اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

رأوه قالوا : من أنت؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأيا ونصحا ، قالوا : ادخل فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتقيّدوه ، وتحبسوه في بيت وتسدّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربّصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء ، فصرخ عدوّ الله الشيخ النّجدي وقال : بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم.

قالوا : صدق الشّيخ.

وقال بعضهم : أخرجوه من عندكم تستريحوا من أذاه لكم.

فقال إبليس : ما هذا برأي ، تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ، ألم تروا حلاوة منطقه ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا : صدق والله الشيخ.

فقال أبو جهل : إنّي أرى أن تأخذوا من كلّ بطن من قريش شابّا نسيبا وسطا فتيّا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يضربوه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه بين القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها فيرضون بأخذ الدّية فتؤدي قريش ديته.

فقال إبليس : صدق هذا الفتى وهو أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوحى الله تعالى إلى نبيّه بذلك ، وأذن له في الخروج إلى المدينة ، وأمره ألّا يبيت في مضجعه ، فأمر الرسول عليّا أن يبيت في مضجعه وقال : اتّشح ببردتي ؛ فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه ، ثمّ خرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ قبضة من تراب ، وأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التّراب على رءوسهم ، وهو يقرأ (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله : (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٨ ـ ٩] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلف عليّا بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته ، وباتوا مترصّدين ، فلمّا أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا.

وقالوا له : أين صاحبك؟.

قال : لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ؛ فمكث فيه ثلاثا ثم قدم المدينة فذلك قوله : «وإذ يمكر بك الذين كفروا» (١).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٢٦) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٤٦٦ ـ ٤٦٨).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الدلائل.

٥٠١

قوله «ليثبتوك» متعلّق ب «يمكر» والتثبيت هنا الضّرب ، حتّى لا يبقى للمضروب حركة ؛ قال : [البسيط]

٢٦٩٨ ـ فقلت : ويحك ماذا في صحيفتكم؟

قالوا : الخليفة أمسى مثبتا وجعا (١)

وقرأ (٢) ابن وثّاب «ليثبّتوك» فعدّاه بالتضعيف ، وقرأ النخعي (٣) «ليبيتوك» من البيات والمعنى :

قال ابن عبّاس : ليوثقوك ومن شد فقد أثبت ؛ لأنّه لا يقدر على الحركة ، ولهذا يقال لمن اشتدّت به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثبت فلان ، فهو مثبت (٤).

وقيل : ليسجنوك ، وقيل : ليثبتوك في بيت ، أو يقتلوك ، وهو ما حكي من أبي جهل «أو يخرجوك» من مكّة كما تقدم.

ثم قال : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) قال الضحاك : يصنعون ويصنع الله ، والمكر من الله التدبير بالحقّ ، وقيل : يجازيهم جزاء المكر. (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وقد تقدّم الكلام في تفسير «المكر» في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ).

فإن قيل : كيف قال (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ولا خير في مكرهم؟.

فالجواب من وجوه : أحدها : أنّ المراد أقوى الماكرين ، فوضع «خير» موضع «أقوى» تنبيها على أنّ كلّ مكر ، فإنّه يبطل في مقابلة فعل الله تعالى.

وثانيها : أنّ المراد لو قدر في مكرهم ما يكون خيرا.

وثالثها : أنّ المراد ليس هو التفضيل ، بل المراد أنّه في نفسه خير كقولك : الزبد خير من

الله ، أي : من عند الله.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣١)

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) الآية.

لمّا حكى مكرهم في ذات محمّد ، حكى مكرهم في دين محمّد.

روي أنّ النّضر بن الحارث كان يختلف تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم وسفنديار ، وأحاديث العجم ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة ، ويمر باليهود

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨١ ، القرطبي ٧ / ٢٥٢ ، والدر اللقيط ٤ / ٤٨٧ وروح المعاني ٩ / ١٩٧ ، والدر المصون ٣ / ٤١٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٥ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥١٩ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨١ ، الدر المصون ٣ / ٤١٤.

(٣) المصدر السابق.

(٤) جاء في لسان العرب : ثبت وأثبت فلان ، فهو مثبت إذا اشتدت به علته أو أثبته جراحه فلم يتحرك.

٥٠٢

والنصارى فيراهم يقرءون التوراة والإنجيل ، ويركعون ويسجدون فجاء مكّة فوجد محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ويقرأ القرآن ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأوّلين أخبار الأمم الماضية وأسماءهم ، وما سطر الأولون في كتبهم.

وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمّد من قصص الأولين ، فهذا هو المراد من قوله : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، والأساطير : جمع أسطورة وهي المكتوبة.

فإن قيل : الاعتماد على كون القرآن معجزا هو أنّ الله تعالى تحدّى العرب بمعارضته فلم يأتوا بها ، وهذه الآية تدلّ على أنه أتى بالمعارضة.

فالجواب : أن كلمة «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، فقوله : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) يدلّ على أنه ما شاء ذلك القول ، وما قالوا ؛ فثبت أنّ النضر بن الحارث أقرّ أنّه ما أتى بالمعارضة ، وإنّما أخبر أنه لو شاء أتى بها ، والمقصود إنّما يحصل لو أتى بالمعارضة أمّا مجرّد هذا القول ، فلا فائدة فيه.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣٤)

قوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ).

نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدّار.

قال ابن عباس : لمّا قصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأن القرون الماضية قال النّضر : لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوّلون في كتبهم.

فقال له عثمان بن مظعون : اتق الله فإن محمدا يقول الحقّ ، قال : وأنا أقول الحق.

قال عثمان : فإنّ محمدا يقول : لا إله إلّا الله ، قال : وأنا أقول : لا إله إلّا الله ولكن هذه بنات الله ، يعني : الأصنام.

ثم قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا) الذي يقوله محمد «هو الحقّ من عندك» (١).

فإن قيل : في الآية إشكال من وجهين :

أحدهما : أن قوله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ) الآية. حكاه الله عن كلام الكفّار ، وهو من جنس نظم القرآن ، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٥).

٥٠٣

سورة الإسراء قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات ، وهذا أيضا كلام الكفّار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ، فدلّ على حصول المعارضة.

الوجه الثاني : أنّ كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله ، وقدرته ، وكانوا قد سمعوا التّهديد الكثير من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نزول العذاب ، فلو كان القرآن معجزا لعرفوا كونه معجزا ، لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، ولو عرفوا ذلك لكان أقلّ الأحوال أن يشكّوا في نبوّة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، ولو كانوا كذلك لما أقدموا على قولهم : «اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء» ؛ لأن الشّاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنّه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة.

فالجواب عن الأول : أنّ الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة ؛ لأنّ هذا القدر كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة.

والجواب عن الثّاني : هب أنّه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجزا إلّا أنّه لما كان معجزا في نفسه ، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال.

قوله «هو الحقّ» العامّة على نصب «الحقّ» وهو خبر الكون ، و «هو» فصل ، وقد تقدّم الكلام عليه.

وقال الأخفش : «هو» زائد ، ومراده ما تقدّم من كونه فصلا.

وقرأ الأعمش (١) ، وزيد بن عليّ : برفع «الحقّ» ووجهها ظاهر ، برفع «هو» بالابتداء و «الحق» خبره ، والجملة خبر الكون ؛ كقوله : [الطويل]

٢٦٩٩ ـ تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر (٢)

وهي لغة تميم. وقال ابن عطية : ويجوز في العربية رفع «الحقّ» على خبر «هو» والجملة خبر ل «كان».

قال الزّجّاج (٣) «ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز» ، وقد ظهر من قرأ به وهما رجلان جليلان.

قوله : «من عندك» حال من معنى «الحقّ» : أي : الثّابت حال كونه من عندك.

وقوله «من السّماء» فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلق بالفعل قبله.

والثاني : أنه صفة ل «حجارة» فيتعلق بمحذوف.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٦ ـ ٢١٧ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٢١ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٢ ، الدر المصون ٣ / ٤١٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٥٥.

٥٠٤

وقوله : «من السّماء» مع أنّ المطر لا يكون إلّا منها ، قال الزمخشريّ : «كأنه أراد أن يقال : فأمطر علينا السّجّيل ، فوضع حجارة من السماء موضع السّجّيل كما يقال : صب عليه مسرودة من حديد ، تريد درعا».

قال أبو حيان (١) : «إنّه يريد بذلك التّأكيد» قال : «كما أنّ قوله : «من حديد» معناه التأكيد ؛ لأنّ المسرود لا يكون إلّا من حديد ، كما أنّ الأمطار لا تكون إلّا من السّماء».

وقال ابن عطيّة (٢) : «قولهم (مِنَ السَّماءِ) مبالغة وإغراق».

قال أبو حيّان : «والذي يظهر أنّ حكمة قولهم : (مِنَ السَّماءِ) هي مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر عليه الصلاة السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها ، أي : إنّك تذكر أن الوحي يأتيك من السّماء ، فأتنا بالعذاب من الجهة الّتي يأتيك الوحي منها ، قالوه استبعادا له».

فصل

قال عطاء : «لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر» (٣).

قال سعيد بن جبير «قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا طعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط ، والنّضر بن الحارث» (٤). وروى أنس أن الذي قال هذا الكلام أبو جهل(٥).

قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) اللّام في «ليعذّبهم» قد تقدّم أنها لام الجحود ، والجمهور على كسرها ، وقرأ أبو السّمّال (٦) : بفتحها.

قال ابن عطية عن أبي زيد : «سمعت من العرب من يقول «ليعذّبهم» بفتح اللّام ، وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن». يعني في المشهور منه ، ولم يعتدّ بقراءة أبي السمال ، وروى ابن مجاهد (٧) عن أبي زيد فتح كلّ لام عن بعض العرب إلّا في

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٢١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢٨) وعزاه للطبري.

وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٠) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٥).

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ١٥٨) كتاب التفسير : باب وإذ قالوا الله م إن كان هذا هو الحق من عندك ......

حديث (٤٦٤٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ٧٥) عن أنس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٢١ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٣ ، الدر المصون ٣ / ٤١٥.

(٧) المصدر السابق.

٥٠٥

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] وروى عبد الوارث عن أبي عمرو : فتح لام الأمر من قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤] ، وأتى بخبر «كان» الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية فإنّه إمّا أن يكون محذوفا ، وهو الإرادة كما يقدّره البصريون أي : ما كان الله مريدا لتعذيبهم وانتفاء إرادة العذاب أبلغ من نفي العذاب ، وإمّا أنه أكّده باللّام على رأي الكوفيين لأنّ كينونته فيهم أبلغ من استغفارهم ، فشتّان بين وجوده عليه الصّلاة والسّلام ، وبين استغفارهم.

وقوله «وأنت فيهم» حال ، وكذلك (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).

والظّاهر أنّ الضمائر كلّها عائدة على الكفار.

وقيل : الضمير في «يعذّبهم» و «معذّبهم» للكفّار ، والضمير من قوله «وهم» للمؤمنين.

وقال الزمخشريّ : (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) في موضع الحال ، ومعناه : نفي الاستغفار عنهم أي : ولو كانوا ممّن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذّبهم ، كقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود : ١١٧] ولكنهم لا يستغفرون ، ولا يؤمنون ولا يتوقّع ذلك منهم. وهذا المعنى الذي ذكره منقول عن قتادة ، وأبي زيد ، واختاره ابن جرير.

فصل

قال أبو العباس المقرىء : ورد لفظ «في» في القرآن بإزاء ستّة أوجه :

الأول : بمعنى «مع» كهذه الآية ، وقوله تعالى : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩] أي : مع عبادك ، ومثله : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩].

الثاني : بمعنى «على». قال تعالى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] أي : على جذوع النخل ، ومثله : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ). أي : عليه.

الثالث : بمعنى «إلى» قال تعالى (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] أي : إليها.

الرابع : بمعنى «عن» قال تعالى (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] أي : عن هذه الآيات.

الخامس : بمعنى «من» قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ) [النحل : ٨٩] أي: من كل أمة «شهيدا».

السادس : بمعنى «عند» قال تعالى (كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٦٢].

فصل

اختلفوا في معنى هذه الآية : فقال محمد بن إسحاق : هذا حكاية عن المشركين ، وهذه الآية متصلة بالآية التي قبلها ، وذلك أنّهم كانوا يقولون إنّ الله لا يعذبنا ونحن

٥٠٦

نستغفره ، ولا يعذب الله أمة ونبيها معها ، فقال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكّره جهالتهم وغرتهم قال : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] الآية وقال (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال : ٣٣] ثم قال ردّا عليهم (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) وإن كنت بين أظهرهم ، وإن كانوا يستغفرون (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وقال آخرون : هذا الكلام مستأنف يقول الله إخبارا عن نفسه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) واختلفوا في تأويلها.

فقال الضحاك ، وجماعة : تأويلها : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم ، قالوا : نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقيّة من المسلمين يستغفرون الله ؛ فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ثم خرج أولئك من بينهم فعذّبوا وأذن الله في فتح مكّة ، وهو العذاب الأليم الذي وعدهم الله» (١).

قال ابن عباس «لم يعذّب الله قرية حتى يخرج النبي منها ، والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر»(٢).

قال أبو موسى الأشعريّ : كان فيكم أمانان : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد مضى ، والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة (٣).

فإن قيل : لمّا كان حضوره مانعا من نزول العذاب بهم ، فكيف قال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤]؟.

فالجواب : المراد من الأوّل عذاب الاستئصال ، ومن الثاني : العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٦).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٤) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٦) عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٤) عن أبي موسى وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٦).

وقد ورد هذا مرفوعا من حديث أبي موسى.

أخرجه الترمذي (٦٥ / ٢٥٢) كتاب التفسير حديث (٣٠٨٢) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة عن أبيه مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب وإسماعيل بن مهاجر يضعف في الحديث. قلت : وأثر أبي موسى الموقوف له شواهد عن أبي هريرة وابن عباس. أثر أبي هريرة :

أخرجه الحاكم (١ / ٢٤٥) والبيهقي في «شهب الإيمان» رقم (٦٥٤) وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وقد اتفقا على أن تفسير الصحابي حديث مسند ووافقه الذهبي.

أثر ابن عباس :

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» رقم (٦٥٥).

٥٠٧

وقال السديّ : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي : لو استغفروا ، ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقرّوا بالذّنب واستغفروا لكانوا مؤمنين (١).

وقال عكرمة : (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يسلمون ، يقول : لو أسلموا لما عذبوا (٢) ، وروى الوالبي عن ابن عبّاس : أي : وفيهم من سبق له من الله أنه يؤمن ويستغفر كأبي سفيان ، ومصعب بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام ، وغيرهم (٣).

وروى عبد الوهاب عن مجاهد : (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي : وفي أصلابهم من يستغفر(٤).

قوله تعالى (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) الآية.

في «أن» وجهان :

أظهرهما : أنّها مصدرية ، وموضعها إما نصب ، أو جرّ ؛ لأنّها على حذف حرف الجر ، إذ التقدير : في ألّا يعذّبهم ، وهذا الجارّ متعلق بما تعلّق به : «لهم» من الاستقرار ، والتقدير : أيّ شيء استقر لهم في عدم تعذيب الله إياهم؟ بمعنى : لا حظ لهم في انتفاء العذاب.

والثاني : أنّها زائدة وهو قول الأخفش.

قال النّحّاس (٥) : لو كانت كما قال لرفع «يعذّبهم». يعني النّحاس : فكان ينبغي أن يرتفع الفعل على أنه واقع موقع الحال ، كقوله : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ) [المائدة : ٨٤] ولكن لا يلزم من الزيادة عدم العمل ، ألا ترى : أنّ «من» و «الباء» يعملان وهما مزيدتان.

وقال أبو البقاء (٦) : «وقيل هو حال ، وهو بعيد ، لأنّ «أن» تخلّص الفعل للاستقبال».

والظّاهر أنّ «ما» في قوله (وَما لَهُمْ) استفهامية ، وهو استفهام معناه التقرير ، أي : كيف لا يعذّبون وهم متّصفون بهذه الحال؟.

وقيل : «ما» نافية ، فهي إخبار بذلك ، أي : ليس عدم التّعذيب ، أي : لا ينتفي عنهم التعذيب مع تلبسهم بهذه الحال.

فصل

معنى الآية : وما يمنعهم من أن يعذبوا ، أي : بعد خروجك من بينهم : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : يمنعون المؤمنين من الطّواف ، وقيل : أراد بالعذاب بالأوّل عذاب الدّنيا ، وبهذا عذاب الآخرة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٥) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٦.

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٦) من طريق عبد الوهاب عن مجاهد.

(٥) ينظر : إعراب القرآن للنحاس ١ / ٦٧٥.

(٦) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ٦.

٥٠٨

وقال الحسن : قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [الأنفال : ٣٣] منسوخة بقوله : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الأنفال : ٣٤].

قوله (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنّها استئنافية ، والهاء تعود على المسجد أي : وما كانوا أولياء المسجد.

والثاني : أنّها نسق على الجملة الحاليّة قبلها وهي : (وَهُمْ يَصُدُّونَ) والمعنى : كيف لا يعذّبهم الله ، وهم متّصفون بهذين الوصفين : صدّهم عن المسجد الحرام ، وانتفاء كونهم أولياءه؟ ويجوز أن يعود الضّمير على الله تعالى ، أي : لم يكونوا أولياء الله.

فصل

قال الحسن : كان المشركون يقولون : نحن أولياء المسجد الحرام ، فردّ الله عليهم بقوله : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي : أولياء البيت : «إنّ أولياؤه» أي : ليس أولياء البيت (إِلَّا الْمُتَّقُونَ) يعني المؤمنين الذين يتّقون الشرك ، ويحترزون عن المنكرات ، كالذي كانوا يفعلونه عند البيت ، فلهذا قال بعده : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ولكن أكثرهم لا يعلمون (١).

قوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)(٣٥)

لمّا ذكر أنّهم ليسوا أولياء البيت الحرام بيّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت ، وهو أنّ صلاتهم عند البيت إنّما كان بالمكاء والتّصدية.

أي : ما كان شيء ممّا يعدّونه صلاة وعبادة إلا هذين الفعلين ، وهما المكاء والتصدية أي : إن كان لهم صلاة فلا تكن إلّا هذين ، كقول الشّاعر : [الطويل]

٢٧٠٠ ـ وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا (٢)

فأقام القيود ، والسّياط مقام العطاء ، والمكاء : مصدر مكا يمكو ، أي : صفر بين أصابعه أو بين كفّيه.

قال الأصمعي : قلت لمنتجع بن نبهان : ما تمكو فريصته؟.

فشبّك بين أصابعه ، وجعلها على فيه ، ونفخ فيها. يريد قول عنترة : [الكامل]

٢٧٠١ ـ وحليل غانية تركت مجدّلا

تمكو فريصته كشدق الأعلم (٣)

يقال : مكت الفريصة ، أي : صوّتت بالدّم ، ومكت است الدّابة ، أي : نفخت بالرّيح

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٦) والبغوي (٢ / ٢٤٧.

(٢) انظر : المصادر السابقة.

(٣) تقدم.

٥٠٩

وقال مجاهد : المكاء : صفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز (١) ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٢٧٠٢ ـ إذا غرّد المكّاء في غير روضة

فويل لأهل الشّاء والحمرات (٢)

المكّاء : فعّال ، بناء مبالغة ؛ قال أبو عبيدة : «يقال : مكا يمكو مكوّا ومكّاء : صفر ، والمكاء : بالضّمّ ، كالبكاء والصّراخ».

قال الزمخشريّ : «المكاء : فعال ، بوزن : الثّغاء والرّغاء ، من مكا يمكو : إذا صفر والمكاء : الصّفير» ومنه : المكّاء : وهو طائر يألف الرّيف ، وجمعه المكاكيّ.

قيل : ولم يشذّ من أسماء الأصوات بالكسر إلّا الغناء ، والنّداء. والتّصدية فيها قولان :

أحدهما : أنها من الصّدى ، وهو ما يسمع من رجع الصّوت في الأمكنة الخالية الصّلبة يقال منه : صدى يصدي تصدية ، والمراد بها هنا : ما يسمع من صوت التّصفيق بإحدى اليدين على الأخرى.

وقيل : هي مأخوذة من التّصددة ، وهي الضّجيج ، والصّياح ، والتصفيق ، فأبدلت إحدى الدّالين ياء تخفيفا ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) في قراءة من كسر الصّاد ، أي : يضجّون ويلغطون ، وهذا قول أبي عبيدة ، وردّه عليه أبو جعفر الرّستمي ، وقال : إنّما هو من الصّدي ، فكيف يجعل من المضعّف؟ وقد ردّ أبو عليّ على أبي جعفر ردّه وقال «قد ثبت أنّ يصدّون من نحو الصّوت ، فأخذه منه ، وتصدية : تفعلة» ثم ذكر كلاما كثيرا.

والثاني : أنّها من الصّدّ ، وهو المنع ؛ والأصل : تصددة ، بدالين أيضا ، فأبدلت ثانيتهما ياء ويؤيّد هذا قراءة من قرأ (٣) «يصدّون» بالضّمّ ، أي : يمنعون. وقرأ العامّة : «صلاتهم» رفعا ، «مكاء» نصبا (٤).

وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم (٥) بخلاف عنهما : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ) نصبا ،

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٢٤) ، الطبري ١٣ / ٥٢١ ، القرطبي ٧ / ٢٥٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٦٨ ، اللسان «حلل» ، التهذيب ١٠ / ٤١١ ، والقصائد العشر ٣٥١ والدر المصون ٣ / ٤١٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٠) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الصاحبي ٤١٦ ، البحر المحيط ٤ / ٤٦٩ ، التهذيب ٨ / ٤٣٩ ، اللسان «مكا» ، والمقاييس ٢ / ١٠٢ ، والقرطبي ٧ / ٢٥٤ ، أدب الكاتب ص ١٩٣ والدر المصون ٣ / ٤١٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤١٧.

(٥) استشهد النحاة بهذه الآية على امتناع توسط خبر كان وأخواتها بينها وبين الاسم وكان هذا أحد المواضع لامتناع هذا التوسط وأيضا إذا خفي إعراب الاسم والخبر ولا قرينة تميز أحدهما من الآخر إلّا الرتبة ـ

٥١٠

«مكاء» رفعا وخطّأ الفارسيّ هذه القراءة (١) ، وقال : لا يجوز أن يخبر عن النّكرة بالمعرفة إلّا في ضرورة ؛ كقول حسّان : [الوافر]

٢٧٠٣ ـ كأنّ سبيئة من بيت رأس

يكون مزاجها عسل وماء (٢)

وخرّجها أبو الفتح على أنّ «المكاء» و «التصدية» اسما جنس ، يعني : أنّهما مصدران.

قال : واسم الجنس تعريفه وتنكيره متقاربان ، فلم يقال بأيّهما جعل اسما ، والآخر خبرا؟ وهذا يقرب من المعرّف ب «أل» الجنسيّة ، حيث وصف بالجملة ، كما يوصف به النكرة ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ؛ وقول الآخر : [الكامل]

٢٧٠٤ ـ ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت : لا يعنيني (٣)

وقال بعضهم : وقد قرأ أبو عمرو (٤) : «إلّا مكا» بالقصر والتنوين ، وهذا كما قالوه : بكاء ، وبكى. بالمدّ والقصر.

وقد جمع الشّاعر بين اللغتين ، فقال : [الوافر]

٢٧٠٥ ـ بكت عيني وحقّ لها بكاها

وما يغني البكاء ولا العويل (٥)

__________________

ـ نحو كان رفيقي صديقي ، فلا يصح أن يتقدم صديقي على أنه خبر لأنه لا يعلم ذلك لعدم ظهور الإعراب فدفعا لهذا اللبس تعين تأخير الخبر وكذا إذا كان الخبر فعلا نحو «كان زيد يقوم» فلا يجوز تقديم الخبر الذي هو يقوم مع فاعله المستتر على زيد لإيهام أن زيدا فاعل مع أنه اسم كان وكذا إذا كان مرفوع الخبر متأخرا عنه نحو كان زيد حسنا وجهه فلو تقدم الخبر لفصل بين العامل ومعموله أما إذا تأخر منصوبه فيجوز بلا قبح إن كان ظرفا أو جارا أو مجرورا ويقبح إن كان غيرهما لأن الظرف والجار والمجرور متسع فيهما وغيرهما وغير المرفوع قلنا بجوازه على قبح لأن المنصوب ليس كالمرفوع في أنه كجزئه أما باقي المواضع التي يمتنع فيها تقدم الخبر على المبتدأ فلا يعقل تحققها هنا أي مع كان وذلك لأن لازم التصدير لا يقع بعدها وكذلك ما اقترن بلام الابتداء أما استواء المبتدأ والخبر تعريفا وتنكيرا فلا يمتنع معه التقديم هنا مع ظهور الإعراب لأن المانع وهو إبهام كون الخبر مبتدأ منتف ها هنا إذ مع النصب أي نصب الخبر لا يتوهم كونه اسما لكان.

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٢٣ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٤١٧.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢١٨ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٦ ، الدر المصون ٣ / ٤١٧.

(٥) البيت لحسان بن ثابت. ينظر : جمهرة اللغة ص ١٠٢٧ ولعبد الله بن رواحة. ينظر : ديوانه ص ٩٨ ، ولكعب بن مالك ينظر : ديوانه ص ٢٥٢ ، ولسان العرب «بكا» ، ولحسان أو لعبد الله في شرح شواهد الشافية ص ٦٦ ، وأدب الكاتب ص ٣٠٤ ، ومجالس ثعلب ص ١٠٩ ، والمنصف ٣ / ٤٠ والمقتضب ٤ / ٢٩٢ ، والدر المصون ٣ / ٤١٨.

٥١١

فصل

قال ابن عبّاس «كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفرون ويصفّقون» (١).

وقال مجاهد : «كانوا يعارضون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الطّواف ويستهزئون به ويصفّرون ، ويصفّقون ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته» (٢).

وقال مقاتل : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى في المسجد الحرام ، قام رجلان عن يمينه ، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته ، وهم من بني عبد الدّار» (٣).

وقال سعيد بن جبير : «التصدية : صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام ، وعلى هذا ف «التّصددة» بدالين ، كما يقال : تظننت من الظن» (٤).

فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم ، وعلى قول مجاهد ومقاتل : كان إيذاءا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأول أقرب ، لقوله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).

فإن قيل : «المكاء» و «التّصدية» ليسا من جنس الصّلاة ، فكيف يجوز استثناؤهما من الصّلاة؟ فالجواب : من وجوه ، أحدها : أنهم كانوا يعتقدون أنّ المكاء والتصدية من جنس الصّلاة ، فحسن الاستثناء على حسب معتقدهم.

قال ابن الأنباري : «إنّما سمّاه صلاة ؛ لأنّهم أمروا بالصّلاة في المسجد ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم».

وثانيها : أنّ هذا كقولك : زرت الأمير ؛ فجعل جفائي صلتي ، أي : أقام الجفاء مقام الصلة ، كذا ههنا.

وثالثها : الغرض منه أن من كان المكاء والتّصدية صلاته فلا صلاة له ، كقول العرب : ما لفلان عيب إلّا السخاء ، أي : من كان السخاء عيبه فلا عيب فيه.

ثم قال تعالى (فَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : عذاب السيف يوم بدر ، وقيل : يقال لهم في الآخرة (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٣) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣٩) عن مجاهد بمعناه وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٠) وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٧.

٥١٢

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٣٧)

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) الآية.

لمّا شرح أحوال الكفّار في طاعاتهم البدنية ، أتبعها بشرح أحوالهم في الطّاعات الماليّة.

قال مقاتل والكلبيّ : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش ، كان يطعم كلّ واحد منهم كل يوم عشر جزر (١).

وقال سعيد بن جبير : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد ، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية ، والأوقية : اثنان وأربعون مثقالا (٢) ، هكذا قاله الزمخشريّ. ثمّ بيّن تعالى أنهم إنّما ينفقون المال : (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : غرضهم من الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله ، وإن لم يكن عندهم كذلك.

قال : (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي : أنّ هذا الإنفاق يكون عاقبته حسرة ؛ لأنّه يذهب المال ولا يحصل المقصود ، بل يغلبون في آخر الأمر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) وإنّما خصّ الكفار ، لأن فيهم من أسلم.

قوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) قد تقدّم الكلام فيه في آل عمران : [١٧٩]. والمعنى : ليميز الله الفريق الخبيث من الكفّار من الفريق الطّيب من المؤمنين ، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا ، أي : يجمعهم ويضمّهم حتّى يتراكموا.

«أولئك» إشارة إلى الفريق الخبيث ، وقيل : المراد بالخبيث : نفقة الكافر على عداوة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، وبالطّيّب : نفقة المؤمن في جهاد الكفار ، كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنّم ، ويعذبهم بها ، كقوله تعالى : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] فاللّام في قوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ) على القول الأوّل متعلقة بقوله تعالى : (يُحْشَرُونَ) أي : يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب ، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله : (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) و «يجعل» يحتمل أن تكون تصييرية ، فتنصب مفعولين ، وأن تكون بمعنى الإلقاء ، فتتعدّى لواحد ، وعلى

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٢ / ٢٤٧) والرازي (١٥ / ١٢٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٤) وزاد نسبته إلى ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.

٥١٣

كلا التقديرين ف «بعضه» بدل بعض من كل ، وعلى القول الأوّل يكون «على بعض» في موضع المفعول الثّاني ، وعلى الثّاني يكون متعلقا بنفس الجعل ، نحو قولك : ألقيت متاعك بعضه على بعض.

وقال أبو البقاء ، بعد أن حكم عليها بأنّها تتعدّى لواحد :

«وقيل : الجار والمجرور حال تقديره : ويجعل الخبيث بعضه عاليا على بعض».

ويقال : ميّزته فتميّز ، ومزته فانماز ، وقرىء شاذا (١) : وانمازوا اليوم [يس : ٥٩] ؛ وأنشد أبو زيد : [البسيط]

٢٧٠٦ ـ لمّا نبا الله عنّي شرّ غدرته

وانمزت لا منسئا ذعرا ولا وجلا (٢)

وقد تقدّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [١٧٩].

قوله «فيركمه» نسق على المنصوب قبله ، والرّكم جمعك الشّيء فوق الشيء ، حتى يصير ركاما مركوما كما يركم الرمل والسحاب ، ومنه : (سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] والمرتكم : جادّة الطريق للرّكم الذي فيه أي : ازدحام السّبابلة وآثارهم ، و «جميعا» حال ، ويجوز أن يكون توكيدا عند بعضهم ثم قال تعالى (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) إشارة إلى الذين كفروا.

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

قوله تعالى (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.

فصل

لمّا بيّن ضلالهم في عباداتهم البدنية ، والمالية ، أرشدهم إلى طريق الصّواب ، وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا). وفي هذه اللّام الوجهان المشهوران :

الأول : أنّها للتبليغ ، أمر أن يبلّغهم معنى هذه الجملة المحكية بالقول ، وسواء أوردها بهذا اللفظ أم بلفظ آخر مؤدّ لمعناها.

والثاني : أنها للتعليل ، وبه قال الزمخشريّ. ومنع أن تكون للتبليغ ، فقال : «أي قل

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٥٢٦ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٨ ، الدر المصون ٣ / ٤١٨.

(٢) البيت ل «مالك بن الريب». ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨٨ ، الأغاني ١٩ / ١٦٥ والدر المصون ٣ / ٤١٨.

٥١٤

لأجلهم هذا القول : «إن ينتهوا» ، ولو كان بمعنى خاطبهم به ، لقيل : إن تنتهوا يغفر لكم وهي قراءة ابن مسعود ، ونحو (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) خاطبوا به غيرهم ليسمعوه» وقرىء (١) «يغفره» مبنيا للفاعل ، وهو ضمير يعود على الله تعالى.

فصل

المعنى : قل للّذين كفروا إن ينتهوا عن الكفر وعداوة الرّسول ويسلموا (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من كفرهم وعداوتهم للرّسول ، وإن عادوا إليه ، وأصرّوا عليه : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) في نصرة الله أنبياءه ، وأولياءه ، وإهلاك أعداءه ؛ فليتوقّعوا مثل ذلك.

وقال يحيى بن معاذ الرازي : توحيد ساعة لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر ، وأرجو ألّا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.

واستدلّوا بهذه الآية على صحّة توبة الزّنديق ، وأنها تقبل ، واستدلوا بها أيضا على أنّ الكفّار ليسوا مخاطبين بالفروع ؛ لأنّها لا تصح منهم في حال الكفر ، وبعد الإسلام لا يلزم قضاؤها.

واحتجّوا بها أيضا على أنّ المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات الّتي تركها في حال الردّة.

قوله تعالى (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) الآية.

لمّا بيّن أن الكفار إن انتهوا عن الكفر غفر لهم ، وإن عادوا فهم متوعدون ، أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا ، فقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ).

وقال عروة بن الزبير : «كان المؤمنون يفتنون عن دين الله في مبدأ الدّعوة ، فافتتن بعض المسلمين ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة ، وفتنة ثانية وهي أنه لمّا بايعت الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة العقبة ، أرادت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكّة عن دينهم ؛ فأصاب المؤمنين جهد شديد ، فهذا هو المراد من الفتنة ؛ فأمر الله بقتالهم حتّى تزول هذه الفتنة» (٢).

قال المفسّرون : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي : شرك.

وقال الربيع : «حتّى لا يفتن مؤمن عن دينه».

قال القاضي «إنه تعالى أمر بقتالهم ، ثم بيّن له قتالهم ، فقال : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ويخلص الدّين الذي هو دين الله من سائر الأديان ، وإنّما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكليّة» ، «ويكون» العامّة على نصبه ، نسقا على المنصوب (٣) مرفوعا على الاستئناف.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٠ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٩ ، الدر المصون ٣ / ٤١٩.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٣١).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٨٩ ، الدر المصون ٣ / ٤١٩.

٥١٥

قوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر والمعاصي ، بالتّوبة والإيمان ، فإنّ الله عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم.

قرأ الحسن (١) ويعقوب وسليمان بن سلام : (بِما تَعْلَمُونَ) بتاء الخطاب ؛ (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : عن التوبة والإيمان ، (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) أي : وليكم وهو يحفظكم ، ويدفع البلاء «عنكم».

وفي «مولاكم» وجهان :

أظهرهما : أنّ «مولاكم» هو الخبر ، و (نِعْمَ الْمَوْلى) جملة مستقلة سيقت للمدح.

والثاني : أن يكون بدلا من «الله» والجملة المدحيّة خبر ل «أنّ» والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم المولى الله ، أو ربّكم. وكلّ ما كان في حماية هذا المولى ، ومن كان في حفظه ، كان آمنا من الآفات مصونا عن المخوفات.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤٤)

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية.

لمّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ) وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، ذكر تعالى حكم الغنيمة ، والظّاهر أنّ «ما» هذه موصولة بمعنى «الّذي» ، وكان من حقّها أن تكتب منفصلة من «أنّ» كما كتبت : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤] منفصلة ، ولكن كذا رسمت. و «غنمتم» صلتها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشّروط ، أي : غنمتموه.

وقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ) الفاء مزيدة في الخبر ؛ لأنّ المبتدأ ضمّن معنى الشّرط ، ولا يضرّ دخول الناسخ عليه ؛ لأنه لم يغيّر معناه ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) ثم قال : «فلهم» والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقا ، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشّرط إذا دخلت عليه «إنّ» المكسورة ، وآية البروج [١٠] حجّة عليه.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢٠ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٢٨ ، البحر المحيط ٤ / ٤٨٩ ، الدر المصون ٣ / ٤١٩.

٥١٦

وإذا تقرّر هذا ف «أنّ» وما عملت فيه في محلّ رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره: فواجب أنّ لله خمسه ، والجملة من هذا المبتدأ والخبر خبر ل «أنّ».

وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلة على : «أنّ لله خمسه» من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف ، بل جعلها بنفسها خبرا ، وليس مراده ذلك ، إذ لا تدخل هذه الفاء على مفرد ، بل على جملة ، والذي يقوّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريّ ، أعني كونه قدّر أنّ «أنّ» ، وما في حيّزها مبتدأ ، محذوف الخبر ، فجعله قولا زائدا على ما قدّمه.

ويجوز في «ما» أن تكون شرطيّة ، وعاملها «غنمتم» بعدها ، واسم «أنّ» حينئذ ضمير الأمر والشّأن وهو مذهب الفرّاء ، إلّا أنّ هذا لا يجوز عند البصريين إلّا ضرورة ، بشرط ألّا يليها فعل ؛ كقوله : [الخفيف]

٢٧٠٧ ـ إنّ من يدخل الكنيسة يوما

يلق فيها جآذرا وظباء (١)

وقول الآخر : [الخفيف]

٢٧٠٨ ـ إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب (٢)

وقيل : الفاء زائدة ، و «أنّ» الثانية بدل من الأولى.

وقال مكي : «وقد قيل : إنّ الثانية مؤكدة للأولى ، وهذا لا يجوز لأنّ الأولى تبقى بغير خبر ؛ ولأنّ الفاء تحول بين المؤكّد والمؤكّد وزيادتها لا تحسن في مثل هذا».

وقيل : «ما» مصدريّة ، والمصدر بمعنى المفعول أي : أنّ مغنومكم هو المفعول به ، أي : واعلموا أنّ غنمكم ، أي : مغنومكم.

والغنيمة : أصلها من الغنم ، وهو الفوز ، يقال : غنم يغنم فهو غانم ، وأصل ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف ، فإنّ الظفر به يسمّى غنما ، ثم اتّسع في ذلك ، فسمّي كلّ شيء مظفور به غنما ومغنما وغنيمة ؛ قال علقمة بن عبدة : [البسيط]

٢٧٠٩ ـ ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه

أنّى توجّه والمحروم محروم (٣)

__________________

(١) البيت للأخطل : ينظر : العمدة ٢ / ٢٧٣ ، المغني ١ / ٣٧ ، شرح المفصل ٣ / ١١٥ ، الهمع ١ / ١٣٦ ، والدرر ١ / ١١٥ ، والخزانة ١ / ٤٥٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩١٨ ، الأشباه والنظائر ٨ / ٤٦ ، أمالي ابن الحاجب ١ / ١٥٨ ، ورصف المباني ص ١١٩ ، شرح الرضي ١ / ١٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٤١٩.

(٢) البيت للأعشى. ينظر : ديوانه ص ٣٨٥ ، الإنصاف ص ١٨٠ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤٢٠ ـ ٤٢٢ ، ١٠ / ٤٥٠ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٦ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ١١٤ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٢٤ ، والكتاب ٣ / ٧٢ والأشباه والنظائر ٨ / ٤٥ ، شرح المفصل ٣ / ١١٥ ، ومغني اللبيب ص ٦٠٥ وابن الشجري ١ / ٢٩٥ ، وشرح جمل الزجاجي ٢٩٥ ، والدر المصون ٣ / ٤٢٠.

(٣) ينظر : ديوانه (٢٤) شرح المفضليات ٣ / ١٣٤٠ ، والقرطبي ٨ / ٣ والتهذيب ١٥ / ٥٥٢ واللسان «أني» والدر المصون ٣ / ٤٢٠.

٥١٧

وقال الآخر : [الوافر]

٢٧١٠ ـ لقد طوّفت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب (١)

قوله «من شيء» في محلّ نصب على الحال من عائد الموصول المقدّر ، والمعنى : ما غنمتموه كائنا من شيء ، أي : قليلا أو كثيرا. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم. وحكى غيره عن الجعفيّ عن هارون عن أبي عمرو : (فَأَنَّ لِلَّهِ) بكسر الهمزة ، ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي (٢) «فلله خمسه» فإنها استئناف ، وخرجها أبو البقاء على أنّها وما في حيّزها في محلّ رفع ، خبرا ل «أنّ» الأولى.

وقرأ الحسن (٣) وعبد الوارث عن أبي عمرو : «خمسه» بسكون الميم ، وهو تخفيف حسن.

وقرأ الجعفيّ «خمسه» بكسر الخاء. قالوا : وتخريجها على أنّه أتبع الخاء لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة ، قالوا : وهي كقراءة من قرأ : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧] بكسر الحاء إتباعا لكسرة التاء من «ذات» ولم يعتدّوا بالساكن ، وهو لام التعريف ، لأنه حاجز غير حصين.

قال شهاب الدين (٤) «ليت شعري ، وكيف يقرأ الجعفيّ والحالة هذه؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل ، لخروجه من كسر إلى ضمّ ، وإن قرأ بسكونها وهو الظّاهر فإنه نقلها قراءة عن أبي عمرو ، أو عن عاصم ، ولكن الذي قرأ : «ذات الحبك» يبقي ضمّة الباء ، فيؤدي إلى «فعل» بكسر الفاء وضمّ العين ، وهو بناء مرفوض».

وإنما قلت : إنه يقرأ كذلك ؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع ؛ لأن في «الحبك» لغتين : ضمّ الحاء والباء ، وكسرهما ، حتّى زعم بعضهم أنّ قراءة الخروج من كسر إلى ضمّ من التّداخل.

فصل

والغنيمة في الشريعة ، والفيء ، اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال (٥) الكفار.

__________________

(١) البيت لامرىء القيس. ينظر : ديوانه (٩٩) ، والكامل ٢ / ١٤٣ ، والعمدة ١ / ١٠٣ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٢٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٩٢ ، والتهذيب ٩ / ١٩٧ وشرح المفضليات ١ / ٤٢١ ، واللسان «نقب» والدر المصون ٣ / ٤٢٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٣١ ، البحر المحيط ٤ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٤٢٠.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢١ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٣١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٢٠.

(٥) الغنيمة في اللغة ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي ، ومن ذلك قول الشاعر :

وقد طوّفت في الآفاق حتى

رضيت من الغنيمة بالإياب

٥١٨

فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنّ الغنيمة : ما أصابه المسلمون

__________________

وتطلق الغنيمة على الفوز بالشيء بلا مشقة ، ومنه قولهم للشيء يحصل عليه الإنسان عفوا بلا مشقة «غنيمة باردة» خصت في عرف الشرع بمال الكفار يظفر به المسلمون على وجه القهر والغلبة ، وهو ـ ـ تخصيص من الشرع لا تقتضيه اللغة. وقد سمّى الشرع المال الواصل من الكفار إلى المسلمين في حال الحرب باسمين ، غنيمة وفيء وقد اختلف العلماء فيما هي الغنيمة والفيء ـ فقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ عنوة من الكفار في الحرب ، والفيء ما أخذ عن صلح. وهو قول الشافعيّ. وقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ من مال منقول ، والفيء الأرضون قاله مجاهد ، وقال آخرون : الغنيمة والفيء بمعنى واحد.

والغنيمة : اسم لما أخذه المسلمون من الكفار بإيجاف الخيل أو الركاب فما أخذه المسلمون من أهل الذمة أو من الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب ، وما أخذه الذميون من أهل الحرب لا يسمى غنيمة ولا تجري عليه أحكامها.

وقد صح أن الغنيمة كانت محرمة في الشرائع السابقة ، وإنما أبيحت لأمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة ، قال تعالى في سورة الأنفال : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً). وعدّ من ما فضل الله به الرسول عليه الصلاة والسلام ، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضّلت على الأنبياء بستّ : أعطيت جوامع الكلم ـ ونصرت بالرّعب ـ وأحلّت ليّ الغنائم ، ـ وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ـ وأرسلت إلى الخلق كافّة ـ وختم بي النّبيّون» وروى البخاري عن همّام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غزا نبيّ من الأنبياء فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ، وهو يريد أن يبني بها ولمّا يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا ، ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات ، وهو ينظر ولادها ، فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشّمس إنّك مأمورة وأنا مأمور ، اللهمّ احبسها علينا فحبست حتّى فتح الله عليهم ، فجمع الغنائم فجاءت ـ يعني النّار ـ لتأكلها فلم تطعمها فقال : إنّ فيكم غلولا ، فليبايعني من كلّ قبيلة رجل فلزقت يد رجل بيده فقال : فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال : فيكم الغلول فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذّهب ، فوضعوها فجاءت النّار فأكلتها ، ثمّ أحلّ الله لنا الغنائم ، ثمّ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلّها لنا».

وبهذه الآية والأحاديث أخذت الغنائم في الإسلام حكم الحل ونزل فيها قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية ـ بيانا لطريق قسمتها.

والحكمة في حلّ الغنائم أن المجاهدين لما خرجوا عن أموالهم وأولادهم ، وتركوا الاشتغال بأمور معاشهم رغبة في الجهاد في سبيل الله ، ونشر دينه وإعلاء كلمته ، وعرضوا أنفسهم لركوب الأخطار واستقبال الموت من أبوابه المختلفة ، تفضل الله عليهم بإباحة الغنائم لهم تقوية لعزائمهم وحفزا لهممهم وتنشيطا لهم على الجهاد ، وكسرا لشوكة الكفار وإذلالا لهم بقتلهم ، وأسرهم ، وسلب ما يتمتعون به من نعم الله التي أغدقها عليهم ، ولم يقوموا بشكرها ، وإيذانا بأنهم ليسوا أهلا لها ؛ لعنادهم واستكبارهم عن عبادته.

والمال المغنوم من الكفار إما أن يكون عقارا أو منقولا وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز المنّ بالمنقول استقلالا على الكفار بل يكون ملكا للمسلمين يجب تخميسه كما ورد في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ـ وقال الحنفية : يجوز المنّ به تبعا كأدوات الزراعة بالقدر الذي يهيىء لهم العمل في الأرض وذلك لتوقف منفعة الأرض على الآلات.

وأما العقار فقد اختلفوا فيه على المذاهب الآتية. فالشافعية ، وأحمد في رواية عنه يرون أنه يجب قسمته بين الغانمين كالمنقول ، ولا يجوز المنّ به على الكفار ـ والمالكية ، وأحمد في رواية أخرى يرون أنه ـ

٥١٩

منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان من صلح بغير قتال.

قوله (مِنْ شَيْءٍ) يعني : من أي شيء كان حتّى الخيط : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ذهب أكثر المفسّرين والفقهاء إلى أنّ قوله : «لله» افتتاح على سبيل التبرّك ، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه. وليس المراد أن سهما من الغنيمة «لله» مفردا ، فإن الدنيا والآخرة لله عزوجل وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(١).

وقال أبو العالية ، وغيره : يقسم الخمس على ستة أسهم : سهم لله تعالى ، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال : يصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرف لعمارة الكعبة (٢).

وقال بعضهم : إنه عليه الصلاة والسلام كان يضرب بيده في هذا الخمس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سمّي «لله».

فصل

قل القرطبي «هذه الآية ناسخة لأول السّورة عند الجمهور ، وقد ادّعى ابن عبد البر : الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] وأنّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم.

وقيل : إنها محكمة غير منسوخة ، وأنّ الغنيمة لرسول الله ، وليست مقسومة بين

__________________

ـ يترك لجميع المسلمين ، ولا يختص أحد بملك شيء منه ، وهذا عند المالكية في غير الدور ، أما هي فالمعتمد أنها لا تقسم.

ويرى الحنفية أن الإمام مخير فيه بين القسمة على الغانمين وبين أن يمنّ به على أهله تمليكا لهم في مقابل ضرب الجزية عليهم والخراج على الأرض ، ويكونون أحرارا ذمة للمسلمين. ويرى الحنابلة في رواية ثالثة أن الإمام مخير بين قسمتها على الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين ، وضرب الخراج عليها قالوا : وهي ظاهر المذهب.

(١) أثر قتادة. أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٦) وعزاه لعبد الرزاق وانظر : معالم التنزيل (٢ / ٢٤٩).

أثر إبراهيم النخعي. أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٥٠) وانظر معالم التنزيل للبغوي (٢ / ٢٤٩).

أثر الشعبي. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٦) وعزاه إلى عبد الرزاق في «المصنف» وابن أبي شيبة وابن المنذر.

أثر عطاء. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٣٦) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٤٩) عن أبي العالية.

٥٢٠