اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

كجريح ، كما حمل هذا عليه حيث قالوا : أسير وأسراء ، وقبيل وقبلاء حملا على رحيم ورحماء ، وعليم وعلماء ، وحكيم وحكماء.

[ومنها : أنّه](١) مصدر [جاء على فعيل كالنّعيق وهو صوت الضّفدع ، والضغيب وهو صوت الأرنب وإذا كان مصدرا](٢) لزم الإفراد والتذكير.

ومنها : أنّها بمعنى مفعول أي مقرّبة ، قاله الكرمانيّ ، وليس بجيد ؛ لأنّ فعيلا بمعنى مفعول لا ينقاس ، وعلى تقدير اقتياسه فإنّما يكون من الثّلاثي المجرّد ، لا من المزيد فيه ، ومقرّبة من المزيد فيه.

ومنها : أنّها من باب المؤنّث المجازي ، فلذلك جاز التّذكير كطلع الشّمس.

قال بعضهم : وهو غير جيّد ؛ لأنّ ذلك حيث كان الفعل متقدّما نحو : طلع الشّمس ، أمّا إذا تأخّر وجب التّأنيث ، إلا في ضرورة شعر كقوله : [المتقارب]

٢٤٨٧ ـ ..........

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

قال شهاب الدّين (٤) : «وهذا يجيء على مذهب ابن كيسان ، فإنّه لا يقصر ذلك على ضرورة الشّعر ، بل يجيزه في السّعة».

وقال الفرّاء (٥) : قريبة وبعيدة : إمّا أن يراد بها النّسب وعدمه ، فتؤنّثها العرب ليس إلّا فيقولون : فلان قريبة مني أي في النّسب ، وبعيدة مني أي في النّسب ، أمّا إذا أريد القرب في المكان ، فإنّه يجوز الوجهان ؛ لأنّ قريبا وبعيدا قائم مقام المكان فتقول : فلانة قريبة وقريب ، وبعيدة وبعيد.

التّقدير : هي في مكان قريب وبعيد ؛ وأنشد : [الطويل]

٢٤٨٨ ـ عشيّة لا عفراء منك قريبة

فتدنو ولا عفراء منك بعيد (٦)

فجمع بين اللّغتين إلا أنّ الزّجّاج (٧) ردّ على الفرّاء قوله وقال : «هذا خطأ ؛ لأنّ سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما».

قال شهاب الدّين (٨) : وقد كثر في شعر العرب مجيء هذه اللّفظة مذكّرة ، وهي صفة لمؤنّث.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) سقط من ب.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٣٠ / ٢٨٣.

(٥) معاني القرآن للفراء ١ / ٣٨٠.

(٦) البيت لعروة بن حزام العذري : ينظر : ديوانه ٥ ، الخصائص ٢ / ٤١٢ ، اللسان «قرب» ، الدر المصون ٣ / ٢٨٣.

(٧) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٨١.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٨٣.

١٦١

٢٤٨٩ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ سالم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا (١)

وفي القرآن : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب : ٦٣].

وقال أبو عبيدة (٢) : «قريب في الآية ليس وصفا لها ، إنّما هو ظرف لها وموضع ، فيجيء هكذا في المفرد والمثنى والجمع ، فإن أريد بها الصّفة ؛ وجب المطابقة ، ومثلها لفظة بعيد أيضا» إلّا أنّ عليّ بن سليمان الأخفش خطّأه قال : «لأنّه لو كانت ظرفا لانتصب كقولك : «إنّ زيدا قريبا منك» وهذا ليس بخطأ ، لأنّه يجوز أن يتّسع في الظّرف ، فيعطى حكم الأسماء الصّريحة فتقول : زيد أمامك وعمرو خلفك برفع أمام وخلف ، وقد نصّ النّحاة على أنّ نحو : «[إن قريبا] منك زيد» أن «قريبا» اسم «إنّ» ، و «زيد» خبرها ، وذلك على الاتّساع».

و (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) متعلّق ب «قريب» ، ومعنى هذا القرب هو أنّ الإنسان يزداد في كلّ لحظة قربا من الآخرة وبعدا من الدّنيا ، فإنّ الدّنيا كالماضي والآخرة كالمستقبل ، والإنسان في كلّ ساعة ولحظة يزداد بعدا عن الماضي ، وقربا من المستقبل.

قال الشّاعر : [الطويل]

٢٤٩٠ ـ فلا زال ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس (٣)

ولمّا كانت الدّنيا تزداد بعدا في كلّ ساعة ، والآخرة تزداد قربا في كلّ ساعة ، وثبت أنّ رحمة الله إنّما تحصل بعد الموت ، لا جرم قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلة : العفو عن العذاب رحمة ، والتّخلّص من النّار بعد الدّخول فيها رحمة[فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين](٤) فوجب ألّا يحصل لهم العفو عن العقاب والخلاص من النّار.

والجواب : أنّ من آمن بالله وأقرّ بالتّوحيد والنّبوّة ، فقد أحسن بدليل أن الصّبيّ إذا بلغ وقت الضّحوة ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمّة على أنّه دخل تحت قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى) [يونس : ٢٦] وهذا لم يأت بشيء من الطّاعات سوى المعرفة والإقرار (٥).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٢١٦.

(٣) ينظر : الرازي ١٤ / ١١٢.

(٤) سقط من ب.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١١.

١٦٢

سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(٥٧)

في كيفيّة النّظم وجهان :

الأول : أنه تعالى لمّا ذكر دلائل الإلهيّة ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ ، وهو السّموات والشّمس ، والقمر ، والنّجوم ، أتبعه بذكر الدّلائل من أحوال العالم السّفليّ.

واعلم أنّ أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة : الآثار العلويّة ، والمعادن ، والنّبات ، والحيوان ، ومن جملة الآثار العلويّة : الرياح والسّحاب والأمطار ، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النّبات ، وهو المذكور في هذه الآية.

الثاني : أنّه تعالى لمّا أقام الدّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم ؛ أقام الدّلالة في هذه الآية على صحّة القول بالحشر ، والنّشر ، والبعث ، والقيامة ليحصل بمعرفة هاتين الآيتين كلّ ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد.

قوله : «الرّياح بشرا» قد تقدّم خلاف القرّاء في إفراد «الرّيح» وجمعها بالنّسبة إلى سائر السّور في البقرة.

وأمّا «بشرا» فقرأه في هذه السّورة ـ وحيث ورد في غيرها من السّور ـ نافع وأبو عمرو (١) وابن كثير بضم النون والشّين ، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرّحمن ، وأبي رجاء بخلاف عنهم ، وشيبة بن نصاح والأعرج وعيسى بن عمر وأبي يحيى ، وأبي نوفل الأعرابيّين. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصّل فيها ستّة أوجه :

أحدها : أن «نشرا» جمع ناشر ك «بازل» و «بزل» و «شارف» و «شرف» وهو جمع شاذّ في فاعل.

ثم «ناشر» هذا اختلف في معناه فقيل : هو على النّسب : إمّا إلى النّشر ضدّ الطيّ ، وإمّا إلى النّشور بمعنى الإحياء كقوله : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك : ٢٥] ، والمعنى : ذا نشر ، أو نشور ك «لابن» و «تامر».

وقيل : هو فاعل من نشر مطاوع أنشر يقال : أنشر الله الميّت ، فنشر فهو ناشر ، وأنشد: [السريع]

٢٤٩١ ـ حتّى يقول النّاس ممّا رأوا

يا عجبا للميّت النّاشر (٢)

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٣ ، والحجة ٤ / ٣١ ، ٣٢ ، وحجة القراءات ٢٨٥ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٦ ، وشرح شعلة ٣٩١ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٩ والعنوان ٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٣.

(٢) تقدم.

١٦٣

وقيل : ناشر بمعنى منشر أي : المحيي تقول : نشر الله الموتى وأنشرها ، ففعل وأفعل على هذا بمعنى واحد ، وهذه الثّالثة ضعيفة.

الوجه الثاني : أنّ نشرا جمع نشور ، وهذا فيه احتمالان :

أرجحهما : أنّه بمعنى فاعل ، وفعول بمعنى فاعل ينقاس جمعه على فعل كصبور ، وصبر ، وشكور ، وشكر أي متفرقة ، وهي الرّياح التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق ، ومنه نشر الثّوب ، ونشر الخشبة بالمنشار.

وقال الفراء : «النّشر من الرّيح الطيّبة اللينة التي تنشىء السّحاب ، واحدها نشور ، وأصله من النّشر وهو الرّائحة الطيّبة.

والثاني : أنّه بمعنى مفعول كركوب وحلوب بمعنى مركوب ومحلوب قالوا : لأنّ الرّيح توصف بالموت وتوصف بالإحياء فمن الأوّل قوله : [الرجز]

٢٤٩٢ ـ إنّي لأرجو أن تموت الرّيح

فأقعد اليوم وأستريح (١)

ومن الثاني قوله : «أنشر الله الرّيح وأحياها» وفعول بمعنى مفعول يجمع على فعل كرسول ورسل. وبهذا قال جماعة كثيرة ، إلا أنّ ذلك غير مقيس في المفرد وفي الجمع ، أعني أنه لا ينقاس فعول بمعنى مفعول لا تقول : زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول ، ولا ينقاس أيضا جمع فعول بمعنى مفعول على فعل. فحصل في هذه القراءة ستّة أوجه :

الأول : أنّها جمع لناشر بمعنى : ذا نشر ضدّ الطيّ.

الثاني : جمع ناشر بمعنى : ذي نشور.

الثالث : جمع ناشر مطاوع أنشر.

الرابع : جمع ناشر بمعنى منشر.

الخامس : جمع نشور بمعنى : فاعل.

السادس : جمع نشور بمعنى : مفعول.

وقرأ (٢) ابن عامر (٣) بضمّ النّون وسكون الشين ، وهي قراءة ابن عبّاس ، وزرّ بن حبيش ، ويحيى بن وثّاب ، والنخعيّ وابن مصرف ، والأعمش ، ومسروق ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها ، فإنّها مخفّفة منها ، كما قالوا : رسل في رسل وكتب في كتب ،

__________________

(١) البيت ينظر : البحر ٤ / ٣٢٠ ، روح المعاني ٨ / ١٤٥ ، اللسان (موت) ، الدر المصون ٣ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : السبعة ٢٨٣ ، والحجة ٤ / ٣١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٦ ، وحجة القراءات ٢٨٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٩ ، والعنوان ٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٣.

(٣) في أ : عاصم.

١٦٤

فسكّنوا الضمّة تخفيفا ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في المفرد ، الذي هو أخفّ من الجمع كقولهم في عنق : عنق ، وفي طنب : طنب ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد؟

وقرأ الأخوان (١) : «نشرا» بفتح النّون وسكون الشّين ، ووجهها أنّها مصدر واقع موقع الحال بمعنى ناشرة ، أو منشورة ، أو ذات نشر [كلّ ذلك على ما تقدّم في نظيره.

وقيل : نشرا مصدر مؤكّد ؛ لأنّ أرسل ، وأنشر متقاربان.

وقيل : نشرا](٢) مصدر على حذف الزّوائد أي : إنشارا ، وهو واقع موقع الحال أي : منشرا ، أو منشرا حسب ما تقدّم في ذلك.

وقرأ عاصم (٣) : «بشرا» بالباء الموحّدة مضمومة وسكون الشّين ، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونذر. وقيل : جمع فعيل كقليب وقلب ورغيف ورغف ، وهي مأخوذة في المعنى من قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] أي تبشّر بالمطر ، ثم خفّفت الضّمّة كما تقدّم في «النّشر» ، ويؤيّد ذلك أنّ ابن عباس والسّلمي وابن أبي عبلة قرأوا (٤) بضمّها ، وهي مرويّة عن عاصم نفسه فهذه أربع قراءات في السّبع.

والخامسة : ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه.

وقرأ مسروق (٥) : «نشرا» بفتح النّون والشّين وفيها تخريجان :

أحدهما : نقله أبو الفتح (٦) : أنّه اسم جمع ك «غيب» و «نشأ» لغائبة وناشئة.

والثاني : أنّ فعلا بمعنى مفعول كقبض بمعنى مقبوض.

وقرأ أبو عبد الرحمن : «بشرا» بفتح الباء وسكون الشّين ورويت عن عاصم أيضا على أنه مصدر «بشر» ثلاثيا.

وقرأ ابن السّميفع (٧) : «بشرى» بزنة رجعى ، وهو مصدر أيضا ، فهذه ثمان قراءات : أربع مع النّون ، وأربع مع الباء ، هذا ما يتعلّق بالقراءات ، وما هي بالنّسبة إلى كونها مفردة أو جمعا.

__________________

(١) ينظر : السبعة ص (٢٨٣) ، الحجة ٤ / ٣١ ، إعراب القراءات ١ / ١٨٦ ، حجة القراءات ص (٢٨٥) ، إتحاف ٢ / ٥٣.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : السبعة ٢٨٣ ، الحجة ٤ / ٣١ ، شرح الطيبة ٤ / ٢٩٩ ، العنوان ٩٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٢ ، والبحر المحيط ٤ / ٣١٩ ، ٣٢٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٥.

(٥) ينظر المصدر السابق والكشاف ٢ / ١١١.

(٦) ينظر : المحتسب ١ / ٢٥٦.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٢ ، البحر المحيط ٤ / ٣١٩ ، الدر المصون ٣ / ٢٨٥.

١٦٥

وأمّا نصبها فإنّها في قراءة نافع ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من «الرّياح» أو «الرّيح» حسب ما تقدّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عاصم ، وما يشبهها.

وأمّا في قراءة الأخوين ، ومسروق فيحتمل المصدريّة ، أو الحاليّة ، وكلّ هذا واضح ، وكذلك قراءة «بشرى» بزنة رجعى ولا بدّ من التّعرّض لشيء آخر ، وهو أنّ من قرأ «الرّياح» بالجمع وقرأ «نشرا» جمعا كنافع ، وأبي عمرو فواضح.

وأما من أفرد «الرّيح» وجمع «نشرا» كابن كثير ، فإنّه يجعل الرّيح اسم جنس ، فهي جمع في المعنى ، فوصفها بالجمع كقول عنترة : [الكامل]

٢٤٩٣ ـ فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم (١)

والحاليّة في بعض الصّور يجوز أن تكون من فاعل «يرسل» ، أو مفعوله وكلّ هذا يعرف مما تقدم.

فصل

روى أبو هريرة قال : أخذت النّاس ريح بطريق مكّة ، وعمر حاجّ فاشتدت ، فقال عمر لمن حوله : ما بلغكم في الرّيح فلم يرجعوا إليه شيئا ، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح ، فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر ، فكنت في مؤخّر النّاس ، فقلت : يا أمير المؤمنين : أخبرت أنّك سألت عن الرّيح ، وإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الرّيح من روح الله ، تأتي بالرّحمة وتأتي بالعذاب ، فلا تسبّوها ، وسلوا الله من خيرها ، وتعوّذوا به من شرّها (٢).

فصل في ماهية الريح

قال ابن الخطيب (٣) ـ رحمه‌الله ـ : الرّيح : هواء متحرك ، وكونه متحرّكا ليس لذاته ، ولا للوازم ذاته ، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته ، فلا بدّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى.

__________________

(١) البيت لعنترة ينظر : ديوانه (١٧) ، شرح القصائد العشر (٣٢٧) ، الخزانة ٧ / ٣٩١ ، شرح المفصل لابن يعيش ٣ / ٥٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٨٥.

(٢) أخرجه الشافعي في المسند ١ / ١٧٥ ـ ١٧٦ حديث (٥٠٤) وأخرجه معمر في الجامع ١١ / ٨٩ باب الريح والغيث (٣٠٠٤) وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٧ من طريق عند الرزاق ضمن مسند أبي هريرة رضي الله عنه والبخاري في الأدب المفرد ص (٣٤٣) باب لا تسبّوا الريح (٧٣١) (٩٠٩) وأخرجه أبو داود من طريق عبد الرزاق ١ / ٣٢٨ في الأدب : باب ما يقول إذا هاجت الريح (٥٠٩٧) والنسائي في عمل اليوم والليلة (٩٣١) والفسوي في المعرفة والتاريخ ١ / ٣٨٢ وابن ماجه في السنن ٢ / ٢٢٨ في الأدب : باب النهي عن سب الريح (٣٧٢٧) والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٩٩ وابن حبان ذكره الهيثمي (٤٨٨) في كتاب الأدب (١٩٨٩) والحاكم في المستدرك ٤ / ٢٨٥ في الأدب : باب الريح من روح الله فلا تسبوها والبيهقي ٣ / ٣٦١ في كتاب صلاة الاستسقاء.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٣.

١٦٦

وقالت الفلاسفة (١) : هاهنا سبب آخر ، وهو أنّه يرتفع من الأرض أجزاء أرضيّة لطيفة ، تسخنه تسخينا قويا فبسبب تلك السّخونة الشّديدة ترتفع وتتصاعد ، فإذا قربت من الفلك ، كان الهواء ألصق بمقعر الفلك ، متحرّكا على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء ، فيمنع هذه الأدخنة من الصّعود ، بل يردها عن سمت حركتها ، فحينئذ ترجع تلك الأدخنة ، وتتفرق في الجوانب ، وبسبب ذلك التّفرّق تحصل الرّياح ثمّ كلما كانت تلك الأدخنة أكثر ، كان صعودها أقوى ، وكان رجوعها أشدّ حركة ، فكانت الرّياح أقوى وأشدّ ، هذا حاصل ما ذكروه ، وهو باطل لوجوه (٢) :

الأول : أنّ صعود الأجزاء الأرضيّة إنّما يكون لشدّة تسخينها وذلك التسخين عرض ؛ لأنّ الأرض باردة يابسة بالطّبع ، فإذا كانت الأجزاء الأرضيّة متصعّدة جدا كانت سريعة الانفصال فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطّبقة الباردة من الهواء ؛ امتنع بقاء الحرارة فيها ، بل تبرد جدا ، فإذا بردت ؛ امتنع بلوغها في الصّعود إلى الطبقة الهوائيّة المتحركة بحركة الفلك فبطل ما ذكروه.

الثاني : إذا ثبت أنّ تلك الأجزاء الدّخانيّة ، صعدت إلى الطّبقة الهوائيّة المتحرّكة بحركة الفلك ، لكنها لمّا رجعت ، وجب أن تنزل على الاستقامة ، لأنّ الأرض جسم ثقيل ، والثّقيل إنما يتحرك بالاستقامة ، والرّياح ليست كذلك ، فإنّها تتحرك يمنة ويسرة (٣).

الثالث : أنّ حركة تلك الأجزاء الأرضيّة النّازلة لا تكون حركة قاهرة ، فإنّ الرّياح إذا أحضرت الغبار الكثير ، وعاد ذلك الغبار ونزل على السّطوح ، لم يحسّ أحد بنزولها ونرى هذه الرّياح تقلع الأشجار ، وتهدم [الجبال] ، وتموج البحار (٤).

الرابع : لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرّياح كلّما كانت أشدّ وجب أن يكون حصول الأجزاء الغباريّة الأرضيّة أكثر ، لكنّه ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ الرّياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر ، مع أن الحسّ يشهد بأنّه ليس في ذلك الهواء العاصف شيء من الغبار والكدورة ، فبطل بهذه الوجوه العقليّة ما ذكروه في حركة الرّياح (٥).

وقال المنجّمون (٦) : إن قوى الكواكب هي الّتي تحرك هذه الرّياح ، وتوجب هبوبها ، وذلك أيضا بعيد ؛ لأنّ الموجب لحركة الرّياح إن كانت طبيعة الكواكب ؛ وجب دوام الرّياح بدوام تلك الطبيعة ، وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعيّن ، أو الدّرجة المعيّنة ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم ، وليس كذلك ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٤.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٤.

١٦٧

وأيضا قد ثبت في العقليّات أنّ الأجسام متماثلة ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيّن بالطّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر ، لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار ، فثبت بهذا البرهان العقليّ أنّ محرك الرّياح هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأيضا فقوله تعالى : «نشرا» أي منشّرة متفرقة ، فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة ، وجزء آخر يذهب يسرة ، وكذا سائر أجزاء الرّياح ، كلّ واحد منها يذهب إلى جانب آخر ، ولا شكّ أنّ طبيعة الهواء طبيعة واحدة ، ونسبة الأفلاك والأنجم والطّبائع إلى كلّ واحد من الأجزاء التي لا تتجزّأ من تلك الريح نسبة واحدة ، فاختصاص بعض أجزاء الرّيح بالذّهاب يمنة ، والجزء الآخر بالذّهاب يسرة يجب أن يكون ذلك بتخصيص الفاعل المختار (١).

قوله : «بين» : ظرف ل «يرسل» ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك.

وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي بين يدي المطر الذي هو رحمته ، وحسن هذا المجاز أنّ اليدين تستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز ؛ يقال إن الفتن تحدث بين يدي السّاعة يريدون قبلها ، وذلك لأنّ يدي الإنسان متقدّمانه ، فكل ما يتقدّم شيئا يطلق عليه لفظ اليدين مجازا لهذه المشابهة ، كما تقول لمن أحسن إليك وتقدّم إحسانه : له عندي أياد ، ولما كانت الرّياح تتقدّم المطر عبّر عنه بهذا اللفظ.

فإن قيل : قد نجد المطر لا يتقدّمه رياح ، فنقول : ليس في الآية أنّ هذا التّقدّم حاصل في كلّ الأحوال ، وأيضا يجوز أن تتقدّمه هذه الرّياح وإن كنّا لا نعرفها.

قوله : «حتّى إذا أقلت» غاية لقوله : «يرسل» ، وأقلّت أي حملت من أقللت كذا أي : حملته بسهولة.

قال صاحب «الكشّاف» : واشتقاق الإقلال من القلّة ، فإن من يرفع شيئا فإنّه يرى ما يرفعه قليلا ، يقال : أقلّه أي حمله بسهولة ، والقلّة بضمّ القاف هو الظّرف المعروف وقلال هجر كذلك ؛ لأنّ البعير يقلّها أي يحملها.

وتقدّم تفسير (٢) «السّحاب» ، وأنّه يذكّر ويؤنّث ، ولذلك عاد الضّمير عليه مذكّرا في قوله : «سقناه». ولو حمل على المعنى كما حمل قوله «ثقالا» فجمع لقال : «سقناها».

و «لبلد» جعل الزّمخشريّ «اللّام» للعلّة ، أي : لأجل.

وقال أبو حيّان (٣) : فرق بين قولك : سقت له مالا ، وسقت لأجله مالا ، بأنّ سقت له أوصلت إليه ، وأبلغته إيّاه ، بخلاف سقته لأجله ، فإنّه لا يلزم منه إلّا إيصاله له ، فقد يسوق المال لغيري لأجلي ، وهو واضح.

وقيل : هذه اللام بمعنى «إلى» ، يقال : هديته للدّين ، أو إلى الدّين. وتقدّم الخلاف

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٤.

(٢) ينظر تفسير الآية (١٦٤) من سورة البقرة.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٢١.

١٦٨

في تخفيف «ميّت» وتثقيله في آل عمران (١) وجاء هنا وفي الرّوم [٤٦] (يُرْسِلُ) بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله ، فإنّ قبله : «ادعوه خوفا» وهو مستقبل ، وفي الروم [٤٥] : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وهو مستقبل.

وأمّا في الفرقان [٤٨] وفاطر [٩] فجاء بلفظ الماضي : «أرسل» لمناسبة ما قبله وما بعده في المضي ؛ لأنّ قبله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] ، وبعده : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) [الفرقان : ٥٣] ، فناسب ذلك الماضي ، ذكره الكرمانيّ.

والبلد يطلق على كلّ جزء من الأرض ، عامرا كان ، أو خرابا ، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى : [البسيط]

٢٤٩٤ ـ وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ باللّيل في حافاتها زجل (٢)

قوله : «فأنزلنا به» الضّمير في «به» يعود على أقرب مذكور ، وهو «بلد ميّت» ، وعلى هذا فلا بدّ من أن تكون الباء ظرفيّة ، بمعنى أنزلنا في ذلك البلد الميّت الماء ، وجعل أبو حيّان هذا هو الظّاهر.

وقيل : الضّمير يعود على «السّحاب» ، ثم في «الباء» وجهان :

أحدهما : هي بمعنى «من» أي : فأنزلنا من السّحاب الماء.

والثاني : أنّها سببيّة أي : فأنزلنا الماء بسبب السّحاب.

وقيل : يعود على السّوق المفهوم من الفعل و «الباء» سببية أيضا [أي] : فأنزلنا بسبب سوق السّحاب ، وهو ضعيف لعود الضّمير على غير مذكور مع إمكان عوده على مذكور.

قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ) الخلاف في هذه الآية كالّذي في قبلها ، ونزيد عليه وجها أحسن منها ، وهو العود على الماء ، ولا ينبغي أن يعدل عنه.

وقوله : «من كلّ الثّمرات» «من» تبعيضية ، أو ابتدائية ، وقد تقدم نظيره.

فصل

اعلم أنّ السّحاب للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء ؛ لأنّه تعالى دبّر بحكمته أن يحرّك الرّياح تحريكا شديدا ، فلأجل الحركات الشّديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد (٣).

أحدها : أنّ أجزاء السّحاب ينضمّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السّحاب الكثير الماطر.

__________________

(١) ينظر تفسير الآية (٢٧) من سورة آل عمران.

(٢) البيت للأعشى ، ينظر ديوانه ١٠٩ ، شرح القصائد العشر ٤٩٨ ، اللسان (بلد) ، الدر المصون ٣ / ٢٨٦.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٤ / ١١٥.

١٦٩

وثانيها : أنّ بسبب حركات الرّياح الشّديدة يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائيّة النّزول ، فلا جرم يبقى معلّقا في الهواء.

وثالثها : أن بسبب حركات تلك الرّياح ينساق من موضع إلى موضع آخر يكون محتاجا في علم الله ـ تعالى ـ إلى نزول الأمطار.

ورابعها : أنّ حركات الرّياح تارة تكون جامعة لأجزاء السّحاب ، وتارة مفرقة لأجزاء السّحاب.

وخامسها : أنّ هذه الرّياح تارة تكون مقوّية للزّروع والأشجار مكملة لما فيها من النشوء والنّماء ، وهي الرّياح اللّواقح ، وتارة تكون مبطلة لها ، كما تكون في الخريف.

وسادسها : أنّ هذه الرّياح تارة تكون طيّبة موافقة للأبدان ، وتارة تكون مهلكة : إمّا بسبب ما فيها من الحرّ الشّديد كما في السّموم ، أو بما فيها من البرد الشّديد ، كما في الرّياح الباردة والمهلكة.

وسابعها : أنّ هذه الرّياح تكون [تارة] شرقيّة ، وتارة غربيّة ، وشماليّة ، وجنوبيّة ، كذا ضبطه بعض النّاس ، وإلا فالرّياح تهبّ من كلّ جانب من جوانب العالم ، ولا اختصاص لها بجانب من جوانب العالم.

وثامنها : أنّ هذه الرّياح تصعد من قعر البحر ، فإنّ من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل له غليان شديد بسبب تولّد الرّياح في قعر البحر ، ثمّ لا يزال يتزايد الغليان ويقوى إلى أن تنفصل تلك الرّياح من قعر البحر إلى ما فوق البحر ، وحينئذ يعظم هبوب الرّياح في وجه البحر ، وتارة ينزل الرّيح من جهة فوق فاختلاف الرّياح بسبب هذه المعاني عجيب (١).

وعن ابن عمر الرّياح ثمان : أربع عذاب وهي القاصف ، والعاصف والصّرصر ، والعقيم ، وأربع منها رحمة وهي : النّاشرات ، والمبشّرات ، والمرسلات ، والذّاريات (٢).

وقال عليه الصّلاة والسّلام : «نصرت بالصّبا ، وأهلك عاد بالدّبّور» (٣) و «الجنوب من ريح الجنّة» (٤).

وعن كعب : لو حبس الله الرّيح عن عباده ثلاثة أيّام لأنتن أكثر أهل الأرض.

وعن السّدّيّ أنّه تعالى يرسل الرّياح ، فتأتي بالسّحاب ، ثم إنّه تعالى يبسطه في

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٥.

(٢) ذكره البغوي في «شرح السنة» (٢ / ٦٤٧) عن عبد الله بن عمرو.

(٣) أخرجه البخاري ٢ / ٥٢٠ في كتاب الاستسقاء : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا (١٠٣٥) وأخرجه مسلم ٢ / ٦١٧ في كتاب الاستسقاء : باب في ريح الصبا.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٥.

١٧٠

السّماء كيف يشاء ، ثم يفتح أبواب السّماء فيسيل الماء على السّحاب ، ثم يمطر السّحاب بعد ذلك ، ورحمته هو المطر (١).

وإذا عرف ذلك فنقول : اختلاف الرّياح في الصّفات المذكورة مع أنّ طبعها واحد ، وتأثيرات الطّبائع والأنجم والأفلاك واحدة ، يدلّ على أنّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار.

قوله : «كذلك» نعت مصدر محذوف ، أي : يخرج الموتى إخراجا كإخراجنا هذه الثّمرات ، وفي هذا التّشبيه قولان :

الأول : أنّ المعنى كما خلق الله ـ تعالى ـ النّبات بالأمطار ، فكذلك يحيي الموتى بمطر ينزله على الأجساد الرّميمة.

قال أبو هريرة وابن عباس : إذا مات النّاس كلّهم في النّفخة ، أرسل الله عليهم مطرا كمنيّ الرّجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان ، ينبتون في قبورهم نبات الزّرع ، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيه الرّوح ، ثم يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم ، ثم يحشرون بالنّفخة الثّانية ، وهم يجدون طعم النّوم في رءوسهم وأعينهم ، فعند ذلك يقولون : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)(٢) [يس : ٥٢].

الثاني : أن [هذا] التّشبيه إنّما وقع بأصل الإحياء ، والمعنى : أنّه تعالى أحيى هذا البلد بعد خرابه ، فأنبت فيه الشّجر فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتا ؛ لأنّ من قدر على إحداث الجسم ، وخلق الرّطوبة والطعم فيه ، يكون قادرا على إحداث الحياة في بدن الميّت.

قال ابن الخطيب (٣) : واعلم أنّ الذّاهبين إلى القول الأوّل إن اعتقدوا أنّه لا يمكن بعث الأجساد ، إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطرا على صفة المني فقد بعدوا ؛ لأنّ القادر على أن يحدث في ماء المطر صفة ، تصير باعتبارها منيّا ، لم لا يقدر على خلق الحياة في الجسم؟ وأيضا فهب أن ذلك المطر ينزل ، إلا أنّ أجزاء الأموات متفرقة ، فبعضها بالمشرق وبعضها بالمغرب ، فمن أين ينفع ذلك المطر في توليد تلك الأجسام؟

فإن قالوا : إنّه تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجزاء المتفرّقة ، فلم لم يقولوا : إنّه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء المتفرقة ابتداء من غير واسطة ذلك المطر ؛ وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء ، إلا أنه تعالى إنّما يحييهم على هذا الوجه ، كما أنّه قادر على خلق الأشخاص في الدّنيا ابتداء إلا أنّه أجرى عادته بأنّه لا يخلقهم إلّا من أبوين ، فهذا جائز.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١٨) عن السدي.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١٨) عن أبي هريرة.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٦ ـ ١١٧.

١٧١

ثم قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : أنكم لما شاهدتم أنّ هذه الأرض كانت مزيّنة وقت الرّبيع والصّيف بالأزهار والثّمار ، ثم صارت عند الشّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة ، ثم إنّه تعالى أحياها مرّة أخرى ، فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب أن يكون قادرا على إحياء الأجساد بعد موتها أيضا.

قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٥٨)

قيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السّبخة ، وشبه نزول القرآن بنزول المطر ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرة التي ينزل عليها المطر ، فتزهر وتثمر ، وشبّه الكافر بالأرض السّبخة ، فهي وإن نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر.

وقيل : المراد أنّ الأرض السّبخة يقلّ نفعها وثمرها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها ، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة ، فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقّة العظيمة ، فلأن يطلب النّفع العظيم الموعود به في الآخرة بالمشقّة الّتي لا بد من تحصيلها في أداء الطّاعات أولى.

قوله : «بإذن ربّه» يجوز أن تكون «الباء» سببية أو حالية وقرىء : «يخرج نباته» ، أي : يخرجه البلد وينبته (١).

قوله : «والّذي خبث» يريد الأرض السّبخة التي لا يخرج نباتها.

يقال : خبث الشّيء يخبث خبثا وخباثة.

قال الفراء : قوله : «إلّا نكدا» فيه وجهان :

أحدهما : أن ينتصب حالا أي عسرا مبطئا. يقال : نكد ينكد نكدا بالفتح ، فهو نكد بالكسر.

والثاني : أن ينتصب على أنّه نعت مصدر محذوف ، أي : إلا خروجا نكدا ، وصف الخروج بالنّكد كما يوصف به غيره ، ويؤيّده قراءة أبي (٢) جعفر بن القعقاع : «إلّا نكدا» بفتح الكاف.

قال الزّجّاج (٣) : وهي قراءة أهل المدينة ، وقراءة ابن مصرّف : «إلا نكدا» بالسّكون وهما مصدران.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤١٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٢٢ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٢.

(٣) ينظر تفسير معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٨٢.

١٧٢

وقال مكيّ (١) : «هو تخفيف نكد بالكسر مثل كتف في كتف».

يقال : رجل نكد ، وأنكد ، والمنكود : العطاء النّزر وأنشدوا [في ذلك] : [السريع]

٢٤٩٥ ـ وأعط ما أعطيته طيّبا

لا خير في المنكود والنّاكد (٢)

وأنشدوا : [المنسرح]

٢٤٩٦ ـ لا تنجز الوعد إن وعدت وإن

أعطيت أعطيت تافها نكدا (٣)

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة (٤) وعيسى بن عمر : «يخرج» مبنيّا للمفعول ، «نباته» مرفوعا لقيامه مقام الفاعل ، وهو الله تعالى.

وقوله : (وَالَّذِي خَبُثَ) صفة لموصوف محذوف ، أي : والبلد التي خبث ، وإنّما حذف لدلالة ما قبله عليه ، كما أنّه قد حذف منه الجار في قوله : «بإذن ربّه» ، إذ التقدير : والبلد الذي خبث لا يخرج بإذن ربه إلا نكدا. ولا بدّ من مضاف محذوف : إمّا من الأوّل تقديره: ونبات الذي خبث لا يخرج ، وإمّا من الثّاني تقديره : والذي خبث لا يخرج نباته إلا نكدا ، وغاير بين الموصولين ، فجاء بالأول بالألف واللّام ، وفي الثّاني جاء بالذي ، ووصلت بفعل ماض.

قوله : «كذلك» تقدم نظيره.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).

قرىء : «يصرّف» أي يصرفها الله ، وختم هذه الآية بقوله : (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ؛) لأنّ الذي سبق ذكره هو أنّه تعالى يحرك الرّياح اللطيفة النافعة ، ويجعلها سببا لنزول المطر ، الذي هو الرّحمة ، ويجعل تلك الرياح والأمطار سببا لحدوث أنواع النّبات النافعة ، فمن هذا الوجه ذكر الدّليل الدّال على وجود الصّانع ، وعلمه ، وقدرته ، وحكمته ، ونبّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمة إلى العباد ، فمن الوجه الأوّل وصفها بأنّها آيات ، ومن الوجه الثّاني أنّها نعم يجب شكرها وخصّها بكونها آيات للشّاكرين ؛ لأنّهم المنتفعون بها ، كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٥) [البقرة : ٢].

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٣٢٢.

(٢) البيت ينظر الرازي ١٤ / ١٤٥ ، الشهاب علي البيضاوي ٤ / ١٧٧ ، البحر ٣ / ٣١٨ ، الطبري ١٢ / ٤٩٥ ، التهذيب واللسان (نكد) ، الدر المصون ٣ / ٢٨٦.

(٣) ينظر مجاز القرآن (١ / ٢١٧) والطبري ٥ / ٥١٩ ، واللسان (تفه) وحاشية الشهاب ٤ / ١٧٧ ، والبحر ٤ / ٣١٧ ، وزاد المسير ٣ / ٢٢٠ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٧ ، وفتح الباري ٨ / ٢٢٥ ، وروح المعاني ٨ / ١٤٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤١٤ إلا أن ابن عطية ضبطها بضم الياء وكسر الراء ونصب التاء.

وينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٢٢ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٧.

(٥) ينظر تفسير الرازي ١٤ / ١١٨ ـ ١١٩.

١٧٣

روى أبو بردة عن أبي موسى عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها بقعة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله به النّاس فشربوا وسقوا ورعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنّما هي قيعان لا تمسك ، ولا تنبت كلا ، فذلك مثل من فقهه في دين الله ، ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (١).

قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٥٩)

لمّا قرر المعاد بالدّليل الظّاهر أتبعه بذكر قصص الأنبياء لفوائد :

أحدها : التّنبيه على أنّ إعراض النّاس عن قبول الدلائل والبينات ليس مخصوصا بقوم محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السّابقة ، والمصيبة إذا عمّت خفّت ، ففي ذكر قصصهم تسلية للرّسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وتخفيف عن قلبه.

وثانيها : أنّه تعالى يحكي في هذه القصص أنّ عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللّعن في الدّنيا ، والخسارة في الآخرة ، وعاقبة أمر المحقّين [إلى الدّولة في الدّنيا ، والسّعادة في الآخرة ، وذلك يقوي قلوب المحقّين](٢) ، ويكسر قلوب المبطلين.

وثالثها : التنبيه على أنّه تعالى ، وإن كان يمهل المبطلين لكنّه لا يهملهم بل يعاقبهم ، وينتقم منهم.

ورابعها : بيان ما في هذه القصص من الدّلالة على نبوّة محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لأنّه كان أميّا ، لم يطالع كتابا ، ولا تلمذ لأستاذ ، فإذا ذكر هذه القصص من غير تحريف ولا خطأ دلّ ذلك على أنّه عرفها بوحي من الله تعالى (٣).

قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا) جواب قسم محذوف تقديره : «والله لقد أرسلنا».

قال الزّمخشريّ (٤) : فإن قلت : ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللّام إلّا مع «قد» ، وقلّ عنهم قوله : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح ١ / ١٧٥ ، كتاب العلم : باب فضل من علم وعلّم ومسلم في الصحيح ٤ / ١٧٨٧ ـ ١٧٨٨ ، كتاب الفضائل : باب بيان مثل ما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى والعلم الحديث (١٥ / ٢٢٨٢).

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١١٨.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٢.

١٧٤

٢٤٩٧ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا ... (١)

قلت : إنّما كان ذلك ؛ لأنّ الجملة القسميّة لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها ، التي هي جوابها ، فكانت مظنّة لمعنى التّوقّع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم.

وأما غير الزّمخشريّ من النّحاة فإنّه قال : إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا : فإمّا أن يكون قريبا من زمن الحال فتأتي ب «قد» وإلّا أتيت باللّام وحدها فظاهر هذه العبارة جواز الوجهين باعتبارين.

وقال هاهنا : «لقد» من غير عاطف ، وفي «هود» [٢٥] و «المؤمنين» [٢٣] : ولقد بعاطف ، وأجاب الكرمانيّ بأن في «هود» قد تقدّم ذكر الرّسول مرّات ، وفي «المؤمنين» ذكر نوح ضمنا في قوله (وَعَلَى الْفُلْكِ) [غافر : ٨٠] ؛ لأنّه أوّل من صنعها ، فحسن أن يؤتى بالعاطف على ما تقدّم ، بخلافه في هذه السّورة.

فصل

هو نوح بن لمك بن متوشلح بن اخنوخ ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس.

وقال القرطبيّ (٢) : «وهو أوّل نبيّ بعث بعد آدم بتحريم البنات والعمّات ، والخالات ، وكان نجّارا ، بعثه الله إلى قومه وهو ابن خمسين سنة».

وقال مقاتل : «ابن مائة سنة».

قال النّحّاس : «وانصرف ؛ لأنّه على ثلاثة أحرف».

وقال ابن عباس : «سمّي نوحا لكثرة نوحه على نفسه» (٣).

واختلفوا في سبب نوحه ، قال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك ، وقيل : لمراجعته ربّه في شأن ابنه كنعان.

__________________

(١) البيت لامرىء القيس وهو بتمامه :

حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صالي

ينظر ديوانه ص ٣٢ ، والأزهية ص ٥٢ ، والجنى الداني ص ١٣٥ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١ ، ، ٧٣ ، ٧٤ ، والدرر ٢ / ١٠٦ ، ٤ / ٢٣١ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٣٧٤ ، ٤٠٢ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٤١ ، وشرح المفصل ٩ / ٢٠ ، ٩٧ ، واللسان (حلف) ، وجواهر الأدب ص ٧٧ ، ورصف المباني ص ١١٠ ، ومغني اللبيب ١ / ٧٣ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٤ ، ٢ / ٤٢ ، والبحر ٤ / ٣٢٣ ، والفخر الرازي ١٤ / ٦٢٠ ، والدر المصون ٣ / ٨٧).

(٢) ينظر : القرطبي ٧ / ١٤٨.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٧٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأبي نعيم وابن عساكر عن يزيد الرقاشي وعزاه لابن المنذر عن عكرمة.

١٧٥

وقيل : لأنّه مرّ بكلب مجذوم فقال : اخسأ يا قبيح يا كلب ، فأوحى الله إليه : أعبتني أم عبت الكلب.

قال ابن عباس : «معنى أرسلنا : بعثنا» (١).

وقال آخرون : معنى الإرسال أنّه تعالى حمّله رسالة يؤدّيها ، فالرّسالة على هذا التّقدير تكون متضمّنة للبعث ، فيكون البعث كالتّابع لا أنّه الأصل.

قوله : «فقال يا قوم اعبدوا الله» جيء هنا بفاء العطف في قوله : «فقال» ، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هود وصالح وشعيب هنا بغير فاء ، والأصل الفاء ، وإنّما حذفت تخفيفا ، وتوسعا [و] اكتفاء بالرّبط المعنويّ ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى. وأما في هود فيقدّر قبل قوله : «إنّي لكم» : «فقال» بالفاء على الأصل.

وجاء هنا : «ما لكم من إله غيره» فلم يعطف هذه الجملة المنفيّة بفاء ولا غيرها ، لأنّها مبينة ومثبتة على اختصاص الله ـ تعالى ـ بالعبادة ورفض ما سواه ، فكانت في غاية الاتّصال فقال : يا قوم اعبدوا الله.

فصل في بيان نسب «نوح»

قال ابن العربيّ : ومن قال : إن إدريس كان قبل نوح فقد وهم ، بدليل حديث الإسراء الصّحيح ، حين لقي النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم آدم وإدريس ، فقال له آدم : مرحبا بالنّبيّ الصالح والابن الصالح ، وقال له إدريس : مرحبا بالنّبيّ الصّالح ، والأخ الصّالح فلما قال له : «والأخ الصالح» دلّ على أنّه يجمع معه في نوح.

قال القاضي عياض : جواب الآباء هاهنا كنوح ، وإبراهيم وآدم : مرحبا بالابن الصالح ، وقال عن إدريس : بالأخ الصالح كما ذكر عن موسى وعيسى ، ويوسف [وهارون ويحيى ممّن ليس بأب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتّفاق (٢)](٣).

فصل في بيان أجناس البشر

قال القرطبيّ : ذكر النّقّاش عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنّ العرب ، وفارس والرّوم ، وأهل الشّام واليمن من ولد سام بن نوح ، والهند والسّند والزّنج ، والحبشة والزّطّ والنّوبة وكل جلد أسود من ولد حام ، والترك ، والبربر ووراء النهر والصين ، ويأجوج ومأجوج والصّقالبة من ولد يافث بن نوح ، والخلق كلهم ذرية نوح ـ عليه الصّلاة والسّلام (٤) ـ.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٢١) عن ابن عباس.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر تفسير القرطبي ٧ / ١٤٨.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٤٩.

١٧٦

قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

قرأ الكسائيّ (١) «غيره» بخفض الرّاء في جميع القرآن ، والباقون برفعها ، وقرأ عيسى (٢) بن عمر بنصبها ، فالجرّ على النّعت والبدل من موضع «إله» ؛ لأن «من» مزيدة فيه ، وموضعه رفع : إما بالابتداء ، وإمّا بالفاعليّة ، ومنع مكيّ (٣) في وجه الجرّ أن تكون بدلا من إله على اللّفظ ، قال : كما لا يجوز دخول «من» لو حذفت المبدل منه ؛ لأنّها لا تدخل في الإيجاب ، وهذا كلام متهافت.

والنّصب على الاستثناء ، والقراءتان الأوليان أرجح ؛ لأنّ الكلام متى كان غير إيجاب ، رجّح الاتباع على النّصب على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد «إلّا» ، و «من إله» إذا جعلته مبتدأ فلك في الخبر وجهان :

أظهرهما : أنّه «لكم».

والثاني : أنّه محذوف ، أي : ما لكم من إله في الوجود ، أو في العالم غير الله ، و «لكم» على هذا تخصيص وتبيين.

فصل فيما تضمنته الآية من حذف

قال الواحديّ : «في الكلام حذف ، وهو خبر ما ؛ لأنّك إذا جعلت غيره صفة لقوله : «إله» لم يبق لهذا المنفي خبر ، والكلام لا يستقلّ بالصّفة والموصوف ، فإنّك إذا قلت : زيد العاقل وسكتّ لم يفد ما لم تذكر خبره ويكون التّقدير : ما لكم من إله غيره في الوجود» (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : اتّفق النّحويّون على أنّ قولنا : «لا إله إلّا الله» لا بد فيه من إضمار ، والتّقدير : لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله ، ولم يذكروا على هذا الكلام حجّة ، فنقول : لم لا يجوز أن يقال : دخل حرف النّفي على هذه الحقيقة وعلى هذه الماهيّة ، فيكون المعنى أنّه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقّ الله تعالى ، وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه.

فإن قالوا : صرف النفي إلى الماهيّة لا يمكن ؛ لأنّ الحقائق لا يمكن نفيها ، فلا يمكن أن يقال : لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهيّة ، وإنّما الممكن أن يقال : إنّ تلك

__________________

(١) ينظر : السبعة ٢٨٤ ، والحجة ٤ / ٣٩ ، ٤٠ ، وحجة القراءات ٢٨٦ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٩ ، وشرح شعلة ٣٩٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ٣٠٠ ، والعنوان ٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ١١٣ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٤١٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٢٤ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٧.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٣٢٣.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٠.

(٥) المصدر السابق.

١٧٧

الحقائق غير موجودة ، ولا حاصلة ، وحينئذ يجب إضمار الخبر فنقول : هذا الكلام بناء على أنّ الماهيّة لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ، وذلك باطل قطعا ، إذ لو كان الأمر كذلك ؛ لوجب امتناع ارتفاع الوجود ؛ لأنّ الوجود أيضا حقيقة من الحقائق ، وماهيّة من الماهيّات ؛ فوجب ألا يرتفع الوجود أيضا ، فإن أمكن ارتفاع الوجود مع أنّه ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيّات.

فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله

دلّ ظاهر الآية على أنّ الإله هو الذي يستحقّ العبادة ؛ لأن قوله : «اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» إثبات ونفي ، فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام ، فكان المعنى : اعبدوا الله ما لكم من معبود غيره ، حتى يتطابق النّفي والإثبات ، ثم ثبت بالدّليل أنّ الإله ليس هو المعبود ، وإلّا لوجب كون الأصنام آلهة ، وألّا يكون الإله إلها في الأزل ؛ لأنّه في الأزل غير معبود ، فوجب حمل لفظ الإله على أنّه المستحقّ للعبادة.

قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

اختلفوا في معنى قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنّ والشكّ؟ فقيل : المراد : الجزم واليقين ؛ لأنّه كان جازما أنّ العذاب ينزل بهم : إمّا في الدّنيا ، وإمّا في الآخرة ، إن لم يقبلوا الدّعوة.

وقيل : بل المراد منه الشّكّ لوجوه :

[أحدها] : إنّما قال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ ؛) لأنّه جوّز أن يؤمنوا ، وأن يستمروا على كفرهم ، ومع هذا التّجويز لا يكون قاطعا بنزول العذاب ، فلهذا قال : «أخاف عليكم».

وثانيها : أنّ حصول العذاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسّمع ، فلعلّ الله ـ تعالى ـ ما بيّن له كيفيّة هذه المسألة ، فلا جرم جوّز أنّ الله ـ تعالى ـ هل يعاقبهم أم لا؟.

وثالثها : يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر ، كقوله في الملائكة : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) [النحل : ٥٠] أي يحذرون المعاصي خوفا من العقاب.

ورابعها : أنه بتقدير أن يكون قاطعا بنزول العذاب لكنّه ما كان عارفا بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشّك راجعا إلى وصف العذاب لا في أصل حصوله ، والمراد بذلك العذاب إمّا عذاب يوم القيامة ، أو عذاب الطّوفان (١).

فإن قيل : إنه تعالى حكى عن نوح ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ في هذه الآية أنّه أمر قومه بثلاثة أشياء :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٢.

١٧٨

الأوّل : أمرهم بعبادة الله ، والمقصود منه إثبات التّكليف.

الثاني : أنّه حكم أن لا إله غير الله ، والمقصود منه الإقرار بالتّوحيد ، ثم قال عقيبه : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، وهذا هو الدّعوى الثّالثة ، وعلى هذا التّقدير فقد ادّعى الوحي والنّبوّة من عند الله ، ولم يذكر على صحّة واحد منها دليلا ولا حجّة ، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التّقليد فهذا باطل ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ ملأ القرآن من ذمّ التقليد ، فكيف يليق بالرّسول المعصوم الدّعوة إلى التقليد؟! وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدّليل ، فهذا غير مذكور.

فالجواب : أن الله ـ تعالى ـ ذكر في أوّل السّورة دلائل التّوحيد والنّبوّة وصحّة المعاد ، وذلك تنبيه منه تعالى على أنّ أحدا من الأنبياء لا يدعو إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجّة والدّليل أقصى ما في الباب أنّه تعالى ما حكى عن نوح في هذا المقام ذكر تلك الدّلائل لما كانت معلومة(١).

قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٦١)

قوله : «قال الملأ».

قال ابن عطية (٢) : وقرأ ابن عامر : «الملؤ» بواو ، وهي كذلك في مصاحف الشّام ، وهذه القراءة ليست مشهورة عنه قال المفسّرون (٣) : الملأ : الكبراء والسّادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء ، ويدلّ على ذلك قوله : «من قومه» ؛ لأنّه يقتضي التّبعيض ، وذلك البعض لا بدّ وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقّوا هذا الوصف بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المجالس ، وتمتلىء القلوب من هيبتهم ، وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم ، وهذه الصّفات لا تحصل إلا في الرّؤساء.

قوله : «إنّا لنراك» يجوز أن تكون الرّؤية قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما «في ضلال» ، وأن تكون البصريّة وليس بظاهر فالجارّ حال ، وجعل الضّلال ظرفا مبالغة في وصفهم له بذلك ، وزادوا في المبالغة بأن أكّدوا ذلك بأن صدّروا الجملة ب «إنّ» وفي خبرها اللّام.

وقوله : (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) الضّلال ، والضّلالة : العدول عن الحق.

فإن قيل : قولهم : إنّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال : ليس في ضلال فلم أجاب بقوله «ليس بي ضلالة».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢١.

(٢) ينظر : إعراب القراءات ١ / ١٩٣ ، وحجة القراءات ٢٨٧ ، والعنوان ٩٦ ،

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٢٢.

١٧٩

فالجواب أنّ قوله : «ليس بي ضلالة» من أحسن الردّ وأبلغه ؛ لأنّه نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلا عن أن يحيط به الضلال ، فكان المعنى : ليس بي نوع من أنواع الضّلال ألبتّة ، فكان هذا أبلغ في عموم السّلب فلو قال : لست ضالّا لم يؤدّ هذا المعنى.

واعلم أنّ القوم إنما نسبوا نوحا في ادّعاء الرّسالة إلى الضّلال لأمور :

أحدها : أنّهم استبعدوا أن يكون لله رسولا إلى خلقه ، لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التّكليف ، والتّكليف لا منفعة فيه للمعبود ؛ لأنّه متعال عن النّفع والضّرر ، ولا منفعة فيه للعابد ؛ لأنّه في الحال مضرّة ، وما يوحي فيه من الثّواب والعقاب فالله ـ تعالى ـ قادر على تحصيله بغير واسطة تكليف ، فيكون التّكليف عبثا ، والله منزه عن العبث.

وثانيها : أنّهم وإن جوّزوا التّكليف إلا أنّهم قالوا : ما علمنا حسنه بالعقل فعلناه ، وما علمنا قبحه تركناه حذرا من خطر العقاب ، فالله تعالى منزّه عن أن يكلّف عبده ما لا طاقة له به ، وإذا كان رسول العقل كافيا ، فلا حاجة إلى بعثه رسولا آخر.

وثالثها : أي بتقدير أنّه لا بدّ من الرسول ، فإرسال الملائكة أولى ؛ لأنّ مهابتهم أشدّ ، وطهارتهم أكمل ، وبعدهم عن الكذب أعظم.

ورابعها : اعلم أنّ بتقدير أن يبعث رسولا من البشر ، فلعلّ القوم اعتقدوا أن الفقير الذي ليس له أتباع ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة ، أو لعلّهم اعتقدوا أنّ ادعاء نوح الرّسالة من باب الجنون وتخييلات الشّيطان ، فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضّلال ، وقد أجابهم نوح ببقية الآية على ما يأتي في أثنائها.

ثمّ إنّه عليه الصّلاة والسّلام لما نفى العيب عن نفسه ، وصف نفسه بأشرف الصّفات وهو قوله : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت «لكنّ» هنا أحسن مجيء ؛ لأنّها بين نقيضين ؛ لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد شيئين : ضلال ، أو هدى ، والرّسالة لا تجامع الضّلال.

و «من ربّ» صفة ل «رسول» ، و «من» لابتداء الغاية المجازية.

قوله تعالى : (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)(٦٤)

قوله : «أبلّغكم» يجوز أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيان كونه رسولا ، ويجوز أن تكون صفة ل «رسول» ، ولكنّه راعى الضّمير السّابق الذي للمتكلّم فقال : أبلّغكم ، ولو راعى الاسم الظّاهر لقال : يبلّغكم ، والاستعمالان جائزان في كلّ اسم ظاهر سبقه ضمير حاضر من متكلم ، أو مخاطب فتحرّر لك فيه وجهان :

١٨٠