اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وخامسها : أن نقول : يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر ؛ لأن «وما كان لنا أن

__________________

ـ المشهور ـ والثاني : أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة ، فكأنه لم يكن بلغه قراءة النصب ، وهذا غير ممتنع ، ويؤيد هذا التأويل : أن أنسا نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما دل على الغسل. وكان أنس يغسل رجليه ، وهذا الجواب ذكره البيهقي وغيره. والثالث : سلمنا أن كلام أنس يتعذر تأويله ، لكن ما قدمناه من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله وفعل الصحابة وقولهم ، مقدم عليه فلم يكن حجة ، وأما الجواب عن قول ابن عباس فمن وجهين : أحدهما : أنه ليس بصحيح ولا معروف عنه ، وإن كان قد رواه ابن جرير عنه إلا أن إسناده ضعيف ، بل الصحيح الثابت عن أنه كان يقرأ (وأرجلكم) بالنصب. ويقول : عطف على المغسول. هكذا رواه عنه الأئمة الحفاظ ، منهم : أبو عبيدة القاسم وجماعات القراء والبيهقي وغيره بأسانيدهم. وقد ثبت في صحيح البخاري عنه أنه توضأ فغسل رجليه ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ. وثانيهما كالجواب الأخير في كلام أنس المتقدم ، والأول أصحهما ـ وأما الجواب عن حديث رفاعة فهو أنه على لفظ الآية ، فيقال فيه كما قيل في الآية. وأما حديث علي فالجواب عنه من أوجه أحسنها : أنه ضعيف ، ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ فلا يحتج به ، لو لم يخالفه غيره ، فكيف وهو مخالف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة؟ الثاني : أنه لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه ، لأنه ثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثالث : أنه محمول على أنه غسل الرجلين في النعلين ، فقد ثبت عنه من أوجه كثيرة غسل الرجلين ؛ فوجب حمل الرواية المحتملة على الروايات الصحيحة الصريحة ـ وأما قياسهم على الرأس فمنتقض برجل الجنب ، فإنه لا مدخل لها في التيمم ، ولا يجزىء مسحها بالاتفاق. وأما القائلون بوجوب المسح ، وهم الإمامية ، فلم يأتوا بحجة ، وجعلوا قراءة النصب في الآية عطفا على محل قوله : برؤوسكم (وهو النصب) ومنهم من يجعل الباء الداخلة على الرؤوس زائدة ، والأصل (وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم) بل رجحوه بقرب الرؤوس ، ولا يصح متمسكا لهم ، لمخالفة الكتاب والسنة المتواترة قولا وفعلا. ولو سلّم هذا لهم ، فبماذا يجيبون عن الأحاديث المتواترة؟ وقد علمت أن هذا الخلاف منهم لم يكن شيئا يذكر في جانب الإجماع ، إذ لا اعتداد بهم فيه.

مذهب الشافعية جواز المسح على الخف الشرعي ، لمن ليس يشرطه بدلا عن غسل الرجلين في الوضوء ، وعليه الصحابة والجمهور وبه قال عامة الفقهاء ، وبه قال مالك في رواية عنه وروى الشافعي عنه أنه قال : يكره ذلك ، وقالت الشيعة والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري : لا يجوز ـ وهو رواية ابن أبي ذؤيب عن مالك أنه أبطل المسح على الخفين في آخر أيامه ، ويدل للشافعية أولا : إجماع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين ، سواء كان لحاجة ، أو لغيرها حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي. فخلاف الشيعة والخوارج لا يعتد به ، فقد نقل ابن المنذر عن ابن المبارك قال : ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف ، لأن كل من روي عنه منهم إنكاره ، فقد روي عنه إثباته. وقال : ليس في المسح على الخفين اختلاف هو جائز اه. وقال : جماعات من السلف نحو هذا وقال ابن عبد البر لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره ، إلا عن مالك مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته. وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية والمعروف المستقر عندهم الآن قولان : الجواز مطلقا ، ثانيهما : للمسافر دون المقيم. وثانيا : السنة المروية من الطرق المختلفة بالأسانيد الصحيحة المتواترة معنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسح على خفيه ـ وترخيصه فيه. واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه.

فمن ذلك أولا : ما ثبت في الصحيحين عن جرير البجلي ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح على الخفين ، ورواه أبو داود وزاد في روايته قالوا لجرير : إنما كان هذا قبل نزول المائدة ـ فقال جرير : وما أسلمت إلا بعدها ، وكان إسلام جرير متأخرا جدا. قال الأذرعي : كان إسلامه في ـ

٢٢١

نعود فيها إلّا أن يشاء الله» معناه : فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها ، فقوله : «لنا أن

__________________

ـ السنة العاشرة من الهجرة ـ رضي الله عنه اه. وفي سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم ـ رحمه‌الله قال : ما سمعت في المسح على الخفين حديثا أحسن من حديث جرير ـ وثانيا ما ثبت فيهما أيضا من رواية المغيرة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسح على الخفين في غزوة تبوك ، وهي في آخر أيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد اتفق العلماء على أن آية الوضوء المذكورة في المائدة نزلت قبل غزوة تبوك بمدة ، والأحاديث الدالة على مشروعية المسح على الخفين كثيرة متواترة معنى. قال الحافظ في الفتح : وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وجمع بعضهم رواته فبلغوا الثمانين ومنهم العشرة المبشرة بالجنة وقال الحسن البصري : حدثني بالمسح على الخفين سبعون بدريا يعني : أن بعضهم شافهه ، وبعضهم روي له عنه ؛ لأن الحسن لم يلق سبعين بدريا ، وقال النووي في شرح مسلم : قد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة قال الإمام أحمد : فيه أربعون حديثا عن الصحابة مرفوعة ليس في قلبي من المسح على الخف شيء ـ وقال النخعي : من رغب عن المسح على الخفين فقد رغب عن سنة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صح وبه قال عامة الفقهاء. وقال الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله تعالى عنه: ما قلت بالمسح على الخف إلا أنه جاء مثل ضوء النهار ـ وأخاف الكفر على من أنكره. وبه قال عامة الفقهاء. إلى غير ذلك من عبارات المحدثين الدالة على تواتره.

وثالثا قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) على قراءة الجر. فقد استدل به بعض الفقهاء على جواز المسح على الخفين جمعا بينها ، وبين الأدلة الموجبة لغسل الرجلين ، وتحديده بالكعبين مع الاتفاق على عدم استيعاب الخف بالمسح ؛ لبيان محل الإجزاء لا للاستيعاب.

ورابعا : أن الخف تدعو الحاجة إلى لبسه ، وفي نزعه لكل وضوء مشقة ، فجاز المسح عليه كالجبائر للاتفاق على جواز المسح عليهما.

واستدل المانعون أولا بقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فكانت هذه الآية موجبة لتطهير الأعضاء الأربعة فلم يجز العدول عنها إلى حائل دونها لما فيه من ترك الأمر بها.

والجواب عنه من وجهين : الأول أنها وإن أوجبت غسل الرجلين فالسنة جاءت بالرخصة في المسح على الخفين ، وكانت الآية دالة على غسل الرجلين إذا ظهرتا والسنة واردة في المسح على الخفين إذا لبسا فقولكم : فلم يجز العدول عنها إلى حائل دونها ، لما فيه من ترك الأمر بها. ممنوع ، لأن ذلك تخصيص لا نسخ.

بيانه أن الذين آمنوا في الآية الشريفة عام يشمل اللابس للخف ، وغير اللابس له. والعام يحتمل خروج بعض أفراده عن تناول الحكم له فاحتمل خروج لابس الخف عن توجه إيجاب غسل الرجلين بعينه له. وقد بين الإجماع والسنة المتواترة الصحيحة الصريحة في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمسح على الخفين بعد نزول هذه الآية كما في خبري جرير والمغيرة المتقدمين ـ خروج لابس الخف وعدم توجه إيجاب الغسل بعينه له. فثبت خروجه وأنه من باب التخصيص وليس فيه ترك الأمر بالآية. كما أن هذا العام نفسه كان شاملا للمحدث وغيره فلما صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضوء واحد صلاتين فأكثر علم أن غير المحدث (وهو المتوضىء) ـ لا يجب عليه الوضوء بل يجوز له التجديد. ولم يكن هذا من قبيل النسخ بل تخصيص للآية كذلك.

والثاني : أن في الآية قرائتين : النصب والجر فتحمل قراءة النصب على الغسل إذ كانتا ظاهرتين ـ وتحمل قراءة الجر على المسح إذا كانتا في الخفين ، فتكون الآية باختلاف القرائتين دالة على الأمرين.

وثانيا : بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه توضأ فغسل وجهه وذراعيه ومسح برأسه وغسل رجليه وقال : هذا ـ

٢٢٢

نعود فيها» أي يكون ذلك العود جائزا ، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه

__________________

ـ وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به. فكان هذا الخبر مانعا من قبول الصلاة بالمسح على الخفين لأنه ليس مثل وضوئه.

والجواب عنه هو أنه محمول على أول الإسلام قبل الرخصة في المسح على الخفين. على أنه قال ذلك وهو ظاهر القدمين.

ومن كان ظاهر القدمين لم يجزه المسح على الخفين.

وثالثا : بما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سأل أبا مسعود البدري عن المسح على الخفين فقال أبو مسعود رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عليهما ـ فقال له علي : أكان ذلك قبل سورة المائدة أو بعدها فسكت أبو مسعود. قالوا : ـ فكان علي يرى ذلك منسوخا بسورة المائدة.

والجواب عنه من وجوه :

الأول : أن الرواية الثانية عن علي بالمسح على الخفين تمنع صحة هذا الحديث فقد روي في صحيح مسلم وغيره عن شريح بن هانىء قال : سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت سل عليا فإنه أعلم بهذا مني كان يسافر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فسألته فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة.

والثاني : أنه إنما سأله استخبارا عن زمان المسح لا إنكارا له.

والثالث : أنه إنما سأله ليظهر في الناس قلة ضبطه وضعف حزمه وسوء فهمه لأن أبا مسعود كان ممن توقف عن بيعته.

ورابعا : بما روي عن عائشة أنها أنكرت المسح على الخفين وقالت لأن تقطع رجلاي بالموسى أحب إليّ من المسح على الخفين ـ والجواب عنه من وجهين.

أحدهما : أنها لم تنكر المسح على الخفين وإنما كرهت بذلك السفر المحوج إلى المسح عليهما وقالت : لأن تقطع رجلاي فلا أسافر أحب إليّ من السفر الذي أمسح فيه على الخفين.

وثانيهما : أن إنكارها مع ثبوت السنة به واشتهارها وعمل الصحابة بها مدفوع ليس فيه دليل.

وخامسا : بما قد روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه رأى سعد بن أبي وقاص يمسح على خفيه فأنكر عليه. والجواب عنه أن سعدا قال لابن عمر حين أنكر عليه : سل أباك. فسأله فقال له أصاب السنة.

وسادسا : بما قد روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنه قال لم يختلف أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة أشياء أحدها أن لا يقولوا في أبي بكر وعمر إلا خيرا ـ والثاني ألا يمسحوا على الخفين ـ والثالث أن يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم. والجواب عنه أن جابرا ضعيف ومتروك الحديث وقد مسح علي وابن عباس وهما من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه روي عنه أنه قال ـ وأن تمسحوا على الخفين ، فروي عنهم (أي عن أهل بيت رسول الله) جوازه فتكون هذه الرواية هي الصحيحة عنه لموافقتها السنة الصحيحة والإجماع على جواز المسح عليهما.

وسابعا : ـ قالوا : ولأنكم أنكرتم المسح على الرجلين وذلك أقرب إلى تطهيرهما من المسح على الخفين فكيف وأنتم تنكرون ما هو أيسر وأقرب تستجيزون ارتكاب ما هو أعظم وأبعد. والجواب عنه : هو أنه اعتراض على السنة في الموضعين. ومنتقض بالمسح على الجبائر فإنه يجوز باتفاق.

وثامنا : قالوا : ولأنه لما امتنع من أراد الوضوء من سائر الأعضاء أي باقيها أن يمسح على حائل دونها امتنع مثله في الرجلين فلا يجوز له أن يمسح على حائل دونهما ، والجواب عنه هو أن السنة استثنت الرجلين في جواز الانتقال من غسلهما إلى المسح على الخفين دون سائر الأعضاء ولا يقاس مخصوص على منصوص. ـ

٢٢٣

تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله ، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر ، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر ، فكان التقدير إلّا أن يأمر الله [بعودنا في ملتكم

__________________

ـ وتاسعا : قالوا : ولأن غسل الرجلين قد يجب في غسل الجنابة كوجوبه في الوضوء فلما لم يجز في الجنابة أن يعدل إلى مسح الخفين بدلا من غسلهما كذلك في الوضوء.

والجواب عنه : أن السنة قد بينت الفرق بينهما وهو أن غسل ما جاوز القدمين (مما استتر في ساق الخف) لما وجب عليه في الجنابة ولم يمكن غسله في الخفين وجب خلعهما ليتمكن من غسله وإذا خلعهما ظهرت الرجلان فلم يجز المسح على الخفين مع ظهورهما في غسل الجنابة ووجب غسلهما مع جميع البدن. وإذا بطل ما تمسك به المخالفون لم يبق لهم شبهة فيها روح وثبت جواز المسح على الخفين في الوضوء بدلا عن غسل الرجلين.

قد علم مما بينا أن المسح على الخفين في الوضوء بدلا عن غسل الرجلين جائز. والمراد بالجواز هنا أنه لا يمتنع شرعا فعله ولا يجب ترك الغسل إليه وليس المراد منه ما يتبادر منه عند الإطلاق الذي هو استواء الطرفين «وهما المسح على الخفين وتركه بغسل الرجلين» حتى يكون مباحا بل هو خلاف الأولى فحكمه الأصلي من حيث العدول عن غسل الرجلين أنه خلاف الأولى فيكون غسل الرجلين أفضل منه ووافقنا على ذلك أبو حنيفة ومالك. وبه قال عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما فيما رواه ابن المنذر عنهما. وأبو أيوب الأنصاري فيما رواه البيهقي عنه. وقال الشعبي والحكم وحماد المسح أفضل وهو أصح الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى عنه أن الغسل والمسح سواء. وقال ابن المنذر والذي أختاره أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض ، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه ا ه.

وما ذهبنا إليه هو المختار. ويدل لنا أولا : أن غسل الرجلين هو الأصل فكان أفضل كالوضوء مع التيمم في موضع يجوز له فيه التيمم كما إذا وجد في السفر ماء يباع بأكثر من ثمن المثل فله التيمم حينئذ لكن لو اشتراه والحالة هذه وتوضأ كان الوضوء أفضل.

وثانيا : أن غسل الرجلين هو الذي واظب عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معظم الأوقات : وتمسك من قال بأن المسح أفضل أولا :

بحديث المغيرة رضي الله عنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسح على الخفين فقلت : يا رسول الله نسيت فقال : بل أنت نسيت. بهذا أمرني ربي ، رواه أبو داود.

وثانيا : بحديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ينزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة. الحديث. والأمر فيهما إذا لم يكن للوجوب كان للندب. والجواب عنهما أن الأمر فيهما للإباحة والترخيص لما ذكرنا. ولأن حديث صفوان ورد في رواية النافي بلفظ : أرخص لنا. وحديث المغيرة فيه تأويل آخر وهو أن قوله : بهذا أمرني ربي. معناه «ببيان هذا أمرني ربي» فلا حجة فيه.

وثالثا : ما تقدم عن ابن المنذر أن أهل البدع من الخوارج والروافض قد طعنوا فيه «من غير دليل يصلح متمسكا لهم» وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه والجواب عنه أن الكلام مفروض في المسح من حيث حكمه الأصلي بقطع النظر عما يعرض له من الأحوال التي تكسبه حكما آخر.

وأما بالنظر إلى ما يعرض له فسنبين أنه قد يكون واجبا فضلا عن أن يكون أفضل. وما ذكرتم من وجهة نظركم في كونه أفضل سنوضح أنه والحالة هذه يكون مندوبا لكن هذا الوجوب وذلك الندب حكمان عارضان له كما سيأتي وكلامنا في حكمه الأصلي.

٢٢٤

فإنا نعود إليها ، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله](١) بالعمل بها مرة أخرى ، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم (٢).

وسادسها : قال الجبائي (٣) : المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما ، فقال شعيب : «وما كان لنا أن نعود في ملتكم» فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه ، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقيا غير منسوخ ، لا جرم قال : «إلا أن يشاء الله» والمعنى : إلا أن يشاء الله بقاء بعضها ، فيدلّنا عليه ، فحينئذ نعود إليها ، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها ، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة ، فهذه أسئلة القوم (٤).

وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين (٥) :

الأول : أن ظاهر قوله «وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله» يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها ، وذلك يقتضي أن كلّ ما شاء الله وجوده كان فعله جائزا مأذونا فيه ، ولم يكن حراما ، قالوا : وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسنا مأذونا فيه ، وما كان حراما ممنوعا منه لم يكن مرادا لله تعالى.

الثاني : أن قولهم : «لنخرجنّك أو لتعودنّ» لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم ، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضا بخلقه ، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله ، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة.

واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب.

قوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) نصب «علما» على التمييز وهو منقول من الفاعلية ، تقديره : وسع علم ربّنا كلّ شيء كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٢٤] والمعنى : أحاط علمه بكل شيء.

ثم قال : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فيما توعدوننا به ، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ).

قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : «احكم واقض» (٦).

وقال الفراء : «وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح ؛ لأنه يفتح مواضع الحقّ».

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٦.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٦.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٤٦.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٤ ـ ٥) عن ابن عباس والحسن وقتادة. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩١) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٢٥

وعن ابن عباس قال : «ما كنت أدري قوله «ربنا افتح بيننا وبين قومنا» حتّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : أفاتحك أي : أحاكمك» (١) ، وقد تقدّم أن الفتح الحكم بلغة حمير.

وقيل : بلغة مراد وأنشد : [الوافر]

٢٥٢٤ ـ ألا أبلغ بني عصم رسولا

بأنّي عن فتاحتكم غنيّ (٢)

قال الزجاج : وجائز أن يكون قوله : «افتح بيننا وبين قومنا بالحق» أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذابا يدلّ على كونهم مبطلين ، وعلى كون شعيب وقومه محقين ، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين ، وكرر «بيننا وبين قومنا» بخلاف قوله : (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) [الأعراف : ٨٧] زيادة في تأكيد تمييزه ، ومن تبعه من قومه ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [أي : خير الحاكمين أو خير المظهرين ، وذا معنى قول من على المعنيين](٣) ، والمراد به الثناء على الله تعالى.

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ)(٩٠)

لمّا بيّن عظيم (٤) ضلالهم بتكذيب شعيب بيّن أنهم لم يقتصروا على التكذيب حتى أضلّوا غيرهم ولاموهم على متابعة شعيب بقولهم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) «إذن» حرف جواب وجزاء ، وقد تقدّم الكلام عليها

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٩١) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن الأنباري في «الوقف والابتداء» والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) البيت ينظر : أمالي القالي ٢ / ٢٨١ ومجاز القرآن ١ / ٢٢٠ ، والبحر ٤ / ٣٤٤ والصحاح (رسل) ، واللسان (رسل) ، و «فتح» ، والتاج (فتح) ، إصلاح المنطق ١١٢. الدر المصون ٣ / ٣٠٤ ، والطبري ٩ / ٣ والقرطبي ١٣ / ٩٤ ، والسمط ٩٢٧ وفي عزو البيت اختلاف ، قال الميمني في السمط ما حرفه : «البيت رواه يعقوب في الإصلاح ١ / ١٨٨ غير معزوّ ، وروايته : «بني عمرو» ، وكذا في اللسان (فتح) منسوبا للأسعر الجعفي ، وفي زيادات الجمهرة ٢ / ٤ برواية «بني بكر بن عبد» منسوبا لأعشى قيس (ولم يرو له) ... ولكن ليس ثمة أحد من العشو في كندة ؛ ف «الأعشى» فيه مصحف «الأسعر» ، وهو من جعفي بطن من كندة ، وقال أبو محمد بن السيرافي (وعنه اللسان مادة قتا) : وجدت هذا البيت للشويعر الجعفي ؛ على خلاف ما رواه يعقوب ، ثم وجدت لمحمد بن حمران أبي حمران في الحماسة الصغرى لأبي تمام ص ٤٦ :

أبلغ بني حمران أن

ني عن عداوتكم غنيّ

بتقييد القافية في تسعة أبيات (السمط ٩٢٨) ، والجعفي هو مرثد بن حمران الجعفي ، يكنى أبا حمران (ولعل محمد بن حمران مصحف مرثد ..) وهو جاهلي ، راجع ترجمته في المؤتلف ٤٧ ، والسمط ٩٤».

(٣) سقط من أ.

(٤) في أ : عظم.

٢٢٦

مشبعا](١) وهي هنا معترضة بين الاسم والخبر ، وقد توهّم بعضهم فجعل «إذن» هذه «إذا» الظرفية في الاستقبال نحو [قولك](٢) : «ألزمك إذا جئتني» أي وقت مجيئك.

قال : «ثم حذفت الجملة المضافة هي إليها ، والأصل : إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون ، ف «إذا» ظرف والعامل فيه «لخاسرون» ، ثم حذفت الجملة المضافة إليها وهي «اتبعتموه» ، وعوّض منها التنوين ، فلما جيء بالتنوين وهو ساكن التقى بمجيئه ساكنان ، هو والألف قبله ، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ، فبقي اللفظ «إذن» كما ترى».

وزعم هذا القائل أن ذلك جائز بالحمل على «إذا» التي للمضيّ في قولهم : «حينئذ» و «يومئذ» فكما أن التنوين هنا عوض عن جملة عند الجمهور كذلك هنا.

وردّ أبو حيان هذا بأنه لم يثبت هذا الحكم ل «إذا» الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه.

قال شهاب الدين (٣) : وهذا ليس بلازم إذ لذلك القائل أن يقول : قد وجدت موضعا غير هذا وهو قوله تعالى : (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) [يوسف : ٧٩].

وقد رأيت كلام القرافي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص الرّطب إذا جفّ؟ فقالوا : نعم. فقال : فلا إذن : أن «إذن» هذه هي «إذا» الظرفية ، قال : كالتي في قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الزلزلة : ١] فحذفت الجملة ، وذكره إلى آخره.

وكنت لمّا رأيته تعجبت غاية العجب كيف يصدر هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يسمّه ، فذهب تعجبي منه ، فإن لم يكن ذلك القائل القرافيّ فقد صار له في هذه المسألة سلف ، وإلّا فقد اتحد الأصل ، والظاهر أنه غيره.

وقوله : «إنكم» هو جواب والقسم الموطّأ له باللّام.

وقال الزمخشري (٤) : فإن قلت : ما جواب القسم الذي وطّأته اللام في قوله : «لئن اتبعتم شعيبا» وجواب الشرط؟.

قلت : قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) سادّ مسد الجوابين.

قال أبو حيان (٥) : «فالذي قاله النحويون : إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك وجب مضيّ فعل الشرط فإن عنى بأنه سادّ مسدّهما أنه اجتزىء بذكره عن ذكر جواب الشرط فهو قريب ، وإن عنى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم ، لأن الجملة يمتنع ألا يكون لها محل من الإعراب وأن يكون لها محلّ من الإعراب».

وهذه المسألة قد تقدّمت مرارا واعتراض الشيخ عليه ، وتقدّم جوابه ويعني الشيخ بقوله : لأنّ الجملة يمتنع أن يكون لها محلّ من الإعراب إلى آخره ؛ لأنها من حيث كونها

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٠٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٤٧.

٢٢٧

جوابا للشرط تستدعي ألا يكون لها محل إذ الجملة [الابتدائية](١) لا محل لها.

فصل في معنى الخسران

قوله : «لخاسرون» أي في الدين ، وقال بعضهم : «في الدنيا أي مغبونون».

وقال عطاء : «جاهدون».

وقال الضحاك : «عجزة» (٢).

قوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ)(٩١)

قال الكلبي : «الزلزلة الشديدة المهلكة» (٣).

وقال ابن عباس وغيره : فتح الله عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرّا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرّا من الظاهر فخرجوا هربا إلى البرية ، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم ، فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ، فألهبها الله عليهم نارا ، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا (٤).

وروي أن الله حبس عنهم الريح سبعة أيّام ثم سلط عليهم الحرّ ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل ، فإذا تحته أنهار وعيون ، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم ، فذلك قوله : (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ).

[قال قتادة : بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين ، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة](٥) ، وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم [الصيحة] صاح بهم جبريل ـ عليه‌السلام ـ صيحة فهلكوا بالظلة جميعا (٦).

قال أبو عبد الله البجليّ : كان أبجد وهوّز وحطّي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك «مدين» ، وكان ملكهم في زمن شعيب يوم الظّلّة «كلمن» ، فلما هلك ، قالت ابنته تبكيه : [الرمل]

٢٥٢٥ ـ كلمن هدّم ركني

هلكه وسط المحلّه

سيّد القوم أتاه ال

حتف نار تحت ظلّه

جعلت نارا عليهم

دارهم كالمضمحلّه (٧)

وقد تقدم الكلام على قوله : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ)(٨).

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٨٢.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٨٢.

(٧) ينظر : الطبري ٦ / ٦ ، وروح المعاني ٩ / ٦ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٣٠.

(٨) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٨٢.

٢٢٨

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) (٩٢)

قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده.

قال الزمخشري (١) : «وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص ، كأنه قيل : الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في دارهم ؛ لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله تعالى».

قال شهاب الدين (٢) : «قوله : «يفيد الاختصاص» هو معنى قول الأصوليين : «يفيد الحصر» على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت : زيد العالم ، والخلاف في قولك : العالم زيد أشهر منه فيما تقدّم فيه المبتدأ».

الثاني : أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره ، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملة من قوله: (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) في محل رفع خبرا له ، وهو وخبره خبر الأول ، و «كأن لم يغنوا» : إمّا اعتراض ، وإمّا حال من فاعل «كذّبوا».

الثالث : أن يكون الموصول الثاني خبرا بعد خبر عن الموصول الأول ، والخبر الأول الجملة التشبيهية.

الرابع : أن يكون الموصول الثاني بدلا من قوله : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [الأعراف : ٩٠] فكأنه قال : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) منهم (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) وقوله : «(لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) معمول للقول فليس بأجنبي.

الخامس : أنه صفة له ، أي : للذين كفروا من قومه.

هذه عبارة أبي البقاء (٣) ، وتابعه أبو حيان (٤) عليها ، والأحسن أن يقال : بدل من الملأ أو نعت له ؛ لأنه هو المحدّث عنه والموصول صفة له ، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل «كذّبوا».

وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبرا باعتبارين : أعني كونه أول أو ثانيا ، ويجوز أن يكون بدلا من فاعل «يغنوا» أو منصوبا بإضمار «أعني» أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها. وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري (٥) أيضا أن الابتداء يفيد الاختصاص قال : «أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه ، وقد تقدّم موضحا».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨٠.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٤٨.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣١.

٢٢٩

قوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) يغنون : بمعنى يقيمون يقال : غني بالمكان يغنى فيه أي : أقام دهرا طويلا ، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى ، وقيّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد ، فهو أخصّ من مطلق الإقامة ؛ قال الأسود بن يعفر : [الكامل]

٢٥٢٦ ـ ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد (١)

وقيل : معنى الآية هنا من الغنى الذي هو ضد الفقر ، قاله الزجاج (٢) وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية (٣) ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٢٥٢٧ ـ غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى

[كما الدّهر في أيّامه العسر واليسر]

كسبنا صروف الدّهر لينا وغلظة

وكلّا سقاناه بكأسهما الدّهر (٤)

قالوا : معناه استغنينا ورضينا ، فمعنى (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) كأن لم يعيشوا فيها مستغنين.

قال ابن الخطيب (٥) : فعلى هذا التفسير شبّه الله ـ تعالى ـ حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر : [الطويل]

٢٥٢٨ ـ كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا

صروف اللّيالي والحدود العواثر (٦)

وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال : «وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره».

قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) كرر قوله : «الذين كذبوا شعيبا» تعظيما لذمهم وتعظيما لما يستحقون من الجزاء ، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم ، فيقول الرجل لغيره : «أخوك الذي ظلمنا ، أخوك الذي أخذ أموالنا ، أخوك الذي هتك أعراضنا» ، ولمّا قال القوم : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) بيّن الله ـ تعالى ـ أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون ، وقد تقدم الكلام على قوله : «فتولّى عنهم» في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله.

قال الكلبي : «لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم».

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٤ / ١٤٨ ، والدر المصون ٣ / ٣٠٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٩٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣٠.

(٤) ينظر : القرطبي ٧ / ١٦١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٣٠ ، وروح المعاني ٥ / ٦. واللسان (صعلك).

(٥) ينظر : الرازي ١٤ / ١٤٨.

(٦) البيتان لعمرو بن الحارث بن مضاص أو للحارث الجرهمي. ينظر لسان العرب (حجن) ، ومعجم البلدان ٢ / ٢٦٠ ، والفخر الرازي ١٤ / ١٤٨ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤٣٠.

٢٣٠

فصل في الدلالة من الآية

دلّت الآية على أشياء : منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة ، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار.

[ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي](١).

ومنها : أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب ـ عليه‌السلام ـ ؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات.

قوله تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)(٩٤)

قوله : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) «كيف» هنا مثل «كيف» في : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) [البقرة : ٢٨] وتقدم الكلام على «آسى» وبابه (٢).

وقرأ ابن وثاب (٣) وابن مصرّف والأعمش : «إيسى» بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعة ، وتقدم أنها لغة بني أخيل في «الفاتحة» ، ولزم من ذلك قلب الفاء بعدها ياء ؛ لأن الأصل أأسى بهمزتين.

والأسى : شدة الحزن قال العجّاج : [الرجز]

٢٥٢٩ ـ وانحلبت عيناه من فرط الأسى (٤)

والأسى : الصبر.

وفي المعنى قولان :

الأول : أنه اشتد حزنه على قومه ، لأنهم كانوا كثيرين ، وكان يتوقع منهم الإيمان ، فلمّا نزل بهم الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة حزن ، ثم عزى نفسه وقال : «كيف آسى على قوم كافرين» ، لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصرارهم على الكفر.

الثاني : أنّ المعنى : لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنّصيحة والتّحذير مما حلّ

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : تفسير الآية (٢٦) من سورة المائدة.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٣١ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٤٩ ، والدر المصون ٣ / ٣٠٧.

(٤) ينظر : الرازي ١٤ / ١٤٩.

٢٣١

بكم ؛ فلم تسمعوا قولي ، ولم تقبلوا نصيحتي «فكيف آسى عليكم» ، بمعنى أنّكم لستم مستحقّين بأن آسى عليكم.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) الآية.

لمّا عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء ، وما جرى على أممهم كان من الجائز أن يظنّ أنّه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال إلّا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط ؛ فبيّن في هذه الآية أنّ هذا الهلاك قد فعله بغيرهم ، وبيّن العلّة الّتي فعل بها ذلك فقال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) ، وفيه حذف وإضمار وتقديره : «من نبيّ فكذّبوه ، أو فكذبه أهلها». وذكر القرية ؛ لأنّها مجتمع القوم ، ويدخل تحت هذه اللّفظة المدينة ؛ لأنّها مجتمع الأقوام.

قوله : «إلّا أخذنا» هذا استثناء مفرّغ ، و «أخذنا» في محلّ نصب [على الحال](١) والتّقدير : وما أرسلنا إلّا آخذين أهلها ، والفعل الماضي لا يقع بعد «إلّا» إلّا بأحد شرطين : إمّا تقدّم فعل كهذه الآية ، وإمّا أن يصحب «قد» نحو : ما زيد إلّا قد قام ، فلو فقد الشّرطان امتنع فلا يجوز : ما زيد إلّا قام.

قوله : «بالبأساء والضّرّاء».

قال الزّجّاج : «البأساء : كلّ ما ينالهم من الشّدّة في أحوالهم ، والضراء : ما ينالهم من الأمراض» (٢).

وقيل : «على العكس».

وقال ابن مسعود : «البأساء : الفقر ، والضّرّاء : المرض» (٣).

وقيل : «البأساء في المال ، والضّرّاء في النّفس» (٤).

وقيل : «البأساء : البؤس ، وضيق العيش ، والضّرّاء : الضرّ وسوء الحال» (٥).

وقيل : «البأساء : في الحزن والضّرّاء : في الجدب» (٦).

«لعلّهم يضّرّعون» لكي يتضرّعوا ؛ فيتوبوا.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩٥)

بين تعالى أنّ تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد وإنّما يدبّرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ؛) لأنّ ورود النّعمة [في

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٠.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٨٣.

(٤) المصدر السابق.

(٥) المصدر السابق.

(٦) المصدر السابق.

٢٣٢

البدن والمال] بعد البأساء والضّرّاء يدعو إلى الانقياد ، والاشتغال بالشّكر.

وفي «مكان» وجهان :

أظهرهما : أنّه مفعول به لا ظرف ، والمعنى : بدّلنا مكان الحال السّيّئة [الحال الحسنة](١) ، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة ومكان السيّئة هو المتروك الذّاهب ، وهو الذي تصحبه «الباء» في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدّلت زيدا بعمرو ، فزيد هو المأخوذ ، وعمرو المتروك ، وقد تقدّم تحقيق هذا في البقرة في موضعين :

أولهما : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ٥٩].

والثاني : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) [البقرة : ٢١١].

ف «مكان» و «الحسنة» مفعولان إلّا أن أحدهما وصل إليه الفعل بنفسه [وهو «الحسنة»](٢) ، والآخر بحذف حرف الجرّ وهو «مكان».

والثاني : أنّه منصوب على الظّرف ، والتّقدير : «ثمّ بدّلنا [في] مكان السّيّئة الحسنة» إلا أنّ هذا ينبغي أن يردّ ؛ لأن «بدّل» لا بدّ له من مفعولين أحدهما على إسقاط الباء.

والمراد بالحسنة والسيّئة هاهنا : الشّدّة والرّخاء.

قال أهل اللّغة : «السّيّئة : كلّ ما يسوء صاحبه ، والحسنة : كل ما استحسنه الطّبع والعقل».

قوله : «حتّى عفوا» «حتّى» هنا غائية ، وتقدير من قدّرها ب «إلى» فإنّما يريد تفسير المعنى لا الإعراب ؛ لأن حتّى الجارّة لا تباشر إلّا المضارع المنصوب بإضمار «أن» ؛ لأنها في التّقدير داخلة على المصدر المنسبك منها ، ومن الفعل ، [وأمّا الماضي] فلا يطّرد حذف «أن» معه ، فلا يقدّر معه أنّها حرف جرّ داخلة على أن المصدريّة ، أي : حتّى أن عفوا ، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاء : «حتّى عفوا أي : إلى أن عفوا».

ومعنى «عفوا» هنا كثروا من عفا الشعر إذا كثر ، ومنه : «وأعفوا اللّحى» (٣) يقال : عفاه ، وأعفاه ثلاثيا ورباعيّا ؛ قال زهير : [الوافر]

٢٥٣٠ ـ أذلك أم أقبّ البطن جأب

عليه من عقيقته عفاء (٤)

وفي الحديث : «إذا عفا الوبر وبرأ الدّبر فقد حلّت العمرة لمن اعتمر» ؛ وأنشد الزّمخشريّ على ذلك قول الحطيئة : [الطويل]

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) سقط من أ.

(٣) أخرج البخاري (١٠ / ٣٥١) كتاب اللباس : باب إعفاء اللحى حديث (٥٨٩٣) ومسلم (١ / ٢٢٢) كتاب الطهارة : باب خصال الفطرة حديث (٥٢ / ٢٥٩) من حديث ابن عمر.

(٤) البيت ينظر : ديوانه ٦٥ وشرح الديوان لثعلب ٥٩ ، واللسان (عفا) ، الدر المصون ٣ / ٣٠٧ ويروى صدره :

«أذلك أم شتيم الوجه جأب»

٢٣٣

٢٥٣١ ـ بمستأسد القربان عاف نباته

 .......... (١)

وقول لبيد : [الوافر]

٢٥٣٢ ـ ولكنّا نعضّ السّيف منها

بأسوق عافيات الشّحم كوم (٢)

وتقدّم تحقيق هذه المادّة في البقرة (٣).

فصل في المراد من الآية

ومعنى الآية أنّ الله ـ تعالى ـ أبدلهم مكان الباساء والضرّاء الحسنة ، وهي النّعمة والسّعة والخصب والصّحّة.

«حتى عفوا» كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، وقالوا من غرتهم وغفلتهم : «قد مسّ أبانا الضّرّاء والسّرّاء» ، أي : هكذا كانت عادة الدّهر قديما لنا ولآبائنا ، ولم يكن ذلك عقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم ، فإنّهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضّرّاء.

قوله : «فأخذناهم».

قال أبو البقاء (٤) : «هو عطف على «عفوا». يريد : وما عطف عليه أيضا ، أعني أنّ الأخذ ليس متسببا عن العفاء فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المقالة الجاهليّة ؛ لأنّ المعنى ليس أنّه لمجرّد كثرتهم ، ونموّ أموالهم أخذهم بغتة بل بمجموع الأمرين ، بل الظّاهر أنّه بقولهم ذلك فقط.

و «بغتة» إمّا حالا أو مصدرا ، والبغتة الفجاءة ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال أيضا وهي في قوّة المؤكّدة ؛ لأنّ «بغتة» تفيد إفادتها ، سواء أعربنا «بغتة» حالا أم مصدرا.

واعلم أنّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصّة.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(٩٨)

لمّا بيّن أنّ الذين عصوا وتمرّدوا ؛ أخذهم بغتة بيّن في هذه الآية أنّهم لو أطاعوا فتح عليهم أبواب الخيرات ، وقد تقدّم أنّ ابن عامر يقرأ : «لفتّحنا» بالتّشديد ووافقه هنا عيسى بن عمر الثّقفيّ ، وأبو عبد الرّحمن السّلميّ.

__________________

(١) البيت ينظر : ديوانه ١٨٦ ، اللسان (عطل) (عفا) ، الدر المصون ٣ / ٣٠٨.

(٢) البيت ينظر : ديوانه (١٩) ، الدر المصون ٣ / ٣٠٨.

(٣) ينظر : تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٨٠.

٢٣٤

وأصل البركة المواظبة على الشّيء ، أي تابعنا عليهم المطر والمراد ب «بركات السّماء» المطر ، وب «بركات الأرض» النّبات والثّمار وكثرة المواشي والأمن والسّلامة ، وذلك لأنّ السّماء تجري مجرى الأب ، والأرض تجري مجرى الأم ، ومنهما يحصل المنافع ، والخيرات بخلق الله تعالى تدبيره.

ثم قال : (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ) بالجدب والقحط (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والمعصية ، ثمّ إنّه تعالى أعاد التّهديد بعذاب الاستئصال فقال : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) يعني «مكّة» وما حولها (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي : العذاب ، وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، خوّفهم الله ـ تعالى ـ بنزول العذاب عليهم في وقت غفلتهم ، وهو حال النّوم باللّيل ، وحال الضّحى بالنّهار ؛ لأنّه وقت اشتغال المرء باللّذّات.

وقوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يحتمل التّشاغل بأمور الدّنيا فهي لعب ولهو ، ويحتمل في كفرهم ؛ لأنّه كاللّعب في أنّه يضرّ ولا ينفع.

قوله : «أفأمن».

قال الزّمخشريّ (١) : «فإن قلت : ما المعطوف عليه ، ولم عطفت الأولى بالفاء والثّانية بالواو؟.

قلت : المعطوف عليه قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) ، [وقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) إلى : «يكسبون» وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه وإنّما عطفت بالفاء ؛ لأنّ المعنى : «فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك](٢) أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى».

قال أبو حيّان (٣) : وهذا الّذي ذكره رجوع عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة ، وذلك أنّ مذهبه في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف ، ومذهب الجماعة أنّ حرف العطف في نيّة التقدّم ، وإنّما تأخّر وتقدّمت عليه همزة الاستفهام لقوّة تصدّرها في أوّل الكلام». وقد تقدّم تحقيقه ، والزّمخشريّ هنا لم يقدّر بينهما معطوفا عليه ، بل جعل ما بعد الفاء معطوفا على ما قبلها من الجمل ، وهو قوله : «فأخذناهم بغتة».

قوله : «بياتا» تقدّم أوّل السّورة (٤) أنّه يجوز أن يكون حالا ، وأن يكون ظرفا.

وقوله : (وَهُمْ نائِمُونَ) جملة حاليّة ، والظّاهر أنّها حال من الضّمير المستتر في «بياتا» ؛ لأنّه يتحمّل ضميرا لوقوعه حالا ، فيكون الحالان متداخلين.

قوله : «ضحى» منصوب على الظّرف الزّمانيّ ، ويكون متصرفا وغير متصرّف ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٤.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٠.

(٤) ينظر تفسير الآيتين (٤ ، ٤٠) من هذه السورة.

٢٣٥

[فالمتصرّف] ما لم يرد به وقته من يوم بعينه نحو : «ضحاك ضحّى مبارك».

فإن قلت : «أتيتك يوم الجمعة ضحى» فهذا لا يتصرّف ، بل يلزم النّصب على الظّرفية ، وهذه العبارة أحسن من عبارة أبي حيّان حيث قال : «ظرف متصرّف إذا كان نكرة ، وغير متصرّف إذا كان من يوم بعينه» ؛ لأنّه توهّم [متى] كان معرفة بأي نوع كان من أنواع التّعريف فإنّه لا يتصرّف ، وليس الأمر كذلك قال تعالى : (وَالضُّحى) [الضحى : ١] فاستعمله مجرورا بالقسم مع أنه معرف بأل ، وقال تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] جرّه بحرف القسم أيضا مع أنّه معرّف بالإضافة ، وهو امتداد الشّمس وامتداد النّهار.

ويقال : ضحى ، وضحاء ، إذا ضممت قصرت ، وإذا فتحت مددت.

وقال بعضهم : الضّحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس والضّحاء بالفتح والمدّ لقوّة ارتفاعها قبل الزّوال.

والضّحى مؤنّث ، وشذّوا في تصغيره على «ضحيّ» بدون تاء كعريب وأخواتها ، والضّحاء (١) أيضا طعام الضّحى كالغداء طعام وقت الغدوة يقال منهما : تضحّى ضحاء وتغدّى غداء. وضحي يضحى إذا برز للشّمس وقت الضّحى ، ثم عبّر به عن إصابة الشّمس مطلقا ، ومنه قوله : (وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] [أي](٢) : لا تبرز للشمس.

ويقال : ليلة أضحيانة بضمّ الهمزة ، وضحياء بالمدّ أي : مضيئة إضاءة الضّحى ، والأضحية وجمعها : أضاح ، والضّحيّة وجمعها ضحايا ، والأضحاة وجمعها أضحى هي المذبوح يوم النّحر ، سمّيت بذلك لذبحها ذلك الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام : «من ذبح قبل صلاتنا هذه فليعد» (٣).

وضواحي الشّيء نواحيه البارزة.

قوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حال ، وهذا يقوّي أنّ «بياتا» ظرف لا حال ، لتتطابق الجملتان فيصير في كلّ منهما وقت وحال ، وأتى [بالحال] الأولى متضمّنة لاسم فاعل ؛ لأنّه يدلّ على ثبات واستقرار وهو مناسب للنّوم ، وبالثّانية متضمّنة لفعل ؛ لأنّه يدلّ على التجدّد والحدوث وهو مناسب للّعب والهزل.

قال النّحّاس : «وفي الصّحاح (٤) : اللّعب معروف ، واللّعب مثله ، وقد لعب يلعب ، ويلعب مرة بعد أخرى ، ورجل تلعابة : كثير اللّعب والتّلعاب بالفتح المصدر ، وجارته لعوب».

__________________

(١) في أ : والضحى.

(٢) سقط من أ.

(٣) متفق عليه من رواية جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي رضي الله عنه ، أخرجه البخاري في الصحيح ٩ / ٦٣٠ كتاب الذبائح والصيد (٧٢) باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ : «من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله تعالى» الحديث (٥٥٠٠) وأخرجه مسلم في الصحيح ٣ / ١٥٥١ كتاب الأضاحي ، باب وقتها الحديث (١ / ١٩٦٠).

(٤) ينظر : الصحاح ١ / ٢١٩.

٢٣٦

وقرأ نافع وابن عامر (١) وابن كثير «أو» بسكون الواو والباقون بفتحها ، ففي القراءة الأولى تكون «أو» بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم.

قال ابن الخطيب (٢) : تستعمل على ضربين :

أحدهما : أن تكون بمعنى أحد الشّيئين كقوله : زيد أو عمرو جاءك ، والمعنى : أحدهما جاء.

والثاني : أن تكون للإضراب عمّا قبلها كقولك : «أنا أخرج» ثم تقول : «أو أقيم» أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة ، كأنك قلت : لا بل أقيم ، فوجه هذه القراءة أنّه جعل «أو» للإضراب ، لا على أنّه أبطل الأوّل.

وزعم بعضهم أنّها للإباحة والتّخيير ، وليس بظاهر.

وفي القراءة الثّانية هي واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام مقدّمة عليها لفظا ، وإن كانت بعدها تقديرا عند الجمهور.

وقد عرف مذهب الزّمخشريّ في ذلك ، ومعنى الاستفهام هنا : التّوبيخ ، والتّقريع.

وقال أبو شامة وغيره : «إنّه بمعنى النّفي».

وكرّرت الجملة في قوله تعالى : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ) : (أَفَأَمِنُوا) توكيدا لذلك ، وأتي في الجملة الثّانية بالاسم ظاهرا ، وحقّه أن يضمر مبالغة في التّوكيد.

قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٩٩)

ومعنى (مَكْرَ اللهِ) أي إضافة المخلوق إلى الخالق كقولهم : ناقة الله ، وبيت الله ، والمراد به فعل يعاقب به الكفرة ، وأضيف إلى الله لمّا كان عقوبة الذّنب ، فإنّ العرب تسمّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذّنب الذي وقعت عليه العقوبة.

قال ابن عطيّة : «وهو تأويل حسن».

وقال البغويّ (٣) : «مكر الله : استدراجه إيّاهم بما أنعم عليهم في دنياهم».

وقد تقدّم في آل عمران في قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [الآية : ٥٤] أنّه من باب المقابلة أيضا.

و «الفاء» في قوله : (فَلا يَأْمَنُ) للتّنبيه على أنّ العذاب يعقب أمن مكر الله.

قال ابن الخطيب (٤) : «وقوله : «مَكْرَ اللهِ» المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٧ ، والحجة للقراء السبعة ٤ / ٥٢ ، وإعراب القراءات ١ / ١٩٦ ، وحجة القراءات ٢٨٩ ، والعنوان ٩٦ ، وشرح شعلة ٣٩٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٥.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥١.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ١٨٤.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥١.

٢٣٧

يشعرون ، قاله على وجه التّحذير ، وسمى هذا العذاب مكرا توسّعا ؛ لأنّ الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر».

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ) يريد كبراء مكّة.

قرأ الجمهور : «يهد» بالياء من تحت ، وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنّه المصدر المؤوّل من «أن» وما في حيّزها ، والمفعول محذوف ، والتقدير : أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم ، وإصابتنا إيّاهم بذنوبهم لو شئنا ذلك ، فقد سبكنا المصدر من «أن» ومن جواب لو.

والثاني : أنّ الفاعل هو ضمير الله تعالى ، أي : أو لم يبيّن الله ويؤيّده قراءة (١) من قرأ «نهد» بالنون.

الثالث : أنّه ضمير عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، أي : أو لم يهد ما جرى للأمم السّالفة كقولهم : إذا كان غدا فأتني أي : إذا كان ما بيني وبينك مما دلّ عليه السّياق.

وعلى هذين الوجهين ، ف «أن» وما في حيّزها بتأويل مصدر كما تقدّم في محلّ المفعول والتّقدير : أو لم يبين ويوضّح الله أو ما جرى للأمم إصابتنا إيّاهم بذنوبهم أي : بعقاب ذنوبهم لو شئنا ذلك.

وقرأ مجاهد وقتادة ويعقوب (٢) : «نهد» بنون العظمة و «أن» مفعول فقط ، و «أن» هي المخفّفة من الثّقيلة و «لو» فاصلة بينها وبين الفعل ، وقد تقدّم أنّ الفصل بها قليل.

و «نشاء» وإن كان مضارعا لفظا فهو ماض معنى ؛ لأنّ «لو» الامتناعية تخلّص المضارع للمضيّ.

وفي كلام ابن الأنباريّ خلافه ، فإنّه قال في «ونطبع» : «هذا فعل مستأنف ومنقطع مما قبله ؛ لأنّ قوله : «أصبنا» ماض و «نطبع» مستقبل ثم قال : ويجوز أن يكون معطوفا على «أصبنا» إذ كان بمعنى نصيب ، والمعنى : «لو يشاء يصيبهم ويطبع» ، فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى : (إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) [الفرقان : ١٠] [أي :] يجعل ، بدليل قوله : «ويجعل لك» ، وهذا ظاهر قويّ في أن «لو» هذه لا تخلّص المضارع للمضيّ ، وتنظيره بالآية الأخرى مقوّ له أيضا ، وسيأتي تحقيق ذلك عند قوله : «ونطبع».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥١ ، والدر المصون ٣ / ٣١٠ ، وفيه نسبها إلى مجاهد.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥١ ، الدر المصون ٣ / ٣١٠ ، وفيه نسبها إلى مجاهد.

٢٣٨

وقال الفرّاء (١) : «وجاز أن تردّ «يفعل» [على فعل](٢) في جواب «لو» كقوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ) [يونس : ١١] فقوله : «فنذر» مردود على «لقضى» ، وهذا قول الجمهور ، ومفعول «يشاء» محذوف لدلالة جواب «لو» عليه ، والتّقدير : لو يشاء تعذيبهم ، أو الانتقام منهم.

وأتى جوابها بغير لام ، وإن كان مبنيّا على أحد الجائزين وإن كان الأكثر خلافه ، كقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) [الواقعة : ٧٠].

قوله : «ونطبع» في هذه الجملة أوجه :

أحدها : أنّها نسق على «أصبناهم» وجاز عطف المضارع على الماضي ؛ لأنّه بمعناه ، وقد تقدّم أنّ «لو» تخلّص المضارع للمضيّ ، ولما حكى أبو حيّان كلام ابن الأنباريّ المتقدم قال: «فجعل «لو» شرطيّة بمعنى «إن» ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، ولذلك جعل «أصبنا» بمعنى نصيب.

ومثال وقوع «لو» بمعنى «إن» قوله : [الكامل]

٢٥٣٣ ـ لا يلفك الرّاجيك إلّا مظهرا

خلق الكرام ولو تكون عديما (٣)

وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردّه الزّمخشريّ من حيث المعنى ، لكن بتقدير : أن يكون «ونطبع» بمعنى «طبعنا» فيكون قد عطف المضارع على الماضي لكونه بمعنى الماضي (٤) وابن الأنباري جعل التّأويل في «أصبنا» الذي هو جواب «لو نشاء» فجعله بمعنى «نصيب» فتأوّل المعطوف عليه وهو الجواب ، وردّه إلى المستقبل ، والزمخشريّ تأوّل المعطوف وردّه إلى المضي وأنتج ردّ الزّمخشري أنّ كلا التقديرين لا يصحّ».

قال الزمخشريّ (٥) : «فإن قلت : هل يجوز أن يكون «ونطبع» بمعنى «طبعنا» كما كان «لو نشاء» بمعنى «لو شئنا» ويعطف على «أصبناهم»؟

قلت : لا يساعد على المعنى ؛ لأنّ القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم ، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذّنوب والإصابة بها ، وهذا التّفسير يؤدّي إلى خلوّهم من هذه الصّفة ، وأن الله لو شاء لاتّصفوا بها».

قال أبو حيّان (٦) : «وهذا الرّدّ ظاهر الصّحّة ، وملخصه : أن المعطوف على الجواب جواب ، سواء تأوّلنا المعطوف عليه أم المعطوف ، وجواب «لو» لم يقع بعد ، سواء كانت حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره أم بمعنى «إن» الشّرطية ، والإصابة لم تقع ، والطّبع على القلوب واقع ، فلا يصحّ أن تعطف على الجواب. فإن تؤوّل «ونطبع» على معنى : وتستمرّ

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٨٦.

(٢) سقط من أ.

(٣) تقدم.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٢.

٢٣٩

على الطّبع على قلوبهم ، أمكن التّعاطف ؛ لأنّ الاستمرار لم يقع بعد ، وإن كان الطّبع قد وقع».

قال شهاب الدّين (١) : «فهذا الوجه الأوّل ممتنع لما ذكره الزّمخشريّ».

ونقل ابن الخطيب (٢) عن الزّمخشري أنّه قال : «ولا يجوز أن يكون معطوفا على أصبناهم» ؛ لأنّهم كانوا كفّارا ، إذ كل كافر فهو مطبوع على قلبه ، فقوله بعد ذلك : «ونطبع على قلوبهم» يجري مجرى تحصيل الحاصل وهو محال».

قال ابن الخطيب (٣) : «وهذا ضعيف ؛ لأنّ كونه مطبوعا عليه في الكفر لم يكن هذا منافيا لصحّة العطف».

الوجه الثاني : أن يكون «نطبع» مستأنفا ، ومنقطعا عمّا قبله فهو في نيّة خبر مبتدأ محذوف أي : ونحن نطبع. وهذا اختيار الزّجّاج (٤) والزمخشري وجماعة.

الثالث : أن يكون معطوفا على «يرثون الأرض» قاله الزّمخشريّ.

قال أبو حيّان (٥) : «وهو خطأ ؛ لأنّ المعطوف على الصّلة صلة ، و «يرثون» صلة ل «الّذين» ؛ فيلزم الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبي ، فإن قوله : «أن لو نشاء» إمّا فاعل ل «يهد» أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديرين فلا تعلق له بشيء من الصّلة ، وهو أجنبيّ منها ، فلا يفصل به بين أبعاضها ، وهذا الوجه مؤدّ إلى ذلك فهو خطأ».

الرابع : أن يكون معطوفا على ما دلّ عليه معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) كأنّه قيل : يغفلون عن الهداية ، ونطبع على قلوبهم قاله الزّمخشريّ أيضا.

قال أبو حيّان (٦) : «وهو ضعيف ؛ لأنّه إضمار لا يحتاج إليه ، إذ قد صحّ عطفه على الاستئناف من باب العطف على الجمل ، فهو معطوف على مجموع الجملة المصدّرة بأداة الاستفهام ، وقد قاله الزّمخشريّ وغيره (٧).

وقوله : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أتى ب «الفاء» هنا إيذانا بتعقيب عدم سماعهم على أثر الطّبع على قلوبهم.

فصل في بيان أنه تعالى قد يمنع العبد من الإيمان

استدل أهل السّنّة بقوله تعالى : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) على أنّه تعالى قد يمنع العبد من الإيمان ، والطّبع والختم والرّين والغشاوة والصدّ والمنع واحد على ما تقدّم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣١١.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٥٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) ينظر : معاني القرآن له ٣٩٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٣.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٥٣.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ١٣٥.

٢٤٠