اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

أظهرها : أنّها منصوبة على المفعول من أجله ، أي : «وعظناهم لأجل المعذرة».

وقال سيبويه (١) : ولو قال رجل لرجل : معذرة إلى الله وإليك من كذا ، لنصب.

الثّاني : أنّها منصوبة على المصدر بفعل مقدر من لفظها ، تقديره : نعتذر معذرة.

الثالث : أن ينصب انتصاب المفعول به ؛ لأن المعذرة تتضمّن كلاما ، والمفرد المتضمّن لكلام إذا وقع بعد القول نصب نصب المفعول به ، ك «قلت خطبة». وسيبويه يختار الرّفع.

قال : لأنّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا.

ولكنهم قيل لهم : لم تعظون؟

«فقالوا» موعظتنا معذرة.

والمعذرة : اسم مصدر وهو العذر.

وقال الأزهري : إنّها بمعنى الاعتذار ، والعذر : التّنصل من الذّنب.

قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) الضّمير في نسوا للمنهيّين و «ما» موصولة بمعنى «الذي» أي : فلمّا نسوا الوعظ الذي ذكّرهم به الصّالحون.

قال ابن عطيّة (٢) : ويحتمل أن يراد به الذّكر نفسه ، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر.

قال أبو حيان (٣) : ولا يظهر لي هذان الاحتمالان.

قال شهاب الدّين (٤) : يعني ابن عطية بقوله : «الذّكر نفسه» أي : نفس الموصول مراد به المصدر كأنه قال : فلمّا نسوا الذّكر الذي ذكّروا به ، وبقوله : «ما كان فيه الذّكر» نفس الشيء المذكّر به الذي هو متعلّق الذكر ؛ لأن ابن عطيّة لمّا جعل «ما» بمعنى «الذي» قال : إنّها تحتمل الوقوع على هذين الشيئين المتغايرين.

فصل

النّسيان يطلق على السّاهي ، والعامد التّارك لقوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) أي : تركوه عن قصد ، ومنه قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧].

فصل

المعنى : فلمّا تركوا ما وعظوا به ، (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين أقدموا على المعصية.

واختلف المفسّرون في الفرقة السّاكتة. فنقل عن ابن عبّاس : أنّه توقّف فيهم ، ونقل

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١٦١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٦٢.

٣٦١

عنه : هلكت الفرقتان ونجت النّاهية ، وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنّ هؤلاء الذين سكتوا عن النّهي عن المنكر هلكوا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ، ثم نسكت ، ولا نقول شيئا.

وقال الحسن : نجت الفرقتان ، وهلكت العاصية (١) ، لأنهم لما قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً(٢) اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ) دلّ على أنّهم أنكروا أشد الإنكار ، وأنّهم إنّما تركوا وعظهم ؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ.

فإن قيل : إن ترك الوعظ معصية ، والنّهي عنه أيضا معصية ؛ فوجب دخول هؤلاء التّاركين للوعظ النّاهين عنه تحت قوله : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ).

فالجواب : هذا غير لازم ؛ لأنّ النّهي عن المنكر إنّما يجب على الكفاية ، ولو قام به البعض سقط عن الباقين.

وروي عن ابن عبّاس أنه قال : أسمع الله يقول : (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السّاكتة (٢)؟

قال عكرمة : قلت له : جعلني الله فداك ، ألا تراهم قد أنكروا ، وكرهوا ما هم عليه وقالوأ : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي ورضي به ، وأمر لي ببردين فكسانيهما ؛ وقال : نجت السّاكتة ، وهذا قول يمان بن رباب ، والحسن ، وابن زيد.

قوله : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ). أي : شديد.

قرأ نافع ، وأبو جعفر ، وشيبة بيس (٣) بياء ساكنة ، وابن عامر بهمزة ساكنة. وفيهما أربعة أوجه :

أحدها : أنّ هذا في الأصل فعل ماض سمّي به فأعرب كقوله عليه الصّلاة والسّلام : «أنهاكم عن قيل وقال» بالإعراب والحكاية ، وكذا قولهم : «مذ شبّ إلى دبّ ومذ شبّ إلى دبّ» ، فلما نقل إلى الاسميّة صار وصفا ك : نضو ونقض.

والثاني : أنّه وصف وضع على فعل ك : حلف.

الثالث : أن أصله بئيس كالقراءة المشهورة ، فخفّف الهمزة ؛ فالتقت ياءان ، ثم كسر الياء إتباعا ، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرة ، فحذفت الياء المكسورة ؛ فصار اللّفظ «بيس» وهو تخريج الكسائيّ.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣٣) عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٩٥ ـ ٩٦) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٣) ينظر في قراءات هذه الكلمة : السبعة ٢٩٧ ، والحجة ٤ / ٩٨ ـ ١٠٢ وإعراب القراءات ٢ / ٢١١ ، وحجة القراءات ٣٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٦٦ ـ ٦٧.

٣٦٢

الرابع : أن أصله بئس بوزن «كتف» ثم أتبعت الياء للهمزة في الكسر ثم سكنت الهمزة ، ثمّ أبدلت ياء ك : بير وذيب.

وأمّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلا منقولا ، وأن تكون وصفا ك : حلف.

وقرأ أبو بكر عن عاصم بيئس بياء ساكنة بين باء ، وهمزة مفتوحتين ، وهو صفة على فيعل ك : ضيغم ، وصيرف ، وصيقل ، وهي كثيرة في الأوصاف.

وقال امرؤ القيس : [الرجز]

٢٦٠٢ ـ كلاهما كان رئيسا بيئسا

يضرب في يوم الهياج القونسا (١)

وقرأ باقي السبعة «بئيس» بزنه «رئيس» وفيه وجهان :

أحدهما : أنّه وصف على «فعيل» ك : شديد ، وهو للمبالغة وأصله فاعل.

والثاني : أنه مصدر وصف به أي : بعذاب ذي بأس بئيس ، ف «بئيس» مصدر مثل : النكير والقدير ، ومثل ذلك في احتمال الوجهين قول أبي الأصبع العدواني : [مجزوء الكامل]

٢٦٠٣ ـ حنقا عليّ ولا أرى

لي منهما شرّا بئيسا (٢)

وهي أيضا قراءة عليّ وأبي رجاء (٣).

وقرأ يعقوب القارىء «بئس» بوزن «شهد» ، وقرأها أيضا عيسى بن عمر ، وزيد بن علي.

وقرأ نصر بن عاصم «بأس» بوزن «ضرب» فعلا ماضيا.

وقرأ الأعمش ومالك بن دينار «بأس» فعلا ماضيا ، وأصله «بئس» بكسر الهمزة ، فسكّنها تخفيفا ك : شهد في قوله : [الرجز]

٢٦٠٤ ـ لو شهد عاد في زمان تبّع (٤)

وقرأ ابن كثير وأهل مكة بئس بكسر الباء ، والهمز همزا خفيفا ، ولم يبيّن هل الهمزة مكسورة أو ساكنة؟

وقرأ طلحة وخارجة عن نافع «بيس» بفتح الباء ، وسكون الياء مثل : كيل ، وأصله «بيئس» مثل : ضيغم فخفّف الهمزة بقلبها ياء ، وإدغام الياء فيها ثم خفّفه بالحذف ك : ميت في : ميّت.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الطبري ١٣ / ٢٠١ ، البحر المحيط ٤ / ٤١١ ، مجاز القرآن ١ / ٢٣١ ، جامع البيان ١٣ / ٢٠١ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٢ واللسان «حنق».

(٣) ينظر في قراءات هذه الكلمة : السابق ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٦٩ ، ٤٧٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٠ ـ ٤١١ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٢ ـ ٣٦٤.

(٤) تقدم.

٣٦٣

وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية «بيئس» كقراءة أبي بكر عنه ، إلّا أنّه كسر الهمزة ، وهذه قد ردّها النّاس ؛ لأن «فيعلا» بكسر العين في المعتلّ ، كما أن «فيعلا» بفتحها في الصحيح ك : سيّد وضيغم ، على أنه قد شذّ «صيقل» بالكسر ، و «عيّل» بالفتح.

وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عنه «بأس» بفتح الباء والهمزة وجر السّين ، بزنة «جبل».

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بئس» مثل كبد وحذر.

قال عبيد الله بن قيس : [المديد]

٢٦٠٥ ـ ليتني ألقى رقيّة في

خلوة من غير ما بئس (١)

وقرأ نصر بن عاصم في رواية بيّس بهمزة مشددة.

قالوا : قلب الياء همزة وأدغمها في مثلها. ورويت هذه عن الأعمش أيضا.

وقرأت طائفة بأس بفتح الثلاثة ، والهمزة مشددة ، فعلا ماضيا ، ك «شمّر» ، وطائفة أخرى بأس كالتي قبلها إلّا أنّ الهمزة خفيفة ، وطائفة بائس بألف صريحة بين الباء والسّين المجرورة ، وقرأ أهل المدينة بئيس ك : «رئيس» ، إلّا أنهم كسروا الباء ، وهذه لغة تميم في فعيل الحلقيّ العين نحو : بعير ، وشعير ، وشهيد ، سواء أكان اسما أم صفة.

وقرأ الحسن والأعمش «بئيس» بياء مكسورة ، ثم همزة ساكنة ، ثم ياء مفتوحة ، بزنة «حذيم» ، و «عثير».

وقرأ الحسن بئس بكسر الباء ، وسكون الهمزة وفتح السّين ، جعلها التي للذّمّ في نحو : بئس الرجل زيد.

ورويت عن أبي بكر.

وقرأ الحسن أيضا كذلك ، إلّا أنه بياء صريحة ، وتخريجها كالتي قبلها ، وهي مروية عن نافع وقد ردّ أبو حاتم هذه القراءة والتي قبلها بأنّه لا يقال : مررت برجل بئس ، حتّى يقال بئس الرجل ، أو بئس رجلا.

قال النّحّاس (٢) : وهذا مردود ـ يعني قول أبي حاتم ـ حكى النحويون : إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت ، أي : ونعمت الخصلة ، والتقدير : بئس العذاب.

قال شهاب الدّين (٣) : أبو حاتم معذور في القراءة ، فإنّ الفاعل ظاهرا غير مذكور ، والفاعل عمدة لا يجوز حذفه ، ولكنه قد ورد في الحديث من توضّأ فبها ونعمت ، ومن

__________________

(١) ينظر : الديوان (١٦٠) ، وجامع البيان ١٣ / ٢٠١ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٠ والخزانة ٨ / ٤٩٠ ، والعيني ٤ / ٣٧٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٣.

(٢) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٦٤٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٦٣.

٣٦٤

اغتسل فالغسل أفضل ففاعل «نعمت» هنا مضمر يفسّره سياق الكلام.

قال أبو حيّان (١) : فهذه اثنتان وعشرون قراءة ، وضبطها بالتّلخيص : أنّها قرئت ثلاثية اللّفظ ، ورباعيّته ، فالثّلاثي اسما : بئس ، وبيس ، وبيس ، وبأس ، وبأس ، وبئس ، وفعلا بيس وبئس ، وبئس ، وبأس ، وبأس ، وبيس.

والرباعية اسما : بيئس ، وبيئس ، وبيئس ، وبيّس ، وبئيس ، وبئيس ، وبئيس ، وبئيس. وفعلا : بأس».

وقد زا أبو البقاء (٢) أربع قراءات أخر : بيس بباء مفتوحة وياء مكسورة.

قال : وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء ، وبيس بفتحهما.

قال : وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلّا أنّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت ، ولم تقلب الياء ألفا ، لأنّ حركتها عارضة. وبأيس بفتح الباء ، وسكون الهمزة وفتح الياء.

قال : وهو بعيد إذ ليس في الكلام «فعيل» وبيآس على فيعال. وهو غريب.

قوله تعالى : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) الآية.

قال ابن عباس «أبوا أن يرجعوا عن المعصية» (٣) والعتو : هو الإباء والعصيان.

فإن قيل : إذا عتوا عمّا نهوا عنه فقد أطاعوا ؛ لأنّهم أبوا عمّا نهوا عنه ، وليس المراد ذلك.

فالجواب : ليس المراد أنهم أبوا عن النهي ، بل أبوا عن امتثال ما أمروا به.

وقوله : (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

قال بعضهم ليس المراد منه القول ؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك.

قال : وفيه دلالة على أن قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] هو بمعنى الفعل لا الكلام.

وقال الزجاج أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع ، فيكون أبلغ.

قال ابن الخطيب : وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد ؛ لأنّ المأمور بالفعل يجب أن يكون قادرا عليه ، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.

فصل

قال ابن عبّاس : أصبح القوم قردة خاسئين ؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيّام تراهم النّاس

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١١.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٨.

(٣) تقدم.

٣٦٥

ثمّ هلكوا (١) ، ونقل عن ابن عبّاس : أن شباب القوم صاروا قردة ، والشّيوخ خنازير (٢) ، وهذا خلاف الظّاهر.

قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٧)

قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) الآية.

لمّا شرح قبائح أعمال اليهود ذكر هنا حكمه عليهم بالذل والصّغار إلى يوم القيامة ، و «تأذّن» فيه أوجه ، أحدها : أنّه بمعنى : «آذن» أي : أعلم.

قال الواحديّ : وأكثر أهل اللغة على أنّ : «التّأذّن» بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام.

قال الفارسي : «آذن» أعلم ، و «أذّن» نادى وصاح للإعلام ، ومنه قوله (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ) [الأعراف : ٤٤].

قال : وبعض العرب يجري «آذنت» مجرى «تأذّنت» فيجعل «آذن وتأذّن» بمعنى فإذا كان «أذّن» أعلم في لغة بعضهم ، ف «أذّن» تفعّل من هذا.

وقيل : معناه : حتّم وأوجب وهو معنى قول مجاهد : أمر (٣) ربك ، وقول عطاء : حكم ربّك (٤).

وقال الزمخشري : «تأذّن» عزم ربك ، وهو تفعّل من الإيذان وهو الإعلام ؛ لأنّ العازم على الأمر يحدّث به نفسه ويؤذنها بفعله ، وأجري مجرى فعل القسم ك : علم الله ، وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو : «ليبعثنّ».

وقال الطبريّ وغيره «تأذّن» معناه «أعلم» ، وهو قلق من جهة التصريف ، إذ نسبة «تأذّن» إلى الفاعل غير نسبة «أعلم» ، وبين ذلك فرق من التعدي وغيره.

وقال ابن عباس : تأذّن ربّك قال ربّك (٥).

قوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيه وجهان : أصحهما : أنّه متعلق ب : ليبعثنّ.

والثاني : أنّه متعلق ب : تأذّن نقله أبو البقاء ، ولا جائز أن يتعلق ب : يسومهم ؛ لأن «من» إمّا موصولة ، وإمّا موصوفة ، والصلة والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣٤) عن ابن عباس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٢) وذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣٤).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٢) عن مجاهد.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٠٩).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٦٦

فصل

الضمير في عليهم يقتضي رجوعه إلى الذين : (عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) لكنّهم قد مسخوا ، فلم يستمر عليهم التّكليف ؛ فلذلك اختلفوا :

فقيل : المراد نسلهم.

وقيل : المراد سائر اليهود ، فإنّ أهل القرية كانوا فرقتين ، فالمتعدّي مسخ ، وألحق الذّلّ بالبقيّة.

وقال الأكثرون : هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ لأنّ المقصود من الآية تخويفهم وزجرهم ، وهذا العذاب في الدّنيا ، لأنه نص على أنّ ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة ثمّ اختلفوا فيه :

فقيل : هو أخذ الجزية.

وقيل : الاستخفاف والإهانة لقوله تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا) [آل عمران : ١١٢] وقيل : القتل والجلاء الذي وقع بأهل خيبر وبني قريظة والنضير.

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ اليهود لا دولة لهم ولا عزّ ، وأن الذّلّ والصغار لا يفارقهم ، وقد ورد في الحديث : أن أتباع الدّجّال هم اليهود (١) فإن صحّ فمعناه : أنهم كانوا قبل خروجه يهودا ، ثم دانوا بإلهيته ؛ فذكروا بالاسم الأول ، ولو لا ذلك لكانوا في وقت اتباعهم الدّجّال قد خرجوا عن الذلة والقهر ، وهو خلاف الآية.

ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) والمراد التّحذير من عذابه في الآخرة مع الذّلة في الدّنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن تاب من الكفر ، واليهوديّة ، وآمن بالله وبرسوله.

قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(١٧٠)

قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً) الآية.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٦٦) كتاب الفتن وأشراط الساعة : باب في بقية من أحاديث الدجال حديث (١٢٤ / ٢٩٤٤) من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة.

٣٦٧

هذه الآية تدلّ على أن المراد بقوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) جملة اليهود ، ومعنى «قطّعناهم» أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلّ على أنّه لا أرض مسكونة إلّا وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالب.

وقوله : «أمما» إمّا حال من مفعول «قطّعناهم» ، وإمّا مفعول ثان على ما تقدّم من أنّ «قطّع» تضمّن معنى : صيّر. و (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة ل «أمم».

وقال أبو البقاء : «أو بدل منه ، أي : من أمم». يعني : أنّه حال من مفعول : «قطّعناهم» أي : فرّقناهم حال كونهم منهم الصّالحون.

قيل : المراد ب «الصّالحين» الذين كانوا في زمن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ لأنّه كان فيهم قوم يهدون بالحق.

وقال قتادة : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصّين (١).

وقال ابن عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ك : عبد الله بن سلام وغيره (٢). وقوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي : من أقام على اليهوديّة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) من يكون صالحا إلّا أنّ صلاحه دون صلاح الأولين ؛ لأنّه أقرب إلى الظاهر؟

فالجواب : أن قوله بعد ذلك : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يدل على أنّ المراد من ثبت على اليهوديّة.

قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) «منهم» خبر مقدم ، و «دون ذلك» : نعت لمنعوت محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناس أو قوم دون ذلك.

قال الزمخشري (٣) : معناه : ومنهم ناس منحطّون عن الصّلاح ، ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤]. بمعنى : ما منّا أحد إلّا له مقام معلوم. يعني في كونه حذف الموصوف وأقيم الجملة الوصفية مقامه ، كما قام مقامه الظرف الوصفيّ ، والتفصيل ب «من» يجوز فيه حذف الموصوف وإقامة الصّفة مقامه كقولهم : منّا ظعن ومنّا أقام.

وقال ابن عطيّة (٤) : فإن أريد بالصّلاح الإيمان ف «دون» بمعنى «غير» يراد به الكفرة.

قال أبو حيان (٥) : إن أراد أنّ دون ترادف «غيرا» ، فليس بصحيح ، وإن أراد أنّه يلزم أنّ من كان دون شيء أن يكون غيرا له فصحيح ، وذلك إمّا أن يشار به إلى الصّلاح وإمّا أن يشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح ؛ فلا بد من حذف مضاف ، ليصحّ

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠).

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٧٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٣.

٣٦٨

المعنى ، تقديره : ومنهم دون أهل ذلك الصلاح ، ليعتدل التقسيم ، وإن أشير به إلى الجماعة ، أي : ومنهم دون أولئك الصالحين ، فلا حاجة إلى تقدير مضاف ؛ لاعتدال التقسيم بدونه.

وقال أبو البقاء (١) : دون ذلك ظرف أو خبر على ما ذكرنا في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام ٩٤] وفيه نظر من حيث إن «دون» ليس بخبر.

قوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ) أي : عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات ، وهي : النّعم والخصب ، والعافية ، والسّيّئات وهي الجدب ، والشّدائد.

قال أهل المعاني : وكلّ واحدة من الحسنات والسيئات تدعو إلى الطّاعة ، أمّا النعم فللترغيب ، وأمّا النّقم فللترهيب.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ :) لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربّهم.

قوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ) الآية.

الخلف والخلف ـ بفتح اللام وإسكانها ـ هل هما بمعنى واحد؟ أي : يطلق كل منهما على القرن الذي يخلف غيره صالحا أو طالحا ، أو أنّ السّاكن اللام في الطّالح ، والمفتوح في الصّالح؟ خلاف مشهور بين اللّغويين.

قال الفرّاء : يقال للقرن «خلف» يعني ساكنا ولمن استخلفته : خلفا ، يعني : متحرك اللّام.

وقال الزجاج : الخلف ما أخلف عليك بدلا ممّا أخذ منك ؛ فلهذا السبب يقال للقرن يجيء بعد القرن «خلف».

وقال ثعلب : النّاس كلّهم يقولون «خلف صدق» للصّالح ، و «خلف سوء» للطّالح ؛ وأنشد : [الكامل]

٢٦٠٦ ـ ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب (٢)

وقالوا في المثل : سكت ألفا ونطق خلفا ويعزى هذا إلى الفرّاء ؛ وأنشد : [المنسرح]

٢٦٠٧ ـ خلّفت خلفا ولم تدع خلفا

ليت بهم كان لا بك التّلفا (٣)

وقال بعضهم : قد يجيء في الرّديء «خلف» بالفتح ، وفي الجيد «خلف» بالسّكون ،

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٨.

(٢) البيت للبيد ، ينظر : الديوان ١٥٧ ، التهذيب ٧ / ٣٩٤ ، اللسان «خلف» والكامل ٤ / ٣٣ ، وجامع البيان ١٣ / ٢١٠ ، والتفسير الكبير ١٥ / ٤٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٣ ، والألوسي ٩ / ٩٦ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٥.

(٣) البحر ٤ / ٤١٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٦٥ ، النكت والعيون ٢ / ٦٧.

٣٦٩

فمن مجيء الأول قوله : [المتقارب]

٢٦٠٨ ـ ..........

إلى ذلك الخلف الأعور (١)

ومن مجيء الثاني قول حسان : [الطويل]

٢٦٠٩ ـ لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع (٢)

وقد جمع بينهما الشّاعر في قوله : [الرجز]

٢٦١٠ ـ إنّا وجدنا خلفنا بئس الخلف

عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف (٣)

فاستعمل السّاكن والمتحرك في الرّديء.

ولهذا قال النّضر : يجوز التّحريك والسّكون في الرّديء ، فأمّا الجيد فبالتحريك فقط ووافقه جماعة من أهل اللّغة ، إلّا الفرّاء وأبا عبيد ، فإنّهما أجاز السكون في الخلف المراد به الصالح ، و «الخلف» بالسّكون فيه وجهان ، أحدهما : أنّه مصدر ، ولذلك لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث ، وعليه ما تقدّم من قوله :

٢٦١١ ـ إنّا وجدنا خلفنا بئس الخلف (٤)

وإمّا اسم جمع «خالف» ك : ركب لراكب ، وتجر لتاجر.

قاله ابن الأنباري : وردّوه عليه ، بأنّه لو كان اسم جمع لم يجر على المفرد ، وقد جرى عليه واشتقاقه إمّا من الخلافة ، أي كلّ خلف يخلف من قبله ، وإمّا من خلف النبيذ يخلف أي : فسد.

يقال : خلف النّبيذ يخلف خلفا وخلوفا ، وكذلك الفم إذا تغيّرت رائحته ومن ذلك الحديث «لخلوف فم الصّائم» (٥).

وقوله : «ورثوا» في محل رفع نعتا ل «خلف» ويأخذون حال من فاعل ورثوا.

وقرأ الحسن البصري : ورّثوا بضمّ الواو وتشديد الرّاء مبنيّا لما لم يسمّ فاعله ، والمعنى انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التّوراة ، ويجوز أن يكون : يأخذون مستأنفا أخبر عنهم بذلك.

وقوله : عرض هذا الأدنى.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٦٦ ، والمحرر الوجيز ٢ / ١٩٥.

(٢) ينظر : ديوانه (٢٤١) ، الطبري ١٣ / ٢٠٩ ، البحر ٤ / ٤١٣ ، الدر اللقيط ٤ / ٤١٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٦.

(٣) ينظر : البحر ٤ / ٤١٤ ، القرطبي ٧ / ٣١١ ، اللسان : حفف ، الدر المصون ٣ / ٣٦٦.

(٤) تقدم.

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ١٢٥) كتاب الصوم : باب فضل الصوم حديث (١٨٩٤) ومسلم (٢ / ٨٠٦) كتاب الصيام : باب فضل الصيام حديث (١٦١ / ١١٥١) من حديث أبي هريرة.

٣٧٠

قال أبو عبيد : جميع متاع الدّنيا عرض بفتح الرّاء.

يقال : «الدّنيا عرض حاضر يأكل منها البرّ والفاجر». وأما العرض بسكون الرّاء فما خالف الثّمين ، أعني الدّراهم والدّنانير وجمعه عروض ، فكان العرض من العرض وليس كل عرض عرضا. والمعنى : حطام هذا الشّيء الأدنى يريد الدّنيا ، والمراد منه : التّخسيس والتّحقير ، والأدنى إمّا من الدّنوّ بمعنى القرب ؛ لأنّه عاجل قريب ، وإمّا من دنوّ الحال وسقوطها. وتقدّم الكلام عليه.

قوله ويقولون نسق على يأخذون بوجهيه ، وسيغفر معموله ، وفي القائم مقام فاعله وجهان: أحدهما الجارّ بعده وهو «لنا» والثاني : أنّه ضمير الأخذ المدلول عليه بقوله يأخذون أي: سيغفر لنا أخذ العرض الأدنى.

قوله : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ) هذه الجملة الشّرطية فيها وجهان :

أظهرهما : أنّها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب.

والثاني : أنّ الواو للحال ، وما بعدها منصوب عليها.

قال الزمخشري (١) : الواو للحال ، أي : يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين ، وغفران الذّنوب لا يصحّ إلّا بالتّوبة ، والمصرّ لا غفران له انتهى. وإنّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغفران شرطه التّوبة ، وهو رأي المعتزلة وأمّا أهل السّنّة : فيجوز مع عدم التوبة ، لأنّ الفاعل مختار.

والعرض ـ بفتح الراء ـ ما لا ثبات له ، ومنه استعار المتكلمون : العرض المقابل للجوهر.

وقال أبو عبيدة : العرض ـ بالفتح ـ جميع متاع الدّنيا غير النقدين. كما تقدّم.

قال المفسّرون : المراد بالكلام : الإخبار عن إصرارهم على الذّنوب.

وقال الحسن : هذا إخبار عن حرصهم على الدّنيا ، وأنهم «يستمتعون» (٢) منها (٣).

ثم قال تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) أي : التّوراة : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) والمراد منعهم عن تحريف الكتاب ، وتغيير الشّرائع ؛ لأجل أخذ الرشوة.

قوله : «أن لا يقولوا» فيه أربعة أوجه : أحدها : أنّ محله رفع على البدل من «ميثاق» ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب.

والثاني : أنّه عطف بيان له وهو قريب من الأوّل.

والثالث : أنه منصوب على المفعول من أجله.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧٤.

(٢) في ب : لا يشبعون.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣٧).

٣٧١

قال الزمخشريّ : وإن فسّر ميثاق الكتاب بما تقدّم ذكره كان : «ألّا يقولوا» مفعولا من أجله ومعناه : لئلا يقولوا وكان قد فسّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة : «من ارتكب ذنبا عظيما فإنّه لا يغفر له إلا بالتّوبة» ، و «أن» على هذه الأقوال الثلاثة مصدرية.

الرابع : أنّ «أن» مفسرة ل «ميثاق الكتاب» ؛ لأنّه بمعنى القول ، و «لا» ناهية ، وما بعدها مجزوم بها ، وعلى الأقوال المتقدّمة «لا» نافية ، والفعل منصوب ب «أن» المصدرية و «الحقّ» يجوز أن يكون مفعولا به ، وأن يكون مصدرا ، وأضيف الميثاق للكتاب ؛ لأنّه مذكور فيه.

قوله : «ودرسوا» فيه ثلاثة أوجه : أظهرها ما قاله الزمخشريّ : وهو كونه معطوفا على قوله : «ألم يؤخذ» ؛ لأنّه تقرير.

فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ، نظيره قوله تعالى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] معناه : قد ربّيناك ولبثت.

والثاني : أنّه معطوف على «ورثوا».

قال أبو البقاء : ويكون قوله ألم يؤخذ معترضا بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطّبري وغيره.

الثالث : أنه على إضمار «قد» والتقدير : وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقا على الجملة الشرطية ، أي : يقولون : سيغفر لنا في هذه الحال ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل : «يأخذوه» أي يأخذون العرض في حال درسهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرّشا وعلى كلا التقديرين فالاستفهام اعتراض.

وقرأ الجحدري (١) : أن لا تقولوا بتاء الخطاب ، وهو التفات حسن.

وقرأ عليّ (٢) ـ رضي الله عنه ـ وأبو عبد الرحمن السلمي وادّارسوا بتشديد الدّال ، والأصل : تدارسوا وتصريفه كتصريف (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٧٢] وقد تقدم.

ثم قال تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي : من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة «أفلا تعقلون». وقد تقدّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.

وقرأ ابن عامر (٣) ونافع وحفص تعقلون بالخطاب ، والباقون بالغيبة ، فالخطاب يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمراد بالضّمائر حينئذ شيء واحد.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧٢ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٧.

(٣) ينظر : حجة القراءات ٣٠١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٧.

٣٧٢

والثاني : أنّ الخطاب لهذه الأمّة ، أي : أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعجّبون من حالهم. وأمّا الغيبة فجرى على ما تقدّم من الضّمائر. ونقل أبو حيان أنّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكّة ، وقراءة الخطاب للباقين.

قوله : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) : فيه وجهان ، أظهرهما : أنّه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) وفي الرّابط حينئذ أقوال :

أحدها : أنّه ضمير محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : المصلحين منهم ، وهذا على قواعد جمهور البصريين ، وقواعد الكوفيين تقتضي أنّ «أل» قائمة مقام الضمير ، تقديره : أجر مصلحيهم ؛ كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي : مأواه ، وقوله (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠] أي : أبوابها ، وقوله : (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [الروم : ٣] أي : أرضهم ، إلى غير ذلك.

والثاني : أنّ الرّابط تكرّر المبتدأ بمعناه ، نحو : زيد قام أبو عبد الله ، وهو رأي الأخفش ، وهذا كما يجيزه في الموصول ، نحو : أبو سعيد الذي رويت عنه الخدريّ ، والحجّاج الذي رأيت ابن يوسف ، وقد تقدّم من ذلك شواهد.

الثالث : أنّ الرّابط هو العموم في «المصلحين» قاله أبو البقاء.

قال : «وإن شئت قلت : لمّا كان المصلحون جنسا والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير».

قال شهاب الدين (١) : العموم ربط من الروابط الخمسة ؛ وعليه قول الشاعر : [الطويل]

٢٦١٢ ـ ألا ليت شعري هل إلى أمّ سالم

سبيل؟ فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (٢)

ومنه : نعم الرجل زيد ، على أحد الأوجه.

والوجه الثاني ـ من وجهي الخبر ـ : أنّه محذوف ، تقديره : والذين يمسكون مأجورون ، أو مثابون ونحوه.

وقوله تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ) جملة اعتراضية ، قاله الحوفيّ. ولا ضرورة تدعو إليه.

الثاني من وجهي (الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) : أنّه محل جر نسقا على : (الَّذِينَ يَتَّقُونَ) أي: والدّار الآخرة خير للمتقين ، وللمتمسكين ، قاله الزمخشريّ.

إلّا أنه قال : ويكون قوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراضا سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظر ؛

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٦٨.

(٢) البيت لابن ميادة ينظر الكتاب ١ / ٣٨٦ ، أوضح المسالك ١ / ٩٧ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٢٨٦ ، الهمع ١ / ٩٨ ، الدرر ١ / ٧٤ ، المغني ٢ / ٥٠١ ، العيني ١ / ٥٢٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٦٨.

٣٧٣

لأنّه لم يقع بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلّق معنويّ ، فكان ينبغي أن يقول : ويكون على هذا مستأنفا.

وقرأ العامّة «يمسّكون» بالتشديد من «مسّك» بمعنى «تمسّك» حكاه أهل التصريف أي : إنّ : «فعل» بمعنى «تفعّل» ، وعلى هذا فالباء للآلة ، كهي في «تمسّكت بالحبل».

يقال : مسّكت بالشّيء ، وتمسّكت ، واستمسكت به ، وامتسكت به.

وقرأ أبو بكر عن عاصم (١) ، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية «يمسكون» بسكون الميم وتخفيف السين من «أمسك» وهما لغتان يقال : مسكت ، وأمسكت.

وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله : [البسيط]

٢٦١٣ ـ ولا تمسّك بالعهد الذي زعمت

إلّا كما تمسك الماء الغرابيل (٢)

ولكن «أمسك» متعدّ.

قال تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) [الحج : ٦٥] فعلى هذا مفعوله محذوف ، تقديره : يمسكون دينهم وأعمالهم بالكتاب ، فالباء يجوز أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي : مصاحبين للكتاب ، أي : لأوامره ونواهيه.

وحجة عاصم قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٢٩] وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] ، وقوله : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٤].

قال الواحديّ : والتشديد أقوى ؛ لأنّ التشديد للكثرة ، وههنا أريد به الكثرة ؛ ولأنّه يقال : أمسكته ، وقلّما يقال : أمسكت به.

وقرأ عبد الله (٣) والأعمش : «استمسكوا» ، وأبي (٤) : «تمسّكوا» على الماضي ، وهو جيّد لقوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إذ قل ما يعطف ماض على مستقبل إلّا في المعنى.

فصل

أراد والذين يعملون بما في الكتاب.

قال مجاهد : هم المؤمنون من أهل الكتاب ك : عبد الله بن سلام وأصحابه تمسّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى ، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة (٥).

وقال عطاء : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٧ ، والحجة ٤ / ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٤ ، وحجة القراءات ٣٠١.

(٢) ينظر الديوان (١٣) ، إعراب النحاس ٢ / ١٦١ ، الجامع لأحكام القرآن ٧ / ٣١٣ ، البحر ٤ / ٤١٦ ، الدر المصون ٣ / ٣٦٨.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٧٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٦ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٦ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٨.

(٥) تقدم.

٣٧٤

«وأقاموا الصّلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين» أي : لا نضيع (١) أجرهم ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠].

فإن قيل : التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذّكر؟ فالجواب : أفردها لعلو مرتبتها ، فإنّها أعظم العبادات بعد الإيمان.

قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٧١)

قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) الآية.

قال أبو عبيدة : النّتق : قلع الشيء من موضعه ، والرّمي به ، ومنه : نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه ، وامرأة ناتق ، ومنتاق : إذا كانت كثيرة الولادة ، وفي الحديث : «عليكم بزواج الأنكار ، فإنّهنّ أطيب أفواها ، وأنتق أرحاما ، وأرضى باليسير».

وقيل : النّتق : الجذب بشدة. ومنه : نتقت السّقاء إذا جذبته لتقتلع الزّبدة من فم القربة.

قال الفرّاء : «هو الرفع» وقال ابن قتيبة : الزّعزعة. وبه فسّره مجاهد.

وقال النّابغة : [الكامل]

٢٦١٤ ـ لم يحرموا حسن الغذاء وأمّهم

طفحت عليك بناتق مذكار (٢)

وكلّها معان متقاربة.

قوله : «فوقهم» فيه وجهان :

أحدهما : هو متعلّق بمحذوف ، على أنّه حال من الجبل وهي حال مقدرة ؛ لأنّ حالة النّتق لم تكن فوقهم ، لكن بالنّتق صار فوقهم.

والثاني : أنه ظرف ل : نتقنا قاله الحوفيّ وأبو البقاء.

قال أبو حيان (٣) : ولا يمكن ذلك ، إلّا أن يضمّن معنى فعل يمكن أن يعمل في فوقهم أي : رفعنا بالنّتق الجبل فوقهم ، فيكون كقوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) [النساء : ١٥٤]. فعلى هذا يكون فوقهم منصوبا ب «نتق» لا بمعنى رفع.

قوله : «كأنّه ظلّة» في محل نصب على الحال من «الجبل» أيضا فتتعدّد الحال.

وقال مكيّ : هي خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو كأنه ظلّة وفيه بعد. والظّلّة : كل ما أظلك. قال عطاء : سقيفة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) انظر : ديوانه (٦١) ، البحر ٤ / ٤١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٨.

٣٧٥

قوله وظنّوا فيه أوجه :

أحدها : أنّه في محل جرّ نسقا على نتقنا المخفوض بالظّرف تقديرا.

والثاني : أنه حال و «قد» مقدرة عند بعضهم ، وصاحب الحال إمّا : الجبل أي : كأنّه ظلّة في حال كونه مظنونا وقوعه بهم ، ويضعف أن يكون صاحب الحال : هم في : فوقهم.

الثالث : أنه مستأنف ، فلا محلّ له ، والظنّ هنا على بابه.

قال أهل المعاني : قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين.

قال المفسّرون : علموا وأيقنوا أنّه واقع بهم والباء على بابها أيضا.

قيل : ويجوز أن تكون بمعنى «على».

قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي : وقلنا لهم خذوا ما آتيناكم بقوة بجد واجتهاد.

روي أنهم لمّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ.

وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلّا ليقعن عليكم ، فلمّا نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجدا على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفا من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهوديّا سجد إلا على جانبه الأيسر ، ويقولون : هي السّجدة التي رفعت عنّا بها العقوبة.

قوله واذكروا العامّة على التخفيف أمرا من : ذكر يذكر ، والأعمش (١) واذّكروا بتشديد الذال من الاذّكار ، والأصل : اذتكروا ، والاذتكار ، تقدم تصريفه.

وقرأ ابن (٢) مسعود تذكّروا من : «تذكّر» بتشديد الكاف.

وقرىء (٣) وتذّكّروا بتشديد الذال والكاف والأصل : ولتتذكّروا فأدغمت التاء في الذال ، وحذفت لام الجزم كقوله : [الوافر]

٢٦١٥ ـ محمّد تفد نفسك كلّ نفس

 .......... (٤)

فصل

قال ابن عبّاس وغيره : لمّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل ، وفيها التوراة أمرهم بقبولها ، والأخذ بها بقوة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤١٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٩.

(٢) ينظر : السابق ، والكشاف ٢ / ١٧٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٩.

(٤) تقدم.

٣٧٦

فقالوا : انشرها علينا ، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها.

فقال : بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مرارا ، فأمر الله الملائكة ، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنّه ظلّة أي : غمامة فوق رءوسهم.

وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلّا سقط هذا الجبل عليكم ؛ فقبلوها ، وأمروا بالسّجود ؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهود إلى اليوم.

ويقولون : لا سجدة أعظم من سجدة رفعت عنا العذاب (١).

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(١٧٤)

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) الآية.

قال المفسّرون : روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر ـ رضي الله عنه ـ سئل عن هذه الآية ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عنها ، فقال : إنّ الله تعالى خلق آدم ثمّ مسح ظهره ؛ فاستخرج منه ذرّية فقال : خلقت هؤلاء للجنّة وبعمل أهل الجنّة يعملون ، ثمّ مسح ظهره واستخرج منه ذرّيّة ، فقال : هؤلاء للنّار وبعمل أهل النّار يعملون.

فقال رجل : يا رسول الله : ففيم العمل؟

فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى إذا خلق العبد للجنّة استعمله بعمل أهل الجنّة حتّى يموت على عمل من أعمال أهل الجنّة فيدخله الله الجنّة ، وإذا خلق الله العبد للنّار استعمله بعمل أهل النّار حتّى يموت على عمل أهل النّار ، فيدخله الله النّار». وهذا حديث حسن ، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر ، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلا (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٠٨ ـ ١٠٩).

(٢) أخرجه مالك كتاب القدر (٢) : باب النهي عن القول بالقدر وأحمد (١ / ٤٤ ـ ٤٥) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٨ / ٩٦ ـ ٩٧) وأبو داود (٤٧٠٣) والترمذي (٣٠٧٧) والنسائي في «تفسيره» كما في تحفة الأشراف (٨ / ١١٣ ـ ١١٤) والطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٢ ـ ١١٣). وابن حبان (١٨٠٤ ـ موارد) والحاكم (١ / ٢٧) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (٣٢٦) من طرق عن مسلم بن يسار عن عمر.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي بقوله : قلت فيه إرسال.

يقصد الانقطاع بين مسلم بن يسار وعمر رضي الله عنه. ـ

٣٧٧

وقال مقاتل وغيره : إنّ الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذّرّ ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك. ثم قال لهم ألست بربكم قالوا بلى. فقال للبيض هؤلاء للجنّة برحمتي ، وهم أصحاب اليمين. وقال للسود هؤلاء للنّار ، ولا أبالي ، وهم أصحاب الشّمال ، ثمّ أعادهم جميعا في صلب آدم فأهل القبور محبوسون حتّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال ، وأرحام النّساء (١).

قال تعالى فيمن نقض العهد : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) [الأعراف : ١٠٢] الآية. وإلى هذا القول ذهب سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضّحّاك ، وعكرمة والكلبي.

وقال بعض أهل التفسير : إن أهل السّعادة أقرّوا طوعا وقالوا «بلى» ، وأهل الشقاوة قالوه تقية وكرها. وذلك معنى قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [آل عمران : ٨٣].

واختلفوا في موضع الميثاق.

قال ابن عباس : ببطن نعمان (٢) ، وهو واد إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدهنا في أرض الهند ، وهو الموضع الذي هبط آدم عليه.

وقال الكلبيّ : بين مكة والطائف (٣).

وروى السّدي : أن الله أخرجهم جميعا ، وصورهم وجعل لهم عقولا يعلمون بها ، وألسنا ينطقون بها ، ثمّ كلمهم قبلا أي : عيانا ، وقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ (٤).

وقال الزّجّاج : وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فهما تعقل به كما قال تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨].

قال القرطبيّ : قال ابن العربيّ : فإن قيل : فكيف يجوز أن يعذّب الله الخلق قبل أن يذنبوا ، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم؟

قلنا : ومن أين يمتنع ذلك ، عقلا أو شرعا؟

__________________

ـ فقد قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» ص (٢١٠) : قال أبو زرعة : مسلم بن يسار عن عمر ، مرسل.

وقال : سمعت أبي يقول : مسلم بن يسار لم يسمع من عمر.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٦٠ ـ ٢٦١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والآجري في «الشريعة» وأبي الشيخ وابن مردويه واللالكائي في «أصول الاعتقاد».

(١) انظر الدر المنثور (٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١١٤).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٢٠١) عن الكلبي.

(٤) انظر : المصدر السابق.

٣٧٨

فإن قيل : إن الرحيم الحكيم منّا لا يجوز أن يفعل ذلك.

قلنا : لأنّ فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه ، وربنا تعالى لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى ، والخلق بأجمعهم له ، يصرفهم كيف يشاء ويحكم فيهم بما أراد ، وهذا الذي يجده الآدميّ فإنّما هو من رقة الجبلّة ، وشفقة الجنسيّة وحبّ الثّناء والمدح ، والباري تعالى منزّه من ذلك.

وأطبقت المعتزلة على أنّه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه ، واحتجّوا على فساده بوجوه:

الأول : قالوا إن قوله : (مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) [الأعراف : ١٧٢] ف (مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من قوله (بَنِي آدَمَ) فيكون المعنى : وإذ أخذ ربّك من ظهور بني آدم ، وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئا.

الثاني : لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال : «من ظهورهم» بل قال: من ظهره ؛ لأنّ آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : «ذريّتهم» ولو كان المراد آدم لقال: ذرّيته.

الثالث : أنّه تعالى حكى عن أولئك الذّريّة أنهم قالوا : (إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ) [الأعراف : ١٧٣] وهذا لا يليق بأولاد آدم ؛ لأنّه عليه الصّلاة والسّلام ما كان مشركا.

الرابع : أنّ أخذ الميثاق لا يمكن إلّا من العاقل ، ولو كان أولئك الذر عقلاء ، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم ؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنّه لا يجوز مع كونه عاقلا أن ينساها نسيانا كليّا لا يتذكر منها قليلا ولا كثيرا ، وبهذا الدليل يبطل القول بالتّناسخ ؛ لأنّا نقول لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى ، لوجب أن نتذكّر الآن أنا كنا قبل هذ الجسد في جسد آخر ، وحيث لم نتذكر كان القول بالتّناسخ باطلا.

وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه ، فلو جاز أن يقال : إنّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئا منه ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال: إنّا كنّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئا من تلك الأحوال.

الخامس : أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم ، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلا فاهما مصنفا للتّصانيف الكثيرة في العلوم الدّقيقة ، وفتح هذا الباب يؤدّي إلى التزام الجمادات ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة ، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلا عالما فاهما إلّا إذا

٣٧٩

حصلت له بنية وحمية ، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا ، فكيف يمكن أن يقال إنّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

السادس : قالوا هذا الميثاق إمّا أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في الدّنيا.

والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب ، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا ، لأنهم لمّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان.

السابع : قال الكعبيّ : إن حال أولئك الذّر لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ، فلمّا لم يمكن توجيه التّكاليف على الطّفل ، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرّ؟ وأجاب الزّجّاج عنه بما تقدّم من تشبيهه بقصة النّملة ، وأيضا لا يبعد أن يعطي الله الجبل الفهم حتى يسبح ، كما قال : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) [الأنبياء : ٧٩] وكما أعطى الله العقل للبعير حتّى سجد للرّسول ، وللنّخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا.

الثامن : أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكونوا كاملي العقول أم لا ، فإن كان الأوّل كانوا مكلفين لا محالة ، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدّنيا ، فلو افتقر التكليف في الدّنيا إلى سبق ذلك الميثاق ؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التّسلسل وهو محال.

وإن قيل : إنّهم ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت ، فيمتنع توجيه الخطاب والتّكليف عليهم.

التاسع : قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٥ ـ ٦] ولو كانت تلك الذّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدّافق ، ولا معنى للإنسان إلّا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقا من الماء الدّافق وذلك رد لنصّ القرآن.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال إنّه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياة؟

قلنا : هذا باطل ؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقا على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقا على سبيل الإعادة ، وأجمع المسلمون على أنّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ ، فبطل ما ذكرتموه.

٣٨٠