اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والثاني : أنّ «الحسنى» مصدر على «فعلى» كالرّجعى ، والبقيا.

قال : [الوافر]

٢٦٣٥ ـ ولا يجزون من حسنى بسوء

 .......... (١)

والأسماء هنا : الألفاظ الدّالّة على الباري تعالى ك : الله والرّحمن.

قال القرطبي (٢) : وسمّى الله أسماءه بالحسنى ؛ لأنّها حسنة في الأسماع والقلوب ؛ فإنّها تدلّ على توحده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله.

وقال ابن عطية (٣) المراد بها التّسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره. وفيه نظر ؛ لأنّ التسمية مصدر ، والمصدر لا يدعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء ، وذلك أنّ معنى فادعوه نادوه بها ، كقولهم : يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، اغفر لنا.

وقيل : سموه بها كقولك : سمّيت ابني بزيد ، والآية دالّة على أنّ لله تعالى أسماء حسنة وأنّ الإنسان لا يدعو الله إلّا بها ، وأنّها توقيفية لا اصطلاحيّة ؛ لأنّه يجوز أن يقال : يا جوّاد ولا يجوز أن يقال : يا سخي ، ويجوز أن يقال : يا عالم ، ولا يجوز أن يقال : يا فقيه ، يا عاقل يا طبيب.

وقال تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢].

وقال : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ولا يقال في الدّعاء : يا مخادع يا مكّار.

روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحدا من أحصاها دخل الجنّة» (٤). «إنّه وتر يحبّ الوتر» (٥).

قوله : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قرأ (٦) حمزة هنا ، وفي النّحل ، وحم السجدة يلحدون بفتح الياء والحاء من «لحد» ثلاثيا ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء ، من «ألحد».

__________________

(١) صدر بيت لأبي الغول وعجزه :

ولا يجزون من غلظ بلين

ينظر الحماسة ١ / ٤٠ ، ابن يعيش ٦ / ١٠٠ ، ١٠٢ ، الخزانة ، ٦ / ٤٣٤ ، ٨ / ٣١٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٧٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٢٠٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٨٠.

(٤) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ١٣ / ٣٧٧ ، كتاب التوحيد : باب إن لله مائة اسم إلا ... الحديث (٧٣٩٢) وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٠٦٣ ، كتاب الذكر.

باب أسماء الله تعالى (٢) الحديث (٦ / ٢٦٧٧) واللفظ لهما.

(٥) متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ٢١٤ ، كتاب الدعوات : باب مائة اسم .. الحديث (٦٤١٠) واللفظ له ، وأخرجه مسلم في الصحيح ٤ كتاب الذكر.

(٦) ينظر : السبعة ٢٩٨ ، والحجة ٤ / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٥ ، وحجة القراءات ٣٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٧٠.

٤٠١

فقيل هما بمعنى واحد وهو : الميل والانحراف ، ومنه : لحد القبر ؛ لأنّه يمال بحفرة إلى جانبه ، بخلاف الضّريح ؛ فإنّه يحفر في وسطه.

ومن كلامهم ، ما فعل الواحد؟ قالوا : لحده اللّاحد ، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السّكيت وقال : هما العدول عن الحقّ ، وألحد : أكثر استعمالا من «لحد» ؛ قال : [الراجز]

٢٦٣٦ ـ ليس الإمام بالشّحيح الملحد (١)

وقال غيره : «لحد : بمعنى : ركن وانضوى ، وألحد : مال وانحرف» قاله الكسائي ونقل عنه أيضا : ألحد : أعرض ، ولحد : مال.

قالوا : ولهذا وافق حمزة في النّحل إذ معناه : يميلون إليه.

وروى أبو عبيدة عن الأصمعي : «ألحد : مارى وجادل ، ولحد : حاد ومال».

فصل

ورجّحت قراءة العامّة بالإجماع على قوله : (بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥].

وقال الواحديّ : ولا يكاد يسمع من العرب لاحد ، يعني : فامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدلّ على قلّته وقد تقدم من كلامهم «لحده اللّاحد». ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقّوا منها أسماء لآلهتهم فيقولون «اللّات» من لفظ الله ، و «العزّى» من لفظ العزيز ، و «مناة» من لفظ المنّان ، ويجوز أن يراد سمّوه بما لا يليق بجلاله ، مثل تسميته أبا للمسيح ، وكقول النصارى : أب ، وابن ، وروح القدس.

ثم قال : «سيجزون ما كانوا يعملون» وهذا تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله.

قوله تعالى : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) الآية.

«من» يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة ، و «يهدون» صفة ل «أمّة».

وقال بعضهم : في الكلام حذف تقديره : وممّن خلقنا للجنّة ، يدلّ على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ).

فصل

المراد بالأمة العلماء.

قال عطاء عن ابن عبّاس : يريد أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتّابعون لهم بإحسان (٢).

__________________

(١) البيت لأبي نخيلة ، وقيل لغيره : ينظر الكتاب ٢ / ٣٧١ ، ابن يعيش ٣ / ١٢٤ ، الإنصاف ١ / ١٣١ ، الهمع ١ / ٦٤ ، الكشاف ٢ / ١٣٢ ، البحر ٤ / ٤١٧ ، الدر المصون ٣ / ٣٧٦.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٦٠) عن ابن عباس.

٤٠٢

وقال قتادة : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها» (١) : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].

وقال معاوية : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (٢).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) الآية.

والذين فيه وجهان : أظهرهما : أنّه مبتدأ ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده.

والثاني : أنّه منصوب على الاشتغال بفعل مقدّر تقديره : سنستدرج الذين كذّبوا ، والاستدراج التقريب منزلة منزلة ، والأخذ قليلا قليلا من الدّرج ؛ لأنّ الصّاعد يرقى درجة درجة وكذلك النّازل.

وقيل : هو مأخوذ من الدّرج وهو الطيّ ، ومنه درج الثّوب : طواه ، ودرج الميّت مثله ، والمعنى : تطوى آجالهم.

وقرأ النخعي (٣) وابن وثّاب : سيستدرجهم بالياء ، فيحتمل أن يكون الفاعل الباري تعالى وهو التفات من المتكلم إلى الغيبة ، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله : «كذّبوا» ؛ وقال الأعشى في الاستدراج : [الطويل]

٢٦٣٧ ـ فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقّيت أسباب السّماء بسلّم

ليستدرجنك القول حتّى تهرّه

وتعلم أنّي عنكم غير مفحم (٤)

فصل

ويقال : درج الصّبيّ : إذا قارب بين خطاه ، ودرج القوم : مات بعضهم إثر بعض.

فصل

لمّا ذكر حال الأمة الهادية العادلة ، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهذا يعمّ كل مكذب ، وعن ابن عبّاس : المراد أهل مكة (٥) ، وهو بعيد.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٢) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه البخاري (٧٤٦٠) ومسلم (١٠٣٧ / ١٧٤) ، وأحمد ٤ / ١٠١ ، من حديث معاوية.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٨٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٢٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٧٦.

(٤) ينظران في ديوانه ١٨٢ ، الكشاف ٢ / ١٣٣ ، الكتاب ٢ / ٢٨ ، مجاز القرآن ١ / ٣٠٢ ، ابن يعيش ٢ / ٧٤ ، الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٣٢ ، التهذيب ١ / ٦٤٦ ، اللسان : سبب ، درج ، الدر المصون ٣ / ٣٧٦.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٢٠٩).

٤٠٣

وقال عطاء : سنمكر بهم ، وقيل : نأتيهم من مأمنهم كقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢].

وقال الكلبيّ : نزين لهم أعمالهم لتهلكهم. وقال الضّحّاك كلّما جدّدوا معصية جدّدنا نعمة.

وقال سفيان الثّوري : نسبغ عليهم النّعم ثم نسلبهم الشّكر من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، ثمّ يأخذهم الله دفعة واحدة على غرّتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا حمل إليه كنوز كسرى اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا ، فإني سمعتك تقول : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

قوله : (وَأُمْلِي لَهُمْ) جوّز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : وأنا أملي وأن يكونا مستأنفا ، وأن يكون معطوفا على سنستدرج ، وفيه نظر : إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونملي بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريبا من الالتفات والإملاء : الإمهال والتطويل ، والمتين : القويّ ، ومنه المتن وهو الوسط ؛ لأنّه أقوى ما في الحيوان ، وقد متن يمتن متانة أي : قوي.

وقرأ العامّة إنّ كيدي بالكسر على الاستئناف المشعر بالعليّة.

وقرأ ابن (١) عامر في رواية عبد الحميد أنّ كيدي بفتح الهمزة على العلّة.

والمليّ : زمان طويل من الدّهر ، ومنه قوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) [مريم : ٤٦] أي : طويلا والمعنى : أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي ، ولا أعاجلهم في العقوبة ، ليقلعوا عن المعصية بالتّوبة.

وقوله : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) قال ابن عباس : يريد : إنّ مكري شديد (٢).

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(١٨٦)

قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ).

يجوز في «ما» أوجه :

أحدها : أن تكون استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، والخبر «بصاحبهم» أي : أيّ شيء استقرّ بصاحبهم من الجنون؟ ف : الجنّة : مصدر يراد بها الهيئة ، ك : الرّكبة ، والجلسة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٨٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٢٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٧٧.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٢) عن السدي بهذا اللفظ وعزاه لأبي الشيخ.

٤٠٤

وقيل : المراد بالجنّة : الجنّ ، كقوله (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٦] ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف. أي : مسّ جنة ، أو تخبيط جنّة.

والثاني : أنّ «ما» نافية ، أي : ليس بصاحبهم جنون ، ولا مسّ جنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية ، فيهما وجهان :

أظهرهما : أنّهما في محلّ نصب بعد إسقاط الخافض ؛ لأنّهما علّقا «التّفكّر» ؛ لأنّه من أفعال القلوب.

والثاني : أنّ الكلام تمّ عند قوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) ، ثمّ ابتدأ كلاما آخر ، إمّا استفهام إنكار ، وإمّا نفيا.

وقال الحوفيّ إنّ «ما بِصاحِبِهِمْ» معلقة لفعل محذوف ، دلّ عليه الكلام ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم.

قال : و «تفكّر» لا يعلّق ؛ لأنّه لم يدخل على جملة. وهذا ضعيف ؛ لأنّهم نصّوا على أن فعل القلب المتعدّي بحرف جرّ أو إلى واحد إذا علّق هل يبقى على حاله أو يضمّن ما يتعدّى لاثنين؟

الثالث : أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، تقديره : أو لم يتفكّروا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم ، وعلى قولنا : إنّها نافية يكون «من جنّة» مبتدأ ، ومن مزيدة فيه ، وبصاحبهم خبره ، أي : ما جنّة بصاحبهم.

فصل

دخول «من» في قوله من جنّة يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.

قال الحسن وقتادة : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ليلة على الصّفا يدعو قريشا فخذا فخذا ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله وعقابه.

فقال قائلهم : إنّ صاحبكم هذا المجنون ، بات يصوّت إلى الصّباح ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وقيل : إنّه عليه الصّلاة والسّلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغيّر وجهه ويصفر لونه ، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي ، والجهال كانوا يقولون : إنّه جنون ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أنّه ليس بمجنون إنّما هو نذير مبين من ربّ العالمين.

قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٤ ـ ١٣٥) عن قتادة مرسلا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٣) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٤٠٥

لمّا كان النّظر في أمر النّبوّة مفرعا على تقرير دلائل التّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبه ما يدلّ على التّوحيد ، فقال : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واعلم أنّ دلائل ملكوت السّموات والأرض على وجود الصّانع الحكيم كثيرة وقد تقدّمت.

ثم قال : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي : أن الدّلائل على التّوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض ، بل كلّ ذرّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهر على التّوحيد ، وتقريره أن الشّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرّات ، فيفرض الكلام في ذرّة واحدة من تلك الذرات.

فنقول : إنّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ؛ لأنّها مختصة بحيّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلّ حيّز من تلك الأحياز الغير متناهية فرضنا وقوع تلك الذّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لا بدّ له من مخصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسما عاد السّؤال فيه ، وإن لم يكن جسما كان هو الله تعالى.

وأيضا فتلك الذّرّة لا تخلو من الحركة والسّكون ، وكلّ ما كان كذلك فهو محدث ، وكل محدث فإنّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّا بوقت معيّن مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم ثمّ إن كان ذلك المخصّص جسما عاد السّؤال فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله تعالى وأيضا فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميّة ، ومخالفة لها في اللّون والشّكل والطبع والطعم وسائر الصّفات ، فاختصاصها بكلّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائز لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسما عاد البحث الأوّل فيه ، وإن لم يكن جسما فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركّباته ، وعند هذا ظهر صدق القائل : [المتقارب]

٢٦٣٨ ـ وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد (١)

ولمّا نبّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أردفه بما يوجب التّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكّر فقال : «وأن عسى» ، و «أن» فيها وجهان :

أصحهما : أنّها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل

__________________

(١) البيت لأبي فراس. ينظر الأشباه والنظائر ص (٣) ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٠ ، وروح المعاني ٩ / ١٢٨ ، والرازي ١٥ / ٧٧ ، وحاشية الشهاب ٤ / ٢٤٠.

٤٠٦

آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النّار ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما ؛ وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر ، ليسعى في تخليص نفسه من هذا الخوف الشّديد ، و «عسى» وما في حيّزها في محلّ الرفع خبرا لها ، ولم يفصل بين «أن» والخبر وإن كان فعلا ؛ لأنّ الفعل الجامد الذي لا يتصرّف يشبه الأسماء ، ومثله (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور : ٩] في قراءة نافع لأنّه دعاء.

فصل

وقد وقع خبر «أن» جملة طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين ، فإنّ عسى للإنشاء و «غضب الله» دعاء.

والثاني : أنّها المصدرية ؛ قاله أبو البقاء ، يعني التي تنصب المضارع ، الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيّد ؛ لأنّ النّحاة نصّوا على أنّ المصدرية لا توصل إلّا بالفعل المتصرف مطلقا ، أي : ماض ، ومضارع وأمر ، و «عسى» لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأن على كلا الوجهين في محل جر نسقا على «ملكوت» ، أي : أو لم ينظروا في أنّ الأمر والشأن عسى أن يكون ، و «أن يكون» فاعل «عسى» وهي حينئذ تامّة ؛ لأنّها متى رفعت «أن» وما في حيّزها كانت تامة ، ومثلها في ذلك : أوشك ، واخلولق. وفي اسم : «يكون» قولان :

أحدهما : هو ضمير الشّأن ، ويكون : (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) خبرا لها.

والثاني : أنه : «أجلهم» ، و «قد اقترب» جملة من فعل وفاعل هو ضمير «أجلهم» ولكن قدّم الخبر وهو جملة فعليّة على اسمها.

وقد تقدّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ) [الأعراف : ١٣٧].

قوله : «فبأيّ» متعلّق ب «يؤمنون» وهي جملة استفهامية سيقت للتّعجب ، أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره؟ والهاء في : «بعده» تحتمل العود على القرآن وأن تعود على الرّسول ، ويكون الكلام على حذف مضاف ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على: «أجلهم» ، أي : إنّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم ؛ فكيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟

قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم تعلّق قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قلت : بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ؛) كأنه قيل : لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأيّ حديث أحقّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلّق المعنويّ المرتبط بما قبله لا الصناعي وهو واضح.

قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) الآية.

٤٠٧

لمّا ذكر إعراضهم عن الإيمان ، بيّن ههنا علّة إعراضهم.

فقال : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) وهذه الآية تدلّ على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآية المتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها.

قوله : «ويذرهم» قرأ الأخوان بالياء (١) وجزم الفعل ، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضا ، ورفع الفعل ، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنّون ورفع الفعل أيضا ، وقد روي الجزم أيضا عن نافع ، وأبي (٢) عمرو في الشواذ.

فالرفع من وجه واحد ، وهو الاستئناف ، أي : وهو يذرهم ، ونحن نذرهم ، على حسب القراءتين ، وأمّا السّكون فيحتمل وجهين :

أحدهما : أنه جزم نسقا على محلّ قوله : (فَلا هادِيَ لَهُ ؛) لأنّ الجملة المنفيّة جواب للشرط فهي في محلّ جزم فعطف على محلّها وهو كقوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ) [البقرة : ٢٧١] بجزم «يكفّر» ؛ وكقول الشاعر : [الكامل]

٢٦٣٩ ـ أنّى سلكت فإنّني لك كاشح

وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد (٣)

وأنشد الواحديّ أيضا قول الآخر : [الوافر]

٢٦٤٠ ـ فأبلوني بليّتكم لعلّي

أصالحكم وأستدرج نويّا (٤)

قال : حمل «أستدرج» على موضع الفاء المحذوفة ، من قوله : لعلّي أصالحكم.

والثاني : أنه سكون تخفيف ، كقراءة أبي عمرو (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] و (يُشْعِرُكُمْ) [الأنعام : ١٠٩] ونحوه ، وأمّا الغيبة فجريا على اسم الله تعالى ، والتّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التّكلم تعظيما ويعمهون مترددون متحيرون.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١٨٨)

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) الآية.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٩ ، والحجة ٤ / ١٠٩ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٦ ، وحجة القراءات ٣٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٧٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣١ ، والدر المصون ٣ / ٣٧٨.

(٣) ينظر التهذيب ١٥ / ٦٥٤ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢١٩ ، البحر ٤ / ٤٣١ ، الدر المصون ٣ / ٣٧٩.

(٤) البيت لأبي دؤاد الإيادي : ينظر ديوانه (٣٥٠) ، تأويل المشكل (٥٦) معاني الفراء ١ / ٨٨ ، الخصائص ١ / ١٧٦ ، المغني ٢ / ٤٢٣ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٩ ، اللسان : (علل) ، الدر المصون ٣ / ٣٧٩.

٤٠٨

في كيفية النّظم وجهان :

الأول : لمّا تكلم في التّوحيد ، والنّبوّة ، والقضاء ، والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلّا هذه الأربعة.

الثاني : لمّا قال في الآية المتقدمة : (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف : ١٨٥] باعثا بذلك عن المبادرة إلى التّوبة قال بعده : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) ليتحقّق في القلوب أنّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعا إلى التوبة وأداء الواجبات.

فصل

قال ابن عباس : إنّ قوما من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية (١).

وقال الحسن وقتادة : إن قريشا قالوا يا محمد : بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة (٢)؟

قال الزمخشريّ : السّاعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريّا ، وسمّيت القيامة بالسّاعة لوقوعها بغتة ؛ ولأنّ حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة ، فلهذا سمّيت بالسّاعة أو لأنها على طولها كساعة واحدة على الخلق.

قوله : (أَيَّانَ مُرْساها) فيه وجهان : أحدهما : أنّ أيّان خبر مقدم ، ومرساها مبتدأ مؤخر ، والثاني : أن أيّان منصوب على الظّرف بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع ل «مرساها» بالفاعليّة ، وهو مذهب أبي العباس ، وهذه الجملة في محلّ نصب بدل من السّاعة بدل اشتمال ، وحينئذ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرّ ؛ لأنها بدل [من] مجرور وقد صرّح بذلك أبو البقاء فقال : والجملة في موضع جرّ بدلا من السّاعة تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة. إلّا أنّه منع من كونها مجرورة المحل أنّ البدل في نيّة تكرار العامل ، والعامل هو يسألونك والسّؤال تعلق بالاستفهام وهو متعدّ ب «عن» فتكون الجملة الاستفهامية في محلّ نصب بعد إسقاط الخافض ، كأنّه قيل : يسألونك أيّان مرسى السّاعة ، فهو في الحقيقة بدل من موضع عن السّاعة لأن موضع المجرور نصب ، ونظيره في البدل على أحسن الوجوه فيه : عرفت زيدا أبو من هو.

و «أيّان» ظرف زمان مبني لتضمّنه معنى الاستفهام ، ولا يتصرّف ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف «متى» فإنّها يليها النّوعان ، وأكثر ما يكون [أيّان] استفهاما ، كقول الشاعر : [الرجز]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٦) من طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٤) وزاد نسبته لابن إسحق وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٤) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

٤٠٩

٢٦٤١ ـ أيّان تقضي حاجتي أيّانا

أما ترى لفعلها إبّانا (١)

وقد تأتي شرطية جازمة لفعلين.

قال الشاعر : [البسيط]

٢٦٤٢ ـ أيّان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا

لم تدرك الأمن منّا لم تزل حذرا (٢)

وقال آخر : [الطويل]

٢٦٤٣ ـ إذا النّعجة الأذناء كانت بقفرة

فأيّان ما تعدل بها الرّيح تنزل (٣)

والفصيح فتح همزتها ، وهي قراءة العامّة.

وقرأ السّلمي (٤) بكسرها ، وهي لغة سليم.

فصل

واختلف النحويون في أيّان هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم إلى أنّ أصلها أي أوان فحذفت الهمزة على غير قياس ، ولم يعوّض منها شيء ، وقلبت الواو ياء على غير قياس ؛ فاجتمع ثلاث ياءات فاستثقل ذلك فحذفت إحداهن وبنيت الكلمة على الفتح فصارت أيّان.

واختلفوا فيها أيضا هل هي مشتقة أم لا؟ فذهب أبو الفتح إلى أنّها مشتقة من «أويت إليه» ؛ لأنّ البضع آو إلى الكل ، والمعنى : أي وقت ، وأي فعل؟ ووزنه فعلان أو فعلان بحسب اللّغتين ومنع أن يكون وزنه فعّالا مشتقة من : «أين» ؛ لأنّ «أين» ظرف مكان ، وأيّان ظرف زمان. ومرساها يجوز أن يكون اسم مصدر ، وأن يكون اسم زمان.

وقال الزمخشريّ : مرساها إرساؤها ، أو وقت إرسائها : أي : إثباتها وإقرارها.

قال أبو حيّان : وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيد ؛ لأنّ أيّان استفهام عن الزمان فلا يصحّ أن يكون خبرا عن الوقت إلّا بمجاز ، لأنه يكون التقدير : في أي وقت وقت إرسائها وهو حسن.

ويقال : رسا يرسو : أي ثبت ، ولا يقال إلّا في الشيء الثقيل ، نحو : رست السفينة

__________________

(١) ينظر جامع البيان ١٣ / ٢٩٣ ، مجاز القرآن ١ / ٢٣٤ الجامع لأحكام القرآن ٧ / ٣٣٥ ، البحر ٤ / ٤١٨ ، الدر المصون ٣ / ٣٧٩.

(٢) ينظر شرح الشذور (٣٣٦) ، الأشموني ٤ / ١٠ ، البحر ٤ / ٤١٨ ، ابن عقيل ص (٥٨٢) المقاصد النحوية (٤ / ٤٢٣) الدر المصون ٣ / ٣٧٩.

(٣) ينظر الهمع ٢ / ٦٣ ، الدرر ٢ / ٨٠ ، الأشموني ٤ / ١٠ ، البحر ٤ / ٤١٨ ، شرح القطر (٨٨) ، الدر المصون ٣ / ٣٧٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٣ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣١ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٠.

٤١٠

ترسو وأرسيتها ، قال تعالى (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ؛ لقوله (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) لا جرم سمّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء.

قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) علمها مصدر مضاف للمفعول ، والظّرف خبره أي: أنّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره.

وقوله لا يجلّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها. والتّجلّي هو الظهور.

وقال مجاهد : لا يأتي بها لوقتها إلّا هو (١) نظيره قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] وقوله (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] ولمّا سأل جبريل ـ عليه‌السلام ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : متى السّاعة.

فقال : «ما المسئول عنها بأعلم من السّائل» (٢).

قال المحققون : والسّبب في إخفاء السّاعة عن العباد ليكونوا على حذر ، فيكون ذلك أوعى للطّاعة وأزجر عن المعصية ؛ فإنّه متى علمها المكلف تقاعس عن التّوبة ، وأخرها ، وكذلك إخفاء ليلة القدر ؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشّهر في العبادة ، وكذلك إخفاء ساعة الإجابة في يوم الجمعة ؛ ليكون المكلف مجدّا في الدّعاء في كل اليوم.

قوله : «في السّموات» يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون «في» بمعنى «على» أي : على أهل السموات أو هي ثقيلة على نفس السموات والأرض ، لانشقاق هذه وزلزال ذي ، وهو قول الحسن.

والثاني : أنّها على بابها من الظّرفيّة ، والمعنى : حصل ثقلها ، وهو شدّتها ، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين.

قال الأصمّ : إن هذا اليوم ثقيل جدّا على السموات والأرض ؛ لأنّ فيه فناءهم وذلك ثقيل على القلوب.

وقيل : ثقيل بسبب أنّهم يصيرون بعده إلى البعث ، والحساب ، والسّؤال ، والخوف.

وقال السّديّ : ثقل علمها ، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها.

قوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) أي فجأة على غفلة ، وهذا تأكيد وتقرير لما تقدّم من إخفائها.

روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لتقومنّ السّاعة وقد نشر الرّجلان ثوبهما

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٧).

(٢) تقدم وهو حديث سيدنا جبريل المشهور.

٤١١

بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومنّ السّاعة وقد انصرف الرّجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومنّ السّاعة هو يليط في حوضه فلا يسقى فيه ، ولتقومنّ السّاعة والرّجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» (١).

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) هذه الجملة التّشبيهيّة في محلّ نصب على الحال من مفعول : «يسألونك» وفي عنها وجهان :

أحدهما : أنّها متعلقة ب يسألونك و : «كأنّك حفيّ» معترض ، وصلتها محذوفة تقديره : حفيّ بها.

وقال أبو البقاء : في الكلام تقديم وتأخير ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنّ هذه كلّها متعلقات للفعل ، فإنّ قوله (كأنّك حفيّ) حال كما تقدّم.

والثاني : أنّ «عن» بمعنى الباء كما تكون الباء بمعنى عن كقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٢٥٩] (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥] ؛ لأن حفي لا يتعدّى ب «عن» بل بالباء كقوله : (كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] أو يضمّن معنى شيء يتعدّى ب «عن» أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها.

والحفيّ : المستقصي عن الشّيء ، المهتبل به ، المعني بأمره ؛ قال : [الطويل]

٢٦٤٤ ـ سؤال حفيّ عن أخيه كأنّه

بذكرته وسنان أو متواسن (٢)

وقال آخر : [الطويل]

٢٦٤٥ ـ فلمّا التقينا بيّن السّيف بيننا

لسائله عنّا حفيّ سؤالها (٣)

وقال الأعشى : [الطويل]

٢٦٤٦ ـ فإن تسألي عنّي فيا ربّ سائل

حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا (٤)

والإحفاء : الاستقصاء ؛ ومنه إحفاء الشّوارب ، والحافي ؛ لأنّه حفيت قدمه في استقصاء السّير.

قال الزمخشريّ : وهذا التركيب يفيد المبالغة.

قال أبو عبيدة : وهو من قولهم : تحفى بالمسألة أي : استقصى ، والمعنى : فإنّك

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت للمعطل الهذلي ينظر ديوان الهذليين ٣ / ٤٥ ، جامع البيان ١٣ / ٣٠١ ، المحرر الوجيز ٧ / ٢٢١ ، البحر ٤ / ٤١٨ ، الدر المصون ٣ / ٣٨٠.

(٣) البيت لأنيف بن زبان النبهاني. ينظر الحماسة ١ / ١٠٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٨ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٥ ، والكامل ١ / ٩٤ ، والدر المصون ٣ / ٣٨١.

(٤) ينظر : ديوانه (١٨٥) ، التهذيب ٥ / ٢٥٩ ، واللسان (حفا) و (صعد) وحاشية الشهاب ٤ / ٤٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٨١.

٤١٢

أكثرت السّؤال عنها وبالغت في طلب علمها ، وقيل الحفاوة : البرّ واللّطف.

قال ابن الأعرابي : يقال حفي بي حفاوة وتحفّى بي تحفّيا. والتّحفي : الكلام واللّقاء الحسن ، قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] أي بارّا لطيفا يجيب دعائي. ومعنى الآية على هذا : [يسألونك] كأنّك بارّ بهم لطيف العشرة معهم ، قاله الحسن وقتادة والسّديّ (١) ويؤيده ما روي في تفسيره : إنّ قريشا قالوا لمحمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : إنّ بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السّاعة؟ فقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) [الأعراف : ١٨٧] أي : كأنك صديق لهم بارّ ، بمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم.

وقرأ عبد الله (٢) حفيّ بها وهي تدلّ لمن ادّعى أنّ «عن» بمعنى الباء ، وحفيّ فعيل بمعنى : مفعول أي : محفوّ.

وقيل : بمعنى فاعل ، أي كأنّك مبالغ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها.

قوله : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).

اعلم أن قوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) سؤال عن وقت قيام السّاعة.

وقوله ثانيا : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) سؤال عن كيفيّة ثقل السّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار ، وأجاب عن الأوّل بقوله : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) وأجاب عن الثّاني بقوله : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) والفرق بين الصورتين : أن السؤال الأول كان واقعا عن وقت السّاعة. والسؤال الثّاني كان واقعا عن مقدار شدتها ومهابتها.

وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قولنا : الله.

فأجاب عند السّؤال عن مقدار شدّة القيامة بالاسم الدّالّ على غاية المهابة ، وهو قولنا : الله ، ثم ختم الآية بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يعلمون أن القيامة حقّ ؛ لأنّ أكثر الخلق ينكرون المعاد.

وقيل : لا يعلمون بأنّي أخبرتك بأنّ وقت قيام السّاعة لا يعلمها إلّا الله.

وقيل : لا يعلمون السّبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) الآية.

وجه تعلّق هذه الآية بما قبلها : أنّهم لمّا سألوه عن علم السّاعة فقال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي أنا لا أدري علم الغيب ، ولا أملك لنفسي نفعا ، ولا ضرّا إن أنا إلّا نذير ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٣٩) عن الحسن وقتادة والسدي.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٥ ، ونسبها ابن عطية في المحرر (٢ / ٤٨٥) إلى ابن عباس ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٨١.

٤١٣

ونظيره قوله في سورة يونس : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [يونس : ٤٨ ، ٤٩].

قال ابن عبّاس : إنّ أهل مكة قالوا : يا محمّد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به ، ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فنرحل عنها إلى ما قد أخصبت ؛ فأنزل الله هذه الآية (١).

وقيل : لمّا رجع عليه الصّلاة والسّلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطّريق ففرت الدوابّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال انظروا أين ناقتي؟ فقال عبد الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ، ولا يعرف أين ناقته! فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنّ ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلّق زمامها بشجرة ، فوجدوها على ما قال ؛ فأنزل الله عزوجل (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

قوله : «لنفسي» فيه وجهان :

أحدهما : أنّها متعلقة ب «أملك».

والثاني : أنّها متعلقة بمحذوف على أنّها حال من نفعا ؛ لأنه في الأصل صفة له لو تأخر ، ويجوز أن يكون لنفسي معمولا ب «نفعا» واللّام زائدة في المفعول به تقوية للعامل ؛ لأنّه فرع إذ التّقدير : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضرّها ، وهو وجه حسن.

قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) في هذا الاستثناء وجهان :

أظهرهما : أنّه متّصل ، أي إلّا ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه.

والثاني : أنّه منفصل ـ وبه قال ابن عطيّة ـ ، وسبقه إليه مكيّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.

فصل

دلّت هذه الآية على مسألة خلق الأعمال ؛ لأنّ الإيمان نفع والكفر ضرّ ؛ فوجب أن لا يحصلان إلّا بمشيئة الله تعالى ؛ لأنّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدّاعية الجازمة يكون مريدا للكفر ، فعلى جميع التقديرات : لا يملك العبد لنفسه نفعا ، ولا ضرّا إلا ما شاء الله.

أجاب القاضي عنه بوجوه :

أحدها : أن ظاهر الآية ، وإن كان عاما بحسب اللّفظ إلّا أنّا ذكرنا أنّ سبب النّزول قول الكفّار : «يا محمّد ألا يخبرك ربّك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو» فيحمل اللفظ

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٧٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عباس ؛ وذكره البغوي في «تفسيره» ، (٢ / ٢٢٠).

٤١٤

العام على سبب نزوله ، فيكون المراد بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره.

وثانيها : أنّ المراد بالنّفع والضر ما يتّصل بعلم الغيب لقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف : ١٨٨].

وثالثها : أن التقدير : لا أملك لنفسي من النّفع والضر إلّا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني فيه ، وهذه الوجوه كلّها عدول عن الظّاهر ، فلا يصار إليها مع قيام البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلّا ما دل عليه ظاهر الآية.

فصل

احتج الرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ على عدم علمه بالغيب بقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) واختلفوا في المراد بهذا الخير وقوله «وما مسّني السّوء» قال ابن جريج :

قل لا أملك لنفسي نفعا ، ولا ضرّا من الهدى والضلالة ، ولو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من الخير ، أي : من العمل الصّالح وما مسّني السّوء ، واجتنبت ما يكون من الشّر واتّقيته.

وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السّاعة لأخبرتكم حتّى تؤمنوا وما مسّني السّوء بتكذيبكم.

وقيل : ما مسني السّوء ابتداء يريد : وما مسّني الجنون ؛ لأنّهم كانوا ينسبونه إلى الجنون ، وقال ابن زيد : المراد بالسّوء : الضرّ ، والفقر ، والجوع.

قوله «وما مسّني السّوء» عطف على جواب «لو» وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللّام في جواب «لو» المثبت ، وإن كان يجوز غيره ، كما تقدّم ، وحذف اللّام من المنفيّ ، لأنه يمتنع ذلك فيه.

وقال أبو حيّان (١) : ولم تصحب «ما» النّافية ـ أي : اللام ـ وإن كان الفصيح ألّا تصحبها ، كقوله : (وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤]. وفيه نظر ؛ لأنّهم نصّوا على أنّ جوابها المنفيّ لا يجوز دخول اللّام عليه.

قوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نذير لمن لا يصدق بما جئت به ، وبشير بالجنّة لقوم يصدقون.

وذكر إحدى الطائفتين ؛ لأنّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣٤.

٤١٥

وقد يقال : إنه كان نذيرا وبشيرا للكل إلّا أنّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدّم في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

واللّام في قوله [القوم] من باب التّنازع ، فعند البصريين تتعلق ب «بشير» لأنه الثّاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه.

ويجوز أن يكون المتعلّق بالنذارة محذوفا ، أي : نذير للكافرين ودلّ عليه ذكر مقابله كما تقدم.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)(١٩٣)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) الآية.

اعلم أنّه تعالى رجع هنا إلى تقرير التّوحيد ، وإبطال الشرك.

قال ابن عبّاس : المراد بالنفس الواحدة آدم ـ عليه الصلاة والسلام (١) ـ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] أي حواء خلقها الله من ضلع آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من غير أذى ليسكن إليها أي : ليأنس بها ويأوي إليها قالوا : والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم : أنّ الجنس أميل إلى جنسه.

قال ابن الخطيب : وهذا مشكل ؛ لأنّه تعالى لمّا كان قادرا على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقول خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ولم لم نقل إنّه تعالى خلق حواء أيضا ابتداء؟ وأيضا فالقادر على خلق الإنسان من عظم واحد لم لا يقدر على خلقه ابتداء؟ وأيضا فقولهم إنّ عدد أضلاع الجانب الأيسر من الذّكر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد ، على خلاف الحسن والتّشريح. وإذا عرف ذلك فنقول : المراد من كلمة من في قوله : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أنّ الإشارة إلى شيء تكون تارة بحسب شخصه ، وتارة بحسب نوعه.

قال عليه الصّلاة والسّلام هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به.

والمراد نوعه لا ذلك الفرد المعين ، وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والمراد : نوعه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٤١) عن مجاهد.

٤١٦

وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] والمراد نوعها لا شخصها فكذا ههنا.

(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي : وخلق من نوع الإنسان زوج آدم ، أي : جعل زوج آدم إنسانا مثله ، «فلمّا تغشّاها» أي واقعها وجامعها : «حملت حملا خفيفا» وهو أوّل ما تحمل المرأة من النّطفة يكون خفيفا عليها : «فمرّت به» أي : استمرّت به ، وقامت وقعدت به لم يثقلها.

قوله حملا المشهور أنّ الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة. وحكى أبو عبيد في حمل المرأة : حمل وحمل.

وحكى يعقوب في حمل النّخلة : الكسر ، والحمل في الآية يجوز أن يراد به المصدر فينتصب انتصابه ، وأن يراد به نفس الجنين ، وهو الظّاهر ، فينتصب انتصاب المفعول به ، كقولك : حملت زيدا.

قوله : «فمرّت» الجمهور على تشديد الراء ، أي : استمرت به ، أي : قامت وقعدت.

وقيل : هو على القلب أي : فمرّ بها أي : استمرّ ودام.

وقرأ ابن عبّاس (١) ، وأبو العالية ويحيى بن يعمر ، وأيوب : فمرت خفيفة الرّاء ، وفيها تخريجان :

أحدهما : أنّ أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مكرر فتركوه ، وهذه كقراءة : (وَقَرْنَ) [الأحزاب : ٣٣] بفتح القاف إذا جعلناه من القرار.

والثاني : أنه من المرية وهو الشّك ، أي : فشكّت بسببه أهو حمل أم مرض؟

وقرأ عبد الله (٢) بن عمرو بن العاص ، والجحدريّ : فمارت بألف وتخفيف الرّاء ، وفيها أيضا وجهان ، أحدهما : أنّها من : «مار ، يمور» ، إذا جاء وذهب ، ومارت الرّيح ، أي : جاءت وذهبت وتصرّفت في كلّ وجه ، ووزنه حينئذ «فعلت» والأصل «مورت» ثم قلبت الواو ألفا فهو ك : طافت ، تطوف.

والثاني : أنّها من المرية أيضا قاله الزمخشريّ ، وعلى هذا فوزنه «فاعلت».

والأصل «ماريت» ك «ضاربت» فتحرّك حرف العلّة وانفتح ما قبله فقلب ألفا ، ثمّ حذفت لالتقاء الساكنين ، فهو ك : بارت ، ورامت. وقرأ سعد (٣) بن أبي وقّاص ، وابن عبّاس أيضا والضحّاك : فاستمرّت به وهي واضحة.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٦ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٨٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٨٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٢.

(٣) ينظر السابق ، والكشاف ٢ / ١٨٦.

٤١٧

وقرأ أبيّ (١) فاستمارت وفيها الوجهان المتقدمان في «فمارت» أي : أنّه يجوز أن يكون من «المرية» ، والأصل : استمريت وأن يكون من «المور» ، والأصل : استمورت.

قوله : «فلمّا أثقلت» أي : صارت ذات ثقل ودنت ولادتها كقولهم ألبن الرّجل ، وأتمر أي : صار ذا لبن وتمر.

وقيل : دخلت في الثقل ؛ كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخل في الصّباح والمساء ، وقرىء (٢) أثقلت مبنيّا للمفعول.

قوله : (دَعَوَا اللهَ) متعلّق الدّعاء محذوف لدلالة الجملة القسميّة عليه ، أي : دعواه في أن يؤتيهما ولدا صالحا.

قوله : (لَئِنْ آتَيْتَنا) هذا القسم وجوابه فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مفسّر لجملة الدّعاء كأنه قيل :

فما كان دعاؤهما؟

فقيل : كان دعاؤهما كيت وكيت ؛ ولذلك قلنا إنّ هذه الجملة دالة على متعلق الدّعاء.

والثاني : أنّه معمول لقول مضمر ، تقديره : فقالا لئن آتيتنا ، ولنكوننّ جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف على ما تقرّر.

وصالحا فيه قولان أظهرهما : أنه مفعول ثان ، أي : ولدا صالحا.

والثاني : قال مكي إنه نعت مصدر محذوف ، أي : إيتاء صالحا ، وهذا لا حاجة إليه ، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما.

فصل

قال المفسّرون : المعنى لئن آتيتنا صالحا بشرا سويّا مثلنا لنكوننّ من الشّاكرين.

وكانت القصة أنّه لمّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما الذي في بطنك؟

قالت : ما أدري ، قال : إني أخاف أن يكون بهيمة ، أو كلبا ، أو خنزيرا ، وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك ، أو من فيك أو ينشق بطنك؟ فخافت حوّاء من ذلك وذكرته لآدم ، فلم يزالا في همّ من ذلك ، ثمّ عاد إليها فقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا سويّا مثلك ، ويسهّل عليك خروجه تسميه عبد الحارث.

وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٨٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٣٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٨٣.

٤١٨

فقال : لعلّه صاحبنا الذي قد علمت ؛ فعاودها إبليس ، فلم يزل بها حتّى غرّها ؛ فلمّا ولدته سمّياه عبد الحارث.

وروي عن ابن عباس ، قال : كانت حوّاء تلد فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس ، وقال : إن سرّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ؛ فولدت فسمياه عبد الحارث فعاش ، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض.

واعلم أن هذا التأويل فاسد لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فدلّ على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.

وثانيها : قال بعده : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وهذا يدلّ على أن المقصود من الآية : الرّد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى ، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.

وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركون من لا يخلق ؛ لأن العاقل إنّما يذكر بصيغة من.

ورابعها : أنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ كان من أشدّ النّاس معرفة بإبليس ، وكان عالما بجميع الأسماء كما قال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] فلا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحارث ، فمع العداوة الشّديدة التي بينهما ومع علمه بأنّ اسم إبليس الحارث كيف يسمّي ولده بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟

وخامسها : أنّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءه إنسان ، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم ـ عليه‌السلام ـ مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟

وسادسها : أن بتقدير أن آدم عليه الصلاة والسلام ، سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إمّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له ، بمعنى أنّه أخبر بهذا اللفظ أنّه عبد الحارث ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركا لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولا بأن آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ اعتقد أنّ لله شريكا في الخلق والإيجاد ، وذلك يوجب الجزم بكفر آدم ، وذلك لا يقوله عاقل ؛ فثبت فساد هذا القول.

وإذا عرف ذلك فنقول في تأويل الآية وجوه :

الأول : قال القفال (١) ـ رحمه‌الله ـ إنّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضرب

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٥ / ٧١.

٤١٩

المثل وبيان أنّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك ، كأنّه تعالى يقول : هو الذي خلق كلّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية ، فلمّا تغشّى الزّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزّوج والزّوجة ربهما إن أتانا ولدا صالحا سويّا لنكونن من الشّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمّا آتاهما الله ولدا صالحا سويّا جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ؛ لأنّهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطّبائع كما يقول الطبيعيون ، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المنجمين ، وتارة إلى الأصنام والأوثان كقول عبدة الأصنام.

ثم قال تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزّه الله تعالى عن ذلك الشّرك. وهذا قول عكرمة.

والثاني : أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وهم آل أقصى».

والمراد من قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ) قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصّالح السّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة : عبد مناف ، وعبد العزّى ، وعبد قصيّ وعبد اللّات وعبد الدّار ، وجعل الضمير في يشركون لهما ، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.

الثالث : إن سلّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصّة آدم ـ عليه‌السلام ـ.

وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه :

أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : إنّ آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وحكى عنهما أنهما قالا : (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولدا صالحا لاشتغلوا بشكر تلك النّعمة.

ثم قال (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ).

فقوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشّرك وينسبونه إلى آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك. فيقول المنعم : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشّرّ؟ إنه بريء عن ذلك.

فقوله : يقابلني بالشّرّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا.

ثانيها : إن سلمنا أن القصّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضاف وإقامة

٤٢٠