اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

ربّكم ، ولن تبطلوا آياته ، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلام الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة.

وإنما أمرهم تعجيزا لهم وقطعا لشبهتهم واستبطالهم ، ولئلا يقولوا : لو تركنا نفعل لفعلنا بمعان كثيرة.

قوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ).

قال القاضي (١) : «لو كان السّحر حقّا لكانوا قد سحروا قلوبهم ، لا أعينهم ، فثبت أنّ المراد أنّهم تخيّلوا أحوالا عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيّلوه».

وقال الواحديّ (٢) : «بل المراد : سحروا أعين النّاس ، أي قلبوها عن صحّة إدراكها ، بسبب تلك التّمويهات».

وقيل : إنهم أتوا بالحبال والعصيّ ولطّخوا تلك الجبال بالزّئبق وجعلوا الزّئبق في دواخل تلك العصي ، فلمّا أثر تسخين الشّمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض ، وكانت كثيرة جدا فتخيّل النّاس أنّها تتحرّك وتلتوي باختيارها وقدرتها.

قوله تعالى : (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) يجوز أن يكون استفعل فيه بمعنى أفعل أي : أرهبوهم ، وهو قريب من قولهم : قرّ واستقرّ ، وعظّم واستعظم وهذا رأي المبرّد.

ويجوز أن تكون السين على بابها ، أي استدعوا رهبة النّاس منهم ، وهو رأي الزجاج (٣).

روي أنّهم بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك : أيها النّاس احذروا. وروي عن ابن عباس أنّه خيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيّات مثل عصا موسى ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه «أن ألق عصاك» (٤).

وقال المحققون (٥) هذا غير جائز ؛ لأنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما كان نبيا من عند الله كان على ثقة ويقين من أنّ القوم لن يغلبوه ، وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة من باب السحر والباطل ، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف.

فإن قيل : أليس أنّه تعالى قال : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [طه : ٦٧].

فالجواب : ليس في الآية أن هذه الخيفة إنّما حصلت لهذا السّبب ، بل لعله عليه [الصّلاة] والسّلام خاف من وقوع التّأخير في ظهور حجّته على سحرهم.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) ينظر : معاني القرآن له ٢ / ٤٠٥.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٢) عن ابن عباس.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٦.

٢٦١

ثم قال تعالى : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) أي عندهم ؛ لأنه كان كثيرا. روي أنّ الأرض كانت ميلا في ميل فامتلأت حيات يركب بعضها بعضا.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(١٢٩)

يجوز في «أن» : أن تكون المفسّرة لمعنى الإيحاء.

ويجوز أن تكون مصدريّة ؛ فتكون هي ، وما بعدها مفعول الإيحاء.

قوله : «فإذا هي تلقف» قرأ العامّة : «تلقّف» بتشديد القاف ، من «تلقّف» والأصل : «تتلقّف» بتاءين ، فحذفت إحداهما ، إمّا الأولى ، وإمّا الثانية وقد تقدّم ذلك في نحو (تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢].

والبزّيّ : على أصلها في إدغامها فيما بعدها ، فيقرأ : «فإذا هي تلقّف» بتشديد التاء أيضا ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) [البقرة : ٢٦٧].

وقرأ حفص (١) «تلقف» بتخفيف القاف من «لقف» ك : «علم يعلم ، وركب يركب».

يقال : لقفت الشّيء ألقفه لقفا ، ولقفانا ، وتلقفته أتلقّفه تلقّفا : إذا أخذته بسرعة ، فأكلته أو أبتلعته.

وفي التفسير : أنها ابتلعت جميع ما صنعوه ، وأنشدوا على : لقف يلقف ، ك «علم يعلم» قول الشّاعر : [السريع]

٢٥٤٣ ـ وأنت عصا موسى الّتي لم تزل

تلقف ما يصنعه السّاحر (٢)

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٠ ، والحجة ٤ / ٦٦ ـ ٦٧ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٠ ، وحجة القراءات ٢٩٢ ، والعنوان ٩٧ ، وشرح شعلة ٣٩٤ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٨.

(٢) البيت ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٦٦ ، معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٣٢١.

٢٦٢

ويقال : رجل ثقف لقف ، وثقيف لقيف ، بيّن الثّقافة واللّقافة. ويقال : لقف ولقم بمعنى واحد ، قاله أبو عبيد.

ويقال : تلقف ، وتلقم ، وتلهم : بمعنى واحد.

والفاء في «فإذا هي» يجوز أن تكون العاطفة ، ولا بدّ من حذف جملة قبلها ليترتّب ما بعد الفاء عليها ، والتقدير : «فألقاها فإذا هي».

ومن جوّز أن تكون الفاء زائدة في نحو : «خرجت فإذا الأسد حاضر» جوّز زيادتها هنا.

وعلى هذا فتكون هذه الجملة قد أوحيت إلى موسى كالّتي قبلها.

وأمّا على الأوّل ـ أعني كون الفاء عاطفة ـ فالجملة غير موحى بها إليه.

قوله : (ما يَأْفِكُونَ) يجوز في «ما» أن تكون بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي: الذي يأفكونه.

ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، «والمصدر» حينئذ واقع موقع المفعول به ، وهذا لا حاجة إليه.

وذلك قوله : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى : بطل الحبال والعصيّ الذي عملوا به السّحر : أي : زال ، وذهب بفقدانها ، وأن تكون مصدرية ، أي : وبطل الذي كانوا يعملونه ، أو عملهم.

وهذا المصدر يجوز أن يكون على بابه.

وأن يكون واقعا موقع المفعول به. بخلاف (ما يَأْفِكُونَ) فإنّ يتعيّن أن يكون واقعا موقع المفعول به ليصحّ المعنى ؛ إذ اللّقف يستدعي عينا يصحّ تسلّطه عليها.

ومعنى الإفك في اللّغة : قلب الشّيء عن وجهه ، ومنه قيل للكذب إفك ، لأنّه مقلوب عن وجهه.

قال ابن عبّاس : (ما يَأْفِكُونَ) يريد : يكذبون ، والمعنى : أنّ العصا تلقف ما يأفكونه ، أي : يقلبونه عن الحقّ إلى الباطل.

قوله : «فوقع الحقّ» قال مجاهد والحسن : ظهر (١).

وقال الفرّاء : «فتبيّن الحقّ من السّحر».

قال أهل المعاني : الوقوع : ظهور الشّيء بوجوده نازلا إلى مستقرّه ، (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من السّحر ، وذلك أنّ السّحرة قالوا : لئن كان ما صنع موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد ، فلما فقدت ؛ ثبت أنّ ذلك من أمر الله.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٣) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩٩ ـ ٢٠٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ.

٢٦٣

قال القاضي : قوله : (فَوَقَعَ الْحَقُّ) : يفيد قوّة الظّهور والثّبوت بحيث لا يصحّ فيه البطلان كما لا يصحّ في الواقع أن يصير إلّا واقعا.

فصل

قلت : فإن قيل : قوله : (فَوَقَعَ الْحَقُّ) يدلّ على قوّة الظّهور.

فكان قوله : (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تكريرا.

فالجواب : أنّ المراد : مع ثبوت الحقّ زالت الأعيان الّتي أفكوها ، وهي الحبال والعصا ، فعند ذلك ظهرت الغلبة.

فصل

قوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ) يجوز أن يكون مكانا ، أي : غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم ، وهذا هو الظّاهر.

وقيل : يجوز أن يكون زمانا ، وهذا ليس أصله ، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) [الأحزاب : ١١].

وبقول الآخر : [الكامل]

٢٥٤٤ ـ ..........

فهناك يعترفون أين المفزع؟ (١)

ولا حجّة فيهما ، لأنّ المكان فيهما واضح.

قوله : (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) أي : ذليلين مقهورين. وصاغرين حال من فاعل انقلبوا والضمير في انقلبوا يجوز أن يعود على قوم فرعون وعلى السّحرة ، إذا جعلنا الانقلاب قبل إيمان السحرة ، أو جعلنا انقلبوا بمعنى : صاروا ، كما فسّره الزمخشريّ ، أي : صاروا أذلّاء مبهوتين متحيّرين.

ويجوز أن يعود عليهم دون السّحرة إذا كان ذلك بعد إيمانهم ، ولم يجعل انقلبوا بمعنى : صاروا ، لأنّ الله لا يصفهم بالصّغار بعد إيمانهم.

قوله : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ).

قال مقاتل : «ألقاهم الله» (٢). وقيل : ألهمهم الله أن يسجدوا فسجدوا.

قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنّهم ألقوا.

ف «ساجدين» حال من السّحرة ، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك ، ويجوز أن يكون حالا من الضّمير المستتر في ساجدين.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٦٨) عن مقاتل.

٢٦٤

وعلى كلا القولين هم متلبّسون بالسّجود لله تعالى.

ويجوز أن يكون مستأنفا لا محلّ له ، وجعله أبو البقاء حالا من فاعل «انقلبوا» ، فإنّه قال : «يجوز أن يكون حالا ، أي : فانقلبوا صاغرين».

قالوا وهذا ليس بجيّد للفصل بقوله (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ).

قوله : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

قال المفسّرون : لما قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال فرعون : إيّاي تعنون ؛ فقالوا : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) ، ف : (رَبِّ مُوسى) يجوز أن يكون نعتا ل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وأن يكون بدلا ، وأن يكون عطف بيان.

وفائدة ذلك : نفي توهّم من يتوهّم أنّ رب العالمين قد يطلق على غير الله تعالى ، لقول فرعون (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] وقدّموا «موسى» في الذّكر على «هارون» وإن كان هارون أسنّ منه ، لكبره في الرّتبة ، أو لأنّه وقع فاصلة هنا.

ولذلك قال في سورة طه : (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) [طه : ٧٠] لوقوع «موسى» فاصلة ، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين ، فنسب فعل البعض إلى المجموع في سورة ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجموع في أخرى.

فصل

احتجّ أهل السّنّة بقوله تعالى : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) على أن غيرهم ألقاهم ، وما ذاك إلّا الله رب العالمين ، وهذا يدلّ على أنّ فعل العبد خلق الله تعالى.

وأجاب المعتزلة بوجوه :

أحدها : أنّهم لمّا شاهدوا الآيات العظيمة ، لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين ، فصاروا كأنّ ملقيا ألقاهم.

وثانيها : ما تقدّم من تفسير الأخفش.

وثالثها : أنّه ليس في الآية أنّ ملقيا ألقاهم ، فنقول ذلك الملقي هم أنفسهم.

والجواب : أن خالق تلك الدّاعية في قلوبهم هو الله تعالى ، وإلا لافتقر خلق تلك الدّاعية إلى داعية أخرى ، ولزم التّسلسل ، وهو محال ، ثمّ إن أصل القدرة مع تلك الدّاعية الجازمة تصير موجبة للفعل ، وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى ، فكان ذلك الفعل مسندا إلى الله تعالى.

فصل

فإن قيل : إنّه تعالى ذكر أوّلا أنّهم صاروا ساجدين ، ثمّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

٢٦٥

فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجب أن يكون متقدّما على السّجود؟.

فالجواب ، من وجوه ، أحدها : أنّهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال ، وجعلوا ذلك السّجود شكرا لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهارا للتّذلل ، فكأنّهم جعلوا ذلك السّجود الواحد علامة على هذه الأمور.

وثانيها : لا يبعد أنّهم عند الذهاب إلى السّجود قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

فصل

فإن قيل : لمّا قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) دخل موسى وهارون في جملة العالمين ، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن التقدير آمنا برب العالمين ، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون.

الثاني : خصّهما بالذّكر تشريفا ، وتفضيلا كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

قوله : «آمنتم» اختلف القرّاء في هذا الحرف هنا ، وفي طه وفي الشعراء ، فبعضهم جرى على منوال واحد ، وبعضهم قرأ في موضع بشيء لم يقرأ به في غيره ، وهم في ذلك على أربع مراتب.

الأولى : قراءة الأخوين (١) ، وأبي بكر عن عاصم بتحقيق الهمزتين في السّور الثّلاث من غير إدخال ألف بينهما ، وهو استفهام إنكار ، وأمّا الألف الثّالثة فالكلّ يقرءونها كذلك ، لأنّها فاء الكلمة ، أبدلت لسكونها بعد همزة مفتوحة ، وذلك أنّ أصل هذه الكلمة أأأمنتم بثلاث همزات: الأولى للاستفهام ، والثّانية همزة «أفعل» ، والثّالثة فاء الكلمة ، فالثّالثة يجب قلبها ألفا ، لما تقدم أوّل الكتاب ، وأمّا الأولى فمحقّقه ليس إلّا ، وأمّا الثّانية فهي الّتي فيها الخلاف بالنّسبة إلى التّحقيق والتّسهيل.

الثانية : قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها الألف المشار إليها في جميع القرآن ، وهذه القراءة تحتمل الخبر المحض المتضمّن للتّوبيخ ، وتحتمل الاستفهام المشار إليه ، ولكنه حذف لفهم المعنى ، ولقراءة الباقين.

الثالثة : قراءة نافع وابن عمرو وابن عامر والبزّي عن ابن كثير وهي تحقيق الأولى ، وتسهيل الثانية بين بين ، والألف المذكورة ، وهو استفهام إنكاري ، كما تقدم.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، والحجة ٤ / ٦٨ ـ ٧١ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٣ ، وحجة القراءات ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، والعنوان ٩٧ ، وإتحاف ٢ / ٥٨ ـ ٥٩.

٢٦٦

الرابعة : قراءة قنبل عن ابن كثير ، وهي التّفرقة بين السّور الثّلاث.

وذلك أنّه قرأ في هذه السّورة حال الابتداء ب «أأمنتم» بهمزتين ، أولاهما محققة والثّانية مسهّلة بين بين وألف بعدها كقراءة البزّي ، وحال الوصل يقرأ : «قال فرعون وآمنتم» بإبدال الأولى واوا ، وتسهيل الثّانية بين بين وألف بعدها ، وذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفتوحة بعد ضمّة جاز إبدالها واوا سواء أكانت الضّمّة والهمزة في كلمة واحدة نحو : مرجؤون ، و (يُؤاخِذُكُمُ) [البقرة : ٢٢٥] ومؤجّلا أم في كلمتين كهذه الآية ، وقد فعل ذلك أيضا في سورة الملك في قوله (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنْتُمْ) [الملك : ١٥ ـ ١٦] فأبدل الهمزة الأولى واوا ، لانضمام ما قبلها حال الوصل ، وأمّا في الابتداء فيخففها لزوال الموجب لقلبها ، إلّا أنّه ليس في سورة الملك ثلاث همزات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه.

وقرأ في سورة طه كقراءة حفص : أعني بهمزة واحدة بعدها ألف ، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه البزّيّ ، فإنّه ليس قبلها ضمة ؛ فيبدلها واوا في حال الوصل.

وقد قرىء لقنبل أيضا بثلاثة أوجه في هذه السّورة وصلا وهي : تسكين الهمزة بعد الواو المبدلة ، أو تحريكها ، أو إبدالها ألفا ، وحينئذ ينطق بقدر ألفين.

ولم يدخل أحد من القراء مدّا بين الهمزتين هنا سواء في ذلك من حقّق أو سهّل ، لئلّا يجتمع أربع متشابهات ، والضمير في «به» عائد على الله تعالى لقوله : (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ويجوز أن يعود على موسى ، وأمّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله (آمَنْتُمْ لَهُ) فالضّمير لموسى لقوله (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ).

فصل

اعلم أنّ فرعون لمّا رأى إيمان السّحرة بنبوة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويّة على صحّة نبوة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فألقى في الحال شبهتين إلى أسماع العوامّ ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نبوة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

الأولى : قوله : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ) أي : إنّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدّليل بل لأنّهم تواطئوا مع موسى أنّه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك.

الثانية : أنّ غرض موسى والسّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة ، وإبطال ملكهم.

ومعلوم عند جمع العقلاء أنّ مفارقة الوطن والنّعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللّعين بين الشّبهتين ، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب.

وروى محمّد بن جرير عن السّدّي في حديث عن ابن عباس ، وابن مسعود وغيرهما

٢٦٧

من الصّحابة رضي الله عنهم أجمعين أن موسى عليه‌السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهد أنّ ما جئت به الحقّ؟ فقال الساحر : والله لئن غلبتني لأومننّ بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما ، فهذا قول فرعون «إنّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة» (١).

قال القاضي : وقوله (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) دليل على مناقضة فرعون في ادّعاء الألوهية ، لأنّه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنّه يدعوهم إلى إلهيّة غيره ، وذلك من خذلان الله الذي يظهر على المبطلين.

قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) حذف مفعول العلم ، للعلم به ، أي : تعلمون ما يحلّ بكم ، وهذا وعيد مجمل ، ثمّ فسّر هذا المبهم بقوله : «لأقطّعنّ» جاء به في جملة قسميّة ؛ تأكيدا لما يفعله.

وقرأ مجاهد بن جبر (٢) ، وحميد المكي ، وابن محيصن :

«لأقطعنّ» مخففا من «قطع» الثلاثي ، وكذا لأصلبنّكم من «صلب» الثلاثي.

روي بضم اللام وكسرها ، وهما لغتان في المضارع ، يقال : صلبه يصلبه ويصلبه.

قوله : «من خلاف» يحتمل أن يكون المعنى : على أنّه يقطع من كل شقّ طرفا ، فيقطع اليد اليمنى ، والرّجل اليسرى ، وكذا هو في التفسير ، فيكون الجارّ والمجرور في محلّ نصب على الحال ، كأنّه قال : مختلفة ، ويحتمل أن يكون المعنى : لأقطّعنّ لأجل مخالفتكم إيّاي فتكون «من» تعليلية وتتعلّق على هذا بنفس الفعل ، وهو بعيد.

و «أجمعين» تأكيد أتى به دون كلّ وإن كان الأكثر سبقه ب «كلّ» وجيء هنا ب «ثمّ» ، وفي : طه والشعراء بالواو ، لأن الواو صالحة للمهلة ، فلا تنافي بين الآيات.

فصل

اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا؟ فنقل عن ابن عبّاس أنّه فعل بهم ذلك (٣).

وقال غيره : لم يقع من فرعون ذلك ، بل استجاب الله دعاءهم في قولهم : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ).

وقوله : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) جوّزوا في هذا الضّمير وجهين ، أحدهما : أنّه يخصّ السّحرة ، لقوله بعد ذلك (وَما تَنْقِمُ مِنَّا) فإنّ الضّمير في منّا يخصّهم.

وجوّزوا أن يعود عليهم ، وعلى فرعون ، أي : إنّا ـ نحن وأنت ـ ننقلب إلى الله ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٤).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٤٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٦٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٢٥ ، وإتحاف ٢ / ٥٩.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٧٠).

٢٦٨

فيجازي كلّا بعمله ، وهذا وإن كان هو الواقع إلّا أنّه ليس من هذا اللّفظ.

قوله وما تنقم قد تقدّم في المائدة أنّ فيه لغتين وكيفية تعدّيه ب «من» وأنّه على التّضمين.

وقوله : (إِلَّا أَنْ آمَنَّا) يجوز أن يكون في محلّ نصب مفعولا به ، أي : ما تعيب علينا إلّا إيماننا ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ، أي : ما تنال منّا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلّا لإيماننا وعلى كلا القولين فهو استثناء مفرغ.

قوله (لَمَّا جاءَتْنا) يجوز أن تكون ظرفية كما هو رأي الفارسي ، وأحد قولي سيبويه ، والعامل فيها على هذا آمنّا أي : آمنّا حين مجيء الآيات ، وأن تكون حرف وجوب لوجوب ، وعلى هذا فلا بدّ لها من جواب وهو محذوف تقديره : لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف.

قوله : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) معنى الإفراغ في اللّغة : الصّبّ. وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليّة ، فكأنّهم طلبوا من الله كلّ الصّبر لا بعضه.

ونكّروا «الصّبر» وذلك يدلّ على الكمال والتّمام ، أي : صبرا كاملا تاما ، كقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] أي : على حياة كاملة تامّة.

وقوله : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) أي : توفنا على الدّين الحقّ الذي جاء به موسى. واحتجّ القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد.

فقال : إنّهم قالوا أوّلا : (آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا) ، ثمّ ثانيا : (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) ، فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان.

قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ).

[اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف ، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله ، فقال له قومه : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض].

أي : يفسدوا على النّاس دينهم.

قوله : «ويذرك» العامة «ويذرك» بالغيبة ، ونصب الرّاء ، وفي النّصب وجهان :

أظهرهما : أنّه عطف على «ليفسدوا» والثاني : أنّه منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب في جوابه بعد الفاء ؛ كقول الحطيئة : [الوافر]

٢٥٤٥ ـ ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء؟ (١)

والمعنى : كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين ، وبين تركهم إيّاك وعبادة آلهتك ، أي : لا يمكن وقوع ذلك.

__________________

(١) تقدم.

٢٦٩

وقرأ الحسن (١) في رواية عنه ونعيم بن ميسرة «ويذرك» برفع الرّاء ، وفيها ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه عطف نسق على «أتذر» أي : أتطلق له ذلك.

الثاني : أنه استئناف أي ، إخبار بذلك.

الثالث : أنّه حال ، ولا بدّ من إضمار مبتدأ ، أي : وهو يذرك.

وقرأ الحسن أيضا والأشهب العقيليّ «ويذرك» بالجزم ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّه جزم على التّوهّم ، كأنه توهّم جزم «يفسدوا» في جواب الاستفهام وعطف عليه بالجزم ، كقوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) [المنافقون : ١٠] بجزم «أكن».

والثاني : أنّها تخفيف كقراءة أبي عمرو (يَنْصُرْكُمُ) [آل عمران : ١٦٠] وبابه.

وقرأ أنس بن مالك «ونذرك» بنون الجماعة ورفع الرّاء ، توعّدوه بذلك ، أو أنّ الأمر يؤول إلى ذلك فيكون خبرا محضا. وقرأ عبد الله والأعمش (٢) بما يخالف السّواد ، فلا حاجة إلى ذكره.

وقرأ العامة «آلهتك» بالجمع.

روي أنه كان يعبد آلهة متعددة كالبقر ، ولذلك أخرج السّامري لهم عجلا ، وروي أنّه كان يعبد الحجارة والكواكب ، أو آلهته التي شرع عبادتها لهم وجعل نفسه الإله الأعلى في قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤].

وقرأ علي بن أبي طالب (٣) ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وأنس وجماعة كثيرة «وإلاهتك» ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنّ «الإلاهة» اسم للمعبود ، ويكون المراد بها معبود فرعون ، وهي الشّمس.

روى أنّه كان يعبد الشّمس ، والشّمس تسمّى «إلاهة» ، علما عليها ، ولذلك منعت الصّرف ، للعلميّة والتأنيث ؛ قال الشّاعر : [الوافر]

٢٥٤٦ ـ تروّحنا من اللّغباء عصرا

فأعجلنا الإلهة أن تئوبا (٤)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٤١ ، البحر المحيط ٤ / ٣٦٧ ، الدر المصون ٣ / ٦٢٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٤٣ ، وقال الزمخشري : وقرىء : وإلاهتك أي عبادتك ، وروي أنهم قالوا له ذلك ؛ لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس ، فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك ، وخافوا أن يغلبوا على الملك ... ، وينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٦٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٢٥.

(٣) المصدر السابق.

(٤) البيت منسوب في التهذيب (أله) إلى عتيبة بن الحارث اليربوعي ، وفي اللسان (أله) إلى مية بنت أم عتبة ينظر القرطبي ٧ / ١٦٧ ، والبغوي ٢ / ١٨٩ ، ولباب التأويل ٢ / ١٦٣.

٢٧٠

والثاني : أنّ الإلاهة مصدر بمعنى العبادة ، أي : وتذر عبادتك ، لأنّ قومه كانوا يعبدونه.

ونقل ابن الأنباري عن ابن عبّاس أنّه كان ينكر قراءة العامّة ، ويقرأ «وإلاهتك» ، وكان يقول : إنّ فرعون كان يعبد ولا يعبد.

قال ابن الخطيب : والذي يخطر ببالي أنّ فرعون إن قلنا : إنّه ما كان كامل العقل لم يجز في حكم الله تعالى إرسال الرسول إليه ، وإن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقا للسّموات والأرض ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك ، لأنّ فساده معلوم بالضّرورة ، بل الأقرب أن يقال : إنّه كان دهريا منكرا لوجود الصّانع ، وكان يقول : مدبّر هذا العالم السّفلي هو الكواكب ، وأنا المخدوم في العالم للخلق ، والمربي لهم فهو نفسه.

فقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] أي : مرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم.

وقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] أي : لا أعلم لكم أحدا يجب عليكم عبادته إلّا أنا ، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنّه كان قد اتخذ أصناما على صور الكواكب يعبدها ، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب ، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) على ظاهره.

قوله : (قالَ سَنُقَتِّلُ) قرأ نافع (١) وابن كثير بالتّخفيف سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدّد المحالّ. وسيأتي أنّ الجماعة قرءوا (يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ) بالتضعيف إلّا نافعا فيخفف.

فتلخص من ذلك أنّ نافعا يقرأ الفعلين بالتخفيف ، وابن كثير يخفف «سنقتل» ويثقل «يقتّلون» ، والباقون يثقّلونهما.

قوله : (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ). أي نتركهم أحياء. والمعنى : أنّ موسى إنّما يمكنه الإفساد برهطه وبشيعته فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته ، بأن نقتّل أبناء بني إسرائيل ، ونستحيي نساءهم.

ثم بيّن أنّه قادر على ذلك بقوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي : إنّما نترك موسى لا من عجز وخوف ، ولو أردنا البطش به لقدرنا عليه.

قال ابن عباس : أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل ، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى ، فقال لهم موسى : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) يعني أرض مصر (٢).

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٩٢ ، والحجة ٤ / ٧١ ، ٧٢ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٣ ، وحجة القراءات ٢٩٤ ، والعنوان ٩٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٤ ، وشرح شعلة ٣٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٦٠.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٦٨) عن سعيد بن جبير.

٢٧١

قوله : «يورثها» في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : الجلالة ، أي هي له حال كونه مورثا لها من يشاؤه.

والثاني : أنّه الضّمير المستتر في الجارّ أي : إنّ الأرض مستقرة لله حال كونها مورّثة من الله لمن يشاء ، ويجوز أن يكون «يورثها» خبرا ثانيا ، وأن يكون خبرا وحده ، و «لله» هو الحال ، و «من يشاء» مفعول ثان ويجوز أن تكون جملة مستأنفة.

وقرأ الحسن (١) ، ورويت عن حفص «يورّثها» بالتشديد على المبالغة ، وقرىء (٢) «يورثها» بفتح الراء مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو : «من يشاء». والألف واللّام في «الأرض» يجوز أن تكون للعهد ، وهي أرض مصر كما تقدّم ، أو للجنس ، وقرأ ابن مسعود (٣) بنصب «العاقبة» نسقا على الأرض و «للمتّقين» خبرها ، فيكون قد عطف الاسم على الاسم ، والخبر على الخبر فهو من عطف الجمل.

فصل

قال الزمخشريّ (٤) : فإن قلت : لم أخليت هذه الجملة من الواو وأدخلت على الّتي قبلها؟.

قلت : هي جملة مبتدأة مستأنفة ، وأمّا : (وَقالَ الْمَلَأُ) فهي معطوفة على ما سبقها من قوله (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ). والمراد من قوله : (وَالْعاقِبَةُ) أي النّصر والظفر ، وقيل : الجنّة.

فصل

قوله : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا). لما هدّد فرعون قوم موسى وتوعدهم خافوا ، و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) لأنّهم كانوا قبل مجيء موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا مستضعفين في يد فرعون ، يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشّاقة ، ويمنعهم من الترفة ، ويقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، فلمّا بعث الله موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار ، فلما سمعوا تهديد فرعون ثانيا عظم خوفهم ، فقالوا هذا الكلام.

فصل

فإن قيل : هذا القول يدلّ على كراهتهم مجيء موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وذلك يوجب الكفر.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٤٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٦٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٢٦.

(٢) المصدر السابق.

(٣) وقرأ بها أبيّ كما في الكشاف ٢ / ١٤٣ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٦٧ ، والدر المصون ٣ / ٣٢٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٤٣.

٢٧٢

فالجواب : أنّ موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لمّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فظنّوا أنّها تزول على الفور ، فلّما رأوا أنّها ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد ، فبيّن لهم موسى ـ عليه‌السلام ـ أن الوعد بإزالتها لا يوجب الفور ، بل لا بدّ أن يستنجز ذلك الوعد في الوقت المقدر له.

فالحاصل أنّ هذا ما كان نفرة عن مجيء موسى بالرّسالة ، بل استكشافا لكيفية ذلك.

فعند هذا قال موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ).

قال سيبويه : «عسى» طمع وإشفاق. قال الزّجّاج : وما يطمع الله فيه فهو واجب.

ولقائل أن يقول : هذا ضعيف ؛ لأنّ لفظ «عسى» ههنا ليس كلام الله بل هو حكاية عن كلام موسى ، ويجاب بأنّ هذا الكلام إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فقوّى موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قلوبهم بهذا القول وحقّق عندهم الوعد ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم.

قال القرطبي (١) : «جدّد لهم الوعد وحقّقه. وقد استخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ ، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون كما تقدم ، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى ، وتبعهم فرعون ، فكان وراءهم ، والبحر أمامهم ، فحقّق الله الوعد : بأن غرق فرعون وقومه ، وأنجاهم».

ثمّ بيّن بقوله : (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) ما يجري مجرى الحثّ له على التّمسّك بطاعة الله.

واعلم أنّ النظر قد يراد به النّظر الذي يفيد العلم ، وهو على الله محال ، وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماسا لرؤيته وهو أيضا على الله محال ، وقد يراد به الرّؤية ، ويجب حمل اللّفظ ههنا عليها.

قال الزّجّاج : أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم ، لأنّ الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنّما يجازيهم على ما يقع منهم.

فإن قيل : إذا حملتم هذا النّظر على الرّؤية لزم الإشكال ، لأن الفاء في قوله : «فينظر» للتعقيب ، فيلزم أن تكون رؤية الله لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال ، وذلك يوجب حدوث صفة في ذات الله.

فالجواب : أن المعنى تعلّق رؤية الله تعالى بذلك الشّيء ، والتّعلق نسبة حادثة ، والنّسب والإضافات ؛ لا وجود لها في الأعيان ، فلم يلزم حدوث الصّفة الحقيقية في ذات الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٦٨.

٢٧٣

وقد حقّق الله ذلك الوعد ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم ، وأموالهم ؛ فعبدوا والعجل.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)(١٣٧)

لما قال موسى لقومه : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المحن حالا بعد حال ، إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيها للمكلّفين على الزّجر عن الكفر.

«والسّنين» : جمع سنة ، وفيها لغتان أشهرهما : إجراؤه مجرى المذكر السّالم فيرفع بالواو وينصب ويجرّ بالياء ، وتحذف نونه للإضافة.

قال النّحاة : إنّما جرى ذلك المجرى جبرا لما فاته من لامه المحذوفة ، وسيأتي في لامه كلام ، واللغة الثانية : أن يجعل الإعراب على النّون ولكن مع الياء خاصّة. نقل هذه اللّغة أبو زيد والفراء. ثم لك فيها لغتان : إحداهما : ثبوت تنوينها. والثانية : عدمه.

قال الفرّاء : هي في هذه اللّغة مصروفة عند بني عامر ، وغير مصروفة عند بني تميم ، ووجه حذف التنوين التّخفيف ، وحينئذ لا تحذف النّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله : [الطويل]

٢٥٤٧ ـ دعاني من نجد فإنّ سنينه

لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا (١)

وجاء في الحديث : «اللهمّ اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (٢) «وسنينا كسنين يوسف» باللّغتين ، وفي لام سنة لغتان ، أحدهما : أنّها واو لقولهم : سنوات وسانيت ، وسنيّة. والثانية : أنّها هاء لقولهم : سانهت وسنهات وسنيهة ، وليس هذا الحكم المذكور

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٢٧٤

أعني : جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصرا على لفظ «سنين» بل هو جار في كلّ اسم ثلاثي مؤنث حذفت لامه ، وعوّض منها تاء التّأنيث ، ولم يجمع جمع تكسير نحو : ثبة وثبين ، وقلة ، وقلين.

فصل

قال شهاب الدّين (١) : «وتحرّزت بقولي : حذفت لامه ممّا حذفت فاؤه ، نحو : لدة وعدة.

وبقولي ولم يجمع جمع تكسير من : ظبة وظبّى ، وقد شذّ قولهم : لدون في المحذوف الفاء ، وظبون في المكسّر.

قال : [الوافر]

٢٥٤٨ ـ يرى الرّاءون بالشّفرات منها

وقود أبي حباحب والظّبينا (٢)

واعلم أنّ هذا النّوع إذا جرى مجرى الزيدين فإن كان مكسور الفاء سلمت ، ولم تغيّر نحو : مائة ومئين ، وفئة وفئين ، وإن كان مفتوحها كسرت نحو : سنين ، وقد نقل فتحها وهو قليل جدّا ، وإن كان مضمومها جاز في جمعها الوجهان : أعني السّلامة ، والكسر نحو : ثبين وقلين.

قال أبو علي : السّنة على معنيين : أحدهما : يراد بها العام. والثاني : يراد بها الجدب.

وقد غلبت السّنة على زمان الجدب ، والعام على زمان الخصب حتى صارا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقّوا من لفظ السّنة فقالوا : أسنت القوم.

قال : [الكامل]

٢٥٤٩ ـ عمرو الذي هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف (٣)

وقال حاتم الطائيّ : [الطويل]

٢٥٥٠ ـ فإنّا نهين المال من غير ضنّة

ولا يشتكينا في السّنين ضريرها (٤)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٢) تقدم برقم (١٢٠٣).

(٣) البيت لمطرود بن كعب الخزاعي ينظر : الاشتقاق ص ١٣ ، ومعجم الشعراء ص ٢٠٠ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٢٦٨ ، ولعبد الله بن الزبعري في أمالي المرتضى ٢ / ٢٦٩ ، والنوادر ١٧٦ ولسان العرب (سنت ، هشم) والمقاصد النحوية ٤ / ١٤٠ ، والإنصاف ٢ / ٦٦٣ ، خزانة الأدب ١١ / ٣٦٧ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٢٨٩ ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٥ نوادر أبي زيد ص ١٦٧ ، والمنصف ٢ / ٢٣١ ، المقتضب ٢ / ٣١٢ ، ٣١٦ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٧.

(٤) ينظر : ديوانه (٦٢) ، الدر المصون ٣ / ٣٢٧.

٢٧٥

ويؤيّد ذلك ما في سورة يوسف [الآية ٤٧] : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً).

ثم قال : (سَبْعٌ شِدادٌ) فهذا في الجدب.

وقال : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ).

وقوله : (مِنَ الثَّمَراتِ) متعلّق ب «نقص».

قال قتادة : أمّا السنون فلأهل البوادي ، وأمّا نقص الثّمرات فلأهل الأمصار.

(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يتّعظون ، وذلك لأنّ الشدة ترقق القلوب ، وترغب فيما عند الله.

قال تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ).

فصل

قال القاضي : هذه الآية تدلّ على أنّه تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكّروا وأن لا يقيموا على كفرهم ، وأجاب الواحديّ : «بأنّه قد جاء لفظا الابتلاء ، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنّه تعالى يمتحنهم ، لأنّ ذلك على الله محال ، بل إنّه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء ، والامتحان ، فكذا ههنا».

ثم بيّن أنّهم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكفر ، والمعصية.

فقال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ).

قال ابن عبّاس : يريد بالحسنة : العشب ، والخصب ، والمواشي ، والثّمار وسعة الرزق ، والعافية ، أي : نحن أهلها ومستحقّوها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لله بحق (١) النّعمة. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : قحط وجدب وبلاء ومرض. «يطّيّروا بموسى ومن معه» أي : يتشاءموا بموسى ، ومن معه ، ويقولوا : إنّما أصابنا هذا الشّرّ بشؤم موسى وقومه.

قال سعيد بن جبير ومحمّد بن المنكدر : كان ملك فرعون أربعمائة سنة ، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها ، ولو كان حصل له في تلك المدّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادّعى الرّبوبيّة قط (٢).

فصل

أتى في جانب الحسنة ب «إذا» الّتي للمحقق ، وعرّفت الحسنة ، لسعة رحمة الله تعالى ، ولأنّها أمر محبوب ، كلّ أحد يتمناه ، وأتى في جانب السيئة ب «إن» التي للمشكوك فيه ، ونكّرت السيئة ، لأنّه أمر كل أحد يحذره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال : فإن قلت : كيف قيل فإذا جاءتهم الحسنة ب «إذا» وتعريف الحسنة و (إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ب «إن» وتنكير السيئة؟

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٧٤) عن ابن عباس.

(٢) تقدم.

٢٧٦

قلت : لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب ، لكثرته واتّساعه ، وأمّا السّيّئة فلا تقع إلّا في الندرة ، ولا يقع إلّا شيء منها ، وهذا من محاسن علم البيان.

قوله «يطّيّروا» الأصل : «يتطيّروا» فأدغمت التّاء في الطّاء ، لمقاربتها لها.

وقرأ عيسى بن عمر (١) وطلحة بن مصرف «تطيّروا» بتاء من فوق على أنّه فعل ماض وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورة. إذ لا يقع فعل الشّرط مضارعا ، والجزاء ماضيا إلّا ضرورة ، كقوله: [الخفيف]

٢٥٥١ ـ من يكدني بسيّىء كنت منه

كالشّجى بين حلقه والوريد (٢)

وقوله : [البسيط]

٢٥٥٢ ـ إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا

منّي وما يسمعوا من صالح دفنوا (٣)

وقد تقدّم الخلاف في ذلك. والتّطير : التّشاؤم ، وأصله : أن يفرّق المال ويطير بين القوم فيطير لكلّ أحد حظّه ، ثمّ أطلق على الحظّ ، والنّصيب السّيّىء بالغلبة.

وأنشدوا للبيد : [الوافر]

٢٥٥٣ ـ تطير عدائد الأشراك شفعا

ووترا والزّعامة للغلام (٤)

الأشراك جمع شرك ، وهو النّصيب. أي : طار المال المقسوم شفعا للذّكر ، ووترا للأنثى والزّعامة : أي : الرّئاسة للذكر ، فهذا معناه : تفرّق ، وصار لكل أحد نصيبه ، وليس من الشّؤم في شيء ، ثم غلب على ما ذكرناه.

قوله : «ألا إنما طائرهم عند الله» أي حظّهم ، وما طار لهم في القضاء والقدر ، أو شؤمهم أي : سبب شؤمهم عند الله ، وهو ما ينزله بهم.

قال ابن عباس : يريد شؤمهم عند الله ، أي من قبل الله ، أي : إنما جاءهم الشّرّ بقضاء الله وحكمه.

قال الفرّاء : وقد تشاءمت اليهود بالنبي ـ عليه‌السلام ـ ب «المدينة» ، فقالوا : غلت أسعارنا ، وقلّت أمطارنا مذ أتانا ، وكثرت أمواتنا.

ثم أعلم الله على لسان رسوله ـ عليه‌السلام ـ أن طيرتهم باطلة ، فقال : «لا طيرة ولا هامة» وكان النبي عليه‌السلام يتفاءل ولا يتطيّر.

وأصل الفأل : الكلمة الحسنة ، وكانت العرب مذهبها في الفأل والطّيرة واحدا ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧٠ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٧.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) البيت في ديوانه (٢٠٠) ، مجالس ثعلب ١ / ٧٨ ، أمالي القالي ١ / ٩٥ ، اللسان (شرك) ، الدر المصون ٣ / ٣٢٨.

٢٧٧

فأثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفأل ، وأبطل الطّيرة. والفرق بينهما أن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية والطيرية ، فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها ؛ بخلاف طيران الطير ، وحركات البهائم ، فإن أرواحها ضعيفة ، فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال ، ثم قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [أي] : أن الكل من الله تعالى ؛ لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ، ويقطعونها عن قضاء الله وقدره ، والحق أن الكل من الله ؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، والواجب لذاته واحد ، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، فكان الكل من الله ـ تعالى ـ ، فإسنادها إلى غير الله يكون جهلا بكمال الله تعالى.

قال الأزهريّ (١) : قيل للشّؤم طائر وطير ، لأنّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطّائر ذات اليسار تشاءموا بها ، فسموا الشّؤم طيرا وطائرا لتشاؤمهم بها.

قال القرطبيّ : وأصل هذا من الطّيرة وزجر الطّير ، ثمّ كثر استعمالهم حتّى قيل لكلّ من تشاءم : تطيّر. وكانت العرب تتيمّن بالسّانح : وهو الذي يأتي من ناحية اليمين وتتشاءم بالبارح : وهو الذي يأتي من ناحية الشّمال. وكانوا يتطيّرون أيضا بصوت الغراب ويتأوّلونه البين ، ويستدلّون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور ، وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك.

ويتطيّر الأعاجم إذا رأوا صبيّا يذهب به إلى المعلّم بالغداة ، ويتيمّنون برؤية صبيّ يرجع من عند المعلم إلى بيته ، ويتشاءمون برؤية السّقّاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة ، ويتيمّنون برؤية فارغ السّقاء مفتوحة ، ويتشاءمون برؤية الحمّال المثقل بالحمل والدّابّة الموقرة ، ويتيّمنون بالحمّال الذي وضع حمله ، وبالدّابة الّتي وضع عنها.

فجاء الإسلام بالنّهي عن التّطيّر ، والتّشاؤم بما يسمع من صوت طائر ما كان ، وعلى أيّ حال كان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : «أقرّوا الطّير على مكناتها» وذلك أن كثيرا من أهل الجاهلية كان إذا أراد الحاجة ذهب إلى الطّير في وكرها فنفّرها فإذا أخذت يمينا مضى إلى حاجته ، وهذا هو السّانح عندهم ، وإن أخذت شمالا رجع وهذا هو البارح عندهم ، فنهى النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا بقوله «أقرّوا الطّير على مكانتها». هكذا في الحديث.

وأهل العربيّة يقولون : «وكناتها» ، والوكنة : اسم لكلّ وكر وعشّ. والوكن : اسم للموضع الذي يبيض فيه الطّائر ويفرخ ، وهو الخرق في الحيطان والشّجر.

ويقال : وكن الطائر يكن (٢) وكنا ووكونا : دخل في الوكن ، ووكن بيضه ، وعليه :

__________________

(١) ينظر : تهذيب اللغة ١١ / ٤٢٦.

(٢) في ب وكن الطير يكن وكونا إذا حضر بيضة.

٢٧٨

حضنه ، وكان أيضا من العرب من لا يرى التّطيّر شيئا نقله القرطبيّ.

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «من رجّعته الطّيرة عن حاجته فقد أشرك» (١).

قيل : وما كفارة ذلك يا رسول الله.

قال : «أن يقول أحدكم : اللهمّ لا طير إلّا طيرك ، ولا خير إلّا خيرك ، ولا إله غيرك ، ثمّ يمضي إلى حاجته» (٢).

قوله (وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها). لمّا حكى عنهم أوّلا أنّهم بجهلهم أسندوا الحوادث إلى قضاء الله وقدره ، حكى عنهم ثانيا نوعا آخر من الجهل والضّلالة ، وهو أنّهم لم يميّزوا بين المعجزات والسّحر ، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العصا حيّة.

وقالوا ذلك من باب السّحر فلا يقبل منها شيء.

«مهما» اسم شرط يجزم فعلين ك «إن» هذا قول جمهور النّحاة ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليل جدا.

كقوله : [الرجز]

٢٥٥٤ ـ مهما لي اللّيلة مهما ليه؟

أودى بنعليّ وسرباليه (٣)

يريد : ما لي اللّيلة ما لي؟ والهاء للسّكت. وزعم بعض النّحاة أنّ الجازمة تأتي ظرف زمان ؛ وأنشد : [الطويل]

٢٥٥٥ ـ وإنّك مهما تعط بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذّمّ أجمعا (٤)

وقول الآخر : [الكامل]

٢٥٥٦ ـ عوّدت قومك أنّ كلّ مبرّز

مهما يعوّد شيمة يتعوّد (٥)

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٢٢٠) وذكره الهيثمي في المجمع (٥ / ١٠٥) وقال : رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣١).

(٣) البيت لعمرو بن ملقط الطائي ينظر : شرح المفصل لابن يعيش ٧ / ٤٤ ، الهمع ٢ / ٥٨ ، الدرر ٢ / ٧٤ ، المغني ١ / ١٠٨ ، الخزانة ٩ / ١٨ ، الجنى الداني ٦١١ ، ٥١ ، اللسان (مهه) ، التهذيب (مه) النوادر ٦٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٨.

(٤) البيت لحاتم الطائي ينظر : ديوانه ١٧٤ ، خزانة الأدب ٩ / ٢٧ مغني اللبيب ٣٣١ ، الهمع ٢ / ٥٧ ، الدرر ٥ / ٧١ ، شرح الأشموني ٣ / ٥٨١ ، شرح شواهد المغني ٧٤٤ ، الجنى الداني ٦١٠ ، الحماسة ٤ / ١٧١٣ ، شرح الشافية الكافية ٣ / ١٦٢٧ ، القرطبي ٧ / ١٩٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٨.

(٥) البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر : الديوان ٢٧٧ ، شرح الكافية الشافية ٣ / ١٦٢ ، الرضي في شرح الكافية ٢ / ٢٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٨.

٢٧٩

وقول الآخر : [الكامل]

٢٥٥٧ ـ نبّئت أنّ أبا شتيم يدّعي

مهما يعش يسمع بما لم يسمع (١)

قال : ف «مهما» هنا ظرف زمان ، والجمهور على خلافه ، وما ذكره متأوّل ، بل بعضه لا يظهر فيه للظّرفية معنى ، وشنّع الزمخشري على القائل بذلك.

فقال : وهذه الكلمة في عداد الكلمات الّتي يحرّفها من لا يد له في علم العربية ، فيضعها في غير موضعها ويحسب «مهما» بمعنى «متى ما».

ويقول : مهما جئتني أعطيتك ، وهذا من كلامه ، وليس من واضع العربية ، ثم يذهب فيفسّر : (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) [الأعراف : ١٣٢] بمعنى الوقت ، فيلحد في آيات الله ، وهو لا يشعر ، وهذا وأمثاله ممّا يوجب الجثوّ بين يدي النّاظر في كتاب سيبويه.

قال شهاب الدّين : هو معذور في كونها بمعنى الوقت ، فإن ذلك قول ضعيف ، لم يقل به إلّا الطّائفة الشّاذّة.

وقد قال جمال الدّين بن مالك : جميع النّحويين يقول إنّ «مهما» و «ما» مثل «من» في لزوم التّجرّد عن الظّرف ، مع أنّ استعمالهما ظرفين ثابت في أشعار فصحاء العرب. وأنشد بعض الأبيات المتقدمة.

وكفى بقوله جميع النّحويين دليلا على ضعف القول بظرفيتهما. وهي اسم لا حرف ، بدليل عود الضّمير عليها ، ولا يعود الضّمير على حرف ؛ لقوله : «مهما تأتنا به» فالهاء في «به» تعود على «مهما» ، وشذّ السّهيليّ فزعم أنّها قد تأتي حرفا.

واختلف النّحويون في «مهما» هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا : فمنهم من قال : هي مركبة من «ما ما» كرّرت «ما» الشّرطيّة توكيدا ، فاستثقل توالي لفظين فأبدلت ألف «ما» الأولى هاء.

وقيل : زيدت «ما» على «ما» الشّرطية ، كما يزاد على «إن» «ما» في قوله (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ).

فعمل العمل المذكور للثقل الحاصل ، وهذا قول الخليل وأتباعه من أهل البصرة.

وقال قوم : هي مركبة من مه التي هي اسم فعل بمعنى الزّجر ، و «ما» الشّرطيّة ثم ركّبت الكلمتان فصارا شيئا واحدا.

وقال بعضهم : لا تركيب فيها هنا ، بل كأنّهم قالوا له مه ، ثم قالوا «ما تأتنا به» ويعزى هذان الاحتمالان للكسائيّ.

__________________

(١) البيت لطفيل الغنوي ينظر : ديوانه ١٠٤ ، الأشموني ٤ / ١٢ ، شرح الكافية الشافية ٣ / ١٦٢٧ ، الدر المصون ٣ / ٣٢٨.

٢٨٠