اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال الجبائيّ (١) : المراد من هذا الطبع أنّه تعالى يسم قلوب الكفّار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أنّ صاحبها لا يؤمن ، وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان.

وقال الكعبيّ (٢) : إنّما أضاف الطّبع إلى نفسه ، لأجل أنّ القوم إنّما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه ، فهو كقوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] وقد تقدّم البحث في مثل ذلك.

قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)(١٠١)

قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ).

قال الزّمخشريّ : كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] في كونه مبتدأ وخبرا وحالا يعني أن «تلك» مبتدأ مشار بها إلى ما بعدها ، و «القرى» خبرها ، و «نقصّ» حال أي قاصّين كقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) [النمل : ٥٢].

قال الزمخشريّ (٣) : فإن قلت : ما معنى (تِلْكَ الْقُرى) حتى يكون كلاما مفيدا؟

قلت : هو مفيد ولكن بالصّفة في قولك : «هو الرّجل الكريم» يعني أنّ الحال هنا لازمة ليفيد التّركيب كما تلزم الصّفة في قولك : «هو الرّجل الكريم» ألا ترى أنّك لو اقتصرت على «هو الرّجل» لم يكن مفيدا ، ويجوز أن تكون «القرى» صفة لتلك ، و «نقصّ» الخبر ، ويجوز أن يكون «نقصّ» خبرا بعد خبر.

و «نقصّ» يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي : قد قصصنا عليك من أنبائها ونحن نقصّ عليك أيضا بعض أنبائها [ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي ، أي : قد قصصنا عليك من أنبائها](٤) وأشير بالبعد تنبيها على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب ، وأراد القصص المتقدمة.

وفي قوله : «القرى» ب «أل» تعظيم كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢٢] ، وقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام : «أولئك الملأ من قريش» ، وقول أمية : [البسيط]

٢٥٣٤ ـ تلك المكارم لا قعبان من لبن

شيبا بماء فعادا بعد أبوالا (٥)

و «من» للتبعيض كما تقدّم ؛ لأنّه إنّما قصّ عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما فيه عظة وانزجار دون غيرهما ، وإنّما قصّ أنباء أهل القرى ؛ لأنّهم اغتروا بطول الإمهال مع

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٥.

(٤) سقط من ب.

(٥) البيت لأبي الصلت الثقفي والد أمية ينظر : الشعر والشعراء ٤٦٩ ، العقد الفريد ٢ / ٢٣ ، ولأمية بن أبي الصلت في ديوانه ص ٥٢ ، وللنابغة الجعدي ديوانه ص ١١٢ ، شرح المفصل ٧٨ / ١٠٤ ، الدر المصون ٣ / ٣١٢.

٢٤١

كثرة النّعم فتوهموا أنّهم على الحقّ ، فذكرها الله ـ تعالى ـ لقوم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال ، ثم قال : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا) الظّاهر أنّ الضّمائر عائدة على أهل القرى.

وقال يمان بن رئاب : «إنّ الضميرين الأوّلين لأهل القرى ، والضّمير في «كذّبوا» لأسلافهم. وكذا جوّزه ابن (١) عطية أيضا أي : «فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذّب به الآباء» ، وقد تقدّم الكلام على لام الجحود ، وأنّ نفي الفعل معها أبلغ.

و «ما» موصولة اسميّة ، وعائدها محذوف ؛ لأنّه منصوب متّصل أي : بما كذبوه [ولا يجوز أن يقدر به وإن كان الموصول مجرورا بالباء أيضا لاختلاف المتعلق ، وقال هنا «بما كذبوا»](٢) فلم يذكر متعلق التكذيب ، وفي «يونس» ذكره فقال : (بِما كَذَّبُوا بِهِ) [يونس: ٧٤] ، والفرق أنّه لمّا حذفه في قوله : (وَلكِنْ كَذَّبُوا) [الأعراف : ٩٦] استمرّ حذفه بعد ذلك ، وأمّا في يونس فقد أبرزه في قوله : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ) [يونس : ٧٤] (كَذَّبُوا بِآياتِنا) [يونس : ٧٣] فناسب ذكره موافقة قال معناه الكرمانيّ.

فصل في معنى (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا)

قال ابن عباس والسّدّيّ : «فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسالي بما كذبوا به يوم أخذنا ميثاقهم حين أخرجوا من ظهر آدم فآمنوا كرها وأقرّوا باللّسان وأضمروا التّكذيب» (٣).

وقال الزّجّاج (٤) : «فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذّبوا قبل رؤية المعجزات».

وقيل : معناه ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم في دار التكليف ليؤمنوا بما كذّبوا به قبل إهلاكهم ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

[وقيل : إنه قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل](٥) وقيل : ليؤمنوا في الزّمان المستقبل.

قوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ).

قال الزّجّاج : والكاف في «كذلك» في محلّ نصب [أي : مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإيمان يطبع الله على قلوب الكفرة الجانين](٦).

قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(١٠٢)

قوله : «لأكثرهم» فيه وجوه :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٤.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٢) عن السدي.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٣.

(٥) سقط من ب.

(٦) سقط من ب.

٢٤٢

الظّاهر أنّه متعلق بالوجدان كقولك : ما وجدت له مالا أي : ما صادفت له مالا ولا لقيته.

الثاني : أن يكون حالا من «عهد» ؛ لأنّه في الأصل صفة نكرة فلما قدّم عليها نصب على الحال ، والأصل : ما وجدنا عهدا لأكثرهم ، وهذا ما لم يذكر أبو البقاء غيره.

وعلى هذين الوجهين ف «وجد» متعدّية لواحد وهو «من عهد» ، و «من» مزيدة فيه لوجود الشرطين.

الثالث : أنّه في محلّ نصب مفعولا ثانيا لوجد إذ هي بمعنى علمية ، والمفعول هو «من عهد». وقد يترجّح هذا بأنّ «وجد» الثانية علمية لا وجدانيّة بمعنى الإصابة ، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له ، ومن يرجّح الأوّل يقول : إنّ الأولى لمعنى ، والثّانية لمعنى آخر.

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس : يريد : وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم (١) حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢].

وقال ابن مسعود : «المراد بالعهد هاهنا الإيمان ، لقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [مريم : ٨٧] أي قال : لا إله إلا الله».

وقيل : المراد بالعهد وضع الأدلّة على صحّة التّوحيد والنّبوة [تقديره :] وما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد.

قوله : «وإن وجدنا» «إن» هذه هي المخفّفة وليست هنا عاملة لمباشرتها الفعل فزال اختصاصها المقتضي لإعمالها.

وقال الزّمخشريّ (٢) : «وإنّ الشّأن والحديث وجدنا».

فظاهر هذه العبارة أنّها معملة ، وأنّ اسمها ضمير الأمر والشّأن ، وقد صرّح أبو البقاء (٣) هنا بأنّها معملة ، وأن اسمها محذوف ، إلا أنّه لم يقدّره ضمير الحديث بل غيره فقال : «واسمها محذوف أي : إنّا وجدنا». وهذا مذهب النّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصّحيح ، وفي «كأن» التّشبيهية ، وأمّا «إن» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدّم إيضاحه.

ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكثرهم» ، والثاني «لفاسقين» ، قال الزمخشريّ : والوجود بمعنى العلم من قولك : وجدت زيدا ذا الحفاظ بدليل دخول «إن» المخفّفة ، واللّام الفارقة ولا يسوغ ذلك إلّا في المبتدأ والخبر والأفعال الدّاخلة عليهما يعني أنها مختصة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٤) عن ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨١.

٢٤٣

بالابتداء ، وبالأفعال النّاسخة له ، وهذا مذهب الجمهور ، وقد تقدّم الخلاف عن الأخفش أنّه يجوز على غيرها ، وتقدّم دليله على ذلك ، واللّام فارقة وقيل : هي عوض من التّشديد.

قال مكيّ (١) : «ولزمت اللّام في خبرها عوضا من التشديد والمحذوف الأوّل» ، وقد تقدّم أنّ بعض الكوفيين يجعلون «إن» نافية ، واللّام بمعنى «إلّا» في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة : ١٤٣].

ومعنى فاسقين خارجين عن الطّاعة ، مارقين عن الدّين ، وقيل : ناقضين العهد.

وقوله : «لأكثرهم» ، و «أكثرهم» ، و «من بعدهم» : إن جعلنا هذه الضّمائر كلّها للأمم السّالفة فلا اعتراض ، وإن جعلنا الضّمير في «لأكثرهم» و «أكثرهم» لعموم النّاس والضّمير في «من بعدهم» للأمم السّالفة كانت هذه الجملة ـ أعني ما وجدنا ـ اعتراضا كذلك قاله الزمخشريّ (٢) ، وفيه نظر ؛ لأنّه إذا كان الأوّل عاما ثم ذكر شيء يندرج فيه ما بعده وما قبله كيف يجعل ذلك العامّ معترضا بين الخاصين.

وأيضا ، فالنّحويّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين ، إلّا أنّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمّ من ذلك ، حتّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورين في قصّة واحدة سمّوه اعتراضا (٣).

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(١٠٣)

اعلم أنّ الكناية في قوله : «من بعدهم» يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣٢٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٣٦.

(٣) الاعتراض : وقوع جملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب أثناء كلام أو كلامين متصلين.

ومنه قول السيوطي :

ومن يلذ بحماه وهو ملجؤنا

فلا اعتراض بما يخشاه من نقم

ومعنى قوله : وهو ملجؤنا بين الشرط وجوابه.

وقد يعترض بأكثر من جملتين خلافا لأبي علي في زعمه أنه لا يعترض بأكثر من جملة. راجعه في مغني اللبيب ح ٢ ص ٣٩٤. والجمل التي لا محل لها من الإعراب سبع :

١ ـ الابتدائية.

٢ ـ المعترضة بين شيئين لإفادة الكلام تنويها وتسديدا وتحسينا.

٣ ـ التفسيرية.

٤ ـ المجاب بها القسم.

٥ ـ الواقعة جواب شرط غير جازم.

٦ ـ جملة الصلة.

٧ ـ التابعة لما لا محل له من الإعراب.

مغني اللبيب ص ٣٨٢ وما بعدها.

٢٤٤

ذكرهم وهم : نوح ، وصالح ، وشعيب وهود ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدّم إهلاكهم.

وقوله : «بآياتنا» أي بأدلّتنا ومعجزاتنا ، وهذا يدلّ على أنّ النبي لا بد له من آية ومعجزة يتميز بها عن غيره ، وإلا لم يكن قوله أولى من قول غيره.

قال ابن عباس : أوّل آياته العصا ثم اليد ، ضرب بالعصا باب فرعون ففزع منها فشاب رأسه ، فاستحيا فخضب بالسّواد ، فهو أوّل من خضب (١) ، قال : وآخر الآيات الطّمس ، قال: وللعصا فوائد :

منها ما هو مذكور في القرآن كقوله : (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [طه : ١٨] ، وقوله : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] ، (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣].

وذكر ابن عباس أشياء أخرى : منها أنّه كان يغرسها فتنبت كالثمر وانقلابها ثعبانا وكان يحارب بها اللّصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه (٢).

ومنها أنّها كانت تشتعل في الليل كالشّمعة ومنها أنّها كانت تصير كالحبل الطّويل فينزح الماء من البئر العميقة.

ومنها أنّه كان يضرب بها الأرض فتنبت.

واعلم أنّ المذكور في القرآن معلوم ، وأمّا المذكور في غير القرآن فإن ورد في خبر صحيح فهو مقبول ، وإلّا فلا. قوله : (فَظَلَمُوا بِها) يجوز أن يضمن «ظلموا» معنى «كفروا» فيتعدّى بالباء كتعديته ويؤيده (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، ويجوز أن تكون «الباء» سببيّة والمفعول محذوف تقديره : فظلموا أنفسهم وظلموا النّاس بمعنى صدوهم عن الإيمان بسبب الآيات.

والظّلم : وضع الشّيء في غير موضعه فظلمهم : وضع الكفر موضع الإيمان.

قوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) «كيف» خبر ل «كان» مقدّم عليها واجب التّقديم ؛ لأنّ له صدر الكلام ، و «عاقبة» اسمها وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب على إسقاط حرف الجرّ إذ التقدير : فانظر إلى كذا ، والمعنى : فانظر بعين عقلك كيف فعلنا بالمفسدين.

قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٥٤) عن ابن عباس.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٤ / ١٥٤) عن ابن عباس.

٢٤٥

أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(١٠٦)

كان يقال لملوك مصر الفراعنة ، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة ، فكأنه قال : يا ملك [مصر] وكان اسمه قابوس وقيل : الوليد بن مصعب بن الرّيّان.

وقوله : «رسول من ربّ العالمين» يدلّ على وجود الإله تعالى ، فإنّه يدلّ على أنّ للعالم ربّ يربيه ، وإله يوجده ويخلقه.

قوله : «حقيق» أي واجب «على أن لا أقول».

قرأ العامة «على أن» ب «على» التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها.

ونافع قرأ (١) «عليّ» ب «على» التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلّم.

فأما قراءة العامة ففيها ستّة أوجه ، ذكر الزّمخشريّ منها أربعة أوجه :

قال رحمه‌الله : «وفي المشهورة [إشكال] ، ولا يخلو من وجوده :

أحدها : أن تكون مما قلب من الكلام كقوله : [الطويل]

٢٥٣٥ ـ ..........

وتشقى الرّماح بالضّياطرة الحمر (٢)

معناه : وتشقى الضياطرة بالرّماح.

قال أبو حيّان (٣) : «وأصحابنا يخصّون القلب بالضّرورة ، فينبغي أن ينزّه القرآن عنه».

وللنّاس فيه ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقا ، [المنع مطلقا](٤) ، التّفصيل : بين أن يفيد معنى بديعا فيجوز ، أو لا فيمتنع ، وقد تقدّم إيضاحه ، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم.

وعلى هذا الوجه تصير هذه القراءة كقراءة نافع في المعنى ، إذ الأصل : قول الحق حقيق عليّ ، فقلب اللفظ فصار : «أنّا حقيق على قول الحقّ».

قال : «والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته ، فلمّا كان قول الحقّ حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحقّ أي لازما له».

والثالث : أن يضمّن حقيق معنى حريص كما ضمت «هيّجني» معنى ذكّرني في البيت المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٥٦ ، والسبعة ٢٨٧ ، وحجة القراءات ٢٨٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٦ ، والعنوان ٩٦ ، وشرح شعلة ٣٩٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٣ ، وإتحاف ٢ / ٥٥.

(٢) البيت لخداش بن زهير ينظر : الأضداد ١٥٣ ، لسان العرب (ضطر) ، أمالي المرتضى ١ / ٤٦٦ ، سر صناعة الإعراب ١ / ٣٢٣ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢٠٣ ، الدر المصون ٣ / ٣١٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٦.

(٤) سقط من أ.

٢٤٦

٢٥٣٦ ـ إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني

ولو تسلّيت عنها أمّ عمّار (١)

الرابع : أن تكون «على» بمعنى «الباء» ، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء (٢) والفارسيّ (٣) ، قالوا : إنّ «على» بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى «على» في قوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) [الأعراف : ٨٦] أي : على كلّ.

وقال الفرّاء : العرب تقول : رميت على القوس وبالقوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة ، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش «حقيق بأن لا أقول» إلّا أنّ الأخفش قال : «وليس ذلك بالمطّرد لو قلت : «ذهبت على زيد» تريد : «بزيد» لم يجز» ، وأيضا فلأن مذهب البصريّين عدم التجوّز في الحروف.

الخامس : ـ وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن ـ أن يغرق موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ [في وصف نفسه](٤) بالصّدق في ذلك المقام لا سيما وقد روي أنّ فرعون ـ لعنه الله ـ لمّا قال موسى : إنّي رسول من رب العالمين قال له : كذبت فيقول : أنا حقيق على قول الحقّ أي : واجب عليّ قول الحقّ أن أكون أنا قائله والقائم به ، ولا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به.

قال أبو حيّان (٥) : ولا يصحّ هذا الوجه إلّا إن عنى أنه يكون «أن لا أقول» صفة له كما تقول : أنا على قول الحقّ أي : طريقتي وعادتي قول الحقّ.

السادس : أن تكون «على» متعلقة ب «رسول».

قال ابن مقسم : حقيق من نعت «رسول» أي رسول حقيق من ربّ العالمين أرسلت على ألّا أقول على الله إلا الحقّ ، وهذا معنى صحيح واضح ، وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللّغة عن تعليق «على» ب «رسول» ، ولم يخطر لهم تعليقه إلّا ب «حقيق».

قال أبو حيّان (٦) : وكلامه فيه تناقض في الظّاهر ؛ لأنّه قدّر أولا العامل في «على» «أرسلت» وقال أخيرا : «لأنّهم غفلوا عن تعليق «على» ب «رسول» ، فأمّا هذا الأخير فلا يجوز عند البصريين ؛ لأنّ رسولا قد وصف قبل أن يأخذ معموله ، وذلك لا يجوز ، وأمّا تعليقه ب «أرسلت» مقدّرا لدلالة لفظ «رسوله» عليه فهو تقدير سائغ.

ويتأوّل كلامه أنّه أراد بقوله تعلّق «على» ب «رسول» أنه لمّا كان دالّا عليه صحّ نسبة التّعلق له.

قال شهاب الدّين (٧) : «وقال أبو شامة بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم :

__________________

(١) البيت للنابغة الذبياني ينظر : ديوانه ص ٢٠٣ ، الكتاب ١ / ٢٨٦ ، الخصائص ٢ / ٤٢٤ ، لسان العرب (هيج) الدر المصون ٣ / ٣١٤. جمهرة أشعار العرب ٥٢ ـ ٥٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن له ١ / ٣٨٦.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٥٧.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٦.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٧.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١٥.

٢٤٧

والأوجه الأربعة التي للزمخشريّ ولكن هذه وجوه متعسّفة ، وليس المعنى إلّا على ما ذكرته أوّلا ، يعني وجه ابن مقسم ، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوف».

وأمّا قراءة نافع فواضحة وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون الكلام قد تم عند قوله : «حقيق» ، و «عليّ» خبر مقدّم ، «ألّا أقول» مبتدأ مؤخر ، كأنّه قيل : عليّ عدم قول غير الحقّ أي : فلا أقول إلا الحقّ.

الثاني : أن يكون «حقيق» خبرا مقدما ، و «ألّا أقول» مبتدأ على ما تقدّم بيانه.

الثالث : «أن لا أقول» فاعل ب «حقيق» كأنّه قيل : يحقّ ويجب أن لا أقول ، وهذا أغرب الوجوه لوضوحه لفظا ومعنى ، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلّق «عليّ» ب «حقيق» لأنّك تقول : «حقّ عليه كذا» قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) [الأحقاف: ١٨]. وعلى الوجه الأوّل يتعلّق بمحذوف على ما تقرر.

وأمّا رفع «حقيق» فقد تقدّم أنّه يجوز أن يكون خبرا مقدّما ، ويجوز أن يكون صفة ل «رسول» ، وعلى هذا فيضعف أن يكون «من رب» صفة لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحة [على الصّريحة] ، فينبغي أن يكون متعلّقا بنفس «رسول» ، وتكون «من» لابتداء الغاية مجازا.

ويجوز أن يكون خبرا ثانيا. ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددّ الياء ، وسوّغ الابتداء بالنكرة حينئذ تعلّق الجارّ بها.

فقد تحصّل في رفعه أربعة أوجه ، وهل هو بمعنى فاعل ، أو بمعنى مفعول؟ الظّاهر أنّه يحتمل الأمرين مطلقا ، أعني على قراءة نافع وقراءة غيره.

وقال الواحديّ ناقلا عن غيره : «إنّه مع قراءة نافع محتمل للأمرين ، ومع قراءة العامّة بمعنى مفعول فإنّه قال : «وحقيقق على هذا القراءة ـ يعني قراءة نافع ـ يجوز أن يكون بمعنى فاعل».

قال شمر : «تقول العرب : حقّ عليّ أن أفعل كذا».

وقال الليث : «حقّ الشّيء معناه وجب ، ويحقّ عليك أن تفعله ، وحقيق عليّ أن أفعله ، فهذا بمعنى فاعل» ثم قال : وقال اللّيث : وحقيق بمعنى مفعول ، وعلى هذا تقول : فلان محقوق عليه أن يفعل.

قال الأعشى : [الطويل]

٢٥٣٧ ـ لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أنّ المعان موفّق (١)

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر : ديوانه ص ٢٧٣ ، تخليص الشواهد ص ١٨٨ ، الصاحبي في فقه اللغة ٢١٦ ، خزانة الأدب ٣ / ٢٥٢ ، ٥ / ٢٩١ ، ٢٩٣ كتاب الصناعتين ص ١٤٣ ، لسان العرب (حقق) ، الإنصاف ١ / ٥٨ الدر المصون ٣ / ٣١٥.

٢٤٨

وقال جرير : [البسيط]

٢٥٣٨ ـ ..........

قصّر فإنّك بالتّقصير محقوق (١)

ثم قال : «وحقيق على هذه القراءة ـ يعني قراءة العامّة ـ بمعنى محقوق» انتهى.

[وقرأ أبيّ (٢) «بأن لا أقول» وهذه تقوي أنّ «على» بمعنى الباء](٣).

وقرأ عبد الله والأعمش (٤) «ألّا أقول» دون حرف جرّ ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ «على» كما هو قراءة العامّة ، وأن يكون الجارّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة.

والحقّ هو الثابت الدّائم ، والحقيق مبالغة فيه.

قوله : «إلّا الحقّ» هذا استثناء مفرّغ ، و «الحقّ» يجوز أن يكون مفعولا به ، لأنّه يتضمن معنى جملة ، وأن يكون منصوبا على المصدر أي : القول الحقّ.

قوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني العصا واليد (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدّسة ، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشّاقّة ، فقال فرعون مجيبا له : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) والمعنى : إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية ؛ فأحضرها عندي لتصحّ دعواك.

فإن قيل قوله : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله (٥)؟

والجواب : أنّ هذا نظير قولك : إن دخلت الدّار فأنت طالق إن كلمت زيدا ، وهاهنا المؤخر في اللّفظ يكون مقدما في المعنى ؛ كما سبق تقريره.

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ)(١٠٧)

لما طلب فرعون من موسى إقامة البيّنة على صحّة دعواه ، بين الله تعالى أنّ معجزته كانت قلب العصا ثعبانا ، وإظهار اليد البيضاء.

__________________

(١) عجز بيت وصدره :

قل للأخيطل إذ جدّ الجراء بنا

ينظر : ديوانه ٣١٢ ، التهذيب (حق) ، الدر المصون ٣ / ٣١٥.

(٢) ونسبها ابن عطية إلى عبد الله بن مسعود.

ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٥٧ ، والدر المصون ٣ / ٣١٥.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٥ ، البحر المحيط ٤ / ٣٥٧ ، الدر المصون ٣ / ٣١٥ ، والتخريجات النحوية ١٩٣ ، ٣٦٦.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٧.

٢٤٩

«فإذا» فجائية وقد تقدّم أنّ فيها مذاهب ثلاثة :

ظرف مكان ، أو زمان ، أو حرف.

وقال ابن عطية (١) هنا : «وإذا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد (٢) من حيث كانت خبرا عن جثة ، والصّحيح الذي عليه النّاس أنّها ظرف زمان في كلّ موضع».

قال شهاب الدّين (٣) : «والمشهور عند النّاس قول المبرد ، وهو مذهب سيبويه» (٤).

وأمّا كونها زمانا فهو مذهب الرّياشي ، وعزي لسيبويه أيضا.

وقوله : «من حيث كانت خبرا عن جثّة» ليست هي هنا خبرا عن جثّة ، بل الخبر عن «هي» لفظ «ثعبان» لا لفظ «إذا».

والثّعبان هو ذكر الحيّات العظيم ، واشتقاقه من ثعبت المكان أي : فجّرته بالماء ، شبّه في انسيابه بانسياب الماء ، يقال : ثعبت الماء فجّرته فانثعب. ومنه مثعب المطر ، وفي الحديث : «جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما» (٥).

فصل

فإن قيل إنّه وصفها هنا بكونها ثعبانا ، وهو العظيم الهائل الخلق ، وفي موضع آخر يقول : (كَأَنَّها جَانٌ) [النمل : ١٠] ، والجان من الحيّات الخفيف الضّئيل الخلق ، فكيف الجمع بين هاتين الصّفتين؟

وقد أجاب الزّمخشريّ في غير هذا المكان بجوابين :

أحدهما : أنّه يجمع لها بين الشيئين : أي كبر الجثّة كالثّعبان وبين خفّة الحركة ، وسرعة المشي كالجان.

والثاني : أنّها في ابتداء أمرها تكون كالجان ، ثمّ يتعاظم ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثعبانا.

وفي وصف الثّعبان بكونه مبينا وجوه (٦) :

أحدها : أنّه تمييز ذلك عمّا جاءت به السّحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٦.

(٢) ينظر : المقتضب ٣ / ٥٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١٦.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٣١١.

(٥) أخرجه مالك (٢ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤) كتاب الجهاد : باب الترغيب في الجهاد (١) والبخاري (٦ / ٢٠) كتاب الجهاد والسير : باب تمني الشهادة حديث (٢٧٩٧) ومسلم (٣ / ١٤٩٥ ـ ١٤٩٦) كتاب الإمارة : باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله حديث (١٠٣ / ١٨٧٦) من حديث أبي هريرة.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٩.

٢٥٠

وثانيها : أنّهم شاهدوا كونه حيّة ، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه.

وثالثها : أنّ الثّعبان أبان قول موسى عليه‌السلام عن قول المدعي الكاذب.

قوله تعالى : (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ)(١٠٨)

النّزع في اللّغة عبارة عن إخراج الشّيء عن مكانه ، فقوله : «نزع يده» أي أخرجها من جيبه ومن جناحه ، بدليل قوله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [النمل : ١٢] ، وقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢].

قوله : «فإذا هي بيضاء» قال ابن عباس : «كان لها نور ساطع يضيء بين السّماء والأرض» (١) ، واعلم أنّه لمّا كان البياض كالعيب بيّن تعالى في غير هذه الآية أنّه كان من غير سوء.

قوله : «للنّاظرين» متعلق بمحذوف لأنّه صفة ل «بيضاء» وقال الزّمخشريّ (٢) : «فإن قلت : بم تعلق للناظرين؟ قلت : يتعلّق ب «بيضاء» والمعنى : فإذا هي بيضاء للنّظارة ، ولا تكون بيضاء للنّظّارة إلا إذا كان بياضها بياضا عجيبا خارجا عن العادة ، يجتمع النّاس للنّظر إليه ، كما يجتمع النّظّارة للعجائب».

وهذا الذي ذكره الزمخشريّ تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يريد تفسير الإعراب؟ وإنّما أراد التعلّق المعنويّ لا الصّناعي ، كقولهم : هذا الكلام يتعلق بهذا الكلام. أي إنّه من تتمّة المعنى له.

فإن قيل : إنّ المعجز الواحد كان كافيا فالجمع بينهما كان عبثا.

فالجواب : أنّ كثرة الدّلائل توجب القوّة في النّفس ، وسيأتي في سورة طه ـ إن شاء الله تعالى ـ أن انقلاب العصا أعظم من اليد البيضاء.

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)(١٠٩)

اعلم أنّه سبحانه وتعالى أسند القول في هذه السّورة إلى الملأ ، وفي «الشعراء» [٣٤] أسند القول إلى فرعون في قوله : «قال للملأ حوله» ، وأجاب الزّمخشريّ عن ذلك بثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون هذا الكلام صادرا منه ومنهم ، فحكى هنا عنهم وفي الشّعراء عنه.

والثاني : أنّه قاله ابتداء ، وتلقّته عنه خاصّته فقالوه لأعقابهم.

والثالث : أنّهم قالوه عنه للنّاس على طريق التّبليغ ، كما يفعل الملوك ، يرى الواحد منهم الرّأي فيبلغه الخاصّة ، ثم يبلغوه لعامّتهم ، وهذا الثّالث قريب من الثّاني في المعنى.

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (٧ / ١٦٤) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٨.

٢٥١

وقولهم : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) يعنون أنّه ليأخذ بأعين النّاس حتى يخيل إليهم العصا حيّة ، واليد بيضاء ، وكان موسى عليه الصّلاة والسّلام آدم اللّون ، ويرى الشّيء بخلاف ما هو عليه ، وكان السّحر غالبا في ذلك الزمان ، ولا شكّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة ، فالقوم زعموا أن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان في النّهاية من علم السّحر ، فلذلك أتى بتلك الصّيغة ، ثم ذكروا أنّه إنّما أتى بذلك السّحر طلبا للملك والرّئاسة فقالوا : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ).

قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠)

قوله : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) قد تقدّم الكلام على «ماذا» ، والجمهور على «تأمرون» بفتح النّون ، وروى كردم (١) عن نافع كسرها ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون «ماذا» كلمة اسما واحدا في محلّ نصب على أنّه مفعول ثان ل «تأمرون» بعد حذف الياء ، ويكون المفعول الأوّل ل «تأمرون» محذوفا ، وهو ياء المتكلم والتقدير : بأي شيء تأمرونني.

وعلى قراءة نافع لا تقول إنّ المفعول الأوّل محذوف ، بل هو في قوّة المنطوق به ؛ لأنّ الكسرة دالة عليه ، فهذا الحذف غير الحذف في قراءة الجماعة.

ويجوز أن تكون «ما» استفهاما في محل رفع بالابتداء ، و «ذا» موصول ، وصلته «تأمرون» ، والعائد محذوف ، والمفعول الأوّل أيضا محذوف على قراءة الجماعة ، وتقدير العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديره : فما الذي تأمرونيه.

وقدّره ابن عطية «تأمروني به» ، وردّ عليه أبو حيّان بأنّه يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله ، ثم اعتذر عنه بأنّه أراد التقدير الأصلي ، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف ، فاتّصل الضّمير بالفعل. وهذه الجملة هل هي من كلام الملأ ، ويكونون قد خاطبوا فرعون بذلك وحده تعظيما له كما يخاطب الملوك بصيغة الجمع ، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي : فقال لهم فرعون فماذا تأمرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ).

وهل «تأمرون» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس (٢).

وقال الزمخشريّ : «هو من أمرته فأمرني بكذا أي : شاورته فأشار عليّ برأي».

قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ)(١١١)

قوله : (قالُوا أَرْجِهْ) في هذه الكلمة هنا وفي «الشّعراء» [٣٦] ست قراءات في

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٧ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٥٩ ، والدر المصون ٣ / ٣١٧.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ١٦٤) عن ابن عباس.

٢٥٢

المشهور المتواتر ، ولا التفات إلى من أنكر بعضها ولا لمن أنكر على راويها. وضبط ذلك أن يقال: ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه.

فأمّا الثّلاث التي مع الهمز فأولها قراءة ابن كثير (١) ، وهشام عن ابن عامر : أرجئهو بهمزة ساكنة ، وهاء متصلة بواو.

والثانية : قراءة أبي عمرو (٢) : أرجئه كما تقدّم إلا أنّه لم يصلها بواو.

الثالثة : قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر : أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صلة.

وأمّا الثّلاث التي بلا همزة فأوّلها : قراءة الأخوين : «أرجه» بكسر الجيم وسكون الهاء وصلا ووقفا.

الثانية : قراءة الكسائيّ ، وورش عن نافع : «أرجهي» بهاء متصلة بياء.

الثالثة : قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء.

فأمّا ضمّ الهاء وكسرها فقد عرف مما تقدّم. وأمّا الهمز وعدمه فلغتان مشهورتان يقال : أرجأته وأرجيته أي : أخّرته ، وقد قرىء قوله تعالى : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ) [الأحزاب : ٥١] بالهمز وعدمه ، وهذا كقولم : توضّأت وتوضّيت ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان.

وقد طعن قوم على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي (٣) : «ضم الهاء مع الهمز لا يجوز [غيره](٤) ، ورواية ابن ذكوان عن ابن عامر غلط».

وقال ابن مجاهد (٥) : «وهذا لا يجوز ؛ لأنّ الهاء لا تكسر إلّا بعد كسرة أو ياء ساكنة».

وقال الحوفيّ : «ومن القرّاء من يكسر مع الهمز وليس بجيّد».

وقال أبو البقاء (٦) : «ويقرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف ؛ لأنّ الهمزة حرف صحيح ساكن ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر».

وقد اعتذر النّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين :

أحدهما : أن الهمزة ساكنة والسّاكن حاجز غير حصين ، وله شواهد [مذكورة في موضعها](٧) ، فكأنّ الهاء وليت الجيم المكسورة فلذلك كسرت.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٧ ، ٢٨٨ ، والحجة ٤ / ٥٧ ـ ٦٠ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، والعنوان ٩٦ ، وحجة القراءات ٢٨٩ ـ ٢٩١ ، وإتحاف ٢ / ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) ينظر : في هذه القراءات الموضع السابق.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٥٨.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : السبعة ص (٢٨٨).

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨١.

(٧) سقط من أ.

٢٥٣

[الثاني : أن الهمزة كثيرا ما يطرأ عليها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت](١).

وقد اعترض أبو شامة على هذين الجوابين بثلاثة أوجه :

الأول : أنّ الهمز حاجز معتدّ به بإجماع في (أَنْبِئْهُمْ) [البقرة : ٣٣] و (وَنَبِّئْهُمْ) [القمر : ٢٨] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكسر والضمّ.

الثاني : أنّه كان يلزمه صلة الهاء ، إذ هي في حكم كأنها قد وليت الجيم.

الثالث : أنّ الهمز لو قلب ياء لكان الوجه المختار ضمّ الهاء مع صريح الياء نظرا إلى أنّ أصلها همزة ، فما الظنّ بمن يكسر الهاء مع صريح الهمزة. وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقف حمزة وهشام ، فضمّ الهاء مع الهمزة هو الوجه.

وقد استضعف أبو البقاء (٢) قراءة ابن كثير وهشام فإنّه قال : «وأرجئه» يقرأ بالهمز وضمّ الهاء من غير إشباع وهو الجيّد ، وبالإشباع وهو ضعيف ؛ لأنّ الهاء خفيّة ، فكأنّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة ، وهو قريب من الجمع بين السّاكنين ومن هاهنا ضعف قولهم : «عليهي مال» بالإشباع.

قال شهاب الدّين (٣) : «وهذا التّضعيف ليس بشيء ؛ لأنّها لغة ثابتة عن العرب ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقا ، وقد تقدّم أنّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصا بهذه اللّفظة ، بل قاعدته كلّ هاء كناية بعد ساكن أن تشبع حركتها حتى تتولّد منها حرف مدّ نحو : «منهو ، وعنهو ، وأرجئهو» إلّا قبل ساكن فإن المدّ يحذف لالتقاء الساكنين إلّا في موضع واحد رواه عنه البزّيّ وهو (عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس : ١٠] بتشديد التّاء ، ولذلك استضعف الزّجّاج (٤) قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشّاعر : [الرجز]

٢٥٣٩ ـ لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة حقف فالطجع (٥)

«هذا شعر لا يعرف قائله ولا هو بشيء ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له : أخطأت ؛ لأنّ الشّاعر يجوز أن يخطىء مذهب لا يعرّج عليه».

قال شهاب الدّين (٦) : «وقد تقدّم أنّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة ، وتقدّم شواهدها ، فلا حاجة إلى الإعادة».

قوله : «وأخاه» الأحسن أن يكون نسقا على الهاء في «أرجه» ويضعف نصبه على المعيّة لإمكان النّسق من غير ضعف لفظي ولا معنوي.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١٨.

(٤) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٤٠٤.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١٩.

٢٥٤

قال عطاء : «معنى أرجه أي أخّره» (١).

وقيل : احبسه وأخاه ، وهو قول قتادة والكلبيّ ، وهذا ضعيف لوجهين :

أحدهما : أنّ الإرجاء في اللّغة هو التّأخير لا الحبس.

والثاني : أنّ فرعون ما كان قادرا على حبس موسى بعد أن شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التّعرّض إليه بالقتل.

قوله : (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ).

«في المدائن» متعلق ب «أرسل» ، و «حاشرين» مفعول به ، ومفعول «حاشرين» محذوفة أي : حاشرين السّحرة ، بدليل ما بعده.

و «المدائن» جمع مدينة ، وفيها ثلاثة أقوال :

أصحها : أنّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مدن يمدن مدونا أي قام ، واستدلّ لهذا القول بإطباق القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف ، وسفينة وسفائن ، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة ، وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز نحو : معايش ومعيشة ، [ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو : معيشة ومعايش ولأنّهم جمعوها أيضا على مدن كقولهم سفينة وسفن وصحف](٢).

قال أبو حيّان (٣) : «ويقطع بأنّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا : مدن كما قالوا صحف في صحيفة».

قال شهاب الدّين (٤) : «قد قال الزجاجي : المدن في الحقيقة جمع المدين ، لأنّ المدينة لا تجمع على مدن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه عل سفن» ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين ، ومدين جمع مدينة مع اطّراد فعل على فعيلة لا بمعنى مفعولة ، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنّها فعيلة بمعنى مفعولة ؛ لأنّ معنى المدينة أن يمدن فيها أي يقام ، ويؤيّد هذا ما سيأتي أنّ مدينة وزنها في الأصل مديونة عند بعضهم.

القول الثاني : أن وزنها مفعلة من دانه يدينه أي ساسه يسوسه ، فمعنى مدينة أي مملوكة ومسوسة أي مسوس أهلها من دانهم ملكهم إذا ساسهم ، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايش في مشهور لغة العرب.

الثالث : أن وزنها مفعولة ، وهو مذهب المبرّد قال : «هي من دانه يدينه إذا ملكه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ١٩) من طريق عطاء عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٦٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١٩.

٢٥٥

وقهره ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقلوا حركة الضّمّة على الياء فسكنوها ، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها ، فاجتمع ساكنان : الواو والمزيدة الّتي هي واو المفعول ، والياء التي هي من نفس الكلمة ، فحذفت الواو ؛ لأنّها زائدة ، وحذف الزّائد أولى من حذف الحرف الأصلي ، ثم كسروا الدّال لتسلم الياء ، فلا تنقلب واوا لانضمام ما قبلها ، فتختلط ذوات الواو بذوات الياء ، وهكذا تقول في المبيع والمخيط والمكيل فلا ينقلب واوا لانضمام ما قبلها ذوات الواو ، والخلاف جار في المحذوف ، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟

الأوّل قول الأخفش ، والثّاني قول المازني ، وهو مذهب جماهير النّحاة.

فصل في تعريف «المدينة»

المدينة معروفة ، وهي البقعة المسورة المستولي عليها ملك وأراد مدائن صعيد مصر ، أي : أرسل إلى هذه المدائن رجالا يحشرون إليك من فيها من السّحرة ، وكان رؤساء السّحرة بأقصى مدائن الصّعيد.

ونقل القاضي (١) عن ابن عباس أنّهم كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم ، وكان الذي يعلمهم رجلين مجوسيّين من أهل «نينوى» بلدة يونس ـ عليه الصّلاة والسّلام (٢) ـ ، وهي قرية بالموصل.

قال ابن الخطيب : «وهذا النّقل مشكل ؛ لأنّ المجوس أتباع زرادشت ، وزرادشت إنّما جاء بعد موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ.

قوله تعالى : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)(١١٢)

قرأ الأخوان (٣) هنا وفي سورة «يونس» [٧٩] «سحّار» والباقون «ساحر» ، فسحّار للمبالغة وساحر يحتملها ، ولا خلاف في التي في «الشّعراء» أنها سحّار مثال مبالغة.

واختلفوا في السّاحر والسحّار : فقيل : السّاحر الذي يعلم السّحر ولا يعلم ، والسحّار الذي يعلم.

وقيل : السّاحر من يكون سحره في وقت دون وقت ، والسحّار من يديم السحر.

و «الباء» في قوله : «بكلّ» يحتمل أن تكون باء التّعدية ويحتمل أن تكون بمعنى مع.

وقال ابن عباس وابن إسحاق والسّدّيّ : إنّ فرعون اتخذ علمه من بني إسرائيل ، فبعث بهم إلى قرية يقال لها : الفرما يعلموهم فعلموهم سحرا كثيرا ، فلما بعث إلى

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٣.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٦٣).

(٣) ينظر : السبعة ٢٨٩ ، والحجة ٤ / ٦٣ ، ٦٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٩ ، وحجة القراءات ٢٩١ ، ٢٩٢ ، والعنوان ٩٦ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٣ ، وشرح شعلة ٣٩٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٧.

٢٥٦

السّحرة جاءوا ومعلمهم معهم (١). وهذه الآية تدلّ على كثرة السّحرة في ذلك الزّمان ، وذلك يدلّ على صحّة قول المتكلّمين من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالبا على أهل ذلك الزمان ، فلما كان السّحر غالبا على أهل زمان موسى كانت معجزته من جنس السحر. ولما كان الطبّ غالبا على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطبّ. ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت معجزته من جنس الفصاحة.

قوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ)(١١٣)

وحذف ذكر الإرسال لعلم السّامع.

وفي قوله : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً) وجهان :

أظهرهما : أنّها لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنّها استئناف جواب لسؤال مقدر ، ولذلك لم تعطف بالفاء على ما قبلها.

قال الزمخشريّ (٢) : فإن قلت : هلا قيل : «وجاء السّحرة فرعون فقالوا».

قلت : هو على تقدير سائل سأل : ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا : «أإن لنا لأجرا» وهذا قد سبقه إليه الواحديّ (٣) إلّا أنه قال : «ولم يقل «فقالوا» لأنّ المعنى لما جاءوا قالوا» فلم يصحّ دخول الفاء على هذا الوجه.

والوجه الثاني : أنّها في محلّ نصب على الحال من فاعل «جاءوا» قاله الحوفي.

وقرأ نافع (٤) وابن كثير وحفص عن عاصم «إنّ» بهمزة واحدة بكسر الألف على الخبر والباقون بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم من التحقيق والتسهيل وإدخال ألف بينهما وعدمه.

فقراءة الحرميّين على الإخبار ، وجوّز الفارسيّ (٥) أن تكون على نيّة الاستفهام يدلّ عليه قراءة الباقين.

قال الواحديّ (٦) : الاستفهام أحسن في هذا الموضع ؛ لأنّهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ، ولا يقطعون على أن لهم الأجر ، ويقوي ذلك إجماعهم في سورة «الشعراء» على الاستفهام.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٢٠) عن ابن عباس وابن إسحاق والسدي.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٩.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٤.

(٤) ينظر : السبعة ٢٨٩ ، والحجة ٤ / ٦٤ ، وإعراب القراءات ١ / ٢٠٠ ، وحجة القراءات ٢٩٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٨.

(٥) ينظر : الحجة ٤ / ٦٥.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٣.

٢٥٧

وحجّة نافع وابن كثير أنّهما أرادا همزة الاستفهام ، ولكنهما حذفا ذلك من اللّفظ ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] وقول الشاعر: [المنسرح]

٢٥٤٠ ـ أفرح أن أرزأ الكرام وأن

 .......... (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٢٥٤١ ـ ..........

وذو الشّيب يلعب (٢)

وكقوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] التقدير : أهذا ربي؟ وقد تقدّم تحقيق هذا ، وأنّه مذهب أبي الحسن ونكر «أجرا» للتعظيم.

قال الزّمخشريّ (٣) : «كقول العرب : إنّ له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة».

قوله : «إن كنّا» شرط جوابه محذوف للدّلالة عليه عند الجمهور ، أو ما تقدّم عند من يجيز تقديم جواب الشّرط عليه.

و «نحن» يجوز فيه أن يكون تأكيدا للضّمير المرفوع ، وأن يكون فصلا فلا محل له عند البصريين ، ومحله الرّفع عند الكسائيّ ، والنّصب عند الفرّاء.

قوله تعالى : (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(١١٤)

فإن قيل : قوله : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) معطوف على ماذا؟ فالجواب أنّه معطوف على محذوف ، وهو الجملة التي نابت «نعم» عنها في الجواب إذا التقدير : قال : نعم إنّ لكم لأجرا وإنكم لمن المقربين ، أي : إني لا أقصركم على الثّواب ، بل أزيدكم عليه بأن أجعلكم من المقرّبين عندي.

قال المتكلمون : «وهذا يدلّ على أنّ الثواب إنّما يعظم موقعه إذا كان مقرونا بالتعظيم».

وهذه الآية تدلّ على أنّ كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبدا ذليلا عاجزا وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى ، ويدلّ على أن السّحرة لم يقدروا على قلب الأعيان ، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون ؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فلم لم يقلبوا التراب ذهبا ، ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ، ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم. والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان على الاحتراز عن الاغترار بكلمات أهل الأباطيل.

قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)(١١٥)

قوله : (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) : إمّا هنا للتخيير ، ويطلق عليها حرف عطف مجازا.

قال المفسرون : «تأدّبوا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ فكان ذلك سبب إيمانهم».

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٩.

٢٥٨

قال الفرّاء والكسائيّ (١) في باب «أمّا» : و «إمّا» إذا كنت آمرا أو ناهيا أو مخبرا فهي مفتوحة ، وإذا كنت مشترطا أو شاكّا أو مخيرا فهي مكسورة ، تقول في المفتوحة : أمّا الله فاعبده ، وأما الخمر فلا تشربها وأما زيد فقد خرج ، فإن كنت مشترطا فتقول : إمّا تعطينّ زيدا فإنه يشكرك قال تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) [الأنفال : ٥٧] ، وتقول في الشّكّ : لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو ، وتقول في التّخيير : لي في الكوفة دار إما أن أسكنها وإمّا أن أبيعها.

والفرق بين «إمّا» إذا كانت للشكّ وبين «أو» أنك إذا قلت : «جاءني زيد أو عمرو» فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشّك فقلت : أو عمرو ، فصار الشك فيهما ، فأوّل الاسمين في «أو» يجوز أن يحسن السكوت عليه ، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ؛ ألا ترى أنّك تقول : قام أخوك وتسكت ثم تشكّ فتقول : أو أبوك.

وإذا ذكرت «إمّا» فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك ، فلا يجوز أن تقول : ضربت إمّا عبد الله وتسكت. وفي محل : «أن تلقي وإمّا أن نكون» ثلاثة أوجه :

أحدها : النصب بفعل مقدّر أي : افعل إمّا إلقاءك وإما إلقاءنا ، كذا قدّره أبو حيّان ، وفيه نظر ؛ لأنّه لا يفعل إلقاءهم فينبغي أن يقدّر فعلا لائقا بذلك وهو اختر أي : اختر إمّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا.

وقدره مكي (٢) وأبو البقاء (٣) فقالا : «إمّا أن تفعل الإلقاء».

قال مكّيّ : كقوله : [البسيط]

٢٥٤٢ ـ قالوا : الرّكوب فقلنا : تلك عادتنا

 .......... (٤)

بنصب «الركوب» إلا أنّه جعل النّصب مذهب الكوفيين.

الثاني : الرفع على خبر ابتداء مضمر تقديره : أمرك إمّا إلقاؤك وإما إلقاؤنا.

الثالث : أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمّا إلقاؤك مبدوء به ، وإمّا إلقاؤنا مبدوء به.

فإن قيل : كيف دخلت «أن» في قوله : «إمّا أن تلقي» وسقطت من قوله : (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٦].

فالجواب قال الفراء : دخول «أن» في «إما» في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار ، وهي في موضع نصب كقولك : اختر ذا أو ذا ، كأنّهم قالوا : اختر أن تلقي أو نلقي ، وفي آية التّوبة ليس فيها أمر بالتخيير ؛ ألا ترى أنّ الأمر لا يصلح هاهنا فلذلك لم يكن فيه «أن».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٦٥.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٣٢٥.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ١٨٢.

(٤) تقدم.

٢٥٩

وقال غيره : «إنّما أتى هنا ب «أن» المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٠٦]. لأن «أن» وما بعدها هنا : إمّا مفعول به أو مبتدأ ، والمفعول به والمبتدأ لا يكونان فعلا صريحا ، بل لا بدّ أن ينضمّ إليه حرف مصدري يجعله في تأويل اسم ، وأما آية التّوبة فالفعل بعد «إمّا» خبر ثان ل «آخرون» ، وإمّا صفة له ، والخبر والصّفة يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري.

وحذف مفعول الإلقاء للعلم به والتقدير : إمّا أن تلقي حبالك وعصيّك ـ لأنّهم كانوا يعتقدون أن يفعل كفعلهم ـ أو نلقي حبالنا وعصيّنا.

قوله تعالى : (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١١٦)

قوله : (قالَ أَلْقُوا) وفيه سؤال : وهو أنّ إلقاءهم كان سحرا ومعارضة للمعجزة ، وذلك كفر ، فكيف يجوز لموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يأمرهم به؟.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّه عليه الصّلاة والسّلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقّا ، فإذا لم يكن كذلك فالأمر هناك كقول القائل لغيره : اسقني الماء من الجرّة ، فهذا الكلام إمّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرّة ، فأمّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتّة كذلك هاهنا.

قال الفرّاء : «المعنى : ألقوا إن كنتم محقّين ، وألقوا على ما يصح ويجوز».

وقيل : تهديد لهم أي : ابتدأوا بالإلقاء فسترون ما يحل بكم من الافتضاح.

وثانيها : أنّ القوم إنّما جاءوا لإلقاء تلك الحبال والعصي ، وعلم موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أنّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التّخيير في التّقديم والتّأخير ، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم ، وقلّة مبالاته بهم وثقة بما وعده الله به من التّأييد ، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبدا ، ولأنّ الأمر لا يستلزم الإرادة.

وثالثها : قوله عليه‌السلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له : هات وقل واذكرها ، وبالغ في تقريرها ، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنّه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها ، فكذا هاهنا.

وقال الفرّاء (١) : في الكلام حذف ، والمعنى : قال لهم موسى : إنكم لن تغلبوا

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٦٥.

٢٦٠