اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وابن وثّاب وابن مصرف والجحدريّ والأعمش ، وأيّوب ، وباقي السبعة بياء الغيبة فيهما ، «ربّنا» رفعا ، وهي قراءة الحسن ، ومجاهد ، والأعرج وشيبة وأبي جعفر. فالنّصب على أنّه منادى ، وناسبه الخطاب ، والرّفع على أنّه فاعل ، فيجوز أن يكون هذا الكلام صدر من جميعهم على التّعاقب ، أو هذا من طائفة ، وهذا من طائفة ، فمن غلب عليه الخوف ، وقوي على المواجهة ؛ خاطب مستقيلا من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامه مخرج المستحي من الخطاب ؛ فأسند الفعل إلى الغائب.

قال المفسّرون : وكان هذا النّدم والاستغفار منهم بعد رجوع موسى إليهم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً :) هذان حالان من «موسى» عند من يجيز تعدّد الحال ، وعند من لا يجيزه يجعل «أسفا» حالا من الضّمير المستتر في «غضبان» ، فتكون حالا متداخلة ، أو يجعلها بدلا من الأولى ، وفيه نظر لعسر إدخاله في أقسام البدل.

وأقرب ما يقال : إنّه بدل بعض من كل إن فسّرنا الأسف بالشّديد الغضب ، وهو قول أبي الدّرداء (١) وعطاء عن ابن عبّاس (٢) ، واختيار الزّجّاج ، واحتجّوا بقوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] أي : أغضبونا ، أو بدل اشتمال إن فسّرناه بالحزين.

وهو قول ابن عباس والحسن ، والسّدّي ، ومنه قوله : [المديد]

٢٥٧٨ ـ غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٤) عن أبي الدرداء.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٠) والقرطبي (٧ / ١٨٢).

(٣) البيت لأبي نواس. ينظر : سيبويه ١ / ٣٢ ، ابن الشجري ١ / ٣٢ ، خزانة الأدب ١ / ٣٤٥ ، الخصائص ١ / ٤٧ ، منهج السالك ١ / ١٩١ ، سفر السعادة ١ / ١٥٦ ، المغني ١ / ١٥٩ ، الهمع ١ / ٩٤ ، ابن عقيل ١ / ١٩١ ، روح المعاني ٩ / ٦٦ ، العيني ١ / ٥١٣ ، الخزانة ١ / ٣٤٥ ، الأشموني ١ / ١٩١ ، الدرر اللوامع ١ / ٧٢ ، أمالي ابن الحاجب ص ٦٣٧ ، الأشباه والنظائر ٣ / ٩٤ ، ٥ / ٢٨٩ ، ٦ / ١١٣ ، ٧ / ٢٥ ، تذكرة النحاة ص ١٧١ ، ٣٦٦ ، ٤٠٥ ، همع الهوامع ١ / ٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٤٦.

المبتدأ : قسمان : قسم له خبر ، وقسم له فاعل أو نائب عنه يغني عن الخبر ، وهو الوصف سواء كان اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة أو منسوبا وشرطه أن يكون سابقا وأن يكون مرفوعه منفصلا سواء كان ظاهرا أم ضميرا نحو أقائم أنتما ، ومنع الكوفيون الضمير فلا يجيزون إلا : أقائمان أنتما أو استفهام بأي أدوانهما كما ولا وإن وغير. كالشاهد الذي معنا الذي استشهد به في قوله : «غير مأسوف على زمن» حيث أجرى قوله : «على زمن» النائب عن الفاعل مجرى الزيدين في قولك : «ما مضروب الزيدان» في أن كل واحد منهما سد مسد الخبر ؛ لأن المتضايفين بمنزلة الاسم الواحد فحيث كان نائب الفاعل يسد مع أحدهما مسد الخبر ، فإنه يسد مع الآخر أيضا ، وكأنه قال : «ما مأسوف على زمن» هذا توجيه ابن الشجري في أماليه.

التوجيه الثاني : لابن جني وابن الحاجب وهو أن ـ غير ـ خبر مقدم ، وأصل الكلام : «زمن ينقضي ـ

٣٢١

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : إنّ أبا بكر رجل أسيف أي : حزين (١).

قال الواحديّ : «والقولان متقاربان ؛ لأنّ الغضب من الحزن ، والحزن من الغضب» ؛ قال : [البسيط]

٢٥٧٩ ـ ..........

فحزن كلّ أخي حزن أخو الغضب (٢)

وقال الأعشى : [الطويل]

٢٥٨٠ ـ أرى رجلا منهم أسيفا كأنّما

يضمّ إلى كشحيه كفّا مخضّبا (٣)

فهذا بمعنى : غضبان ، وحديث عائشة يدلّ على أنّه : الحزين ، فلمّا كانا متقاربين في المعنى صحّت البدليّة.

ويقال : رجل أسف : إذا قصد ثبوت الوصف واستقراره ، فإن قصد به الزّمان جاء على فاعل.

فصل

اختلفوا في هذه الحال.

فقيل : إنّه عند هجومه عليهم ، عرف ذلك.

وقال أبو مسلم : بل كان عارفا بذلك من قبل ؛ لقوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) وإنّما كان راجعا قبل وصوله إليهم.

وقال تعالى ـ لموسى عليه الصّلاة والسّلام ـ في حال المكالمة (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) [طه : ٨٥].

__________________

ـ بالهم غير مأسوف عليه» وهو توجيه ليس بشيء لما يلزم عليه من التكلفات البعيدة لأن العبارة الواردة في البيت لا تصير إلى هذا إلا بتكلف كثير.

التوجيه الثالث : لابن الخشاب ، وحاصله أن قوله «غير» خبر لمبتدأ محذوف تقديره «أنا غير ـ الخ» وقوله «مأسوف» ليس اسم مفعول ، بل هو مصدر مثل «الميسور والمعسور والمجلود والمحلوف» وأراد به هنا اسم الفاعل فكأنه قال «أنا غير آسف ـ الخ».

(١) متفق عليه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٢ / ١٧٢ ـ ١٧٣ ، كتاب الأذان باب إنما جعل الإمام ليؤتم به الحديث (٦٨٧) ، وأخرجه مسلم في الصحيح ١ / ٣١١ ـ ٣١٢ ، كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر الحديث (٩٠ / ٤١٨).

(٢) عجز بيت للمتنبي وصدره :

جزاك ربك بالإحسان مغفرة

ينظر : ديوانه ١ / ٩٤ ، الوساطة (٣٨١) ، وشرح الديوان للعكبري ١ / ٩٤ ، ومفردات الراغب ١٧ ، وتاج العروس ٦ / ٤٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٧.

(٣) ينظر : ديوانه ص ١٦٥ ، الإنصاف ٢ / ٧٧٦ ، مجالس ثعلب ١ / ٣٨ ، أمالي ابن الشجري ١ / ١٥٨ ، جمهرة اللغة ص ٢٩١ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٥٨ ، الأشباه والنظائر ٥ / ٢٣٥ ، اللسان (خضب) ، الدر المصون ٣ / ٣٤٧.

٣٢٢

قوله : قال بئسما هذا جواب «لمّا» وتقدّم الكلام على «بئسما» ، ولكنّ المخصوص بالذّم محذوف ، والفاعل مستتر يفسّره «ما خلفتموني» والتقدير : بئس خلافة خلفتمونيها خلافتكم.

فصل

فإن قيل : ما معنى قوله : «من بعدي» بعد قوله «خلفتموني»؟

فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ، ونفي الشّركاء ، وإخلاص العبادة له ، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التّوحيد ، وامنعهم من عبادة البقر حين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، ومن حقّ الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين.

قوله : (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) : في «أمر» وجهان ، أحدهما : أنّه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض ، وتضمين الفعل معنى ما يتعدّى بنفسه ، والأصل : أعجلتم عن أمر ربّكم.

قال الزمخشريّ (١) : يقال : عجل عن الأمر : إذا تركه غير تامّ ، ونقيضه تمّ عليه ، وأعجله عنه غيره ، ويضمّن معنى «سبق» فيتعدّى تعديته.

فيقال : عجلت الأمر ، والمعنى : «أعجلتم عن أمر ربكم».

والثاني : أنّه متعدّ بنفسه غير مضمن معنى آخر ، حكى يعقوب عجلت الشّيء سبقته ، وأعجلت الرّجل : استعجلته ، أي : حملته على العجلة.

فصل

قال الواحدي : «معنى العجلة : التقدم بالشّيء قبل وقته ، ولذلك صارت مذمومة والسّرعة غير مذمومة ، لأنّ معناها : عمل الشّيء في أول أوقاته».

ولقائل أن يقول : لو كانت العجلة مذمومة فلم قال موسى : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) [طه : ٨٤].

قال ابن عبّاس : معنى (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) يعني : ميعاد ربكم فلم تصبروا له (٢) وقال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين (٣) ، وذلك أنّهم قدروا أنّه إن لم يأت على رأس الثّلاثين ، فقد مات.

وقال عطاء : يريد أعجلتم سخط ربّكم (٤).

وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم (٥).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦١.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٠ ـ ١١).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٢٣

قوله : «وألقى الألواح» أي الّتي فيها التّوراة على الأرض من شدّة الغضب.

قالت الرّواة : كانت التّوراة سبعة أسباع ، فلمّا ألقاها انكسرت ، فرفع منها ستّة أسباع ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلال والحرام.

ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلّا أنّه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت ، فليس في القرآن وإنّه جرأة عظيمة على كتاب الله تعالى ، ومثله لا يليق بالأنبياء ، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) [الأعراف : ١٥٤] فدلّ ذلك على أنّها لم تنكسر ، ولا شيء منها ، وأنّ القائلين بأنّ ستة أسباعها رفعت إلى السّماء ، ليس الأمر كذلك ، وأنّه أخذها بأعيانها.

قوله : «أخذ برأس أخيه» بذؤابته ولحيته ، لقوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [طه : ٩٤].

قوله : «يجرّه إليه» فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنّ الجملة حال من ضمير موسى المستتر في أخذ ، أي : أخذه جارّا إليه.

الثاني : أنّها حال من رأس قاله أبو البقاء ، وفيه نظر لعدم الرّابط.

والثالث : أنّها حال من أخيه.

قال أبو البقاء : «وهو ضعيف» يعني من حيث إنّ الحال من المضاف إليه يقلّ مجيئها ، أو يمتنع عند بعضهم وقد تقدّم أن بعضهم يجوّزه في صور ، هذه منها وهو كون المضاف جزءا من المضاف إليه.

فصل

الطّاعنون في عصمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأس أخيه يجرّه على سبيل الإهانة ، والمثبتون لعصمة الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ قالوا : إنّه جرّ أخاه ليسأله ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.

فإن قيل : فلم يقال : «ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني»؟

فالجواب : أنّ هارون ـ عليه‌السلام ـ خاف أن يتوهّم جهّال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العجل.

فقال : قد نهيتهم ، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل ؛ فلا تفعل ما تشمت أعدائي ، فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام.

قوله : ابن أمّ قرأ الأخوان ، وأبو بكر (١) ، وابن عامر هنا ، وفي طه ، بكسر الميم ، والباقون بفتحها. فأمّا الفتح ففيها مذهبان.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٥ ، والحجة ٤ / ٨٩ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٨ ، ٢٠٩ ، وحجة القراءات ٢٩٧ ، وإتحاف ٢ / ٦٣.

٣٢٤

مذهب البصريين : أنّهما بنيا على الفتح ، لتركيبهما تركيب «خمسة عشر» ، فعلى هذا ليس «ابن» مضافا ل «أمّ» ، بل هو مركّب معها ، فحركتها حركة بناء.

والثاني : مذهب الكوفيّين : وهو أنّ «ابن» مضاف ل «أمّ» و «أمّ» مضافة لياء المتكلّم ، وياء المتكلّم قد قلبت ألفا ، كما تقلّب في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ، نحو : يا غلاما ، ثم حذفت الألف واجتزىء عنها بالفتحة ، كما يجتزأ عن الياء بالكسرة ، فحينئذ حركة «ابن» حركة إعراب ، وهو مضاف ل «أمّ» فهي في محلّ خفض بالإضافة.

وأمّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسر بناء لأجل ياء المتكلم ، بمعنى : أنّا أضفنا هذا الاسم المركب كلّه لياء المتكلم ، فكسر آخره ، ثم اجتزىء عن الياء بالكسرة ، فهو نظير : يا أحد عشر ، ثم : يا أحد عشر بالحذف ، ولا جائز أن يكونا باقيين على الإضافة إذ لم يجز حذف الياء ؛ لأنّ الاسم ليس منادى ، ولكنه مضاف إليه المنادى ، فلم يجز حذف الياء منه.

وعلى رأي الكوفيين يكون الكسر كسر إعراب ، وحذفت الياء مجتزأ عنها بالكسرة كما اجتزىء عن ألفها بالفتحة ، وهذان الوجهان يجريان في : «ابن أمّ» ، و «ابن عمّ» ، و «ابنة أمّ» ، و «ابنة عمّ».

فصل

فاعلم أنّه يجوز في هذه الأمثلة الأربعة خاصة خمس لغات :

فصحاهنّ : حذف الياء مجتزأ عنها بالكسرة ، ثم قلب الياء ألفا ؛ فيلزم قلب الكسرة فتحة ، ثم حذف الألف مجتزأ عنها بالفتحة ، ثمّ إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة ، وأمّا غير هذه الأمثلة الأربعة ممّا أضيف إلى مضاف إلى ياء المتكلّم في النّداء ، فإنّه لا يجوز فيه إلّا ما يجوز في غير باب النّداء ، لأنّه ليس منادى ، نحو : يا غلام أبي ، ويا غلام أمي ، وإنّما جرت هذه الأمثلة خاصّة هذا المجرى ؛ تنزيلا للكلمتين منزلة كلمة واحدة ، ولكثرة الاستعمال.

وقرىء «يا ابن أمّي» بإثبات الياء ساكنة ؛ ومثله قوله : [الخفيف]

٢٥٨١ ـ يا ابن أمّي ويا شقيّق نفسي

أنت خلّيتني لدهر شديد (١)

وقول الآخر : [الخفيف]

٢٥٨٢ ـ يا ابن أمّي فدتك نفسي ومالي

 .......... (٢)

__________________

(١) البيت لزبير الطائي : ينظر الكتاب ٢ / ٢١٣ ، ابن يعيش ٢ / ١٢ ، الهمع ٢ / ٥٤ ، التصريح ٢ / ١٧٩ ، الأشموني ٣ / ١٥٧ ، الدرر ٥ / ٥٧ ، أوضح المسالك ٤ / ٤٠ ، المقتضب ٤ / ٢٥٠ ، المقاصد النحوية ٤ / ٢٢٢ ، اللسان : شقق الدر المصون ٣ / ٣٤٨.

(٢) ينظر : البحر ٤ / ٣٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٤٨.

٣٢٥

وقرىء أيضا : «يا ابن إمّ» بكسر الهمزة والميم وهو إتباع. ومن قلب الياء ألفا قوله : [الرجز]

٢٥٨٣ ـ يا ابنة عمّا لا تلومي واهجعي (١)

وقوله : [الرجز]

٢٥٨٤ ـ كن لي لا عليّ يا ابن عمّا

ندم عزيزين ونكف الذّمّا (٢)

فصل

إنّما قال : «ابن أمّ» وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه.

وقيل : كان أخاه لأمّه دون أبيه ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى ؛ لأنه كان لين الغضب.

قوله : (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) أي لم يلتفتوا إلى كلامي ، يعني : عبدة العجل (وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : شريكا لهم في عقوبتك على فعلهم.

قوله : (فَلا تُشْمِتْ) العامّة على ضمّ التاء ، وكسر الميم ، وهو من «أشمت» رباعيا ، الأعداء مفعول به (٣).

وقرأ ابن محيصن (فَلا تُشْمِتْ) بفتح التّاء وكسر الميم ، ومجاهد : بفتح التّاء أيضا وفتح الميم ، «الأعداء» نصب على المفعول به ، وفي هاتين القراءتين تخريجان :

أظهرهما : أن «شمت ، أو شمت» بكسر الميم أو فتحها متعدّ بنفسه ك : أشمت الرباعي.

يقال : شمت بي زيد العدوّ ؛ كما يقال : أشمت بي العدوّ.

والثاني : أنّ تشمت مسند لضمير الباري تعالى أي : فلا تشمت يا رب ، وجاز هذا كما جاز : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥] ثم أضمر ناصبا للأعداء ، كقراءة الجماعة ، قاله ابن جنّي.

ولا حاجة إلى هذا التّكلف ؛ لأنّ «شمت» الثلاثيّ يكون متعدّيا بنفسه ، والإضمار على خلاف الأصل.

وقال أبو البقاء ـ في هذا التّخريج ـ : «فلا تشمت أنت» فجعل الفاعل ضمير

__________________

(١) البيت لأبي النجم العجلي ينظر الكتاب ٢ / ٢١٤ ، المقتضب ٤ / ٢٥٢ ، المحتسب ٢ / ٢٣٨ ، ابن يعيش ٢ / ١٢ ، النوادر لأبي زيد ١٩ ، التصريح ٢ / ١٧٩ ، الهمع ٢ / ٥٤ ، الخزانة ١ / ٤٦٤ ، الدر المصون ٣ / ٣٤٨.

(٢) ينظر : العيني ٤ / ٢٥٠. الدر المصون ٣ / ٣٤٨.

(٣) وهي قراءة حميد بن قيس ، ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٥٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٩٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٤٨.

٣٢٦

«موسى» ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الله تعالى ، وأمّا تنظيره بقوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فإنّما جاز ذلك للمقابلة في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [آل عمران : ٥٤] ولا يجوز ذلك في غير المقابلة.

وقرأ حميد بن قيس (١)(فَلا تُشْمِتْ) كقراءة ابن محيصن ، ومجاهد كقراءته فيه أوّلا ، إلّا أنّهما رفعا «الأعداء» على الفاعلية ، جعلا «شمت» لازما فرفعا به «الأعداء» على الفاعليّة ، فالنّهي في اللّفظ للمخاطب والمراد به غيره كقولهم : لا أرينّك ههنا ، أي : لا يكن منك ما يقتضي أن تشمت بي الأعداء.

والإشمات والشّماته : الفرح ببلية تنال عدوّك ؛ قال : [الكامل]

٢٥٨٥ ـ ..........

والموت دون شماتة الأعداء (٢)

فصل

قيل : واشتقاقها من شوامت الدّابة ، وهي قوائمها ؛ لأنّ الشّماتة تقلب قلب الحاسد في حالتي الفرح والتّرح كتقلّب شوامت الدّابة. وتشميت العاطس وتسميته ، بالشّين والسّين الدعاء له بالخير.

قال أبو عبيد : الشّين أعلى اللّغتين.

وقال ثعلب : الأصل فيهما السّين من السّمت ، وهو القصد والهدي.

وقيل : معنى تشميت العاطس [بالمعجمة] أن يثبّته الله كما يثبت قوائم الدابة.

وقيل : بل التّفعيل للسّلب ، أي : أزال الله الشّماتة به وبالسّين المهملة ، أي : ردّه الله إلى سمته الأول ، أي : هيئته ، لأنّه يحصل له انزعاج.

وقال أبو بكر : «يقال : شمّته وشمّت عليه» وفي الحديث : وشمّت عليهما.

فصل

ولمّا تبيّن لموسى عذر أخيه قال : «ربّ اغفر لي ما صنعت» أي : ما أقدمت عليه من الغضب ، «ولأخي» إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل «وأدخلنا جميعا في رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين».

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(١٥٤)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) الآية. المفعول الثاني من مفعولي ـ الاتّخاذ ـ

__________________

(١) ينظر : القراءة السابقة.

(٢) تقدم.

٣٢٧

محذوف ، والتقدير : اتّخذوا العجل إلها ومعبودا ، يدلّ على هذا المحذوف قوله تعالى : (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] وللمفسرين ههنا طريقان : أحدهما : المراد بالذين اتّخذوا العجل قوم موسى ، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تاب الله عليهم : بأن قتلوا أنفسهم في معرض التّوبة على ذنبهم ، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقّهم : (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)؟ ويجاب عنه بأن ذلك الغضب إنّما حصل في الدّنيا لا في الآخرة ، وهو أنّ الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمراد بقوله : (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هو أنّهم قد ضلّوا فذلّوا.

فإن قيل : السّين في قوله سينالهم للاستقبال ، فكيف يحمل هذا على حكم الدّنيا؟ فالجواب : أنّ هذا حكاية عمّا أخبر الله به موسى حين أخبره بافتتان قومه ، واتّخاذهم العجل ، وأخبره في ذلك الوقت أن سينالهم غضب من ربهم وذلّة ، فكان هذا الكلام سابقا على وقوعهم في القتل وفي الذّلّة فصحّ هذا التّأويل.

الطريق الثاني : أنّ المراد بالذين اتّخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا فيه وجهان : أحدهما : أنّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقب ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا ، وإنّما فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا.

قال عطيّة العوفيّ : أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عيّرهم بصنع آبائهم ونسبه إليهم ، ثمّ حكم عليهم بأنّه : (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ) في الآخرة : (وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أراد : ما أصاب بني قريظة والنّضير من القتل والجلاء.

وقال ابن عبّاس : هي الجزية.

الوجه الثاني : أن يكون التقدير : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) أي الذين باشروا ذلك سينالهم أي : سينال أولادهم ، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.

ثمّ قال : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) أي : ومثل ذلك النّيل والغضب والذّلّة (نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) الكاذبين.

قال أبو قلابة : «هو والله جزاء كلّ مفتر إلى يوم القيامة أن يذلّه الله».

وقال سفيان بن عيينة : «هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة».

وقال مالك بن أنس : «ما من مبتدع إلّا ويجد فوق رأسه ذلّة».

قوله : (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) مبتدأ وخبره قوله إنّ ربّك إلى آخره. والعائد محذوف ، والتقدير : غفور لهم ورحيم بهم ، كقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى : ٤٣] أي منه.

قوله : من بعدها يجوز أن يعود الضمير على السّيّئات ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون عائدا على التوبة المدلول عليها بقوله : «ثمّ تابوا» أي : من بعد التوبة.

٣٢٨

قال أبو حيان : «وهذا أولى ، لأنّ الأوّل يلزم منه حذف مضاف ومعطوفه ، إذ التقدير : من بعد عمل السّيئات والتوبة منها».

قوله : «وآمنوا» يجوز أن تكون الواو للعطف ، فإن قيل : التّوبة بعد الإيمان ، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا ترتّب ، ويجوز أن تكون الواو للحال ، أي : تابوا ، وقد آمنوا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله : «ولمّا سكت» السّكوت والسّكات قطع الكلام ، وهو هنا استعارة بديعة.

قال الزمخشريّ (١) : هذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا ، وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك ، فترك النّطق بذلك ، وترك الإغراء به ، ولم يستحسن هذه الكلمة ، ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلّا لذلك ، ولأنّه من قبيل شعب البلاغة ، وإلّا فما لقراءة معاوية بن قرة : ولمّا سكن بالنّون ، لا تجد النّفس عندها شيئا من تلك الهمزة وطرفا من تلك الرّوعة؟

وقيل : شبّه جمود الغضب بانقطاع كلام المتكلّم.

قال يونس : «[سال] الوادي ثم سكت فهذا أيضا استعارة».

وقال الزّجّاج : مصدر : سكت الغضب : السكتة ، ومصدر : سكت الرّجل : السّكوت» وهو يقتضي أن يكون «سكت الغضب» فعلا على حدته.

وقيل : هذا من باب القلب ، والأصل : ولما سكت موسى عن الغضب ، نحو : أدخلت القلنسوة في رأسي ، أي : أدخلت رأسي في القلنسوة.

قاله عكرمة : وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه ، مع ما في القلب من الخلاف المتقدّم.

وقيل المراد بالسّكوت : السّكون والزّوال ، وعلى هذا جاز سكت عن موسى الغضب ولا يجوز صمت ؛ لأن سكت بمعنى سكن ، وأما صمت بمعنى سدّ فاه عن الكلام ، فلا يجوز في الغضب.

فصل

ظاهر الآية يدلّ على أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لمّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذرة ، فحينئذ سكن غضبه ، وهو الوقت الذي قال فيه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي).

وقوله : «أخذ الألواح» ظاهر هذا يدلّ على أن شيئا منها لم ينكسر ، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٦٣.

٣٢٩

وقوله : «وفي نسختها هدى» هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من الألواح ، أو من ضمير موسى والأوّل أحسن. وهذا عبارة عن النّقل والتّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نسخة ذلك الكتاب ، كأنّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني.

قال ابن عبّاس : لمّا ألقى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوما ، فأعاد الله الألواح وفيها نفس ما في الأولى (١) ، فعلى هذا قوله «وفي نسختها» أي : «وفيما نسخ منها» وإن قلنا : الألواح لم تنكسر ، وأخذها موسى بأعيانها ؛ فلا شك أنّها مكتوبة من اللّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير.

وقوله : «هدى ورحمة» أي : هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب.

قوله : «للّذين» متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة لرحمة أي : رحمة كائنة للّذين ، يجوز أن تكون اللّام لام المفعول من أجله ، كأنّه قيل : هدى ورحمة لأجل هؤلاء ، وهم مبتدأ ويرهبون خبره ، والجملة صلة الموصول.

قوله : لربّهم يرهبون. في هذه اللّام أربعة أوجه : أحدها أنّ اللّام مقوية للفعل لأنّه لمّا تقدّم معموله ضعف فقوي باللّام كقوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] وقد تقدّم أنّ اللّام تكون مقوية حيث كان العامل مؤخرا أو فرعا نحو : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] ولا تزاد في غير هذين إلا ضرورة عند بعضهم ؛ كقول الشاعر : [الوافر]

٢٥٨٦ ـ ولمّا أن تواقفنا قليلا

أنخنا للكلاكل فارتمينا (٢)

أو في قليل عند آخرين ؛ كقوله تعالى : (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ١٠٧].

والثاني : أنّ اللّام لام العلّة وعلى هذا فمفعول يرهبون محذوف ، تقديره : يرهبون عقابه لأجله ، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش.

الثالث : أنّها متعلقة بمصدر محذوف ، تقديره : الذين هم رهبتهم لربهم.

وهو قول المبرّد وهذا غير جار على قواعد البصريين ، لأنّه يلزم منه حذف المصدر ، وإبقاء معموله ، وهو ممتنع إلّا في شعر ، وأيضا فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته.

الرابع : أنّها متعلقة بفعل مقدّر أيضا ، تقديره : يخشعون لربّهم. ذكره أبو البقاء ، وهو أولى ممّا قبله.

وقال ابن الخطيب : قد يزاد حرف الجرّ في المفعول ، وإن كان الفعل متعديا ، كقوله : قرأت في السّورة وقرأت السّورة ، وألقى يده «وألقى بيده» ، قال تعالى (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَ

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٥ / ١٤) والقرطبي (٧ / ١٨٦).

(٢) تقدم.

٣٣٠

اللهَ يَرى) [العلق : ٤] فعلى هذا تكون هذه اللام صلة وتأكيدا كقوله (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] ، وقد ذكروا مثل هذا في قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) [آل عمران : ٧٣].

قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦)

قوله تعالى : واختار موسى. الآية ، «اختار» يتعدّى لاثنين ، إلى أوّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرّ ، ويجوز حذفه.

تقول : اخترت زيدا من الرّجال ثم تتسع فتحذف «من» فتقول «زيدا الرّجال» قال : [البسيط]

٢٥٨٧ ـ اخترتك النّاس إذ رثّت خلائقهم

واعقلّ من كان يرجى عنده السّؤل (١)

وقال الرّاعي : [الطويل]

٢٥٨٨ ـ فقلت له اخترها قلوصا سمينة

ونابا علينا مثل نابك في الحيا (٢)

وقال الفرزدق : [الطويل]

٢٥٨٩ ـ منّا الذي اختير الرّجال سماحة

وجودا إذا هبّ الرّياح الزّعازع (٣)

وهذا النوع مقصور على السّماع ، حصره النحاة في ألفاظ ، وهي : «اختار» و «أمر».

كقوله : [البسيط]

٢٥٩٠ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٤)

و «استغفر» ، كقوله : [البسيط]

٢٥٩١ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٥)

__________________

(١) البيت للراعي النميري ينظر التهذيب ١٣ / ٦٧ ، الطبري ١٣ / ١٤٦ ، اللسان) (سول) البحر ٤ / ٣٩٧ ، الدر المصون ٣ / ٣٥١.

(٢) ينظر : تفسير الطبري ١٣ / ١٤٦ ، معاني الفراء ١ / ٣٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٥١.

(٣) ينظر : ديوانه ١ / ٤١٨ ، والكتاب ١ / ٣٩ ، والمقتضب ٤ / ٣٣١ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٣١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣١٣ ، ٥ / ١١٥ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، والدرر ٢ / ٢٩١ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢ ولسان العرب «خير» ، وشرح المفصل ٨ / ٥١ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٢ والدر المصون ٣ / ٣٥١.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

٣٣١

و «سمّى» ؛ كقوله : سمّيت ابني بزيد ، وإن شئت : زيدا ، و «دعا» بمعناه ؛ قال : [الطويل]

٢٥٩٢ ـ دعتني أخاها أم عمرو ، ولم أكن

أخاها ولم أرضع لها بلبان (١)

و «كنى» ؛ تقول : كنيته بفلان ، وإن شئت : فلانا.

و «صدق» قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) [آل عمران : ١٥٢].

و «زوّج» ؛ قال تعالى : (زَوَّجْناكَها). ولم يزد أبو حيّان عليها.

ومنها أيضا : «حدّث» و «أنبأ» و «نبّأ» و «أخبر» و «خبّر» إذا لم تضمّن معنى «أعلم».

قال تعالى : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) [التحريم : ٣] ؛ وقال : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ).

وتقول حدّثتك بكذا ، وإن شئت : كذا ؛ قال : [الطويل]

٢٥٩٣ ـ لئن كان ما حدّثته اليوم صادقا

أصم في نهار القيظ للشّمس باديا (٢)

و «قومه» مفعول ثان على أوّلهما ، والتقدير : واختار موسى سبعين رجلا من قومه ، ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنّ «قومه» مفعول أول ، و «سبعين» بدل ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : «وأرى أنّ البدل جائز على ضعف ، وأنّ التقدير : سبعين رجلا منهم».

قال شهاب الدّين (٣) : إنّما كان ممتنعا أو ضعيفا ؛ لأنّ فيه حذف شيئين :

أحدهما : المختار منه ؛ فإنّه لا بدّ للاختيار من مختار ، ومختار منه ، وعلى البدل إنّما ذكر المختار دون المختار منه.

والثاني : أنّه لا بدّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو «منهم» كما قدره أبو البقاء ، وأيضا فإنّ البدل في نيّة الطّرح.

قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد ب «قومه» السبعين المعتبرين منهم ؛ إطلاقا لاسم الجنس على ما هو المقصود منه.

وقوله سبعين رجلا عطف بيان ؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلّفات.

فصل

الاختيار : افتعال من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة.

يقال : اختار الشّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختار : اختير ، فتحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا نحو : باع ، ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفا.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٣٣٢

فصل

ذكروا أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ اختار من قومه اثني عشر سبطا من كل سبط ستة ؛ فصاروا اثنين وسبعين.

فقال : ليتخلف منكم رجلان ؛ فتشاجروا.

فقال : إنّ لمن قعد منكم أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع.

وروي أنّه لم يجد إلّا ستين شيخا ، فأوحى الله إليه أن يختار من الشّباب عشرة ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخا فأمرهم الله أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات.

واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربّه عن الرؤية أو للخروج إلى موضع آخر؟

فقال بعض المفسّرين : إنّه لميقات الكلام وطلب الرّؤية.

قالوا : إنّه عليه الصّلاة والسّلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه.

وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجدا ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه.

وقالوا : (يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) [البقرة : ٥٥] وهي الرّجفة المذكورة ههنا.

فقال موسى : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] وهو قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣].

وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرّؤية ، واختلفوا فيه.

فقيل : إنّ قوم موسى لمّا عبدوا العجل ثم تابوا أمر الله تعالى موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أن يجمع السّبعين ويحضروا موضعا يظهرون فيه تلك التّوبة ، فأوحى الله تعالى إلى تلك الأرض ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) ، وإنّما رجفت بهم الأرض لوجوه :

أولها : أنّ هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل ، إلّا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل.

وثانيها : أنّهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل.

وثالثها : أنّهم لمّا خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعطنا ما لم تعطه

٣٣٣

أحدا قبلنا ، ولا تعطيه أحدا بعدنا ، فأنكر الله عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة.

واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنّه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرّؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عودا إلى تتّمة الكلام في القصة الأولى ، إلّا أنّ الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصّة الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصّة ، ثم الانتقال إلى قصّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصّة الأولى ؛ فإنّه يوجب نوعا من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه. وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلّا قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقوله السفهاء منّا؟ فلمّا لم يقل ذلك بل قال (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول.

وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرّ موسى صعقا وجعل الجبل دكّا وأمّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرّجفة ، ولم يذكر أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخذته الرّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف : ١٥٥] وهذه الخصوصيات تدلّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرّؤية.

وقيل : المراد بهذا الميقات ما روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : إنّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل ؛ فنام هارون فتوفّاه الله ، فلمّا رجع موسى قالوا إنّه هو الذي قتل هارون ، فاختار موسى سبعين رجلا وذهبوا إلى هارون فأحياه الله وقال ما قتلني أحد ، فأخذتهم الرّجفة هنالك (١).

فصل

اختلفوا في تلك الرّجفة.

فقيل : إنّها رجفة أوجبت الموت.

قال السّديّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أحد منهم؟ فأحياهم الله (٢). فمعنى قوله (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أنّ موسى خاف أن يتّهمه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٧٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٣٧) وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٧٣).

٣٣٤

بنو إسرائيل عن السّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا.

فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني.

وقيل : إنّ تلك الرّجفة ما كانت موتا ، ولكن القوم لمّا رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ الموت فعند ذلك بكى ، ودعا ؛ فكشف الله عنهم الرعدة.

قوله : «لميقاتنا» متعلق ب «اختار» أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاص أي : اختارهم مخصصا بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا.

قوله «لو شئت» مفعول المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلاكنا ، و «أهلكتهم» جواب «لو» والأكثر الإتيان باللّام في هذا النحو ولذلك لم يأت مجردا منها إلّا هنا وفي قوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ) [الأعراف : ١٠٠] وفي قوله : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠].

ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرّجفة.

وقوله : «وإيّاي» قد يتعلّق به من يرى جواز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا. وهو تعلّق واه جدا ، لأنّ مقصوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم التنصيص على هلاك كلّ على حدته تعظيما للأمر ، وأيضا فإنّ موسى لم يتعاط ما يقتضي إهلاكه ، بخلاف قومه. وإنّما قال ذلك تسليما منه لربّه ، فعطف ضميره تنبيها على ذلك ، وقد تقدم نظير ذلك في قوله : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ) [النساء : ١٣١] وقوله : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١].

قوله : «أتهلكنا» يجوز فيه أن يكون على بابه أي : أتعمّنا بالإهلاك أم تخصّ به السفهاء منّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النّفي ، أي : ما تهلك من لم يذنب بذنب غيره ، قاله ابن الأنباري.

قال وهو كقولك : «أتهين من يكرمك»؟ وعن المبرّد هو سؤال استعطاف ومنّا في محل نصب على الحال من السّفهاء ويجوز أن يكون للبيان.

قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ).

قال الواحديّ : الكناية في قوله هي عائدة على الفتنة كما تقول : إن هو إلّا زيد ، وإن هي إلّا هند ، والمعنى : أنّ تلك الفتنة التي وقع فيها السّفهاء لم تكن إلّا فتنتك أضللت بها قوما فافتتنوا ، وعصمت قوما فثبتوا على الحق. ثمّ أكّد بيان أنّ الكل من الله تعالى ، فقال : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ).

ثم قال الواحديّ : وهذه الآية من الحجج الظّاهرة على القدريّة التي لا يبقى لهم معها عذر.

٣٣٥

قالت المعتزلة لا تعلق للجبريّة بهذه الآية ؛ لأنه لم يقل : تضلّ بها من تشاء عن الدين ؛ ولأنه قال تضلّ بها أي بالرّجفة ، والرّجفة لا يضلّ الله بها ؛ فوجب تأويل الآية.

فمعنى قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي : امتحانك وشدة تعبدك ؛ لأنّه لمّا أظهر الرّجفة كلّفهم بالصّبر عليها ، وأمّا قوله : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) ففيه وجوه : أحدها : تهدي بهذا الامتحان إلى الجنّة والثّواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتعاقب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك ، أي : تهلك من تشاء بهذه الرّجفة وتصرفها عمّن تشاء ، وثالثها : أنّه لمّا كان هذا الامتحان كالسّبب في هداية من اهتدى ، وضلال من ضلّ ، جاز أن يضاف إليه.

فصل

واعلم أن هذه تأويلات متعسّفة ، والدلائل العقليّة دالة على أنّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه :

الأول : أنّ القدرة الصّالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطّرف الآخر ، إلّا لداعية مرجحة ، وخالق تلك الداعية هو الله تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أنّ الهداية والإضلال من الله تعالى.

الثاني : أنّ العاقل لا يريد إلّا الإيمان ، والحقّ ، والصدق ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل أحد مؤمنا محقا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ ثبت أنّ الكل من الله تعالى.

الثالث : لو كان حصول الهداية بفعل العبد فما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل ؛ امتنع أن يخصّ أحد الاعتقادين بالتّحصيل ، لكن علمه بأنّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالما بذلك المعتقد أولا كما هو عليه ، فلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنّ الآخر مشروطا بكون ذلك الاعتقاد حاصلا وذلك يقتضي كون الشّيء مشروطا بنفسه ، وهو محال ، فامتنع أن يكون حصول الهداية بتحصيل العبد ، وأمّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدّم مرارا.

قوله تضلّ بها يجوز فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفة فلا محلّ لها ، والثاني أن تكون حالا من فتنتك أي : حال كونها مضلّا بها ، ويجوز أن تكون حالا من الكاف ؛ لأنّها مرفوعة تقديرا بالفاعليّة ، ومنعه أبو البقاء قال : «لعدم العامل فيها» وقد قدم البحث معه مرارا.

قوله : «أنت ولينا» يفيد الحصر ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلّا أنت ، وهذا من تمام ما تقدّم من قوله : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ).

وقوله : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) المراد منه : أنّ إقدامه على قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ)

٣٣٦

جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتّجاوز عنها.

وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) أي : أنّ كلّ من سواك فإنّما يتجاوز عن الذّنب إمّا طلبا للثناء الجميل ، أو للثّواب الجزيل ، أو دفعا للرقة الخسيسة عن القلب ، أمّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم.

قوله : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب. ولمّا قرّر أنّه لا ولي له إلّا الله ، والمتوقع من الولي والنّاصر أمران : أحدهما : دفع الضّرر. والثاني : تحصيل النّفع ، ودفع الضّرر مقدم على تحصيل النّفع ؛ فلهذا السّبب بدأ بطلب دفع الضّرر وهو قوله : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) [الأعراف : ١٥٥] ثمّ أتبعه بتحصيل النّفع ، وهو قوله (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) والمراد بالحسنة في الدّنيا : النّعمة والعافية ، والحسنة في الآخرة : المغفرة والجنة.

قوله : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) العامّة على ضم الهاء ، من هاد يهود بمعنى : مال ؛ قال : [السريع]

٢٥٩٤ ـ قد علمت سلمى وجاراتها

أنّي من الله لها هائد (١)

أو «تاب» من قوله : [الرجز]

٢٥٩٥ ـ إنّي امرؤ ممّا جنيت هائد (٢)

ومن كلام بعضهم : [المجتث]

٢٥٩٦ ـ يا راكب الذّنب هدهد

واسجد كأنّك هدهد (٣)

وقرأ (٤) زيد بن علي ، وأبو وجزة «هدنا» بكسر الهاء من «هاد يهيد» أي : حرّك.

أجاز الزمخشريّ في «هدنا» ، و «هدنا» ـ بالضمّ والكسر ـ أن يكون الفعل مبنيا للفاعل ، أو للمفعول في كلّ منهما بمعنى : ملنا ، أو أمالنا غيرنا ، أو حرّكنا نحن أنفسنا ، أو حرّكنا غيرنا ، وفيه نظر ؛ لأنّ بعض النّحويين قد نصّ على أنّه متى ألبس ، وجب أن يؤتى بحركة تزيل اللبس. فيقال في «عقت» من العوق إذا عاقك غيرك : «عقت» بالكسر فقط ، أو الإشمام ، وفي : «بعت يا عبد» إذا قصد أن غيره باعه «بعت» بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوّز في «قيل وبيع» ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٢.

(٢) تقدم.

(٣) البيت للزمخشري. ينظر : الكشاف ٢ / ١٢٩ ، وروح المعاني ٩ / ٧٦ ، وحاشية الشهاب ٣ / ٢٢٤ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٢.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٦٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٦٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٣.

٣٣٧

و «هي» ضمير يفسّره سياق الكلام إذ التقدير : إن فتنتهم إلّا فتنتك. وقيل يعود على مسألة الإرادة من قوله : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] أي : إنّه من مسألة الرّؤية.

قوله : «عذابي أصيب به» مبتدأ وخبر. والعامّة على «من أشاء» بالشّين المعجمة.

وقرأ زيد (١) بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد «أساء» بالمهملة.

قال الدّاني : لا تصحّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سوء واختار الشّافعيّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بن عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرّحمن المقرىء فصاح به وأسمعه.

فقال سفيان : «لم أفطن لما يقول أهل البدع». يعني عبد الرحمن أنّ المعتزلة تعلّقوا بهذه القراءة في أنّ فعل البعد مخلوق له ، فاعتذر سفيان عن ذلك.

ومعنى الآية : إنّي أعذب من من أشاء ، وليس لأحد عليّ اعتراض (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أي : أنّ رحمته في الدّنيا تعمّ الكل ، وأمّا في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

قال عطيّة العوفي : (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ولكن لا تجب إلّا للمتّقين ، وذلك أنّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمة الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السّراج بسراجه.

قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) فتمنّاها اليهود والنصارى. وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها الله لهذه الأمّة بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ)(٢).

واعلم أنّ جميع التّكاليف محصورة في نوعين :

الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المراد بقوله : (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).

والثاني : الأفعال ، وهي إمّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علما وعملا أمّا العلم فالمعرفة ، وأمّا العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه

__________________

(١) وقرأ بها الحسن كما في الكشاف ٢ / ١٦٥ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٦١ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٣ / ٣٥٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٨٠ ـ ٨١) عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٤١) عن ابن جريج وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ.

٣٣٨

الصّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) ونظيره قوله تعالى في أوّل سورة البقرة (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢ ، ٣].

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٥٧)

قوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ) في محلّه أوجه :

أحدها : الجر نعتا لقوله (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).

الثاني : أنّه بدل منه.

الثالث : أنّه منصوب على القطع.

الرابع : أنّه مرفوع على خبر مبتدأ مضمر وهو معنى القطع أيضا.

الخامس : أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذ وجهان : أحدهما الجملة الفعليّة من قوله : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ). والثاني : الجملة الأسميّة من قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ذكر ذلك أبو البقاء (١) ، وفيه ضعف بل منع كيف يجعل : «يأمرهم» خبرا وهو من تتمة وصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو على أنّه معمول للوجدان عند بعضهم؟ وكيف يجعل (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) خبرا لهذا الموصول؟ والموصول الثاني وهو قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ) يطلبه خبرا ، لا يتبادر الذهن إلى غيره ، ولو تبادر لم يكن معتبرا.

قوله «الأمّيّ» العامّة على ضمّ الهمزة ، نسبة إمّا إلى الأمة وهي أمّة العرب ؛ وذلك لأنّ العرب لا تحسب ولا تكتب ، ومنه الحديث «إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب» ، وإمّا نسبة إلى «الأمّ» وهو مصدر «أمّ يؤمّ» أي : قصد يقصد ، والمعنى على هذا : أن النبيّ الكريم مقصود لكل أحد ، وفيه نظر ؛ لأنه كان ينبغي أن يقال : «الأمّيّ» بفتح الهمزة.

وقد يقال : إنّه من تغيير النّسب ، وسيأتي أنّ هذه قراءة لبعضهم ، وإمّا نسبة إلى «أمّ القرى» وهي مكة وإمّا نسبة إلى الأمّ ، فالأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالة ولادته من أمه.

وقرأ يعقوب (٢) الأمّيّ بفتح الهمزة ، وخرّجها بعضهم ، على أنّه من تغيير النّسب ، كما قالوا في النّسب إلى أميّة : أموي ، وخرّجها بعضهم على أنّها نسبة إلى «الأمّ» وهو القصد ، أي الذي هو على القصد والسّداد ، وقد تقدم ذلك في القراءة الشهيرة ، فكل من القراءتين يحتمل أن تكون مغيّرة من الأخرى.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٦.

(٢) ينظر : السبعة ٢٩٥ ، والحجة ٤ / ٩٣ ، وإعراب القراءات ١ / ٢١٠ ، وحجة القراءات ٢٩٨ ، وإتحاف ٢ / ٦٥.

٣٣٩

قوله يجدونه الظّاهر أنّ هذه متعدية لواحد ؛ لأنّها اللّقية ، والتقدير : يلقونه أي : يلقون اسمه ونعته مكتوبا ؛ لأنّه بمعنى : وجدان الضالّة ، فيكون مكتوبا حالا من الهاء في يجدونه.

وقال أبو عليّ : «إنّها متعدية لاثنين ، أوّلهما : الهاء».

والثاني : «مكتوبا».

قال «ولا بدّ من حذف هذا المضاف ، أعني قوله : ذكره ، أو اسمه».

قال سيبويه : «تقول إذا نظرت في هذا الكتاب : هذا عمرو ، وإنّما المعنى هذا اسم عمرو ، وهذا ذكر عمرو وقال مجاهد وهذا يجوز على سعة الكلام».

قوله «عندهم في التّوراة». هذا الظّرف ، وعديله كلاهما متعلّق ب «يجدون» ، ويجوز ـ وهو الأظهر ـ أن يتعلّقا ب «مكتوبا» أي : كتب اسمه ونعته عندهم في توراتهم وإنجيلهم.

قوله يأمرهم فيه ستة أوجه : أحدها : أنّه مستأنف ؛ فلا محلّ له حينئذ ، وهو قول الزجاج. والثاني : أنّه خبر ل «الّذين» قاله أبو البقاء (١) : وقد ذكر ، أي : وقد ذكره فيه ثمّة. الثالث : أنّه منصوب على الحال من الهاء في يجدونه ، ولا بدّ من التّجوز في ذلك ، بأن يجعل حالا مقدرة ، وقد منع أبو عليّ أن يكون حالا من هذا الضّمير.

قال : لأنّ الضمير للاسم والذّكر ، والاسم والذّكر لا يأمران يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر ؛ فإن تقديره : «يجدون اسمه ، أو ذكره» ، والذكر أو الاسم لا يأمران ، إنما يأمر المذكور والمسمّى.

الرابع : أنه حال من النّبيّ. الخامس : أنّه حال من الضّمير المستكن في «مكتوبا». السادس : أنّه مفسّر ل «مكتوبا» أي : لما كتب ، قاله الفارسي. قال : «كما فسّر قوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٩] ، وكما فسّر المثل في قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) بقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩].

وقال الزّجّاج هنا : ويجوز أن يكون المعنى : يجدونه مكتوبا عندهم أنّه يأمرهم بالمعروف وعلى هذا يكون الأمر بالمعروف ، وما ذكر معه من صفته التي ذكرت في الكتابين ، وقد استدرك أبو علي هذه المقالة ، فقال : لا وجه لقوله : «يجدونه مكتوبا عندهم أنّه يأمرهم بالمعروف» إن كان يعني أنّ ذلك مراد ؛ لأنّه لا شيء يدلّ على حذفه ، ولأنّا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء ، وتفسير الآية أنّ «وجدت» فيها تتعدّى لمفعولين فذكر نحو ما تقدم عنه.

قال شهاب الدّين (٢) : وهذا الردّ تحامل منه عليه ؛ لأنّه أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن.

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٨٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٥٥.

٣٤٠