اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وكذلك الأسداس وهذا الإبدال لازم ، ويدلّ عليه أيضا قولهم : جاء فلان سادسا وسدسا وساديا بالياء مثناة من أسفل قال [الشاعر] : [الطويل]

٢٤٨٠ ـ ..........

وتعتدّني إن لم يق الله ساديا (١)

أي «سادسا» فأبدلها.

فصل

قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الظّاهر : أنّه ظرف ل (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) معا ، واستشكل على ذلك أنّ اليوم إنّما هو بطلوع الشّمس وغروبها ، وذلك إنّما هو بعد وجود السّموات والأرض ، وأجابوا عنه بأجوبة منها :

أنّ السّتّة ظرف لخلق الأرض فقط ، فعلى هذا يكون قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ) مطلقا لم يقيّد بمدّة ، ويكون قوله : «والأرض» مفعولا بفعل مقدّر أي ؛ وخلق الأرض ، وهذا الفعل مقيّد بمدّة ستّة أيّام ، وهذا قول ضعيف جدّا.

وقيل : في مقدار ستّة أيّام من أيّام الدّنيا ، ونظيره : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم : ٦٢].

والمراد : على مقدار البكرة والعشيّ في الدّنيا ؛ لأنّه لا ليل ثمّ ولا نهار.

وقيل : ستّة أيّام كأيّام الآخرة ، كلّ يوم كألف سنة.

قال سعيد بن جبير : كان الله ـ عزوجل ـ قادرا على خلق السّموات والأرض في لمحة ولحظة ، فخلقهنّ في ستّة أيّام تعليما لخلقه التّثبّت ، والتّأنّي في الأمور ، وقد جاء في الحديث : «التّأنّي من الله والعجلة من الشّيطان».

قال القرطبيّ (٢) : وأيضا لتظهر قدرته للملائكة شيئا بعد شيء وهذا عند من يقول : خلق الملائكة قبل خلق السّموات والأرض ، وحكمة أخرى خلقها في ستّة أيّام ، لأنّ لكلّ شيء عنده أجلا (٣) ، وبين بهذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب ؛ لأنّ لكلّ شيء عنده أجلا وهذا كقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) بعد أن قال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) [ق : ٣٦ ـ ٣٨].

فصل في بيان أسئلة واردة على الآية

في الآية سؤالات :

الأول : كون هذه الأشياء مخلوقة في ستّة أيّام لا يمكن جعله دليلا على إثبات الصّانع لوجوه (٤).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٤٠.

(٣) في أ : إخلاصا.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨١.

١٤١

أحدها : أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصّانع هو حدوثها ، أو إمكانها ، أو مجموعها ، فأمّا وقوع ذلك الحدوث في ستة أيّام ، أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتّة.

الثاني : أنّ العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز ، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستّة أيّام إلّا بإخبار مخبر صادق ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار ، فلو جعلنا هذه المقدّمة مقدّمة في إثبات الصّانع لزم الدّور(١).

الثالث : أنّ حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدلّ على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيّام.

وإذا ثبتت هذه الوجوه الثلاثة فنقول : ما الفائدة في ذكر أنّه تعالى إنّما خلقها في ستّة أيّام في إثبات ذكر ما يدلّ على وجود الصّانع؟

الرابع : ما السّبب في أنّه اقتصر هاهنا على ذكر السّموات والأرض ، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟

الخامس : اليوم إنّما يمتاز عن اللّيلة بطلوع الشّمس وغروبها ، فقبل خلق السّموات والقمر كيف يعقل حصول الأيّام؟

السادس : أنّه تعالى قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] ، وهو كالمناقض لقوله خلق السّموات والأرض.

السابع : أنّه تعالى خلق السّموات والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تقييدها بالأيام الستّة؟

والجواب على مذهب أهل السّنّة واضح ؛ لأنّه تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور ، وكلّ شيء صنعه ولا علّة لصنعه ، ثم نقول :

أمّا الجواب عن الأوّل أنّه تعالى ذكر في أوّل التّوراة أنّه خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ، والعرب كانوا يخالطون اليهود والظّاهر أنّهم سمعوا ذلك منهم ، فكأنّه سبحانه يقول : لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام ، فإنّ ربّكم هو الذي سمعتم من عقلاء النّاس أنّه هو الذي خلق السّموات والأرض على غاية عظمتها في ستّة أيّام (٢).

وعن الثالث : أن المقصود منه أنّه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنّه جعل لكلّ شيء حدا محدودا ، ووقتا مقدرا ، فلا يدخله في الوجود إلّا على ذلك الوجه ، فهو ، وإن كان قادرا على إيصال الثّواب للمطيعين في الحال ، وعلى

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨١.

(٢) لم يذكر الجواب عن الثاني.

١٤٢

إيصال العقاب للمذنبين في الحال ، إلّا أنّه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدور ، فهذا التّأخير ليس لأجل أنّه تعالى أهمل العباد ، بل لما ذكرنا أنّه خصّ كلّ شيء بوقت معيّن لسابق مشيئته ، فلا يفتر عنه ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨].

وقال المفسّرون : إنّه تعالى إنّما خلق العالم في ستّة أيّام ليعلّم عباده الرّفق في الأمور كما تقدّم عن سعيد بن جبير.

وقال آخرون : «إنّ الشّيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث ، فلعلّه يخطر ببال بعضهم أنّ ذلك إنّما وقع على سبيل الاتّفاق ، أمّا إذا حدثت الأشياء على سبيل التّعاقب والتّواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة كان ذلك أقوى في الدّلالة على كونها واقعة بإحداث محدث حكيم وقادر عليم» (١).

وعن الرابع : أنّه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) [السجدة : ٤].

وقال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الفرقان : ٥٨ ـ ٥٩].

وعن الخامس : قوله أنّ المراد أنّه تعالى خلق السّموات ، والأرض في مقدار ستّة أيّام كما تقدّم.

وقال بعض العلماء : المراد بالستّة أيّام هاهنا مراتب مصنوعاته ؛ لأنّ قبل الزّمان لا يمكن تجدد الزّمان ، والمراد بالأيام السّتّة : يوم لمادة السموات ، ويوم لصورتها ، ويوم لكمالاتها من الكواكب ، والنّفوس ، وغيرها ويوم لمادة الأرض ويوم لصورتها ويوم لكمالاتها من الجبال وغيرها ، فاليوم عبارة عن الكون الحادث.

وعن السادس : أنّ قوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] محمول على إيجاد كلّ واحد من الذّوات وعلى إعدام كل واحد منها ؛ لأنّ إيجاد الموجود الواحد لا يقبل التّفاوت ، فلا يمكن تحصيله إلا دفعة ، وأمّا الإمهال فلا يحصل إلّا في المدّة (٢).

وعن السابع : أنّ هذا السّؤال غير وارد ، لأنّه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزّمان لعاد ذلك السّؤال.

قوله : (ثُمَّ اسْتَوى) الظّاهر عود الضّمير على الله ـ تعالى ـ بالتّأويل المذكور في البقرة.

وقيل : الضّمير يعود على الخلق المفهوم من «خلق» ثم استوى خلقه على العرش ،

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٢.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٣.

١٤٣

ومثله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] قالوا : يحتمل أن يعود الضّمير في «استوى» على «الرّحمن» ، وأن يعود على الخلق ، ويكون «الرّحمن» خبرا لمبتدأ محذوف أي : هو الرّحمن.

والعرش : يطلق بإزاء معان كثيرة ، فمنه سرير الملك ، وعليه : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) [النمل : ٤١] ، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠]. ومنه السّلطان والعزّ وعليه قول زهير : [الطويل]

٢٤٨١ ـ تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل (١)

وقول الآخر : [الكامل]

٢٤٨٢ ـ إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بربيعة بن الحارث بن شهاب (٢)

ومنه : خشب تطوى به البئر بعد أن يطوى بالحجارة أسفلها ومنه : ما يلاقي ظهر القدم وفيه الأصابع ، ومنه : السّقف ، وكلّ ما علاك فهو عرش ، فكأنّ المادّة دائرة مع العلوّ والرّفعة ومنه عرش الكرم ، وعرش السّماك أربعة كواكب صغار أسفل من العوّاء يقال إنّها عجز الأسد.

والعرش : اسم ملك والعرش الملك والسّلطان. يقال : قد ذهب عرش فلان أي : ذهب ملكه وعزه وسلطانه قال زهير : [الطويل]

٢٤٨٣ ـ تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النّعل (٣)

وقد تؤوّل العرش في الآية بمعنى الملك أي : ما استوى الملك الإله عزوجل.

فصل في تنزيه الله تعالى

قال القرطبي (٤) : الأكثر من المتقدّمين والمتأخّرين على أنّه إذا وجب تنزيه الباري سبحانه عن الجهة والتّحيّز ، فمن ضرورة ذلك ولوازمه عند عامّة العلماء المتقدّمين ، وقادتهم من المتأخّرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهة ، فليس بجهة فوق عندهم ؛ لأنّه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان وحيّز ، ويلزم على المكان والحيّز الحركة والسّكون ، ويلزم من الحركة والسّكون التّغيّر والحدوث ، هذا قول المتكلّمين وقد كان السّلف الأول ـ رضي الله عنهم ـ لا يقولون بنفي الجهة ، ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافّة بإثباتها لله ـ تعالى ـ كما نطق كتابه ، وأخبرت [رسله] ، ولم

__________________

(١) البيت لزهير ينظر : ديوانه ١٠٦ ، الدر المصون ٣ / ٢٨٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : ديوانه ١٠٦ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٠.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٤٠.

١٤٤

ينكر أحد من السّلف الصّالح أنّه استوى على عرشه حقيقة ، وخصّ العرش بذلك ؛ لأنّه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء ، فإنّه لا تعلم حقيقته ، كما قال مالك ـ رحمه‌الله ـ : «الاستواء معلوم ـ يعني في اللغة ـ والكيف مجهول ، والسّؤال عن هذا بدعة» (١) ، وكذلك قالت أمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ ، وهذا القدر كاف (٢).

فصل في معنى الاستواء

فإن قيل الاستواء في اللّغة : هو العلوّ والاستقرار.

قال الجوهريّ (٣) : «استوى من اعوجاج ، واستوى على ظهر دابّته أي : استقرّ ، واستوى إلى السّماء أي قصد ، واستوى أي : استولى ، وظهر ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٢٤٨٤ ـ قد استوى بشر على العراق (٤)

واستوى الرّجل أي : انتهى شبابه ، واستوى الشّيء أي : اعتدل ، وحكى ابن عبد البرّ عن أبي عبيدة في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قال : «علاه».

قال الشّاعر : [الطويل]

٢٤٨٥ ـ وقد خلق النّجم اليمانيّ واستوى (٥)

أي : علا وارتفع.

قال القرطبيّ (٦) : فعلوّ الله ـ تعالى ـ وارتفاعه عبارة عن علوّ مجده ، وصفاته ، وملكوته أي : ليس فوقه فيما يجب له من تعالي الجلال أحد [ولا معه من يكون العلو مشتركا بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه].

فصل في تأويل الآية

قال ابن الخطيب (٧) اعلم أنّه لا يمكن أن يكون المراد من الآية كونه مستقرّا على العرش ، ويدلّ على فساده وجوه عقليّة ونقليّة : أمّا العقليّة فأمور :

أحدها : أنّه لو كان مستقرّا على العرش لكان من الجانب الّذي يلي العرش متناهيا ، وإلّا لزم كون العرش داخلا في ذاته ، وهو محال وكل ما كان متناهيا فإنّ العقل يقتضي بأنّه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرّة ، والعلم بهذا الجواز ضروريّ ، فلو كان الباري ـ تعالى ـ متناهيا من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزّيادة والنّقصان ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين ؛ لتخصيص مخصّص وتقدير مقدّر ، وكل

__________________

(١) وهذا هو الذي ندين به لله ـ عزوجل ـ ونحشر عليه يوم القيامة.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٤١.

(٣) ينظر : تهذيب اللغة ١٣ / ١٢٣.

(٤) تقدم برقم ٣٤٦.

(٥) تقدم برقم ٣٤٥.

(٦) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ١٤١.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٣.

١٤٥

ما كان كذلك فهو محدث فثبت أنّه تعالى لو كان على العرش ؛ لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهيا ولو كان كذلك لكان محدثا وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالا (١).

وثانيها : لو كان في مكان وجهة ، لكان إمّا أن يكون غير متناه من كلّ الجهات ، وإمّا أن يكون متناهيا من كلّ الجهات ، وإمّا أن يكون متناهيا عن بعض الجهات دون البعض ، والكلّ باطل فالقول بكونه في المكان والحيّز باطل قطعا.

بيان الأول : أنّه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السّفليّة والعلويّة ، وأن تكون مخالطة للقاذورات والنّجاسات وتكون الأرضون أيضا حالة في ذاته.

وإذا ثبت هذا فنقول الذي هو محل السّموات ، إمّا أن يكون هو عين الشّيء الذي هو محلّ الأرضين ، أو غيره فإن كان الأوّل ؛ لزم كون السّموات ، والأرضين حالتين في محلّ واحد من غير امتياز بين محليهما أصلا ، وكلّ حالين حلا في محلّ واحد لم يكن أحدهما ممتازا عن الآخر فلزم أن يقال السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذّات ، وذلك باطل فإن كان الثّاني لزم أن تكون ذات الله تعالى مركّبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال (٢).

والثالث : وهو أنّ ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات فإمّا أن يقال الشّيء الذي حصل فوق هو عين الشّيء الذي حصل تحت فحينئذ تكون الذّات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة [في أحياز كثيرة وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضا حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة؟](٣) وهو محال في بديهة العقل ، وأمّا إن قيل إنّ الشّيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت ، فحينئذ يلزم حصول التركيب والتّبعيض في ذات الله تعالى وهو محال.

وأما القسم الثّاني ، وهو أن يقال إنّه متناه من كلّ الجهات فنقول : كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنّقصان في بديهة العقل ، وكلّما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعيّن لأجل تخصيص مخصّص وكلّ ما كان كذلك فهو محدث ، وأيضا فإن جاز أن يكون الشّيء المحدود من كلّ الجوانب قديما أزليا فاعلا للعالم فلم لا يعقل أن يقال : خالق العالم هو الشّمس ، أو القمر ، أو كوكب آخر وذلك باطل بالاتّفاق (٤).

وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال بأنّه متناه من بعض الجوانب ، وغير متناه من سائر الجوانب فهذا أيضا باطل من وجوه (٥) :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٣ ـ ٨٤.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٤.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٤.

١٤٦

أحدها : أنّ الجانب المتناهي غير ما صدق عليه أنّه غير متناه إلا لصدق النقيضين معا وهو محال ، وإذا حصل التّغاير لزم كونه تعالى مركّبا من الأجزاء والأبعاض.

وثانيها : أنّ الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهيا ، إمّا أن يكون مساويا للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه ، وإمّا ألّا يكون ك ذلك ، والأوّل باطل لأنّ الأشياء المتساوية في تمام الماهيّة ، كلّ ما صحّ على واحد منها صحّ على الآخر الباقي ، وإذا كان كذلك فالجانب الذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهيا والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه.

ومتى كان الأمر كذلك كان النموّ والذّبول والزّيادة والنّقصان والتّفرق والتّمزّق على ذاته ممكنا وكل ما كان كذلك فهو محدث ، وذلك على الإله القديم محال.

البرهان الثالث : لو كان البارىء ـ تعالى ـ حاصلا في المكان والجهة لكان الأمر المسمّى بالجهة إمّا أن يكون موجودا مشارا إليه ، وإما ألّا يكون كذلك ، والقسمان باطلان ، فكان القول بكونه تعالى في المكان والجهة باطلا (١).

أمّا بيان فساد القسم الأوّل ، فلأنّه لو كان المسمّى بالحيّز والجهة موجودا مشارا إليه ، فحينئذ يكون المسمّى بالحيّز ، والجهة بعدا ، وامتدادا ، والحاصل فيه أيضا يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد ، وإلا لامتنع حصوله فيه وحينئذ يلزم تداخل البعدين ، وذلك محال للدّلائل المشهورة في هذا الباب. وأيضا ؛ فيلزم من كون البارىء قديما أزليّا كون الحيّز ، والجهة أزليّين ، وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله وذلك باطل بإجماع أكثر العقلاء (٢).

وأمّا بيان فساد القسم الثّاني فهو من وجهين (٣) :

أحدهما : أنّ العدم نفي محض ، وعدم صرف ، وما كان كذلك امتنع كونه ظرفا لغيره ، وجهة لغيره.

[وثانيهما : أنّ كلّ ما كان حاصلا في جهة فجهته ممتازة في الحسّ عن جهة غيره ولو كانت تلك الجهة عدما محضا لزم كون العدم المحض مشارا إليه بالحسّ وذلك باطل ؛ فثبت أنّه تعالى لو كان في حيّز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطلين ؛ فوجب أن يكون القول به باطلا (٤)](٥).

فإن قيل : فهذا أيضا وارد عليكم في قولكم : الجسم حاصل في الحيّز والجهة فنقول : نحن على هذا الطّريق لا نثبت للجسم حيّزا ، ولا جهة أصلا ألبتّة ، بحيث تكون

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٤.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٤.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٥.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٥.

(٥) سقط من أ.

١٤٧

ذات الجسم نافذة فيه وسارية ، بل المكان عبارة عن السّطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسّطح الظّاهر من الجسم المحويّ ، وهذا المعنى محال بالاتّفاق في حقّ الله ـ تعالى ـ فسقط هذا السّؤال ، وبقيّة البراهين العقليّة مذكورة في تفسير ابن الخطيب (١).

وأمّا الدّلائل السّمعيّة فمنها قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] فوصفه بكونه أحدا ، والأحد مبالغة في كونه واحدا والذي يمتلىء منه العرش ، ويفضل على العرش يكون مركّبا من أجزاء كثيرة جدا فوق أجزاء العرش ، وذلك ينافي كونه أحدا.

وقال بعض الكرّاميّة عند هذا الإلزام : إنّه تعالى ذات واحدة ، [ومع كونه ذاتا واحدة حصلت في كلّ هذه الأحياز دفعة واحدة قالوا : فلأجل أنّه تعالى حصل](٢) دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه ، فيقال لهم : حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنّه يجوز حصول الذّات الشّاغلة للحيّز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة ، والعقلاء اتّفقوا على أنّ العلم بفساد ذلك من أجلّ العلوم الضروريّة أيضا ، وأيضا فإن جوّزتم ذلك فلم لا تجوّزون أن يقال : جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثّرى جوهر واحد ، وموجود واحد ، إلا أنّ ذلك الجزء الذي لا يتجزّأ حصل في جملة هذه الأحياز ، فيظنّ أنّها أشياء كثيرة ، ومعلوم أنّ من جوّزه ، فقد التزم منكرا من القول عظيما (٣).

فإن قالوا : إنّما عرفنا هاهنا حصول التّغاير بين هذه الذّوات ، لأنّ بعضها يفنى مع بقاء الباقي ، وذلك يوجب التّغاير ، وأيضا فنرى بعضها متحرّك وبعضها ساكن ، والمتحرّك غير السّاكن ؛ فوجب القول بالتّغاير ، وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله ـ تعالى ـ فظهر الفرق ، فنقول : أمّا قولكم : بأنّا نشاهد أنّ هذا الجزء يبقى مع أنّه يفنى ذلك الجزء الآخر ، وذلك يوجب التّغاير ، فلا نسلم أنّه فني شيء من الأجزاء ، بل نقول : لم لا يجوز أن يقال : إنّ جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ، ثم إنّه حصل هاهنا وهناك.

وأيضا جعل موصوفا بالسّواد والبياض ، وجميع الألوان والطّعوم ، فالذي يفنى إنّما هو حصوله هناك ، فأمّا أن يقال : إنّه فني في نفسه ، فهذا غير مسلم.

وأمّا قولكم : نرى بعض الأجسام متحرّكا ، وبعضها ساكنا ، وذلك يوجب التّغاير ؛ لأنّ الحركة والسّكون لا يجتمعان فنقول : إنا حكمنا بأنّ الحركة والسّكون لا يجتمعان ، لاعتقادنا أنّ الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين ، فإذا رأينا أنّ السّاكن بقي هاهنا ، وأن المتحرّك ليس هاهنا ، قضينا أنّ المتحرّك غير السّاكن.

وأمّا بتقدير أن يجوز كون الذّات الواحدة حاصلة في حيّزين دفعة واحدة ، فلم يمتنع

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٨٥ ـ ٩٢.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٢.

١٤٨

كون الذّات الواحدة متحرّكة ساكنة معا ؛ لأنّ أقصى ما في الباب أنّه بسبب السّكون بقي هاهنا وبسبب الحركة حصل في الحيّز الآخر ، إلا أنّا لمّا جوّزنا أن تحصل الذّات الواحدة دفعة واحدة في حيّزين معا ، لم يبعد أن تكون الذّات السّاكنة هي غير الذّات المتحرّكة ، فثبت أنّه لو جاز أن يقال: إنّه تعالى ذاته واحدة ، لا تقبل القسمة ، ثمّ مع ذلك يمتلىء العرش منه لم يبعد أن يقال : إنّ العرش في نفسه جوهر فرد جزء لا يتجزّأ ، ومع ذلك فقد حصل في كلّ تلك الأحياز ، وحصل منه كل العرش ، وذلك يفضي إلى فتح باب الجهالات (١).

ومنها قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملا للإله ؛ فوجب أن يكون الإله محمولا حاملا ومحفوظا حافظا ، وذلك لا يقوله عاقل (٢).

ومنها قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُ) [محمد : ٣٨] حكم بكونه غنيّا على الإطلاق ، وذلك يوجب كونه تعالى غنيّا عن المكان والجهة (٣).

ومنها أنّ فرعون لمّا طلب حقيقة الإله من موسى ـ عليه‌السلام ـ ولم يزد موسى عليه‌السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرّات فإنه قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ففي المرة الأولى قال (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) [الشعراء : ٢٤].

وفي المرّة الثّانية قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦].

وفي المرة الثالثة قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء: ٢٨]. وكلّ ذلك إشارة إلى الخلاقية ، وأمّا فرعون فإنّه قال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] فطلب الإله في السّماء ، فعلمنا أنّ وصف الإله بالخلاقية ، وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السّماء دين فرعون ، وإخوانه من الكفرة.

ومنها قوله تعالى في هذه الآية : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

وكلمة «ثم» للتراخي وهذا يدلّ على أنّه تعالى إنّما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض ، فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار ؛ لزم أن يقال : إنّه ما كان مستقرا على العرش ، بل كان معوجا مضطربا ، ثم استوى عليه بعد ذلك ، وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة ، والسّكون أخرى ، وذلك لا يقوله عاقل (٤).

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.

١٤٩

ومنها طعن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في إلهية الكواكب بكونها آفلة غاربة ، فلو كان إله العالم جسما ، لكان أبدا غاربا آفلا وكان متنقلا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار ، فكلّ ما جعله طعنا في إلهية الكواكب يكون حاصلا في إله العالم فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته (١)؟!.

ومنها أنّه تعالى ذكر قبل قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) شيئا ، وبعده شيئا آخر ، أمّا المذكور قبل هذه الكلمة فهو قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وذلك يدلّ على وجود الصّانع ، وقدرته ، وحكمته.

وأما المذكور بعد هذه الكلمة فأشياء أوّلها : «يغشي اللّيل النّهار يطلبه حثيثا» ، وذلك يدلّ على وجود الله تعالى ، وعلى قدرته وحكمته.

وثانيها : قوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) وهذا أيضا يدلّ على الوجود ، والقدرة والعلم.

وثالثها : قوله : «ألا له الخلق والأمر» ، وهو أيضا إشارة إلى كمال قدرته ، وحكمته.

وإذا ثبت هذا فنقول : أوّل الآية إشارة إلى ذكر ما يدلّ على الوجود والقدرة والعلم ، وآخر الآية يدلّ أيضا على هذا المطلوب ، وإذا كان كذلك فقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) يجب أيضا أن يكون دليلا على كمال القدرة والعلم ؛ لأنّه لو لم يدلّ عليه ، بل كان المراد كونه مستقرّا على العرش لا يمكن جعله دليلا على كماله في القدرة ، والعلم ، والحكمة ، وليس أيضا من صفات المدح والثّناء ، لأنّه تعالى قادر على أن يجلس جميع البقّ والبعوض على العرش ، وعلى ما فوق العرش ، فثبت أنّ كونه جالسا على العرش ليس من دلائل إثبات الذّات والصّفات ، ولا من صفات المدح والثّناء ، فلو كان المراد من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) كونه جالسا على العرش ، لكان ذلك كلاما أجنبيا عمّا قبله وعمّا بعده ، وذلك يوجب نهاية الرّكاكة ؛ فثبت أنّ المراد منه ليس ذلك بل المراد منه : كمال قدرته في تدبير الملك ، والملكوت ، حتّى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ، ولما بعدها ، وهو المطلوب.

وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) من المتشابهات التي يجب تأويلها ، وللعلماء هاهنا مذهبان :

الأول : أن يقطع بكونه تعالى متعاليا عن المكان والجهة ، ولا نخوض في تأويل الآية على التّفصيل ، بل نفوّض علمها إلى الله ـ تعالى ـ ونقول : الاستواء على العرش صفة لله ـ تعالى ـ بلا كيف يجب على الرّجل الإيمان به ، ونكل العلم فيه إلى الله ـ عزّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٣.

١٥٠

وجلّ ـ ، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى فأطرق رأسه مليّا ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسّؤال عنه بدعة ، وما أظنّك إلا ضالّا ، ثم أمر به ، فأخرج (١).

وروي عن سفيان الثّوريّ ، والأوزاعيّ ، واللّيث بن سعد وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السّنّة في هذه الآيات التي جاءت في الصّفات المتشابهة ، أن نوردها كما جاءت بلا كيف (٢).

والمذهب الثّاني : أن نخوض في تأويله على التّفصيل ، وفيه قولان :

الأول : ما ذكره القفّال ـ رحمه‌الله ـ فقال : العرش في كلامهم : هو السرير الذي يجلس عليه الملك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك.

يقال : ثلّ عرشه أي : انتقض ملكه وفسد ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمره وحكمه قالوأ : استوى على عرشه واستقرّ على سرير ملكه ، وهذا نظير قولهم للرّجل الطويل : فلان طويل النّجاد ، وللرّجل الذي تكثر أضيافه : كثير الرّماد وللرّجل الشّيخ فلان اشتعل الرّأس منه شيبا ، وليس المراد بشيء من هذه الألفاظ إجراءها على ظواهرها إنّما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية ، فكذا هاهنا المراد من الاستواء على العرش نفاذ القدرة وجريان المشيئة ، كما إذا أخبر أنّ له بيتا ، يجب على عباده حجّه ، فهموا منه أنّه نصب لهم موضعا يقصدونه لمسألة ربّهم ، وطلب حوائجهم ، كما يقصدون بيوت الملوك لهذا المطلوب ، ثم علموا منه نفي التّشبيه ، وأنّه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ، ولم ينتفع به في دفع الحرّ والبرد عن نفسه ، وإذا أمرهم بتحميده ، وتمجيده ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ، ثمّ علموا بعقولهم أنّه لا يفرح بذلك التّحميد والتّعظيم ، ولا يغتم بتركه.

وإذا عرف ذلك فنقول : إنّه تعالى أخبر أنّه خلق السّموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ، ولا مدافع ، ثمّ أخبر بعده أنّه استوى على العرش ، [أي حصل له تدبير

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢٥ / ١٦٥.

(٢) السلف والخلف فإنهم مجمعون على ثبوت صفات الله تعالى الواردة في الكتاب العزيز والسنة المحمدية. وإنما خلافهم في تفويض معنى المتشابه وهو مذهب السلف. وفي بيان معناه وهو مذهب الخلف (قال الإمام) السلفي الجليل ابن كثير في تفسيره ما نصه : أما قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فلنا في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هنا موضع بسطها. وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد قديما وحديثا. وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شيء من خقله ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى : ١١]. بل الأمر كما قاله الأئمة. منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. ينظر : الدين الخالص ١ / ٥٧.

١٥١

المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش](١) ، أي بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال (٢).

قال القفّال (٣) : والدّليل على أنّ هذا هو المراد قوله في سورة يونس : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [الآية : ٣].

فقوله : «يدبّر» جرى مجرى التّفسير لقوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). وقال (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

وهذا يدلّ على أنّ قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) إشارة إلى ما ذكرناه.

فإن قيل : فإذا حملتم قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) على أنّ المراد إذا استوى على الملك ؛ وجب أن يقال : الله لم يكن مستويا قبل خلق السّموات والأرض.

قلنا : إنّه تعالى كان قبل خلق العالم قادرا على تخليقها وتكوينها ، لا أنّه كان مكوّنا وموجدا لها بأعيانها ؛ لأنّ إحياء زيد ، وإماتة عمرو ، وإطعام هذا ، وإرواء ذلك ، لا يحصل إلا عند حصول هذه الأحوال ، فإذا فسّرنا العرش بالملك ، والملك بهذه الأحوال صحّ أن يقال : إنّه تعالى إنّما استوى على ملكه بعد خلق السّموات والأرض ؛ بمعنى أنّه إنّما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها ، بعد خلق السّموات والأرض (٤).

والقول الثاني : أنّ استوى بمعنى استولى ، كما نذكره في «سورة طه» إن شاء الله تعالى.

واعلم أنّه تعالى ذكر قوله : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في سبع سور : هاهنا ، ويونس [٣] ، والرعد [٢] ، وطه [٥] ، والفرقان [٥٩] ، والسجدة [٤] ، والحديد [٥٧].

قال ابن الخطيب (٥) : «وفي كلّ موضع ذكرنا فوائد كثيرة ، فمن ضمّ تلك الفوائد بعضها إلى بعض ، بلغت مبلغا كثيرا ، وافيا بإزالة شبهة التّشبيه عن القلب».

قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) قرأ نافع (٦) وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص هنا وفي سورة الرعد : [٣] «يغشي» مخففّا من أغشى على أفعل ، والباقون بالتّشديد من غشّى على فعّل ، فالهمزة والتّضعيف كلاهما للتّعدية أكسبا الفعل مفعولا ثانيا ؛ لأنّه في الأصل متعد لواحد ، فصار الفاعل مفعولا.

وقرأ حميد (٧) بن قيس : «يغشى» بفتح الياء والشين ، «اللّيل» رفعا ، «النهار» نصبا ،

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٥.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٥.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٦.

(٦) ينظر : السبعة ٢٨٢ ، الحجة ٤ / ٢٧ ، حجة القراءات ص (٢٨٤) ، إعراب القراءات (١ / ٢٨٥ ، العنوان ص (٩٥) ، شرح الطيبة ٤ / ٢٩٧ ، شرح الشعلة ص (٣٩٠) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٥١.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٩ ، والكشاف ٢ / ١٠٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٣١١ ، والدر المصون ٣ / ٢٨١.

١٥٢

هذه رواية الداني عنه ، وروى ابن جنّي (١) عنه نصب «اللّيل» ورفع «النّهار».

قال ابن عطيّة (٢) : «ونقل ابن جنّي أثبت» وفيه نظر ، من حيث إنّ الدّاني أغنى من أبي الفتح بهذه الصّناعة ، وإن كان دونه في العلم بطبقات ، ويؤيد رواية الدّاني أيضا أنّها موافقة لقراءة العامّة من حيث المعنى ، وذلك أنّه جعل اللّيل فاعلا لفظا ومعنى ، والنّهار مفعولا لفظا ومعنى ، وفي قراءة الجماعة اللّيل فاعل معنى ، والنّهار مفعول لفظا ومعنى ، وذلك أنّ المفعولين في هذا الباب متى صلح أن يكون كلّ منهما فاعلا ومفعولا في المعنى ؛ وجب تقديم الفاعل معنى ؛ لئلا يلتبس نحو : «أعطيت زيدا عمرا» فإن لم يلتبس نحو : «أعطيت زيدا درهما ، وكسوت عمرا جبّة» جاز ، وهذا كما في الفاعل والمفعول الصّريحين نحو «ضرب موسى عيسى» ، و «ضرب زيد عمرا» ، وهذه الآية الكريمة من باب «أعطيت زيدا عمرا» ؛ لأنّ كلّا من اللّيل والنّهار يصلح أن يكون غاشيا مغشيا ؛ فوجب جعل «اللّيل» في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي ، و «النّهار» هو المفعول من غير عكس ، وقراءة الدّاني موافقة لهذه ؛ لأنّها المصرّحة بفاعليّة اللّيل ، وقراءة ابن جني مخالفة لها ، وموافقة الجماعة أولى.

قال شهاب الدّين (٣) : «وقد روى الزّمخشريّ (٤) قراءة حميد كما رواها أبو الفتح فإنّه قال : «يغشّي» بالتّشديد ، أي : يلحق اللّيل بالنّهار ، والنّهار باللّيل ، يحتملهما جميعا».

والدّليل على الثاني قراءة حميد بن قيس «يغشى» بفتح الياء [و] نصب اللّيل ، ورفع النّهار. انتهى.

وفيما قاله الزّمخشريّ نظر ؛ لما ذكرنا من أنّ الآية الكريمة ممّا يجب فيها تقديم الفاعل المعنوي ، وكأن أبا القاسم تبع أبا الفتح في ذلك ، ولم يلتفت إلى هذه القاعدة المذكورة سهوا.

قوله : «يطلبه حثيثا» حال من الليل ؛ لأنّه هو المحدّث عنه أي : يغشي النّهار طالبا له ، ويجوز أن يكون من النهار أي مطلوبا وفي الجملة ذكر كلّ منهما.

و «حثيثا» يحتمل أن يكون نعت مصدر محذوف أي : طلبا حثيثا وأن يكون حالا من فاعل «يطلبه» أي : حاثّا ، أو من مفعوله أي : محثوثا.

والحثّ : الإعجال والسّرعة ، والحمل على فعل شيء كالحضّ عليه فالحثّ والحضّ أخوان ، يقال : حثثت فلانا فاحتثّ فهو حثيث ومحثوث.

قال : [المتقارب]

__________________

(١) ينظر : المحتسب لابن جني ١ / ٢٥٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٨١.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ١٠٩.

١٥٣

٢٤٨٦ ـ تدلّى حثيثا كأنّ الصّوا

ر يتبعه أزرقيّ لحم (١)

فهذا يحتمل أن يكون نعت مصدر محذوف ، وأن يكون حالا أي : تولى تولّيا حثيثا ، أو تولّى في هذه الحال.

فصل في معنى «الإغشاء»

قال الواحديّ (٢) : «الإغشاء والتّغشية : إلباس الشيء بالشّيء ، وقد جاء التّنزيل بالتّشديد والتّخفيف ، فمن التّشديد قوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤] ومن اللّغة الثانية : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] والمفعول الثاني محذوف ، أي فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية ، ومعنى الآية أي : يأتي اللّيل على النّهار فيغطيه ، وفيه حذف أي: ويغشي النّهار اللّيل ، ولم يذكر لدلالة الكلام عليه ، وذكر في آية أخرى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥].

«يطلبه حثيثا» أي : سريعا ، وذلك أنّه إذا كان يعقب أحدهما الآخر ويخلفه فكان يطلبه.

قال القفّال (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : إنّه تعالى لمّا أخبر عباده باستوائه على العرش ، وأخبر عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته ، أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ؛ ليضمّ العيان إلى الخبر ، وتزول الشّبهة عن كلّ الجهات فقال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ؛) لأنّه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقبهما من المنافع العظيمة يتم أمر الحياة ، وتكمل المنفعة والمصلحة.

قوله : «والشّمس» قرأ ابن (٤) عامر هنا وفي «النحل» [١٢] برفع الشمس ، وما عطف عليها ، ورفع «مسخّرات» ، ووافقه حفص عن عاصم في النّحل خاصة على رفع «والنّجوم مسخّرات» ، والباقون بالنّصب في الموضعين. وقرأ أبان (٥) بن تغلب هنا برفع «النّجوم» وما بعده.

فأمّا قراءة ابن عامر فعلى الابتداء والخبر ، جعلها جملة مستقلّة بالإخبار بأنّها مسخّرات لنا من الله ـ تعالى ـ لمنافعنا.

وأمّا قراءة الجماعة ، فالنّصب في هذه السّورة على عطفها على «السّموات» أي : وخلق الشّمس ، فتكون «مسخّرات» على هذا حالا من هذه المفاعيل ، ويجوز أن تكون

__________________

(١) البيت للأعشى ينظر : ديوانه ٩١ ، التهذيب ٣ / ٤٢٧ ، (حث) ، اللسان (حثث) ، الدر المصون ٣ / ٢٨١.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٦.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٦.

(٤) ينظر : السبعة ٢٨٢ ، والحجة ٤ / ٢٨ ، وحجة القراءات ٢٨٤ ، والعنوان ٩٥ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٩٧ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٦ ، وشرح شعلة ٣٩٠ ، وإتحاف ٢ / ٥١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٠٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٣١١ ، والدر المصون ٣ / ٢٨١.

١٥٤

هذه [منصوبة](١) ب «جعل» مقدّرا فتكون هذه المنصوبات مفعولا أوّلا ، و «مسخّرات» مفعولا ثانيا.

وأمّا قراءة حفص في النّحل ، فإنّه إنّما رفع هنا ؛ لأنّ النّاصب هناك «سخّر» وهو قوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) فلو نصب «النّجوم» و «مسخّرات» لصار اللفظ : سخّرها مسخّرات ، فيلزم التّأكيد ، فلذلك قطعهما على الأوّل ورفعهما جملة مستقلّة. والجمهور يخرّجونها على الحال المؤكدة ، وهو مستفيض في كلامهم ، أو على إضمار فعل قبل «والنّجوم» أي : وجعل النّجوم مسخّرات ، أو يكون «مسخّرات» جمع مسخّر المراد به المصدر ، وجمع باعتبار أنواعه كأنّه قيل : وسخّر لكم اللّيل ، والنّهار ، والشّمس ، والقمر ، والنجوم تسخيرات أي أنواعا من التّسخير.

قوله : «بأمره» متعلق ب «مسخّرات» [أي] : بتيسيره وإرادته لها في ذلك ، ويجوز أن تكون «الباء» للحال أي : مصاحبة لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها ، ومعنى مسخّرات أي : منزلات بأمره.

فصل في بيان حركة الشمس

قال ابن الخطيب : إن الشّمس لها نوعان من الحركة :

أحدهما : حركتها بحسب ذاتها ، وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السّنة.

والنوع الثاني : حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم ، وهذه الحركة تتمّ في اليوم بليلته.

وإذا عرف هذا فنقول : اللّيل والنّهار لا يحصل بحركة الشّمس ، وإنّما يحصل بسبب حركة السّماء الأقصى التي يقال لها : العرش ، فلهذا السبب لمّا ذكر العرش بقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ربط به قوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) تنبيها على أنّ سبب حصول اللّيل والنّهار هو حركة الفلك الأقصى ، لا حركة الشمس والقمر ، وهذه دقيقة (٢) عجيبة.

قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).

يجوز أن يكون مصدرا على بابه ، وأن يكون واقعا موقع المفعول به.

«له الخلق» ؛ لأنّه خلقهم ، و «الأمر» : يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيان بن عيينة: فرّق الله بين الخلق والأمر ، فمن جمع بينهما فقد كفر.

(تَبارَكَ اللهُ) أي : تعالى الله وتعظم.

وقيل : ارتفع ، والمبارك : المرتفع.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٩٧.

١٥٥

وقيل : تبارك : تفاعل ، من البركة وهي النّماء والزّيادة ، أي : البركة تكسب ، وتنال

بذكره.

وعن ابن عبّاس قال : جاء بكلّ بركة (١).

وقال الحسن : تجيء البركة من قبله (٢).

وقيل : تبارك : تقدّس ، والقدس : الطهارة.

وقيل : تبارك الله أي : باسمه يتبرّك في كلّ شيء.

وقال المحقّقون : معنى هذه الصّفة : ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال ، وأصل البركة الثّبوت ويقال : تبارك الله ولا يقال : يتبارك ولا مبارك ؛ لأنّه لم يرد به التّوقيف.

وقوله : (رَبُّ الْعالَمِينَ) والعالم : كلّ موجود سوى الله تعالى.

قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(٥٥)

لمّا ذكر الدّلائل الدّالة على كمال القدرة ، والحكمة ، والرّحمة أتبعه بذكر الأعمال اللّائقة بتلك المعارف ، وهو الاشتغال بالدّعاء والتّضرّع ، فقوله : (تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) نصب على الحال : أي : متضرعين مخفين الدّعاء ليكون أقرب إلى الإجابة. ويجوز أن ينتصبا على المصدر ، أي : دعاء تضرّع وخفية.

وقرأ أبو بكر (٣) : «خفية» بكسر الخاء ، وقد تقدّم ذلك في الأنعام (٤) إلا أنّ كلام أبي عليّ يرشد إلى أنّ «خفية» بالكسر بمعنى الخوف ، وهذا إنّما يتأتّى على ادّعاء القلب أي يعتقد تقدم اللّام على العين وهو بعيد ؛ لأنّه كان ينبغي أن تعود الواو إلى أصلها ، وذلك أن «خفية» ياؤها عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، [ولمّا أخّرت الواو تحرّكت ، وسكّن ما قبلها ،] إلّا أن يقال : إنّها قلبت متروكة على حالها.

وقرأ الأعمش (٥) «وخيفة» (٦) وهي تؤيّد ما ذكره الفارسيّ ، نقل هذه القراءة عنه أبو حاتم.

قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) قرأ ابن أبي عبلة (٧) «إنّ الله» أتى بالجلالة مكان الضّمير ، والمراد بالتّضرّع : التّذلّل والاستكانة ، وبالخفية : السّرّ.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) يعني أنه قرأ بها عاصم في رواية أبي بكر ، وهذا مصطلح المصنف في تفسيره ، فحيث ذكر قراءة «أبي بكر» ، فإنما يعني عاصما من روايته. ينظر : السبعة ٢٨٣ ، والحجة ٤ / ٢٩ ، وإعراب القراءات ١ / ١٨٦ ، والعنوان ٩٦ ، وإتحاف ٢ / ٥١.

(٤) ينظر تفسير الآية (٦٣) من سورة الأنعام.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٣١٣ ، والدر المصون ٣ / ٢٨٢.

(٦) في أ : خفية.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤١٠ ، البحر المحيط ٤ / ٣١٣ ، الدر المصون ٣ / ٢٨٤.

١٥٦

قال الحسن : بين دعوة السّرّ ، ودعوة العلانية سبعون ضعفا (١) ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدّعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إلّا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أنّ الله يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، وإنّ الله ذكر عبده زكريا ، ورضي فعله فقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣].

وقال عليه الصّلاة والسّلام : «دعوة السّرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (٢) ، وقال عليه الصّلاة والسّلام : «خير الذّكر الخفيّ» (٣) وروى أبو موسى الأشعريّ ـ رضي الله عنه ـ أنّهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبّرون ويهلّلون رافعي أصواتهم ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : «اربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّ ، ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا وإنّه لمعكم» (٤).

واختلفوا في أنّ الأفضل الدّعاء خفية ، أو علانية؟ فقيل : الإخفاء أفضل لهذه الآية ولقوله تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) [مريم : ٣] ، ولما تقدّم ، ولأنّه مصون عن الرياء.

وقال آخرون : العلانية أفضل ؛ لترغيب الغير في الاقتداء به.

وقال آخرون : إن خاف على نفسه الرّياء ؛ فالإخفاء أفضل وإلّا فالعلانية.

فصل في بيان شبهة منكري الدعاء

من النّاس من أنكر الدّعاء ، واحتج على صحّة قوله بوجوه :

الأول : أنّ المطلوب بالدّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوقوع ؛ لامتناع وقوع التّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة ، وإن كان معلوم اللاوقوع ؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضا (٥).

الثاني : أنّه تعالى : إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء فهو حاصل سواء كان هذا الدّعاء أو لم يكن ، وإن كان أراد في الأزل ألّا يعطيه ، فهو ممتنع الوقوع ، فلا فائدة في الطّلب ، وإن قلنا : إنّه ما أراد في الأزل ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنّه

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٤ / ١٠٧).

(٢) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٢ / ٧٥) رقم (٣١٩٦) وعزاه لأبي الشيخ في «الثواب».

(٣) أخرجه أحمد (١ / ١٨٧) وعبد بن حميد (١٣٧) وأبو يعلى (٢ / ٨١ ـ ٨٢) رقم (١٣٧) وابن حبان (٢٣٢٣ ـ موارد) عن سعد بن أبي وقاص.

(٤) أخرجه البخاري ٧ / ٥٣٧ كتاب المغازي : باب غزوة خيبر (٤٢٠٥) وكتاب الدعوات ١١ / ٢١٧ باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله (٦٤٠٩) وأيضا كتاب الدعوات ١١ / ١٩١) باب الدعاء إذا علا عقبة (٦٣٨٤) وكتاب التوحيد (١٣ / ٣٨٤) باب وكان الله سميعا بصيرا (٧٣٨٦) وأخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ٥ / ٢٠٧٦ باب استحباب خفض الصوت بالذكر (٤٤ ـ ٢٧٠٤).

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ١٠٤.

١٥٧

عند ذلك الدّعاء صار مريدا له لزم وقوع التّغير في ذات الله ، وفي صفاته ، وهو محال ، وعلى هذا التقدير بصير إقدام العبد على الدّعاء علّة لحدوث صفة في ذات الله ـ تعالى ـ فيكون العبد متصرّفا في صفة الله ـ تعالى ـ بالتّبديل والتّغيير ، وهو محال.

الثالث : أنّ المطلوب بالدّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدّعاء ؛ لأنّه منزّه عن أن يكون بخيلا ، وإن اقتضت الحكمة منعه فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدّعاء ، أو لم يقدّم عليه.

الرابع : أنّ الدّعاء غير الأمر ، ولا تفاوت بين البابين إلا كون الدّاعي أقلّ رتبة ، وكون الآمر أعلى رتبة ، وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب وإنه لا يجوز.

الخامس : الدّعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربّه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب ، وذلك سوء أدب ، أو أنّه ينبه الإله على شيء ما كان منتبها له ، وذلك كفر ، وأنّ الله تعالى قصّر في الإحسان والفضل ، وذلك جهل.

السادس : أنّ الإقدام على الدّعاء يدلّ على كون العبد غير راض بالقضاء ، إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرّف نفسه ، ولما طلب من الله شيئا على التّعيين ، وترك الرّضا بالقضاء من المنكرات.

السابع : روي أنّه عليه الصّلاة والسّلام قال حاكيا عن الله ـ تعالى ـ «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين» (١) وذلك يدلّ على أنّ الأولى ترك الدّعاء.

الثامن : أنّ علم الله ـ تعالى ـ محيط بحاجة العبد ، والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه فسكت ولم يذكر تلك الحاجة ، كان ذلك أدخل في الأدب ، وفي تعظيم المولى ، ممّا إذا أخذ يشرح كيفيّة تلك الحاجة ، وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد ؛ وجب اعتبار مثله في حقّ الله ـ تعالى ـ ، وكذلك نقل أن الخليل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لمّا وضع في المنجنيق للرّمي إلى النّار قال له جبريل ـ عليه‌السلام ـ : «ادع ربّك» ، فقال الخليل ـ عليه‌السلام ـ : «حسبي من سؤالي علمه بحالي».

والجواب : أنّ الدّعاء نوع من أنواع العبادة ، والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات ، فإنّه يقال : إن كان هذا الإنسان سعيدا في علم الله فلا حاجة إلى الطّاعات والعبادات ، وإن كان شقيّا في علمه ؛ فلا فائدة في تلك العبادات ، ويجب أيضا ألّا يقدم

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٢ / ١٥٢) والدارمي (٢ / ٤٤١) وابن نصر في «قيام الليل» ص (٧١) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (٢٣٨) من طريق محمد بن الحسن الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢ / ٨٢) عن أبيه : هذا حديث منكر ومحمد بن الحسن ليس بالقوي.

وذكره الحافظ في «الفتح» (٩ / ٥٤) وضعفه.

١٥٨

الإنسان على أكل الخبز ، وشرب الماء ؛ لأنّه إن كان شبعانا في علم الله فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جائعا فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أنّ هذا الكلام باطل ؛ فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : المقصود من الدّعاء معرفة ذلّة العبوديّة ، ومعرفة عزّ الرّبوبيّة ، وهذا هو المقصود الأعلى من جميع العبادات ؛ لأنّ الدّاعي لا يقدم على الدّعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجا إلى ذلك المطلوب ، وكونه عاجزا عن تحصيله ، وعرف من ربّه ، وإلهه أنّه يسمع دعاءه ، ويعلم حاجته ، وهو قادر على دفع تلك الحاجة ، فإذا كان الدّعاء مستجمعا لهذين المقامين كان الدّعاء أعظم العبادات ، ولهذا قال عليه الصّلاة والسّلام : «الدّعاء مخّ العبادة» (١).

قوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أجمع المسلمون على أنّ المحبة صفة من صفات الله ـ تعالى ـ واتّفقوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطّبع ، وطلب التّلذّذ بالشّيء ؛ لأنّ كل ذلك في حقّ الله ـ تعالى ـ محال ، واختلفوا في تفسير المحبّة في حقّ الله ـ تعالى ـ فقيل : هي عبارة عن إيصال الثّواب ، والخير إلى العبد ، والمراد ب «المعتدين» المجاوزين ما أمروا به.

قال الكلبيّ وابن جريج : من الاعتداء رفع الصّوت في الدّعاء (٢).

وقال أبو مجلز : هم الذين يسألون منازل الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام (٣) ـ.

روي أنّ عبد الله بن مغفّل سمع ابنه يقول : اللهمّ إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنّة إذا دخلتها فقال : يا بني سل الله الجنّة ، وتعوّذ به من النّار ، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : سيكون في هذه الأمّة قوم يعتدون في الظّهور والدّعاء (٤).

وقال عطيّة : هم الّذين يدعون على المؤمنين ، فيما لا يحل فيقولون : «اللهمّ أخزهم اللهمّ العنهم».

قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٥٦)

يدخل فيه المنع من إفساد النّفوس بالقتل ، وقطع الأعضاء ، [وإفساد الأموال بالنّهب ، والغصب ، والسّرقة ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبدع](٥) وإفساد

__________________

(١) أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في السنن ٥ / ٤٥٦ ، كتاب الدعوات : باب ما جاء في فضل الدعاء الحديث (٣٣٧١) وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٥١٥) عن ابن جريج.

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه أبو داود (١٤٨٠) وابن ماجه (٣٨٦٤) وابن أبي شيبة (١٠ / ٢٨٨).

وصححه الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (١ / ١٤٤).

(٥) سقط من ب.

١٥٩

الإنسان بالزّنا واللّواط والقذف ، وإفساد العقول بشرب المنكرات ، فهذا النّهي يقتضي منع إدخال ماهيّة الفساد في الوجود بجميع أنواعه وأصنافه.

وقوله : «بعد إصلاحها» يحتمل أن يكون المراد بعد أن صح خلقها على الوجه المطابق لمنافع الخلق ، ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض ببعثة الرّسل ، وإنزال الكتب ، وتفصيل الشّرائع.

قوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً).

هذان حالان ، أي : ادعوه ذوو خوف وطمع ، أو خائفين طامعين ، أو مفعولان من أجلهما ، أي : لأجل الخوف والطّمع.

فإن قيل : قد قال في الآية الأولى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) ، ثم قال هاهنا : «وادعوه» ، وهذا يقتضي عطف الشّيء على نفسه ، وهو باطل.

والجواب : أنّ الّذين فسروا قوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) بأنّ المراد به العبادة ، قالوا : المراد بهذا الدّعاء الثّاني هو الدّعاء نفسه.

وأمّا الذين قالوا : المراد بقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ) هو الدّعاء قالوا : المراد بهذا الدّعاء أن يكون الدّعاء المأمور به أوّلا مقرونا بالتّضرّع ، والأخفاء ، ثم بيّن هاهنا أنّ فائدة الدّعاء أحد هذين الأمرين.

فالأولى في بيان شرط صحّة الدّعاء.

والثانية في بيان فائدة الدّعاء ومنفعته.

قوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ) إنّما لم يؤنّثها وإن كانت خبرا لمؤنث لوجوه :

منها أنّها في معنى الغفران والعفو والإنعام ، فحملت عليه ، قاله النّضر بن شميل واختاره الزّجّاج (١).

قال سعيد بن جبير : الرّحمة هاهنا الثّواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) [النساء : ٨] ولم يقل: «منها» ؛ لأنّه أراد الميراث والمال.

ومنها أنها صفة لموصوف مذكّر حذف ، وبقيت صفته ، والتّقدير : إنّ رحمة الله شيء قريب.

ومنها : أنها في معنى العفو أو المطر ، أو الرحم.

ومنها : أنّها على النّسب كحائض ولابن وتامر ، أي : ذات حيض.

ومنها : تشبيه فعيل بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول ، فيستوي فيه المذكّر والمؤنّث

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٣٨٠.

١٦٠