اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فصل

لمّا بيّن صفة من تكتب له الرحمة في الدّنيا والآخرة وهو أن يكون متقيا ويؤتي الزكاة ، ويؤمن بالآيات ، ضمّ إلى ذلك أن يكون متّبعا للنبي «الأمّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التّوراة والإنجيل» واختلفوا في ذلك.

فقال بعضهم : المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته.

وقيل في قوله : والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوبا في الإنجيل ؛ لأنّ من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل.

وقيل المراد بهم : من لحق من بني إسرائيل أيّام الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فبيّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلّا إذا اتبعوا الرسول الأمّيّ ، وهذا هو الأقرب ، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن.

ووصف هذا النبي بتسع صفات :

الأولى : كونه رسولا ، وهو في العرف من أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التّكاليف.

الثانية : كونه نبيّا ، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى.

والثالثة : كونه أميّا.

قال الزجاج : وهو الذي على صفة أمة العرب ، كما تقدم في قوله عليه‌السلام : «إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب».

قال المحقّقون : وكونه أميّا بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه :

الأول : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوما مرّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ، ولا تغيير كلماته ، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها ؛ فلا بد أن يزيد فيها ، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ، وهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير ، فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].

الثاني : لو كان يحسن القراءة والخطّ لكان متّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلّما أتى به من غير تعلم ، ولا مطالعة ؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المراد من قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].

الثالث : أن تعلّم الخط شيء سهل فإن أقلّ النّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلّ على نقص عظيم في الهمم ، ثم إنّه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر ، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيث

٣٤١

لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلا وفهما ، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جاريا مجرى الجمع بين الضدين ، وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات.

الصفة الرابعة : قوله : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] وهذا يدلّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل ؛ لأنّ ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله ؛ لأنّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفرات ، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله ، وينفر النّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكورا في التّوراة والإنجيل كان معجزة له دالة على صدقه.

قال عطاء بن يسار : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة.

قال : أجل ، والله إنّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) [الأحزاب : ٤٥] وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي سمّيتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ، ويغفر ، ولن يقبضه حتى يقيم به الملّة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صمّا ، وقلوبا غلفا (١).

وعن كعب قال : إني أجد في التوراة مكتوبا محمد رسول الله لا فظّ ، ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحامدون ، يحمدون الله في كل منزل ، وعلى كلّ نجد ، يأتزرون على أنصافهم ، ويغضون أطرافهم ، صفّهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جوّ السماء ، لهم في جوف الليل دويّ كدويّ النحل ، مولده بمكّة ، ومهاجره بطيبة ، وملكه بالشّام (٢).

الصفة الخامسة : قوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) أي : بالإيمان ، وقيل : الشّريعة والسّنة.

قال عطاء : بمكارم الأخلاق ، وخلع الأنداد ، وصلة الأرحام (٣).

السادسة : قوله (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي : عن الشرك.

وقيل : ما لا يعرف في كل شريعة ولا سنّة.

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب البيوع : باب كراهية السخب ... حديث (٢١٢٥) والطبري في «تفسيره» (٦ / ٨٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٤٣) وزاد نسبته لابن سعد والبيهقي في «الدلائل».

(٢) أخرجه الدارمي في «سننه» (١ / ٤ ـ ٥) من طريق أبي صالح عن كعب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٩١) عن عطاء.

٣٤٢

وقيل : المنكر عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام.

السابعة : قوله (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ).

قيل : ما كانوا يحرّمونه في الجاهليّة : من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام.

قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لوجهين :

الأول : أنه على هذا التقدير تصير الآية ويحلّ لهم المحللات وهذا محض التكرير.

والثاني : أنّ على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة ، لأنّا لا ندري الأشياء التي أحلّها الله ما هي وكم هي؟.

بل الواجب أن يكون المراد بالطّيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع ؛ لأن تناولها يفسد اللّذة والأصل في المنافع الحل فدلّت هذه الآية على أنّ الأصل في كلّ ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحلّ إلّا بدليل منفصل.

الصفة الثامنة ـ قوله (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).

قال عطاء عن ابن عباس : يريد الميتة والدّم (١) وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله : (ذلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة : ٣].

قال ابن الخطيب : وأقول ههنا : كل ما يستخبثه الطّبع [وتستقذره النفس كان تناوله سببا للألم ، والأصل في المضار الحرمة ، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع](٢) فالأصل فيه الحرمة إلّا بدليل منفصل ، وعلى هذا يحرم بيع الكلب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «الكلب خبيث ، وخبيث ثمنه» ، فدخل في قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ).

الصفة التاسعة : قوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ).

قرأ ابن عامر آصارهم بالجمع ، على صفة «أفعال» فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفا لسبقها بمثلها ، والباقون بالإفراد. فمن جمع فباعتبار متعلّقاته وأنواعه ، وهي كثيرة ، ومن أفرد ؛ فلأنه اسم جنس.

وقرأ (٣) بعضهم أصرهم بفتح الهمزة ، وبعضهم أصرهم بضّمها.

والإصر : الثّقل الذي يأصر صاحبه ، أي يحبسه من الحراك لثقله ، أي : إنّ شريعة موسى كانت شديدة ، وقد تقدّم تفسير هذه المادة في قوله تعالى : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) [البقرة : ٢٨٦] والأغلال جمع غلّ ، وهو هنا مثل لما كلّفوه كقطع أثر البول ، وقتل النّفس في التّوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وتتبع العروق من اللّحم وجعلها الله

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٨٥) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٥.

٣٤٣

أغلالا ؛ لأنّ التّحريم يمنع من الفعل كما أنّ الغل يمنع من الفعل.

فصل

وقيل : كانوا إذا قاموا إلى الصّلاة لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وقد تقدم تفسير مادة «الغل» في آل عمران عند قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [١٦١] وهذه الآية تدلّ على أنّ الأصل في المضار ألا تكون مشروعة ؛ لأنّ كلّ ما كان ضررا كان إصرا وغلّا ، وهذا النص يقتضي عدم المشروعية ، كقوله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وقوله «بعثت بالحنيفيّة السّمحة السّهلة».

فإن قيل : كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد؟.

فالجواب : أنّ الأصل مصدر يقع على الكثير والقليل.

قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ).

قال ابن عبّاس : يعني من اليهود (١) وعزّروه يعني وقّرره.

قال الزمخشريّ : أصل العزر المنع ، ومنه التّعزير ؛ لأنّه يمنع من معاودة القبيح وتقدّم تفسير التعزير في المائدة. والعامّة على تشديد وعزّروه.

وقرأ الجحدريّ (٢) وعيسى بن عمر ، وسليمان التيمي : بتخفيفها ، وجعفر بن محمد وعزّزوه بزايين معجمتين. ونصروه أي على عدوّه. (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وهو القرآن.

وقيل : الهدى والبينات والرسالة.

فصل

قال الزمخشري (٣) : فإن قلت : ما معنى أنزل معه وإنّما أنزل مع جبريل؟.

قلت : معناه أنزل مع نبوته ؛ لأنّ استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به ، ويجوز أن يتعلّق ب «اتّبعوا» أي واتّبعوا القرآن المنزّل مع اتّباع النبي والعمل بسنته ، وبما أمر به ونهى عنه أو اتبعوا القرآن كما اتّبعه مصاحبين له في اتّباعه. يعني بهذا الوجه الأخير أنّه حال من فاعل اتّبعوا.

وقيل : «مع» بمعنى «على» أي : أنزل عليه. وجوّز أبو حيان أن يكون معه ظرفا في موضع الحال.

قال : العامل فيها محذوف تقديره : أنزل كائنا معه ، وهي حال مقدّرة كقولهم :

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٥ / ٢٢) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٣ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٥.

(٣) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٦٦.

٣٤٤

مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فحالة الإنزال لم يكن معه ، لكنّه صار معه بعد ، كما أنّ الصيد لم يكن وقت المرور.

ثمّ لمّا ذكر تعالى هذه الصّفات ، قال : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الفائزون في الدّنيا والآخرة.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٥٩)

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) الآية.

لمّا بيّن تعالى أنّ من شروط حصول الرّحمة لأولئك المتّقين ، كونهم متّبعين للرّسول ، حقّق في هذه الآية رسالته إلى كلّ الخلق.

وقوله إليكم متعلّق ب «رسول» ، وجميعا حال من المجرور ب «إلى».

فصل

هذه الآية تدلّ على أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى جميع الخلق.

وقالت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية ، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ : إنّ محمدا رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطل قولهم ؛ لأن قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب يتناول كلّ النّاس ، وقد أقرّوا بكونه رسولا حقّا صادقا وما كان كذلك امتنع الكذب عليه ، ووجب الجزم بكونه صادقا في كلّ ما يدّعيه ، وقد ثبت بالتّواتر وبهذه الآية أنه كان يدّعي كونه مبعوثا إلى جميع الخلق ؛ فوجب كونه صادقا في هذا القول.

فصل

هذه الآية دلّت على أن محمدا عليه الصّلاة والسّلام مبعوث إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيّة أحد من الأنبياء؟.

فقال بعضهم : نعم كان آدم عليه الصّلاة والسّلام مبعوثا إلى جميع أولاده ، وأنّ نوحا لما خرج من السفينة كان مبعوثا إلى الذين كانوا معه ، وهم جميع النّاس في ذلك الوقت ، وقوله عليه الصّلاة والسّلام : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي» (١)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٥١٩) كتاب التيمم حديث (٣٣٥) ومسلم (١ / ٣٧٩) كتاب المساجد حديث (٣ / ٥٢١) من حديث جابر وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرجنا أحاديثهم في تعليقنا على «بداية المجتهد» لابن رشد.

٣٤٥

المراد أنّ مجموع الخمسة لم يحصل لأحد سواه ، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها.

قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). يجوز فيه : الرّفع ، والنّصب ، والجرّ ، فالرّفع والنّصب على القطع كما تقدم [الأعراف ٥٧] ، والجرّ من وجهين : إمّا النّعت للجلالة ، وإمّا البدل منها.

قال الزمخشريّ (١) : ويجوز أن يكون جرّا على الوصف ، وإن حيل بين الصّفة والموصوف بقوله (إِلَيْكُمْ جَمِيعاً).

واستضعف أبو البقاء (٢) هذا ووجه البدل ، فقال : ويبعد أن يكون صفة لله أو بدلا منه ، لما فيه من الفصل بينهما ب «إليكم» وبحال ، وهو متعلّق ب «رسول».

قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ، إذ هي بدل من الصلة قبلها وفيها بيان لها ؛ لأنّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة ، وكذلك قوله (يُحيِي وَيُمِيتُ)

هي بيان لقوله لا إله إلّا هو سيقت لبيان اختصاصه بالإلهيّة ؛ لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره.

قاله الزمخشريّ : وقال أبو حيّان (٣) : «وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه».

فصل

وقال الحوفيّ : إن (يُحيِي وَيُمِيتُ) في موضع خبر لا إله.

قال : «لأنّ الإله» في موضع رفع بالابتداء ، وإلّا هو بدل على الموضع.

قال : والجملة أيضا في موضع الحال من اسم الله. ويعني بالجملة قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) ويعني باسم الله ، أي : الضّمير في له ملك أي استقرّ له الملك في حال انفراده بالإلهيّة.

وقال أبو حيّان : والأحسن أن تكون هذه جملا مستقلة من حيث الإعراب ، وإن كان متعلقا بعضها ببعض من حيث المعنى.

وقال في إعراب الحوفي المتقدم إنّه متكلّف.

قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

فصل

اعلم أنّ الإيمان بالله أصل ، والإيمان بالنبوّة والرسالة فرع عليه ، والأصل يجب

__________________

(١) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٦٦.

(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٠٤.

٣٤٦

تقديمه فلهذا بدأ بقوله : فآمنوا بالله ثم أتبعه بقوله : (وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) وهذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالّة على كونه نبيّا حقّا ؛ لأنّ معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت على نوعين :

الأول : المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمّيا ، وقد تقدم الكلام على كون هذه الصّفة معجزة.

الثاني : المعجزات الّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ونحوها ، وهي تسمى بكلمات الله ، لأنّها أمور عظيمة. ألا ترى أن عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لمّا كان حدوثه أمرا عظيما غريبا مخالفا للعادة ، سمّاه الله كلمة ، فكذلك المعجزات لمّا كانت أمورا غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها كلمات ، وهذا هو المراد بقوله (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ).

وقرأ مجاهد (١) وعيسى وكلمته بالتّوحيد ، والمراد بها الجنس كقوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» ويسمّون القصيدة كلها كلمة ، وقد تقدّم.

قال الزمخشريّ (٢) : فإن قلت : هلّا قيل : فآمنوا بالله وبي ، بعد قوله (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)؟.

قلت : عدل عن الضمير ، إلى الاسم الظاهر ، لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ، ولما في طريقة الالتفات من البلاغة ، وليعلم أنّ الذي يجب الإيمان به واتّباعه ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النّبيّ الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته ، كائنا من كان ، أنا أو غيري إظهارا للنّصفة ، وتفاديا من العصبية لنفسه.

قوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

وهذا الأمر يدلّ على وجوب متابعة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في كلّ ما يأتي به قولا كان أو فعلا أو تركا إلا ما خصه الدّليل.

فصل

فإن قيل : إذا أتى الرّسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوجوب ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى به مندوبا ، فلو أتينا به على أنّه واجب علينا ، كان ذلك تركا لمتابعته والآية تدلّ على وجوب المتابعة ، فثبت أنّ فعل الرّسول لا يدلّ على الوجوب علينا.

فالجواب : أنّ المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع ؛

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٤.

(٢) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٦٧.

٣٤٧

لأنّ من أتى بفعل ثم إنّ غيره وافقه في ذلك الفعل ، قيل : إنّه تابعه عليه ، ولو لم يأت به ، قيل : إنه خالفه ، وإن كان كذلك ، ودلّت الآية على وجوب المتابعة ؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته.

بقي علينا أنّا لا تعرف هل أتى به ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قاصدا الوجوب أو النّدب؟.

فنقول : حال الدّواعي والعزائم غير معلوم ، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلوم ؛ فوجب أن لا يلتفت إلى حال العزائم والدّواعي ؛ لأنّها أمور مخفية عنّا ، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظّاهر ؛ لأنّه من الأمور التي يمكن رعايتها.

وقد تقدّم الكلام على لفظ لعلّ وأنّها للترجي وهو في حق الله تعالى محال ، فلا بد من تأويلها فيلتفت إليه.

قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

لمّا وصف الرسول ، وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ، ذكر أنّ في قوم موسى من اتّبع الحق وهدي إليه وبين أنهم جماعة ، لأن لفظ «الأمّة» ينبىء عن الكثرة.

واختلفوا فيهم.

فقيل : هم اليهود الذين آمنوا بالرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثل عبد الله بن سلام ، وابن صوريا.

فإن قيل : إنهم كانوا قليلين في العدد ، ولفظ «الأمة» ينبىء عن الكثرة.

فالجواب : أنهم لمّا أخلصوا في الدّين جاز إطلاق لفظ «الأمّة» عليهم كقوله تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].

وقيل : إنّهم قوم بقوا على الدّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النّاس إليه وصانوه عن التّحريف والتّبديل في زمن تفرّق بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع.

وقال الكلبيّ والضحاك والربيع والسّديّ : لمّا كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء ، تبرأ سبط من الاثني عشر ممّا صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ، ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرق على نهري مجرى الرّمل يسمى نهر الأردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون باللّيل ويصبحون بالنّهار يزرعون ، لا يصل إليهم منا أحد وهم على الحق (١).

وذكر أنّ جبريل ذهب بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به إليهم وكلّمهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٨٩) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٥٠) عنه وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.

٣٤٨

فقالوا : يا رسول الله إنّ موسى أوصانا أنّ من أدرك منكم أحمد ؛ فليقرأ عليه منّي السلام ، فردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موسى السلام ، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، وأمرهم بالصّلاة والزّكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ، ويتركوا السّبت.

وقوله : (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) يدعون النّاس إلى الهداية بالحقّ وقوله وبه يعدلون ؛ قال الزّجّاج: العدل : الحكم بالحق.

يقال هو يقضي بالحق ، ويعدل وهو حاكم عادل ، ومنه قوله تعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) [النساء : ١٢٩] وقوله (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام : ١٥٢].

قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(١٦٠)

قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ).

الظّاهر أن قطّعناهم متعدّ لواحد ؛ لأنه لم يضمّن معنى ما يتعدّى لاثنين ، فعلى هذا يكون اثنتي حالا من مفعول : قطّعناهم أي : فرّقناهم معدودين بهذا العدد.

وجوّز أبو البقاء أن يكون قطّعنا بمعنى «صيّرنا» ، وأن اثنتي مفعول ثان وجزم الحوفيّ بذلك.

وتمييز : اثنتي عشرة محذوف ، لفهم المعنى ، تقديره : اثنتي عشرة فرقة ، و «أسباطا» بدل من ذلك التمييز. وإنّما قلت إن التّمييز محذوف ، ولم أجعل أسباطا هو المميّز لوجهين ، أحدهما : أنّ المعدود مذكّر ؛ لأنّ أسباطا جمع «سبط» ، فكان يكون التركيب : اثني عشر.

الثاني : أنّ تمييز العدد المركّب ، وهو من «أحد عشر» إلى «تسعة عشر» مفرد منصوب وهذا ـ كما رأيت ـ جمع ، وقد جعله الزمخشريّ تمييزا له معتذرا عنه ، فقال : فإن قلت : مميّز ما عدا العشرة مفرد ، فما وجه مجيئه جمعا؟ وهلّا قيل : اثني عشر سبطا!؟

قلت لو قيل ذلك ، لم يكن تحقيقا ؛ لأنّ المراد : وقطّعناهم اثنتي عشرة قبيلة ، وكلّ قبيلة أسباط لا سبط ، فوضع «أسباطا» موضع «قبيلة» ؛ ونظيره قوله : [الرجز]

٢٥٩٧ ـ بين رماحي مالك ونهشل (١)

قال أبو حيان (٢) : وما ذهب إليه من أنّ كلّ قبيلة أسباط خلاف ما ذكره النّاس ،

__________________

(١) البيت لأبي النجم العجلي ينظر : العمدة ٢ / ٤١٣ ، الخزانة ٢ / ٣٩٠ ، الدر المصون ٣ / ٣٥٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٠٥.

٣٤٩

ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب. وقالوا : الأسباط جمع وهم الفرق ، والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ، ويكون على زعمه قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [البقرة : ١٣٦] معناه : والقبيلة ، وقوله : «وهو نظير قوله : بين رماحي مالك ونهشل» ليس بنظيره ، لأنّ هذا من باب تثنية الجمع ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة ، وكأنّه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرّماح لم تصحّ التثنية ، كذلك هنا لحظ في «الأسباط» ـ وإن كان جمعا ـ معنى القبيلة فميّز به كما يميّز بالمفرد.

وقال الحوفيّ : يجوز أن يكون على الحذف ، والتقدير : اثنتي عشرة فرقة أسباطا ويكون «أسباطا» نعتا ل «فرقة» ، ثم حذف الموصوف ، وأقيمت الصّفة مقامه و «أمما» نعت لأسباط ، وأنّث العدد ، وهو واقع على الأسباط وهو مذكّر ، وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال : [الوافر]

٢٥٩٨ ـ ثلاثة أنفس ..........

 .......... (١)

يعني : رجلا ، وقال : [الطويل]

٢٥٩٩ ـ .......... عشر أبطن

 .......... (٢)

بالنّظر إلى القبيلة ، ونظير وصف التمييز المقرر بالجمع مراعاة للمعنى قول الشّاعر : [الكامل]

٢٦٠٠ ـ فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم (٣)

فوصف «حلوبة» وهي مفردة لفظا ب «سودا» وهو جمع مراعاة لمعناها ، إذ المراد الجمع.

وقال الفراء : إنّما قال : «اثنتي عشرة» والسّبط مذكر ؛ لأنّ ما بعده «أمم» فذهب التأنيث إلى الأمم ، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط لكان جائزا.

واحتج النحويون على هذا بقوله : [الطويل]

٢٦٠١ ـ وإن قريشا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر (٤)

ذهب بالبطن إلى القبيلة ، والفصيلة ، لذلك أنّث ، والبطن ذكر.

وقال الزّجّاج (٥) : المعنى : وقطّعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا ، من نعت فرقة كأنّه قال : جعلناهم أسباطا وفرّقناهم أسباطا ، وجوّز أيضا أن يكون «أسباطا» بدلا من اثنتي عشرة. وتبعه الفارسيّ في ذلك.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٢٣.

٣٥٠

وقال بعضهم : تقدير الكلام : وقطعناهم فرقا اثنتي عشرة ، فلا يحتاج حينئذ إلى غيره.

وقال آخرون : جعل كلّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطا ، كما تقول : لزيد دراهم ، ولفلان دراهم : فهذه عشرون دراهم يعني أن المعنى على عشرينات من الدّراهم.

ولو قلت : لفلان ، ولفلان ، ولفلان عشرون درهما بإفراد «درهم» لأدّى إلى اشتراك الكلّ في عشرين واحدة ، والمعنى على خلافه.

وقال جماعة منهم البغويّ : «في الكلام تقديم وتأخير تقديره : وقطعناهم أسباطا أمما اثنتي عشرة».

وقوله : أمما إمّا نعت ل «أسباطا» ، وإمّا بدل منها بعد بدل على قولنا : إنّ «أسباطا» بدل من ذلك التّمييز المقدّر. وجعله الزمخشريّ أنه بدل من «اثنتي عشرة» ؛ قال : بمعنى : «وقطّعناهم أمما» ، لأنّ كل أسباط كانت أمّة عظيمة وجماعة كثيفة العدد ، وكلّ واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى فلا تكاد تأتلف». انتهى.

وقد تقدّم القول في «الأسباط».

وقرأ أبان (١) بن تغلب «وقطعناهم» بتخفيف العين والشّهيرة أحسن ؛ لأنّ المقام للتّكثير ، وهذه تحتمله أيضا.

وقرأ الأعمش (٢) وابن وثّاب ، وطلحة بن سليمان «عشرة» بكسر الشّين ، وقد روي عنهم فتحها أيضا ، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة ، وطلحة بن مصرف.

وقد تقدّم تحقيق ذلك في البقرة [٦٠] ، وأنّ الكسر لغة تميم والسّكون لغة الحجاز.

قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ). وتقدمت هذه القصّة في البقرة.

«أن اضرب» يجوز في «أن» أن تكون المفسّرة للإيحاء ، وأن تكون المصدرية.

قال الحسن : ما كان إلّا حجرا اعترضه وإلّا عصا أخذها (٣).

وقوله : «فانبجست» كقوله : «فانفجرت» إعرابا وتقديرا ومعنى ، وتقدّم ذلك في البقرة.

وقيل : الانبجاس : العرق.

قال أبو عمرو بن العلاء : «انبجست» : عرقت ، وانفجرت : سالت. ففرّق بينهما بما ذكر.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٨.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) تقدم.

٣٥١

قال المفسّرون : إنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام كان إذا ضرب الحجر ظهر عليه مثل ثدي المرأة فيعرق ثمّ يسيل ، وهما قريبان من الفرق المذكور في النّضح والنّضخ.

وقال الرّاغب (١) : بجس الماء وانبجس انفجر ، لكنّ الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق ، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع ؛ ولذلك قال تعالى : (فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ، وفي موضع آخر (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠] ، فاستعمل حيث ضاق المخرج اللفظتان. يعني : ففرّق بينهما بالعموم والخصوص ، فكلّ انبجاس انفجار من غير عكس.

وقال الهرويّ : يقال : انبجس ، وتبجّس ، وتفجّر ، وتفّتق بمعنى واحد. وفي حديث حذيفة ما منا إلا رجل له آمّة يبجسها الظّفر غير رجلين يعني : عمر وعليّا رضي الله عنهما. الآمّة : الشّجّة تبلغ أمّ الرأس ، وهذا مثل يعني أنّ الآمّة منا قد امتلأت صديدا بحيث إنه يقدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمبضع فعبّر عن زلل الإنسان بذلك ، وأنه تفاقم إلى أن صار يشبه شجّة هذه صفتها.

قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ).

قال الزمخشريّ (٢) : «الأناس» اسم جمع غير تكسير نحو : رخال وثناء وتؤام ، وأخوات لها ، ويجوز أن يقال : إن الأصل : الكسر ، والتكسير والضّمة بدل من الكسرة لما أبدلت في نحو : سكارى وغيارى من الفتحة.

قال أبو حيان : ولا يجوز ما قال لوجهين ، أحدهما : أنّه لم ينطق ب «إناس» بكسر الهمزة ، فيكون جمع تكسير ، حتّى تكون الضمّة بدلا من الكسرة بخلاف «سكارى» و «غيارى» فإنّ القياس فيه «فعانى» بفتح فاء الكلمة ، وهو مسموع فيهما.

والثاني : أنّ «سكارى» و «عجالى» و «غيارى» وما ورد من نحوها ليست الضّمّة فيه بدلا من الفتحة ، بل نصّ سيبويه في كتابه على أنّه جمع تكسير أصل ، كما أنّ «فعالى» جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضّمّ كما ينقاس الفتح.

قال سيبويه ـ في حدّ تكسير الصّفات ـ : «وقد يكسّرون بعض هذا على «فعالى» وذلك قول بعضهم : عجالى وسكارى».

وقال سيبويه ـ في الأبنية أيضا ـ : «ويكون «فعالى» في الاسم نحو : حبارى ، وسمانى ، ولبادى ، ولا يكون وصفا إلّا أن يكسّر عليه الواحد للجمع نحو : سكارى وعجالى». فهذان نصّان من سيبويه على أنّه جمع تكسير ، وإذا كان جمع تكسير أصلا لم يسغ أن يدّعى أن أصله فعالى وأنه أبدلت الحركة فيه. وذهب المبرّد إلى أنه اسم جمع أعني «فعالى» بضم الفاء ، وليس بجمع تكسير. فالزمخشريّ لم يذهب إلى ما ذهب إليه

__________________

(١) ينظر : المفردات للراغب ٣٧.

(٢) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٦٩.

٣٥٢

سيبويه ، ولا إلى ما ذهب إليه المبرّد ؛ لأنّه عند المبرد اسم جمع فالضّمّة في فائه أصل وليست بدلا من الفتحة بل أحدث قولا ثالثا.

فصل

قال المفسّرون : إنهم احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه ، فأمر الله تعالى موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أن يضرب بعصاه الحجر ، وكانوا يذرءونه مع أنفسهم ، فيأخذون منه قدر الحاجة ، ولمّا أن ذكر تعالى كيف كان يستقيم ، ذكر ثانيا أنّه ظلّل الغمام عليهم في التّيه تقيهم حرّ الشّمس ، وثالثا : أنّه أنزل عليهم المنّ والسّلوى ، ومجموع هذه الأحوال نعمة من الله تعالى.

ثمّ قال : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) والمراد قصر نفوسهم على ذلك المطعوم ، وترك غيره.

وقرأ عيسى (١) الهمدانيّ ما رزقتكم بالإفراد.

ثمّ قال وما ظلمونا وفيه حذف ؛ لأنّ هذا الكلام إنّما يحسن ذكره لو أنّهم تعدوا ما أمرهم الله به ، إمّا لكونهم ادّخروا ما منعهم الله منه ، أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله منه ؛ أو لأنّهم سألوا عن ذلك مع أنّ الله منعهم منه والمكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه ، ولذلك وصفهم الله بقوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ؛) لأنّ المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلّا نفسه.

قوله تعالى : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)(١٦٢)

قوله تعالى : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الآية.

اعلم أنّ هذه القصة قد تقدّمت مشروحة في سورة البقرة إلّا أنّ بينهما تفاوتا من وجوه :

أحدها : أنّه عيّن القائل في سورة البقرة ، فقال وإذ قلنا وههنا أبهمه فقال وإذ قيل.

وثانيها : قال في سورة البقرة «ادخلوا» وقال هاهنا «اسكنوا».

وثالثها : قال في سورة البقرة فكلوا بالفاء ، وههنا بالواو.

ورابعها : قال هناك رغدا وأسقطها ههنا.

وخامسها : قدّم هناك قوله (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) على «وقولوا حطّة» وههنا على العكس.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٦ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٩.

٣٥٣

وسادسها : قال في البقرة (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) وههنا «خطيئاتكم».

وسابعها : قال هناك «وسنزيد المحسنين» بالواو وههنا حذفها.

وثامنها : قال في البقرة «فأنزلنا» وههنا «فأرسلنا».

وتاسعها : قال هناك (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ). وقال ههنا «يظلمون».

وهذه ألفاظ لا منافاة بينها ألبتة ، ويمكن ذكر فوائدها.

أما قوله ههنا : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) إعلاما للسّامع بأن هذا القائل هو ذاك ، وأمّا قوله هناك «ادخلوا» ، وههنا «اسكنوا» فالفرق أنّه لا بدّ من دخول القرية أوّلا ، ثم سكونها ثانيا.

وأمّا قوله هناك «فكلوا» بالفاء وههنا بالواو ، فالفرق أنّ الدّخول حالة مخصوصة ، كما يوجد بعضها ينعدم ، فإنّه إنّما يكون داخلا في أوّل دخوله.

وأمّا بعد ذلك ، فيكون سكنى لا دخولا ، وإذا كان كذلك فالدّخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار ، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده ، فلهذا قال (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) وأمّا السّكنى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلا معها لا عقيبها فحصل الفرق.

وأمّا قوله هناك «رغدا» ولم يذكره هنا ؛ لأنّ الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ ؛ لأنّه وقت الحاجة الشديدة ، فلذلك ذكر رغدا وأما الأكل حالة السّكنى ، فالظّاهر أنّ الحاجة لا تكون شديدة.

وأمّا قوله هناك (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) وههنا على العكس ، فالمراد التّنبيه على أنّه يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر ، لأنّ المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بحسب التّقديم والتّأخير.

قال الزمخشريّ : التّقديم والتأخير في وقولوا وادخلوا سواء قدّموا «الحطّة» على دخول الباب ، أو أخّروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما.

قال أبو حيّان : وقوله : سواء قدّموا أو أخّروها تركيب غير عربي ، وإصلاحه سواء أقدّموا أم أخّروا ، كما قال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) [إبراهيم : ٢١].

فصل

قال شهاب الدّين (١) : يعني كونه أتى بعد لفظ «سواء» ب «أو» دون «أم» ، ولم يأت بهمزة التسوية بعد «سواء» وقد تقدّم أنّ ذلك جائز ، وإن كان الكثير ما ذكره وأنه قد قرىء (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] والرّدّ بمثل هذا غير «طائل».

وأما قوله في البقرة (خَطاياكُمْ) وههنا «خطيئاتكم» فهو إشارة على أنّ هذه الذنوب

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٥٩.

٣٥٤

سواء كانت قليلة ، أو كثيرة ، فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدّعاء.

وأما قوله هناك «وسنزيد» بالواو ، وههنا حذفها ففائدته أنه استئناف ، كأنّ قائلا قال : وماذا حصل بعد الغفران؟.

فقيل له : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

وأما قوله هناك «فأنزلنا» ، وههنا «فأرسلنا» فلأنّ الإنزال لا يشعر بالكثرة ، والإرسال يشعر بها ، فكأنّه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ، ثمّ جعله كثيرا ، وهو نظير الفرق بين قوله (فَانْبَجَسَتْ) [الأعراف : ١٦٠] وقوله (فَانْفَجَرَتْ) [البقرة : ٦٠].

وأمّا قوله هناك (عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وههنا «عليهم» فهو إيذان بأنّ هؤلاء المضمرون هم أولئك. وأمّا قوله ههنا «يظلمون» وهناك «يفسقون» فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمين لأنّهم ظلموا أنفسهم ، وبكونهم فاسقين ، لأنّهم خرجوا عن طاعة الله.

قوله : (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ) قد تقدّم الخلاف في «نغفر» وأمّا «خطيئاتكم» فقرأها ابن عامر (١) «خطيئتكم» بالتّوحيد ، والرّفع على ما لم يسمّ فاعله ، والفرض أنه يقرأ «تغفر» بالتّاء من فوق. ونافع قرأ «خطيئاتكم» بجمع السّلامة ، رفعا على ما لم يسمّ فاعله ؛ لأنّه يقرأ «تغفر لكم» كقراءة ابن عامر.

وأبو عمرو قرأ «خطاياكم» جمع تكسير ، ويقرأ «نغفر» (٢) بنون العظمة. والباقون «نغفر» كأبي عمرو ، «خطيئاتكم» بجمع السّلامة منصوبا بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو «خطاياهم» بالتكسير أيضا ، والباقون بجمع التصحيح.

وقرأ ابن (٣) هرمز «تغفر» بتاء مضمومة مبنيا للمفعول ، كنافع ، «خطاياكم» كأبي عمرو ، وعنه «يغفر» بياء الغيبة ، وعنه «تغفر» بفتح التّاء من فوق ، على معنى أنّ «الحطّة» سبب للغفران ، فنسب الغفران إليها.

قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ

__________________

(١) ينظر : في هذه القراءة : السبعة ٢٩٦ ، والحجة ٤ / ٩٤ ـ ٩٥ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٠ ، وحجة القراءات ٢٩٨ ـ ٣٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٩.

٣٥٥

أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)(١٦٦)

قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية.

المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم ؛ لأنّ الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قد علمها من قبل الله تعالى ، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء :

الأول : المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح تنبيها لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

والثاني : أنّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذ وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفة تلك الواقعة وغير غافل عنها. ولمّا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا أميا لم يعلم علما ، ولم يطالع كتابا ، ثمّ إنّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان ، كان ذلك جاريا مجرى المعجزة.

قوله : «عن القرية» لا بدّ من مضاف محذوف ، أي : عن خبر القرية ، وهذا المحذوف هو النّاصب لهذا الظرف وهو قوله «إذ يعدون».

وقيل : هو منصوب ب «حاضرة».

قال أبو البقاء (١) : وجوّز ذلك أنها كانت موجودة في ذلك الوقت ثم خربت.

وقدر الزمخشريّ : المضاف «أهل» أي : عن أهل القرية ، وجعل الظرف بدلا من «أهل» المحذوف فإنّه قال : «إذ يعدون» بدل من القرية ، والمراد بالقرية : أهلها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت ، وهو من بدل الاشتمال.

قال أبو حيّان (٢) وهذا لا يجوز ؛ لأن «إذ» من الظّروف التي لا تتصرّف ، ولا يدخل عليها حرف جر ، وجعلها بدلا يجوّز دخول «عن» عليها ؛ لأنّ البدل هو على نيّة تكرار العامل ولو أدخلت «عن» عليها لم يجز ، وإنّما يتصرّف فيها بأن تضيف إليها بعض الظّروف الزّمانية نحو : يوم إذ كان كذا ، وأمّا قول من ذهب إلى أنّها تكون مفعولة ب «اذكر» فقول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفا.

وقال الحوفيّ : «إذ» متعلقة ب «سلهم».

قال أبو حيان (٣) : وهذا لا يتصوّر ، لأن «إذ» لما مضى ، و «سلهم» مستقبل ، لو كان ظرفا مستقبلا لم يصحّ المعنى ؛ لأنّ العادين ـ وهم أهل القرية ـ مفقودون فلا يمكن سؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٧٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٠٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٠٨.

٣٥٦

وقرأ شهر (١) بن حوشب وأبو نهيك «يعدّون» بفتح العين وتشديد الدّال ، وهذه تشبه قراءة نافع في قوله (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) [النساء : ١٥٤] والأصل : تعتدوا ، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها.

وقرىء «يعدّون» (٢) بضمّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من : أعدّ يعدّ إعدادا إذا هيّأ آلاته ، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادة ، فيتركونها ويهيّئون آلات الصّيد.

فصل

معنى الآية : واسأل يا محمّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقرية ، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩٦].

قال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : هي قرية يقال لها : أيلة بين مدين والطّور على شاطىء البحر (٣).

وقيل : مدين (٤).

وقال الزّهري : هي طبرية الشّام ، والعرب تسمّي المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسين والحجّاج يعني رجلين من أهل المدن ، و (يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) يتجاوزون حد الله فيه ، وهو اصيطادهم في يوم السّبت وقد نهوا عنه ، والسّبت : مصدر سبت اليهود إذا عظّمت سنّتها ، إذا تركوا العمل في سبتهم ، وسبت الرجل سباتا إذا أخذه ذلك ، وهو مثل الخرس ، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السّبت ، واليهود دخلوا في السبت ، وهو اليوم المعروف ، وهو من الرّاحة والقطع ، ويجمع على أسبت وسبوت وأسباب. وفي الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من احتجم يوم السّبت فأصابه مرض فلا يلومنّ إلّا نفسه».

قال القرطبي (٥) : قال علماؤنا : لأنّ الدّم يجمد يوم السبت ، فإذا مددته لتستخرجه لم يجر وعاد برصا.

قوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ) العامل فيه «تعدون» أي : إذا عدوا إذ أتتهم ؛ لأنّ الظّرف الماضي يصرف المضارع إلى المضيّ.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٠.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٩١) من طريق عكرمة عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٥١) وعزاه لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٩٢) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٥١) عن سعيد بن جبير وعزاه لعبد بن حميد.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٩٤.

٣٥٧

وقال الزمخشريّ : و (إِذْ تَأْتِيهِمْ) بدل من «إذ يعدون» بدل بعد بدل ، يعني : أنه بدل ثان من القرية على ما تقدّم عنه ، وقد تقدّم ردّ أبي حيان عليه فيعود هنا.

و «حيتان» جمع «حوت» ، وإنّما أبدلت الواو ياء ، لسكونها وانكسار ما قبلها ، ومثله نون ونينان والنّون : الحوت.

قوله «شرّعا» حال من «حيتانهم» وشرّع : جمع شارع.

وقرأ عمر بن عبد العزيز (١) : «يوم إسباتهم» وهو مصدر «أسبت» إذا دخل في السّبت.

وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى (٢) بن عمر «لا يسبتون».

وقرأ عليّ والحسن (٣) وعاصم بخلاف عنه «لا يسبتون» بضم الياء وكسر الباء ، من أسبت ، أي : دخل في السبت.

وقرىء (٤) : «يسبتون» بضمّ الياء وفتح الباء مبنيا للمفعول ، نقلها الزمخشريّ عن الحسن.

قال : أي لا يدار عليهم السبت ولا يؤمرون بأن يسبتوا ، والعامل في : (يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) قوله : «لا تأتيهم» أي : لا تأتيهم يوم لا يسبتون ، وهذا يدلّ على جواز تقديم معمول المنفي ب «لا» عليها وقد تقدم فيه ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا كهذه الآية ، والمنع مطلقا ، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز.

ومعنى شرّعا أي ظاهرة على الماء كثيرة. من شرع فهو شارع ، ودار شارعة أي : قريبة من الطريق ، ونجوم شارعة أي : دنت من المغيب ، وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها.

وقال الضّحّاك : متتابعة (٥).

فصل

قال ابن عباس ومجاهد : إنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه ، واختاروا السبت ، فابتلاهم الله به ، وحرم عليهم الصّيد ، وأمروا بتعظيمه ، فإذا كان يوم السّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها ، فإذا انقضى السّبت ذهبت عنهم ، ولم تعد إلّا في السبت المقبل ، وذلك بلاء ابتلاهم الله به (٦).

فقوله (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ) أي لا يفعلون السبت ، يقال : سبت يسبت إذا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧٠ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٦٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٦٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٦٠.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٧١.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٠٨.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ٣١ ـ ٣٢.

٣٥٨

عظم السبت. والمعنى : يدخلون في السّبت ، كما يقال : أجمعنا وأظهرنا وأشهرنا ، أي : دخلنا في الجمعة ، والظهر ، والشهر.

كما يقال : أصبحنا أي : دخلنا في الصباح.

قوله : (كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ). ذكر الزجاج ، وابن الأنباريّ في هذه الكاف ومجرورها وجهين :

أحدهما : قال الزّجّاج (١) : أي : مثل هذا الاختبار الشّديد نختبرهم ، فموضع الكاف نصب ب «نبلوهم».

قال ابن الأنباري : ذلك إشارة إلى ما بعده ، يريد : نبلوهم بما كانوا يفسقون كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان ، وينقطع الكلام عند قوله «لا تأتيهم».

الوجه الثاني : قال الزجاج ويحتمل أن يكون ـ على بعد ـ أن يكون : ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شرّعا ، ويكون «نبلوهم» مستأنفا.

قال أبو بكر : وعلى هذا الوجه كذلك راجعة إلى الشّروع في قوله تعالى : (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) والتقدير : ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك الإتيان بالشّروع ، وموضع الكاف على هذا نصب بالإتيان على الحال ، أي : لا تأتي مثل ذلك الإتيان.

قوله : «بما كانوا» الباء سببية و «ما» مصدرية ، أي : نبلوهم بسبب فسقهم ، ويضعف أن تكون بمعنى «الذي» لتكلّف حذف العائد على التدريج.

وقد ذكر مكي هنا مسألة مختلفا فيها بين النّحاة ، لا تعلّق لها بهذا الموضع.

فقال : وأفصح اللغات أن ينتصب الظرف مع السبت والجمعة فتقول : اليوم السّبت ، واليوم الجمعة فتنصب اليوم على الظّرف ، وترفع مع سائر الأيام فتقول : اليوم الأحد واليوم الأربعاء لأنّه لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع.

قال شهاب الدّين (٢) : هذه المسألة فيها خلاف بين النّحويين ، فالجمهور كما ذكر يوجبون الرفع ؛ لأنّه بمنزلة قولك : اليوم الأول ، اليوم الثاني. وأجاز الفراء وهشام النّصب ، قالا : لأنّ اليوم بمنزلة : الآن وليست هذه المسألة مختصّة بالجمعة والسبت بل الضابط فيها : أنه إذا ذكر «اليوم» مع ما يتضمن عملا أو حدثا جاز الرفع والنصب نحو قولك : اليوم العيد ، اليوم الفطر ، اليوم الأضحى.

كأنك قلت : اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية.

فصل

قال المفسّرون : وسوس لهم الشّيطان وقال : إنّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنّما نهاكم عن الأكل فاصطادوا.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٢٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٦١.

٣٥٩

وقيل : وسوس إليهم أنّكم إنّما نهيتم عن الأخذ فاتّخذوا حياضا على شاطىء البحر ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحد ، ففعلوا ذلك زمانا ، ثمّ تجرّءوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلّا قد أحلّ لنا ، فأخذوا ، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم ، وبعضهم فعل ، ولم ينته ، وبعضهم سكت وقالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) [الأعراف : ١٦٤] فلمّا لم ينتهوا قال النّاهون لا نساكنكم ، فقسموا القرية بجدار ، للمسلمين باب ، وللمعتدين باب ، ولعنهم داود ، فأصبح النّاهون ذات يوم ، ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم شأنا ، لعلّ الخمر غلبتهم ، فعلوا الجدار ، فإذا هم قردة.

فصل

دلّت هذه الآية على أنّ الحيل في تحليل الأمور الّتي حرمها الشارع محرمة ؛ كالغيبة ، ونكاح المحلّل ، وما أشبههما من الحيل ، ودلّت على أنّه تعالى لا يجب عليه رعاية الصّلاح والإصلاح لا في الدّين ولا في الدنيا ؛ لأنّه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السّبت مما يحملهم على المعصية والكفر ، فلو وجب عليه رعاية الصّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن الكفر والمعصية ، فلمّا فعل علمنا أن رعاية الصّلاح لا تجب على الله تعالى.

قوله : (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً).

اختلفوا في الذين قالوا هذا القول.

فقيل : كانوا من الفرقة الهالكة ؛ لأنّهم لمّا قيل لهم : انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب ؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنّ الله ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ).

فقال النّاهون (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) أي موعظتنا (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) ، والأصحّ أنها من قول الفرقة السّاكتة جوابا للنّاهية ، قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ... مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ).

ومعناه : أنّ الأمر بالمعروف واجب علينا ، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله ، «وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أي : يتّقوا الله ويتركوا المعصية ، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

«معذرة» قرأ العامّة : «معذرة» رفعا على أنه خبر ابتداء مضمر ، أي : موعظتنا معذرة.

وقرأ حفص عن عاصم ، وزيد بن علي (١) ، وعيسى بن عمر ، وطلحة بن مصرف : «معذرة» نصبا وفيها ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٦ ، والحجة ٤ / ٩٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٠ ـ ٢١١ وحجة القراءات ٣٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٦٦.

٣٦٠