هم المنافقون». «لا تعلمونهم» ؛ لأنهم معكم يقولون : لا إله إلا الله (٢) وقال مجاهد ومقاتل : «هم بنو قريظة» (٣) وقال السديّ : «هم أهل فارس» (٤).

وروى ابن جريج عن سلمان بن موسى قال : هم كفّار الجن (٥) ، لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «وآخرين من دونهم لا تعلمونهم» فقال : إنّهم الجنّ ، ثم قال : «إنّ الشّيطان لا يخبّل أحدا في دار فيها فرس حبيس» وعن الحسن : أنه قال : «صهيل الفرس يرهب الجن» (٦).

وقيل : المراد العدو من المسلمين ، فكما أنّ المسلم يعاديه الكافر ، فقد يعاديه المسلم أيضا.

ثم قال تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) فهذا عام في الجهاد ، وفي سائر وجوه الخيرات : «يوفّ إليكم».

__________________

(١) عجز بيت لطرفة بن العبد وصدره :

ولقد هممت بذاك إذ حبست

 ..........

ينظر : ديوانه (١٢٥) جمهرة الأمثال ١ / ١٦٥ مجمع الأمثال ٣ / ٢٨٣ والبحر المحيط ٤ / ٥٠٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٦) عن ابن زيد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٦).

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٥٩).

(٦) انظر المصدر السابق.

٥٥٦

قال ابن عبّاس : «يوفّ لكم أجره» أي : لا يضيع في الآخرة أجره (١) ؛ (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي : لا تنقصون من الثّواب. ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى (آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣].

قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) الآية.

لمّا بيّن ما يرهب به العدو من القوة ، بيّن بعده أنّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة ، فالحكم قبول المصالحة ، والجنوح : الميل ، وجنحت الإبل : أمالت أعناقها ؛ قال ذو الرّمّة : [الطويل]

٢٧٣١ ـ إذا مات فوق الرّحل أحييت روحه

بذكراك والعيس المراسيل جنّح (٢)

يقال : جنح اللّيل : أقبل.

قال النضر بن شميل : «جنح الرّجل إلى فلان ، ولفلان : إذا خضع له» والجنوح الاتّباع أيضا لتضمّنه الميل ؛ قال النّابغة ـ يصف طيرا يتبع الجيش : [الطويل]

٢٧٣٢ ـ جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله

إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب (٣)

ومنه «الجوانح» للأضلاع ، لميلها على حشوة الشخص ، والجناح من ذلك ، لميلانه على الطّائر ، وقد تقدّم الكلام على بعض هذه المادة في البقرة.

قوله «للسّلم» تقدّم الكلام على «السلم» في البقرة ، وقرأ أبو بكر (٤) عن عاصم هنا بكسر السين ، وكذا في القتال : (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) ، ووافقه حمزة على ما في القتال و «للسّلم» متعلق ب «جنحوا».

فقيل : يتعدّى بها ، وب «إلى».

وقيل : هنا بمعنى «إلى». وقرأ الأشهب (٥) العقيليّ : «فاجنح» بضمّ النّون ، وهي لغة قيس ، والفتح لغة تميم.

والضمير في «لها» يعود على «السلم» ؛ لأنّها تذكّر وتؤنث ؛ ومن التّأنيث قوله : [المتقارب]

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٤٩).

(٢) البيت في ديوانه ٢ / ١٢١٥ ، اللسان [جنح] تفسير القرطبي ٨ / ٣٩ البحر المحيط ٤ / ٥٠٩ الدر المصون ٣ / ٤٣٣.

(٣) البيت في ديوانه ص (١٠) وتفسير الطبري ١٤ / ٤٠ القرطبي ٨ / ٣٩ البحر المحيط ٤ / ٥٠٩ الدر المصون ٣ / ٤٣٣.

(٤) وقرأ بها أيضا شعبة.

ينظر : السبعة ص (٣٠٨) ، الحجة ٤ / ١٥٨ ، حجة القراءات ص (٣١٢) ، إعراب القراءات ١ / ٢٣٠ ، إتحاف ٢ / ٨٢.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٤٨ ، البحر المحيط ٤ / ٥٠٩ ، الدر المصون ٣ / ٤٣٣.

٥٥٧

٢٧٣٣ ـ وأقنيت للحرب آلاتها

وأعددت للسّلم أوزارها (١)

وقال آخر : [البسيط]

٢٧٣٤ ـ السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع (٢)

وقيل : أثبت الهاء في «لها» ؛ لأنّه قصد بها الفعلة والجنحة ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف : ١٥٣] أراد : من بعد فعلتهم.

وقال الزمخشريّ : «السّلم تؤنّث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب». وأنشد البيت المتقدم : السّلم تأخذ منها.

فصل

قال الحسن وقتادة : هذه الآية نسخت بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥].

وقوله (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [التوبة : ٢٩].

وقال غيرهما : ليست منسوخة ؛ لكنها تتضمّن الأمر بالصّلح إذا كان الصلاح فيه ، فإذا رأى مصالحتهم ، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه هادن أهل مكّة عشر سنين ، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدّة.

وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : فوّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) نبّه بذلك على الزّجر عن نقض العهد ؛ لأنّه عالم بما يضمر العبد سميع لما يقوله.

قال مجاهد : «نزلت في قريظة والنضير» وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها (٣).

قوله تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) الآية.

أي : يريدوا أن يغدروا ويمكروا بك.

قال مجاهد : يعني : بني قريظة (٤)(فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي : بالأنصار.

فإن قيل : لما قال : «هو الذي أيّدك» فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتّى قال «وبالمؤمنين».

__________________

(١) البيت من شواهد البحر ٤ / ٥٠٩ الدر المصون ٣ / ٤٣٣.

(٢) البيت للعباس بن مرداس ينظر : ديوانه (٨٦) الخزانة ٤ / ١٨ إصلاح المنطق ٣٠ والرازي ١٥ / ١٨٧ حاشية الشيخ يس ٢ / ٢٨٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٥٩) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) تقدم.

٥٥٨

فالجواب : أنّ التّأييد ليس إلّا من الله ، لكنه على قسمين :

أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة.

والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معتادة.

فالأول : هو المراد بقوله : «أيّدك بنصره».

والثاني : هو المراد بقوله : «وبالمؤمنين».

ثم بيّن كيف أيد بالمؤمنين ، فقال (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم إحن وخصومات ، ومحاربة في الجاهليّة ، فصيّرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية ، والمخالصة التّامة ، ممّا لا يقدر عليه إلّا الله تعالى.

(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : قادر قاهر ، يمكنه التصرف في القلوب ، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة ، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان ، أو مطابقا للمصلحة والصّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد ، والإرادات كلها من خلق الله تعالى ؛ لأن تلك الألفة ، والمودة ، إنّما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلو كان الإيمان فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى ، لكانت المحبّة المترتبة عليه فعلا للعبد لا فعلا لله تعالى ، وذلك خلاف صريح الآية.

قال القاضي : «لو لا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة ، لما حصلت هذه الأحوال ، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التّأويل ، كما يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه ، لأجل أنّه لم يحصل ذلك إلّا بمعونة الأب وتربيته ، فكذا ههنا».

وأجيب : بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، وحمل الكلام على المجاز ، وأيضا فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار ، مثل حصولها في حقّ المؤمنين ، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف ؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة ، وأيضا فالبرهان العقلي مقوّ لهذا الظّاهر ؛ لأن القلب يصح أن يصير موصوفا بالرّغبة بدلا عن النّفرة والعكس.

فرجحان أحد الطّرفين على الآخر لا بدّ له من مرجّح ، فإن كان المرجح هو العبد عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى ، فهو المقصود.

فعلم أنّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي ، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي.

٥٥٩

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(٦٦)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) الآية.

لمّا وعده بالنّصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنّصر والظفر في هذه الآية مطلقا ، وعلى هذا التقرير لا يلزم منه التكرار ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، والمراد بقوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الأنصار.

وعن ابن عبّاس : «نزلت في إسلام عمر» (١).

قال سعيد بن جبير : «أسلم مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، فنزلت هذه الآية» (٢).

قال المفسّرون : فعلى هذا القول هذه الآية مكية ، [كتبت في] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) فيه أوجه.

أحدها : أن يكون «من» مرفوع المحلّ ، عطفا على الجلالة ، أي : يكفيك الله والمؤمنون. وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك من حيث المعنى.

فإن قالوا : من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله ، أو ينقص بسبب نصرة غير الله ، وأيضا إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنّ الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم وتعالى الله عنه.

ويجاب : بأنّ الكلّ من الله ، إلّا أنّ من أنواع النّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ، ومنها ما يحصل لا بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين ، وإن كان بعض الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأوّل الآية على ما سنذكره.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٥٣) عن ابن عباس.

(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٣١) عن ابن عباس وعزاه للطبراني وقال : وفيه إسحق بن بشر الكاهلي وهو كذاب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٦٢) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ وذكره السيوطي (٣ / ٣٦٢) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

٥٦٠