اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

على الكفر قدرة على الإيمان ، توقّف رجحان أحد الطّرفين على حصول الدّاعية المرجّحة.

فإن قلنا : إنه ـ تعالى ـ خلق تلك الدّاعية المرجّحة مع القدرة ، ومجموعهما للفعل ، فحيث لم يحصل الفعل ، علمنا أن تلك الدّاعية لم تحصل ، وإذا لم تحصل ، امتنع منه فعل الإيمان ، وإذا امتنع ذلك منه ، امتنع أن يريده الله منه ؛ لأن إرادة المحال محال ممتنع ، فثبت أن ظاهر القرآن العظيم دلّ على أنّه ما أراد الإيمان من الكافر ، والبرهان العقلي الذي قرّرناه يدل عليه أيضا ، فبطل قولهم من كلّ الوجوه (١).

فإن قالوا : نحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء.

فنقول : هذا التّأويل إنما يحسن المصير إليه ، لو ثبت بالبرهان العقليّ امتناع الحمل على [ظاهر هذا الكلام ، أمّا لو قام البرهان العقليّ على](٢) أن الحقّ ليس إلّا ما دلّ عليه هذا الظّاهر ، فكيف يصار إلى التّأويل؟ ثم نقول : التأويل باطل لوجوه :

الأول : أن هذا الكلام لا بدّ فيه من إضمار ، والتقدير : ولو شاء الله الهداية لهداكم ، وأنتم تقولون : التقدير : لو شاء الله الهداية على سبيل الإلجاء لهداكم ، فإضماركم أكثر ، فكان قولكم مرجوحا.

الثاني : أنه ـ تبارك وتعالى ـ يريد من الكافر الإيمان الاختياريّ ؛ والإيمان الحاصل بالإلجاء ، غير الإيمان الحاصل بالاختيار ، وعلى هذا التّقدير : يلزم كونه ـ تعالى ـ عاجزا عن تحصيل مراده ؛ لأن مراده الإيمان الاختياري ، وأنه لا يقدر ألبتّة على تحصيله ، فكان القول بالعجز لازما (٣).

الثالث : أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار ، وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء.

أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يمتنع حصوله إلا عند داعية جازمة ، وإرادة لازمة ، فإن الدّاعية التي يترتّب عليها حصول الفعل ؛ إمّا أن تكون بحيث يجب ترتّب الفعل عليها ، أو لا يجب ، فإن وجب ، فهي الدّاعية الضّروريّة ، وحينئذ لا يبقى بينها وبين الدّواعي الحاصلة بالإلجاء فرق ، وإن لم يجب ترتّب الفعل ، فحينئذ يمكن تخلّف الفعل عنها ، فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلّفا عنها ، وتارة غير متخلّف ، فامتياز الوقتين عن الآخر لا بدّ وأن يكون لمرجّح زائد ، فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الدّاعية ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، ثم عند انضمام هذا القيد الزّائد وجب الفعل ، لم يبق بينه وبين الضّرورة فرق ، فإن لم يجب ، افتقر إلى قيد زائد ، ولزم التّسلسل وهو محال ؛ فثبت

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٧.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٨.

٥٠١

أن الفرق الذي ذكروه بين الدّاعية الاختياريّة وبين الدّاعية الضّرورية ، وإن كان في الظّاهر معتبرا ، إلّا أنه عند التّحقيق والبحث لا يبقى له محصول (١).

قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)(١٥٠)

قوله : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) «هلمّ» هنا اسم فعل بمعنى «أحضروا» ، و «شهداءكم» مفعول به ؛ فإن اسم الفعل يعمل عمل مسمّاه من تعدّ ولزوم.

واعلم أن «هلمّ» فيها لغتان : لغة الحجازيّين ، ولغة التميميين :

فأمّا لغة الحجاز : فإنّها فيها بصيغة واحدة سواء أسندت لمفرد أم مثنى أم مجموع أم مؤنث ، نحو : هلمّ يا زيد ، يا زيدان ، يا زيدون ، يا هند ، يا هندان ، يا هندات ، وهي على هذه اللّغة عند النّحاة اسم فعل ؛ لعدم تغيّرها ، والتزمت العرب فتح الميم على هذه اللّغة ، وهي حركة بناء بنيت على الفتح تخفيفا.

وأمّا لغة تميم ـ وقد نسبها الليث إلى بني سعد ـ : فتلحقها الضّمائر كما تلحق سائر الأفعال ، فيقال : هلمّا ، هلمّوا هلمّي ، هلممن.

وقال الفراء : «يقال هلمّين يا نسوة» وهي على هذه اللّغة فعل صريح لا يتصرف ؛ هذا قول الجمهور ، وقد خالف بعضهم في فعليّتها على هذه اللّغة ؛ وليس بشيء ، والتزمت العرب أيضا فيها على لغة تميم فتح الميم إذا كانت مسندة لضمير الواحد المذكّر ، ولم يجيزوا فيها ما أجازوا في ردّ وشدّ من الضّمّ والكسر.

واختلف النحويون فيها : هل هي بسيطة أو مركبة؟ ثم القائلون بتركيبها اختلفوا فيما ركّبت منه : فجمهور البّصريّين على أنّها مركّبة من «ها» الّتي للتّنبيه ، ومن «المم» أمرا من لمّ يلمّ ، فلما ركّبتا حذفت ألفها لكثرة الاستعمال ، وسقطت همزة الوصل ؛ للاستغناء عنها بحركة الميم المنقولة إليها لأجل الإدغام ، وأدغمت الميم في الميم ، وبنيت على الفتح.

وقيل : بل نقلت حركة الميم للام ، فسقطت الهمزة للاستغناء عنها ، فلّما جيء ب «ها» التي للتّنبيه ، التقى ساكنان : ألف «ها» واللّام من «لمّ» ؛ لأنها ساكنة تقديرا ، ولم يعتدّوا بهذه الحركة ؛ لأن حركة النّقل عارضة ، فحذفت ألف «هاء» لالتقاء السّاكنين تقديرا.

وقيل : بل حذفت ألف «ها» لالتقاء السّاكنين ؛ وذلك أنّه لمّا جيء بها مع الميم ، سقطت همزة الوصل في الدرج ، فالتقى ساكنان : ألف «ها» ولام «المم» ، فحذفت ألف

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٨.

٥٠٢

«ها» فبقى «هلمم» ، فنقلت حركة الميم إلى اللّام وأدغمت.

وذهب بعضهم إلى أنّها مركّبة من «ها» التي للتّنبيه أيضا ، ومن «لمّ» أمرا من «لمّ الله شعثه» أي : جمعه ، والمعنى عليه في هلمّ ؛ لأنه بمعنى : اجمع نفسك إلينا ، فحذفت ألف «ها» لكثرة الاستعمال ، وهذا سهل جدا ؛ إذ ليس فيه إلا عمل واحد ، هو حذف ألف «ها» ؛ وهو مذهب الخليل وسيبويه (١).

وذهب الفرّاء إلى أنها مركّبة من «هل» التي هي للزّجر ، ومن «أمّ» أمرا من «الأمّ» وهو القصد ، وليس فيه إلا عمل واحد ؛ وهو نقل حركة الهمزة إلى لام «هل» وقد ردّ كل واحد من هذه المذاهب بما يطول الكتاب بذكره من غير فائدة.

و «هلم» : تكون متعدّية بمعنى أحضر ، ولازمة بمعنى أقبل ، فمن جعلها متعدّية ، أخذها من اللّمّ وهو الجمع ، ومن جعلها قاصرة ، أخذها من اللّمم وهو الدّنو والقرب.

فصل في المقصود بإقامة الشهداء

اعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ نبه باستدعاء إقامة الشّهداء من الكافرين ؛ ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرّموه.

وقوله : (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) تنبيها على كونهم كاذبين ، ثم بين ـ تعالى ـ أنّه إن وقعت منهم تلك الشّهادة ، فعن اتّباع الهوى ، فأنت لا تتّبع أهواءهم ، ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وكانوا ممّن ينكرون البعث والنّشور ، ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم يعدلون بربّهم ، ويجعلون له شركاء ـ سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا ـ.

قوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(١٥١)

لما بيّن ـ تبارك وتعالى ـ فساد قول الكفّار : «إنّ الله حرّم علينا كذا وكذا» أردفه ببيان الأشياء التي حرّمها عليهم.

قال الزّمخشري (٢) : «تعال» من الخاصّ الذي صار عامّا ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر وعمّ.

قال القرطبي (٣) : «وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ) أي : تقدّموا واقرءوا حقّا يقينا ؛ كما أوحى إليّ ربّي ، لا ظنّا ولا كذبا كما زعمتم ، ثم بيّن بعد ذلك فقال : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ١٥٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٨.

(٣) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٥ ـ ٨٦.

٥٠٣

شَيْئاً) ، يقال للرجل : تعال ، أي : تقدم ، ويقال للمرأة : تعالي ، ويقال للاثنتين والاثنين : تعاليا ، ولجماعة الرجال : تعالوا ، ولجماعة النساء : تعالين ؛ قال الله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) [الأحزاب : ٢٨].

وجعلوا التقدم ضربا من التعالي والارتفاع ؛ لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل ، كأنه كان قاعدا فقيل له تعال ، أي : ارفع شخصك بالقيام وتقدم ؛ ثم اتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي ؛ قاله الشجري (١).

قوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) في [«ما»] هذه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنها موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف ، أي : الذي حرمه ، والموصول في محل نصب مفعولا به.

الثاني : أن تكون مصدرية ، أي : أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يتلى ، وإنما هو مصدر واقع موقع المفعول به ، أي : أتل محرم ربكم الذي حرمه هو.

والثالث : أنها استفهامية ، في محل نصب ب «حرم» بعدها ، وهي معلقة ل «أتل» والتقدير : أتل أي شيء حرم ربكم ، وهذا ضعيف ؛ لأنه لا تعلق إلا أفعال القلوب وما حمل عليها.

فصل

قال القرطبي (٢) : هذه الآية أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه ـ عليه‌السلام ـ بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ، ويبينوا لهم ما حرم عليهم مما أحل ؛ قال ـ تعالى ـ : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: ١٨٧].

قال الربيع بن خيثم لجليس له : «أيسرك أن تقرأ في صحيفة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفك كتابها؟ قال : نعم ، قال : فاقرؤا : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) إلى آخر الثّلاث آيات» (٣).

قال كعب الأحبار : وهذه السّورة مفتتح التّوراة : بسم الله الرّحمن الرّحيم : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآية الكريمة (٤).

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في سورة «آل عمران» أجمعت عليها شرائع الخلق ، ولم تنسخ قط في ملّة ، وقد قيل : إنّها العشر كلمات المنزّلة على موسى ـ عليه الصلاة والسلام (٥) ـ.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٦.

(٢) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٦.

(٣) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٦.

(٤) تقدم من أول السورة.

(٥) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٦.

٥٠٤

و «عليكم» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «حرّم» ؛ وهذا اختيار البصريّين.

والثاني : أنه متعلّق ب «أتل» ؛ وهو اختيار الكوفيّين ، يعني : أن المسألة من باب الإعمال ، وقد عرفت أن اختيار البصريّين إعمال الثّاني واختيار الكوفيين إعمال الأوّل.

قوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا) فيه أوجه :

أحدها : أنّ «أن» تفسيرية ؛ لأنّه تقدّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه ، و «لا» هي ناهية ، و «تشركوا» مجزوم بها ، وهذا وجه ظاهر ؛ وهو اختيار الفراء (١) قال : «ويجوز أن يكون مجزوما ب «لا» على النّهي ؛ كقولك : «أمرتك ألا تذهب إلى زيد» بالنّصب والجزم». ثم قال: والجزم في هذه الآية الكريمة أحبّ إليّ ؛ كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) [الأعراف : ٨٥] يعني : عطف هذه الجملة الأمريّة يقوّي [أنّ] ما قبلها نهي ؛ ليتناسب طرفا الكلام.

وهو اختيار الزّمخشري (٢) : أيضا ؛ فإنه قال : «وأن في (أَلَّا تُشْرِكُوا) مفسّرة ، و «لا» للنّهي» ثم قال بعد كلام : «فإن قلت : إذا جعلت «أن» مفسّرة لفعل التّلاوة ، وهو معلّق بما حرّم ربّكم ، وجب أن يكون ما بعده منهيّا عنه محرّما كلّه ؛ كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النّهي [فما تصنع] بالأوامر؟».

قال شهاب الدّين (٣) : «لمّا وردت هذه الأوامر مع النّواهي ، وتقدمهنّ جميعا فعل التّحريم ، واشتركن في الدّخول تحت حكمه ، علم أن التّحريم راجع إلى أضدادها ، وهي الإساءة إلى الوالدين ، وبخس الكيل والميزان ، وترك العدل في القول ، ونكث العهد».

قال أبو حيّان (٤) ـ رضي الله عنه ـ : «وكون هذه الأشياء اشتركت في الدّخول تحت حكم التّحريم ، وكون التّحريم راجعا إلى أضداد الأوامر ؛ بعيد جدّا ، وإلغاز في التّعامي ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك».

قال شهاب الدين (٥) : «ما استبعده ليس ببعيد ، وأين الإلغاز والتّعمّي من هذا الكلام حتى يرميه به».

قال ابن الخطيب (٦) : فإن قيل : قوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) كالتّفصيل لما أجمله في قوله ـ تبارك وتعالى ـ : «ما حرّم» وذلك باطل ؛ لأن ترك الشّرك والإحسان بالوالدين واجب لا محرّم.

والجواب من وجوه :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٦٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٣.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٣.

(٦) ينظر : الرازي ١٣ / ١٨٩.

٥٠٥

الأول : أن المراد من التّحريم أن يجعل له حريما معينا ، وذلك بأن بيّنه بيانا مضبوطا معيّنا ؛ فقوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) معناه : أتل عليكم ما بيّنه بيانا شافيا ؛ بحيث يجعل له حريما مضبوطا معيّنا ، وعلى هذا التّقدير السّؤال زائل.

الثاني : أن الكلام تمّ وانقطع عند قوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) ثم ابتدأ فقال : (عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا).

فإن قيل : فقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) معطوف على قوله (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [فوجب أن يكون قوله : (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) مفسّرا لقوله : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) فلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراما ؛ وهو باطل.

قلنا : لما أوجب الإحسان إليهما ، فقدّم تحريم الإساءة إليهما ، والله ـ تعالى ـ أعلم.

ثم قال أبو حيّان : وأمّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين :

أحدهما : أنها معطوفة لا على المناهي قبلها ، فيلزم انسحاب التّحريم عليها ؛ حيث كانت في حيّز «أن» التّفسيريّة ، بل هي معطوفة على قوله : (تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أمرهم أوّلا بأمر يترتّب عليه ذكر مناه ، ثم أمرهم ثانيا بأوامر ؛ وهذا معنى واضح.

والثاني : أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي ، وداخلة تحت «أن» التّفسيريّة ، ويصحّ ذلك على تقدير محذوف ، تكون «أن» مفسّرة له وللمنطوق قبله الذي دلّ على حذفه ، والتّقدير : وما أمركم به ، فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرّم عليه ؛ لأن معنى ما حرّم ربكم : ما نهاكم ربّكم عنه ، فالمعنى : تعالوا أتل ما نهاكم ربّكم عنه وما أمركم به ، وإذا كان التّقدير هكذا ، صح أن تكون «أن» تفسيريّة لفعل النّهي ، الدّال عليه التّحريم وفعل الأمر المحذوف ، ألا ترى أنّه يجوز أن تقول : «أمرتك ألا تكرم جاهلا وأكرم عالما» إذ يجوز أن يعطف الأمر على النّهي والنّهي على الأمر ؛ كما قال : [الطويل]

٢٣٨٠ ـ ..........

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل (١)

وهذا لا نعلم فيه خلافا ، بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء ؛ فإن في جواز العطف فيها خلافا انتهى.

الثاني : أن تكون «أن» ناصبة للفعل بعدها ، وهي وما في حيّزها في محلّ نصب بدلا من «ما حرّم».

__________________

(١) عجز بيت لا مرىء القيس وصدره :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم

ينظر : ديوانه ١٠ ، شرح القصائد للتبريزي (٥٥) ، مجاز القرآن ١ / ١٧١ ، الدر المصون ٣ / ٢١٤.

٥٠٦

الثالث : أنها النّاصبة أيضا ، وهي وما في حيّزها بدل من العائد المحذوف ، إذ التّقدير : ما حرّمه ، وهي في المعنى كالذي قبله.

و «لا» على هذين الوجهين زائدة ؛ لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] ، و (لِئَلَّا يَعْلَمَ) [الحديد : ٢٩] ، والتّقدير : حرّم ربّكم عليكم أن تشركوا.

قال أبو حيّان (١) : «وهذا ضعيف ؛ لانحصار عموم المحرّم في الإشراك ؛ إذ ما بعده من الأمر ليس داخلا في المحرّم ، ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة «لا» فيه ؛ لظهور أنّ «لا» فيه للنهي» ، ولما ذكر مكّي (٢) كونها بدلا من «ما حرّم» [لم ينبّه على زيادة «لا» ولا بدّ منه.

وقد منع الزّمخشريّ أن تكون بدلا من «ما حرّم»](٣) فقال (٤) : «فإن قلت : هلا قلت : هي الّتي تنصب الفعل ، وجعلت (أَلَّا تُشْرِكُوا) بدلا من «ما حرّم».

قلت : وجب أن يكون : (أَلَّا تُشْرِكُوا) ، و (لا تَقْرَبُوا) ، و (لا تَقْتُلُوا) و (لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) نواهي ؛ لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ؛ لأن التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا ، وبعهد الله أوفوا.

فإن قلت : فما تصنع بقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] فيمن قرأ بالفتح ؛ وإنما يستقيم عطفه على (أَلَّا تُشْرِكُوا) إذا جعلت «أن» هي النّاصبة ، حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإشراك ، وأتل عليكم أنّ هذا صراطي مستقيما؟

قلت : أجعل قوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) علّة للاتّباع بتقدير اللام ؛ كقوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨] ، بمعنى : ولأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ؛ والدليل عليه القراءة بالكسر ، كأنه قيل : واتّبعوا صراطي ، لأنّه مستقيم ، أو : واتّبعوا صراطي أنّه مستقيم».

واعترض عليه أبو حيّان (٥) بعد السّؤال الأوّل وجوابه ، وهو : «فإن قلت : هلّا قلت هي النّاصبة» إلى : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ؛ فقال : لا يتعيّن أن تكون جميع الأوامر معطوفة على ما دخل عليه «لا» ؛ لأنّا بيّنّا جواز عطف (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) على «تعالوا» وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) معطوفا على (أَلَّا تُشْرِكُوا).

الرابع : أن تكون «أن» النّاصبة وما في حيّزها منصوبة على الإغراء ب «عليكم» ، ويكون الكلام الأوّل قد تمّ عند قوله : «ربّكم» ، ثم ابتدأ فقال : عليكم ألّا تشركوا ، أي :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٩٨.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥١.

٥٠٧

ألزموا نفي الإشراك وعدمه ، وهذا ـ وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباريّ ـ ضعيف ؛ لتفكك التركيب عن ظاهره ؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذّهن.

الخامس : أنها وما في حيّزها في محلّ نصب أو جرّ على حذف لام العلّة ، والتقدير : أتل ما حرّم ربّكم عليكم لئلّا تشركوا ، و [هذا] منقول عن أبي إسحاق (١) ، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمر معطوف بالواو ، ومناه معطوفة بالواو أيضا ، فلا يناسب أن يكون تبيينا لما حرّم ، أمّا الأمر فمن حيث المعنى ، وأمّا المناهي فمن حيث العطف.

السادس : أن تكون هي وما بعدها في محلّ نصب بإضمار فعل ، تقديره : أوصيكم ألّا تشركوا ؛ لأن قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) محمول على أوصيكم بالوالدين إحسانا ، وهذا مذهب أبي إسحاق (٢) أيضا.

السابع : أن يكون «أن» وما في حيّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : المحرّم ألّا تشركوا ، أو المتلوّ ألا تشركوا ، إلا أن التّقدير بنحو المتلو أحسن ؛ لأنه لا يحوج إلى زيادة «لا» ، والتقدير بالمحرّم ألّا تشركوا ، يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى.

الثامن : أنها في محلّ رفع أيضا على الابتداء ، والخبر الجارّ قبله ، والتقدير : عليكم عدم الإشراك ، ويكون الوقف على قوله : «ربّكم» كما تقدّم في وجه الإغراء ، هذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري ؛ فإنه قال : «ويجوز أن يكون في موضع [رفع] ب «على» كما تقول : «كتب عليكم الصيام والحجّ».

التاسع : أن يكون في موضع رفع بالفاعليّة بالجارّ قبلها ، وهو ظاهر قول ابن الأنباري المتقدّم ، والتقدير : استقرّ عليكم عدم الإشراك.

وقد تحصّلت في محلّ (أَلَّا تُشْرِكُوا) على ثلاثة أوجه : الرّفع ، والنّصب ، والجرّ : فالجرّ من وجه واحد ، وهو أن يكون على حذف حرف الجرّ على مذهب الخليل والكسائيّ ، والرفع من ثلاثة أوجه ، والنّصب من ستّة أوجه ، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدم تحريرها.

و «شيئا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به.

والثاني : أنه مصدر ، أي : إشراكا ، أي : شيئا من الإشراك.

وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تقدم تحريره في البقرة [الآية ٨٣].

قوله ـ تعالى ـ : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، الإحسان إلى الوالدين : برّهما وحفظهما ،

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٣٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٥٠٨

وامتثال أمرهما ، وإزالة الرّقّ عنهما ، و «إحسانا» نصب على المصدر ، وناصبه فعل مضمر من لفظه ، تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحسانا.

قوله : (مِنْ إِمْلاقٍ) «من» سببيّة متعلّقة بالفعل المنهيّ عنه ، أي : «لا تقتلوا أولادكم لأجل الإملاق».

والإملاق : الفقر في قول ابن عبّاس.

وقيل : الجوع بلغة «لخم» ، نقله مؤرج.

وقيل : الإسراف ، أملق أي : أسرف في نفقته ، قاله محمد بن نعيم اليزيدي (١).

وقيل : الإنفاق ، أملق ماله أي : أنفقه ، قاله المنذر بن سعيد ، والإملاق : الإفساد أيضا ، قاله [شمر](٢) ، قال : «وأملق يكون قاصرا ومتعدّيا ، أملق الرّجل : إذا افتقر فهذا قاصر ، وأملق ما عنده الدّهر ، أي : أفسده». وأنشد النّضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر : [الطويل]

٢٣٨١ ـ ولمّا رأيت العدم قيّد نائلي

وأملق ما عندي خطوب تنبّل (٣)

أي : تذهب بالمال ، «تنبّلت بما عندي» : أي ذهبت به ، معنى الآية الكريمة : لا تقتلوا أولادكم خشية العيلة.

وفي هذه الآية الكريمة قال : (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فقدّم المخاطبين ، وفي «الإسراء» : قدّم ضمير الأولاد عليهم ، فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) فقيل : للتّفنّن في البلاغة.

وأحسن منه أن يقال : الظّاهر من قوله : (مِنْ إِمْلاقٍ) حصول الإملاق للوالد لا توقّعه وخشيته ، فبدىء أوّلا بالعدة برزق الآباء ؛ بشارة لهم بزوال ما هم فيه من الإملاق.

وأمّا في آية «سبحان» [الإسراء : ١] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حصول الفقر ؛ ولذلك قال : خشية إملاق ، وإنما يخشى الأمور المتوقّعة ، [فبدأ فيها بضمان رزقهم ، فلا معنى لقتلكم إيّاهم ، فهذه الآية تفيد النّهي](٤) للآباء عن قتل الأولاد ، وإن كانوا متلبّسين بالفقر ، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا موسرين ، ولكن يخافون وقوع الفقر ، وإفادة معنى جديد أولى من ادّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتّأكيد.

فصل في حكم العزل

قال القرطبي (٥) : استدل بعضهم بهذه الآية الكريمة على منع العزل ؛ لأن قتل الأولاد رفع للموجود ، والعزل منع لأصل النّسل فتشابها ، إلا أن قتل النّفس أعظم وزرا ، وأقبح فعلا ، ولذلك قال بعض العلماء : إنه يفهم من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا عليكم في

__________________

(١) في أ : الترمذي.

(٢) في ب : شهر.

(٣) ينظر : ديوانه ٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٢١٦.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٧.

٥٠٩

العزل الوأد الخفيّ» (١) الكراهة لا التّحريم ، وقال به جماعة من الصّحابة وغيرهم ، وقال بإباحته أيضا جماعة من الصّحابة والتّابعين والفقهاء ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا عليكم ألّا تفعلوا فإنّما هو القدر» أي : «ليس عليكم جناح في ألّا تفعلوا» (٢).

وقال جابر : «كنّا نعزل والقرآن ينزل لو كان شيء منهيّ عنه لنهانا عنه القرآن» (٣).

[قوله : (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) في محلّ نصب بدلا من الفواحش بدل اشتمال](٤) ، أي : لا تقربوا ظاهرها وباطنها ؛ كقولك : ضربت زيدا ما ظهر منه وما بطن ، ويجوز أن تكون «من» بدل البعض من الكلّ.

و «منها» متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من فاعل «ظهر» ، وحذف «منها» بعد قوله «بطن» لدلالة قوله «منها» في الأوّل عليه ، قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «كانوا يكرهون الزّنا علانية وسرّا» (٥).

وقال الضّحّاك : «ما ظهر : الخمر ، وما بطن الزنا» (٦) والأولى أن يجرى النّهي على عمومه في جميع الفواحش ، ظاهرها وباطنها ، ولا يخص بنوع معيّن.

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) الآية.

فقوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) في محلّ نصب على الحال من فاعل «تقتلوا» أي : لا تقتلوها إلّا متلبّسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف ، أي : إلّا قتلا متلبسا بالحقّ ، وهو أن يكون القتل للقصاص ، أو للرّدّة (٧) ، أو للزنا (٨) بشرطه ، كما جاء مبينا في السّنّة.

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٥٩٤ ، كتاب الطلاق : باب ما جاء في العزل (٩٥). وأخرجه البخاري ٥ / ٢٠٢ ، كتاب العتق : باب من ملك من العرب رقيقا (٢٥٤٢). وأخرجه مسلم ٢ / ١٠٦١ ، كتاب النكاح باب حكم العزل (١٢٥ ـ ١٤٣٨) وله لفظ آخر أنه سئل عن العزل فقال : ذلك الوأد الخفي أخرجه مسلم (٢ / ١٠٦٧) كتاب النكاح : باب جواز الغيلة (١٤١ ـ ١٤٤٢.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه البخاري ٩ / ٢١٥ ، كتاب النكاح : باب العزل (٥٢٠٨) ، ومسلم ٢ / ١٠٦٥ ، كتاب النكاح : باب حكم العزل (١٣٦ ـ ١٤٤٠.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٣٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٠٤) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٩٢) عن الضحاك.

(٧) وهي لغة : الرجوع عن الشيء إلى غيره ، وهي من أفحش الكفر وأغلظه ، حكما محبطة للعمل إن اتصلت بالموت ، وإلا حبط ثوابه ، كما نقله في «المهمات» عن نص الشافعي ، وشرعا : قطع من يصح طلاقه استمرار الإسلام ويحصل قطعه بأمور : بنية كفر ، أو فعل مكفر ، أو قول مكفر. ينظر : الإقناع ٢ / ٤٩٥.

(٨) الزنا يمدّ ويقصر : مصدر زنى الرّجل يزني زنى وزناء فجر وزنت المرأة تزني زنى وزناء فجرت.

وزانى مزاناة وزناء ، والمرأة تزاني مزاناة وزناء أي تباغي وهو بالقصر لغة أهل الحجاز. قال تعالى : ـ

٥١٠

قال القرطبي (١) : وتارك الصّلاة ، ومانع الزّكاة ، وقد قتل الصّدّيق مانع الزّكاة ، وقال ـ تعالى ـ : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥].

قوله : (وَلا تَقْتُلُوا) هذه شبيهة بذكر الخاصّ بعد العامّ اعتناء بشأنه ؛ لأن الفواحش يندرج فيها قتل النّفس ، فجرّد منها هذا استفظاعا له وتهويلا ؛ ولأنّه قد استثنى منه في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِّ) ولو لم يذكر هذا الخاصّ ، لم يصحّ الاستثناء من عموم الفواحش ، لو قيل في غير القرآن العظيم : «لا تقربوا الفواحش إلا بالحقّ» لم يكن شيئا.

قوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) في محلّه قولان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة الفعليّة بعده.

والثاني : أنه في محلّ نصب بفعل مقدّر من معنى الفعل المتأخر عنه ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، والتقدير : ألزمكم أو كلّفكم ذلك ، ويكون (وَصَّاكُمْ بِهِ) مفسّرا لهذا العامل المقدّر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الإنسان : ٣١] ، وناسب قوله هنا : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لأن العقل مناط التّكليف والوصيّة بهذه الأشياء المذكورة.

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١٥٢)

هذا استثناء مفرّغ أي : لا تقربوه إلا بالخصلة الحسنى ، فيجوز أن يكون حالا ، وأن يكون نعت مصدر ، وأتى بصيغة التّفضيل ؛ تنبيها على أنّه يتحرّى في ذلك ، ويفعل الأحسن ولا يكتفي بالحسن.

قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ) هذه غاية من حيث المعنى ، فإن المعنى : احفظوا ماله حتى يبلغ أشدّه ، [ولو جعلناه غاية للّفظ ، كان التقدير : لا تقربوه حتى يبلغ](٢) فاقربوه ، وليس ذلك مرادا.

__________________

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) بالقصر ولوقوع الألف ثالثة قلبت ياء.

والنسبة إليه زنويّ.

وبالمدّ لغة أهل نجد ، وبني تميم ، وأنشد : (البسيط

أمّا الزّناء فإنّي لست قاربه

والمال بيني وبين الخمر نصفان

وقال الفرزدق : [الطويل]

أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه

ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا

والنسبة إليه زنائيّ ، وزنّاه نسبه إلى الزنا وهو ابن زنية بالفتح ، والكسر أي ابن زنا ومعناه في كل ما تقدم الفجور.

وأما زنى الموضع زنوّا فمعناه ضاق ، ووعاء زنيّ أي ضيّق. والاسم منه الزّناء بفتح الزاي.

(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٧.

(٢) سقط في ب.

٥١١

قال القرطبي (١) : «وليس بلوغ الأشدّ مما يبيح به قرب ماله بغير الأحسن ؛ لأن الحرمة في حقّ البالغ ثابتة ، وخصّ اليتيم بالذّكر ؛ لأن خصيمه الله ـ تعالى ـ ، والمعنى : لا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن على الأبد حتّى يبلغ أشدّه ، وفي الكلام حذف تقديره : فإذا بلغ أشدّه وأونس منه الرّشد ، فادفعوا إليه ماله».

والأشدّ : اختلف النّحويّون فيه على خمسة أوجه :

فقال الفرّاء : «هو جمع لا واحد له ، والأشدّ واحدها «شدّ» في القياس ، ولم أسمع لها بواحد».

وقيل : هو مفرد لا جمع ، نقل ابن الأنباري ذلك عن بعض أهل اللّغة ، وأنه بمنزلة «الآنك» ، ونقل أبو حيّان عنه (٢) : أن هذا الوجه مختاره في آخرين ، ثم قال : «وليس بمختار ؛ لفقدان أفعل في المفردات وضعا».

وقيل : هو جمع «شدّة» ، و «فعلة» يجمع على «أفعل» ؛ كنعمة وأنعم ، قاله أبو الهيثم ، وقال : «وكأن الهاء في الشّدة والنّعمة لم تكن في الحرف ، إذ كانت زائدة ، وكان الأصل نعم وشدّ فجمعا على «أفعل» ؛ كما قالوا : رجل وأرجل ، وقدح وأقدح ، وضرس وأضرس».

وقيل : هو جمع شدّ [بضم الشّين نقله ابن الأنباري عن بعض البصريّين ؛ قال : كقولك : هو ودّ ، وهم أودّ](٣).

وقيل : هو جمع شدّ بفتحها ، وهو محتمل.

والمراد هنا ببلوغ الأشد : بلوغ الحلم في قول الأكثر ؛ لأنه مظنّة ذلك.

وقيل : هو مبلغ الرّجال من الحيلة والمعرفة.

وقيل : هو أن يبلغ خمسة عشر إلى ثلاثين.

وقيل : أن يبلغ ثلاثة وثلاثين.

وقيل : أربعين.

وقيل : ستّين ، وهذه لا تليق بهذه الآية ، إنما تليق بقوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ (٤) أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥] ، وتقدم منه طرف في النساء.

والأشدّ مشتق من الشّدّة ؛ وهي القوّة والجلادة ، وأنشد الفرّاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ : [البسيط]

٢٣٨٢ ـ قد ساد وهو فتى حتّى إذا بلغت

أشدّه وعلا في الأمر واجتمعا (٤)

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٢.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : اللسان (جمع) التهذيب ١ / ٤٠١ (جمع) ، الدر المصون ٣ / ٢١٧.

٥١٢

وقال الآخر في ذلك : [الكامل]

٢٣٨٣ ـ عهدي به شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (١)

قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) هما الآلة التي يكال بها ويوزن ، وأصل الكيل : المصدر ثم أطلق على الآلة ، و «الميزان» : مفعال من الوزن لهذه الآلة ؛ كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ، وما يقاس به ، وأصل ميزان : موزان ففعل به ما فعل بميقات ، وقد تقدم في البقرة(٢).

و «بالقسط» حال من فاعل «أوفوا» أي : أوفوهما مقسطين ، أي : متلبّسين بالقسط ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول ، أي : أوفوا الكيل والميزان متلبّسين بالقسط ، أي : تامّين ، والقسط العدل.

وقال أبو البقاء (٣) : «والكيل هنا مصدر في معنى المكيل ، وكذلك الميزان ، ويجوز أن يكون فيه حذف مضاف ، تقديره : مكيل الكيل وموزون الميزان» ، ولا حاجة إلى ما ادّعاه من وقوع المصدر موقع اسم المفعول ، ولا من تقدير المضاف ؛ لأن المعنى صحيح بدونهما ، وأيضا ف «ميزان» ليس مصدرا ، إلا أنه يعضّد قوله ما قاله الواحديّ ، فإنه قال : «والميزان ، أي : وزن الميزان ؛ لأن المراد إتمام الوزن ، لا إتمام الميزان ؛ كما أنّه قال : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) ولم يقل المكيال ، فهو من باب حذف المضاف» انتهى.

والظّاهر عدم الاحتياج إلى ذلك ، وكأنّه لم يعرف أن الكيل يطلق على نفس المكيال ، حتى يقول : «ولم يقل المكيال».

قوله : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً) معترض بين هذه الأوامر ، واعلم أنّ كلّ شيء بلغ تمام الكمال فقد وفي وتمّ ، يقال : درهم واف وكيل واف ، وأوفيته حقّه ووفيته ، إذا أتممته ، وأوفى الكيل ، إذا أتمّه ولم ينقص منه شيئا ؛ وكذلك وفى الميزان.

وقوله : «بالقسط» أي : بالعدل لا بخس ولا نقصان فيه.

فإن قيل : (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) هو عين القسط ، فما فائدة التكرير؟

فالجواب : أن الله ـ تبارك وتعالى ـ أمر المعطي بإيفاء ذي الحقّ حقّه من غير نقصان ، وأمر صاحبه أن يأخذ حقّه من غير طلب زيادة ، ولما كان يجوز أن يتوهّم الإنسان أنه يجب على التّحقيق ، وذلك صعب شديد في العدل ، أتبعه الله ـ تعالى ـ بما يزيل هذا التّشديد ، فقال : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، أي : الواجب [في إيفاء](٤) الكيل

__________________

(١) ينظر : ديوانه ، الخصائص ١ / ٨٦ شرح القصائد للتبريزي (٣٦٣) ، اللسان (شدد) الدر المصون ٣ / ٢١٧.

(٢) الآية : ١٨٩.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٥.

(٤) سقط في ب.

٥١٣

والوزن هو القدر الممكن ، أمّا التّحقيق فغير واجب.

قال القرطبي (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : في موطأ مالك عن يحيى بن سعيد ـ رضي الله عنه ـ ؛ أنه بلغه عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أنه قال : «ما ظهر الغلول في قوم قطّ إلا ألقى الله في قلوبهم الرّعب ، ولا فشا الزّنا في قوم إلّا كثر فيهم الموت ، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرّزق ، ولا حكم قوم بغير الحقّ إلا فشا فيهم الدّم ، ولا قوم بالعهد إلا سلّط عليهم (٢) العدوّ».

وقال ابن عبّاس : إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم ، الكيل والميزان.

فصل

قال القاضي (٣) : «إذا كان الله ـ تعالى ـ قد خف على المكلّف هذا التخفيف ، مع أن ما هو التّضييق مقدور له ، فكيف يتوهّم متوهّم أنه ـ تبارك وتعالى ـ يكلف الكافر الإيمان مع أنّه لا قدرة له عليه؟ بل قالوا : إن الله ـ تعالى ـ يخلق الكفر فيه ، ويريده منه ويحكم به عليه ، ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر والدّاعية الموجبة له ، ثم ينهاه عنه ، فهو ـ تعالى ـ لمّا لم يجوّز ذلك القدر من التّشديد والتّضييق على العبد ، وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التّحقيق ، فكيف يجوز أن يضيّق على العبد مثل هذا التّضييق والتّشديد؟».

وجوابه : المعارضة بمسألة العلم والدّاعي.

قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا).

حمله المفسّرون (٤) على أداء الشّهادة والأمر والنّهي.

قال القاضي (٥) : وليس الأمر كذلك ، بل يدخل فيه كلّ ما يتصل بالقول من الدّعوة إلى الدّين ، وتقرير الدّلائل عليه ، ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واقعا على الوجه بالعدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ، ونقصان عن القدر الواجب ، ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرّجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ، ومن جملتها تبليغ الرّسالات النّاس وحكم الحاكم ، ثم إنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن أنه يجب أن يسوّى فيه بين القريب والبعيد ، فقال : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ؛ لأن المقصود منه طلب رضوان الله ـ تعالى ـ ، وذلك لا يختلف بالقرب والبعد ، ولو كان المقول له والمقول عليه ذا قربة.

قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ) يجوز أن يكون من باب إضافة المصدر لفاعله ، أي : بما

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٩.

(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٤٦٠) كتاب الجهاد باب ما جاء في الغلول حديث (٢٦).

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٩٢.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٩٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٥١٤

عاهدكم الله عليه ، وأن يكون [مضافا لمفعوله ، أي : بما عاهدتم الله عليه ؛ كقوله : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ، (بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [الفتح : ١٠] وأن تكون](١) الإضافة لمجرد البيان ، أضيف إلى الله ـ تعالى ـ من حيث إنه الآمر بحفظه والمراد به العهد الواقع بين الآيتين.

فإن قيل : ما السّبب في أن ختم الآية الكريمة بقوله : «تذكّرون» ، وخاتمة الأولى «تعقلون».

فالجواب لأن الأربعة قبلها خفيّة ، تحتاج إلى إعمال فكر ونظر ، حتى يقف متعاطيها على العدل ، فناسبها التذكر ، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة تعقلها وتفهمها ؛ فلذلك ختمت بالفعل.

«تذكرون» حيث وقع ، يقرؤه الأخوان وعاصم في رواية حفص بالتّخفيف ، والباقون بالتّشديد (٢) ، والأصل : «تتذكّرون» ، فمن خفّف ، حذف إحدى التّاءين ، وهل هي تاء المضارعة أو تاء التّفعل؟ خلاف مشهور ، ومن ثقّل ، أدغم التّاء في الدّال.

قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(١٥٣)

قوله : (وَأَنَّ هذا) قرأ الأخوان : بكسر «إنّ» على الاستئناف (٣) أو يكون «أتل» بمعنى : أقول إن هذا ، و «فاتبعوه» : جملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذه الجملة الاستئنافيّة تفيد التّعليل لقوله : «فاتّبعوه» ، ولذلك استشهد بها الزّمخشري (٤) على ذلك كما تقدّم ، فعلى هذا يكون الكلام في الفاء في «فاتّبعوه» ؛ كالكلام فيها في قراءة غيرها ، وستأتي.

وقرأ ابن (٥) عامر : «وأن» بفتح الهمزة وتخفيف النون ، والباقون (٦) بالفتح أيضا والتّشديد.

فأمّا قراءة الجماعة ففيها أربعة وجوه :

أحدها ـ وهو الظّاهر ـ : أنها في محلّ نصب نسقا على ما حرّم ، أي : أتل ما حرّم ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : إعراب القراءات ١ / ١٧٣ إتحاف ٢ / ٣٨ النشر ٢ / ٢٦٦ ، السبعة (٢٧٢) الكشف ١ / ٤٥٧.

(٣) ينظر : السبعة ٢٧٣ إعراب القراءات ١ / ١٧٣ النشر ٢ / ٢٦٦ الحجة لابن خالويه ١٥٢ ولأبي زرعة ٢٧٧ التبيان ١ / ٥٤٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٦٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٣٦٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٢٥٤.

٥١٥

وأتل أن هذا صراطي مستقيما ، والمراد بالمتكلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن صراطه صراط الله ـ عزوجل ـ ، وهذا قول الفرّاء (١) ـ قال : «بفتح «أنّ» مع وقوع «أتل» عليها ، يعني : أتل عليكم أنّ هذا صراطي مستقيما».

والثاني : أنها منصوبة المحلّ أيضا نسقا على (أَلَّا تُشْرِكُوا) إذا قلنا بأنّ «أن» المصدريّة ، وأنّها وما بعدها بدل من «ما حرّم» ، قاله الحوفيّ.

الثالث : أنها على إسقاط حرف لام العلّة ، أي : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨].

قال أبو عليّ : من فتح «أنّ» فقياس قول سيبويه ـ رحمه‌الله تعالى ـ أنه حملها على «فاتّبعوه» والتقدير : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ؛ كقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢].

قال سيبويه (٢) : «ولأنّ هذه أمّتكم» ، وقال في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ): ولأنّ المساجد.

قال بعضهم : «وقد صرّح بهذا اللام في نظير هذا التّركيب ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا) [قريش : ١ ـ ٣] ، والفاء على هذا كهي في قولك : زيدا فاضرب ، وبزيد فامرر ، وتقدم تقريره في البقرة (٣).

قال الفارسي : قياس قول سيبويه في فتح الهمزة أن تكون الفاء زائدة كهي في «زيد فقائم».

قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «سيبويه لا يجوّز زيادتها في مثل هذا الخبر ، وإنما أراد أبو عليّ بنظيرها في مجرّد الزّيادة وإن لم يقل به ، بل قال به غيره».

والرابع : أنها في محلّ جرّ نسقا على الضّمير المجرور في «به» أي : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) وبأنّ هذا هو قول الفراء (٥) أيضا. وردّه أبو البقاء (٦) بوجهين :

أحدهما : العطف على الضّمير المجرور من غير إعادة الجارّ.

الثاني : أنه يصير المعنى : وصّاكم باستقامة الصّراط ، وهذا فاسد.

قال شهاب الدّين (٧) : والوجهان مردودان :

أما الأوّل : فليس هذا من باب العطف على المضمر من غير إعادة الجارّ ؛ لأن

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٦٤.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٤.

(٣) الآية : ٤٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٩.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٦٤.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦٥.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢١٩.

٥١٦

الجارّ هنا في قوّة المنطوق به ، وإنما حذف ؛ لأنّه يطّرد حذفه مع أنّ وأن لطولهما بالصّلة ، ولذلك كان مذهب الجمهور أنها في محلّ جرّ بعد حذفه لأنّه كالموجود ، ويدل على ما قلته ، ما قال الحوفيّ ؛ قال : «حذفت الباء لطول الصّلة وهي مرادة ، ولا يكون في هذا عطف مظهر على مضمر لإرادتها».

وأمّا الثاني : فالمعنى صحيح غير فاسد ؛ لأن معنى توصيتنا باستقامة [الصّراط ألّا نتعاطى ما يخرجنا عن الصّراط فوصيتنا باستقامته](١) مبالغة في اتّباعه.

وأما قراءة ابن عامر فقالوا : «أن» فيها مخفّفة من الثّقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن ، أي: «وأنّه» ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [يونس : ١٠] ، وقول الأعشى : [البسيط]

٢٣٨٤ ـ في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (٢)

وحينئذ ففيها الأربعة أوجه المتقدّمة المذكورة في المشدّدة.

وقرأ ابن (٣) عامر وابن كثير : «سراطي» بالسّين ، وحمزة : بين الصّاد والزّاي ، والباقون : بالصّاد صافية ، وفي مصحف عبد الله : «وهذا صراطي» بدون «أنّ» ، و «هذا صراط ربّك».

قوله : (فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ).

أي : الطّرق المختلفة التي عدا هذا الطّريق ؛ مثل اليهوديّة ، والنصرانية ، وسائر الملل ، وقيل : الأهواء والبدع.

(فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : فتقعوا في الضّلالات.

روى ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه خطّ خطا عن يمينه ، وخطّ عن شماله خطوطا ، ثم قال : هذا سبيل الله ، وهذه سبل ، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم تلا : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)(٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هذه الآيات محكمات ، لم ينسخهنّ شيء من

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) تقدم برقم ٢٠٢٥.

(٣) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣٨ ، الدر المصون ٣ / ٢١٩.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٣٥ ، ٤٦٥ ، في مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والدارمي في السنن ١ / ٦٧ ، باب في كراهية أخذ الرأي. والنسائي في «السنن الكبرى» على ما ذكره المزي في تحفة الأشراف ٧ / ٢٥ ، الترجمة (٩٢١٥) ، و ٧ / ٤٩ الترجمة (٩٢٨١).

والحاكم (٢ / ٣١٨) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ١٧٥) من حديث عبد الله بن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٠٦) وزاد نسبته للبزار وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم.

٥١٧

جميع الكتب ، من عمل بهنّ ، دخل الجنّة ، ومن تركهنّ ، دخل النار (١).

قوله : «فتفرّق» منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء في جواب النّهي ، والجمهور (٢) على «فتفرّق» بتاء خفيفة ، والبزّيّ بتشديدها (٣) ، فمن خفّف ، حذف إحدى التّاءين ، ومن شدّد أدغم ؛ وتقدم هذا في (تَتَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ٨٠].

و «بكم» : يجوز أن يكون مفعولا به في المعنى ، أي : فيفرّقكم ، ويجوز أن تكون حالا ، أي : وأنتم معها ؛ كقوله القائل في ذلك : [الوافر]

٢٣٨٥ ـ ..........

تدوس بنا الجماجم والتّريبا (٤)

وختم هذه الآية بالتّقوى وهي اتّقاء النّار ؛ لمناسبة الأمر باتّباع الصّراط ، فإن من اتّبعه وقى نفسه من النّار.

فصل في فضل هذه الآية

قال القرطبي (٥) في هذه الآية الكريمة : «وهذه آية عظيمة عطفها على ما تقدّم ، فإنه لمّا نهى وأمر حذّر هنا عن اتّباع غير سبيله ، فأمر فيها باتّباع طريقه».

«مستقيما» : نصب على الحال ، ومعناه : مستويا قائما لا اعوجاج فيه ، وقد بيّنه على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونشأت منه طرق ، فمن سلك الجادّة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطّرق أفضت به إلى النّار. قال ـ تعالى ـ : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) أي : تميل.

روى ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ قال : «خطّ لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطّا ، ثم قال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله ، ثم قال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ، ثم قرأ هذه الآية الكريمة» (٦).

وأخرجه ابن ماجه في سننه عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخط خطّا وخط خطين عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال : هذا سبيل الله ـ ثم تلا هذه الآية ـ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(٧).

وهذه السّبل هي اليهوديّة ، والنّصرانية ، والمجوسيّة ، وسائر أهل الملل والبدع والضّلالات ، من أهل الأهواء والشّذوذ في الفروع ، وغير ذلك من أهل التّعمّق في الجدل

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره ١٤ / ٤ عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الحجة لأبي زرعة ٢٧٨ السبعة (٢٧٤) الحجة لابن خالويه (١٥٢) النشر (٢ / ٢٦٦) التبيان ١ / ٥٥٢ معاني الفراء ١ / ٣٦٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٤ ، الدر المصون ٣ / ٢١٩.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : القرطبي ٧ / ٨٩.

(٦) تقدم.

(٧) أخرجه ابن ماجة (١ / ١٠) المقدمة حديث (١١) من حديث جابر.

٥١٨

والخوض في الكلام ، وهذه عرضة للزّلل. قاله ابن عطية (١).

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (١٥٤)

أصل «ثمّ» : المهلة في الزمان ، وقد تأتي للمهلة في الإخبار.

وقال الزّجّاج (٢) : وهو معطوف على «أتل» تقديره : أتل ما حرّم ثم أتل ما آتينا.

وقيل : هو معطوف على «قل» أي : على إضمار قل ، أي : ثم قل : آتينا.

وقيل : تقديره : ثم أخبركم آتينا.

وقال الزمخشري (٣) : عطف على وصّاكم به» قال : «فإن قلت : كيف صحّ عطفه عليه ب «ثم» ، والإيتاء قبل التّوصية به بدهر طويل؟

قال شهاب الدين (٤) : هذه التّوصية قديمة لم يزل تتواصاها كل أمّة على لسان نبيّها ، فكأنه قيل : ذلكم وصّاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك أنّا آتينا موسى الكتاب.

وقيل : هو معطوف على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) [الأنعام : ٨٤].

وقال ابن عطية (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنّه قال : ثم ممّا وصّيناه أنا أتينا موسى الكتاب ، ويدعو إلى ذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ متقدّم بالزمان على محمّد ـ عليه الصّلاة والسلام ـ».

وقال ابن القشيري : «في الكلام حذف ، تقديره : ثم كنّا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن العظيم على محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ».

وقال أبو حيّان (٦) : «والذي ينبغي أن يستعمل للعطف كالواو من غير اعتبار مهلة ، وبذلك قال [بعض] النّحويّين».

قال شهاب الدّين (٧) : وهذه استراحة ، وأيضا لا يلزم من انتفاء المهلة انتفاء الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مهلة على أن الفرض في هذه الآية عدم الترتيب في الزمان.

قوله : «تماما» يجوز فيه خمسة أوجه :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٦٤.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٣٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٨٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٠.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٦٢.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٥٥.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٢٠.

٥١٩

أحدها : أنّه مفعول من أجله ، أي : لأجل تمام نعمتنا.

الثاني : أنّه حال من الكتاب ، أي : حال كونه تماما.

الثالث : أنّه نصب على المصدر ؛ لأنّه بمعنى : آتيناه إيتاء تمام ، لا نقصان.

الرابع : أنه حال من الفاعل ، أي : متمّين.

الخامس : أنّه مصدر منصوب بفعل مقدّر من لفظه ، ويكون مصدرا على حذف الزّوائد ، والتقدير : أتممناه إتماما ، و (عَلَى الَّذِي) متعلّق ب «تماما» أو بمحذوف على أنّه صفة ، هذا إذا لم يجعل مصدرا مؤكّدا ، فإن جعل ، تعيّن جعله صفة.

و «أحسن» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه فعل ماض واقع صلة للموصول ، وفاعله مضمر يعود على موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي : تماما على الذي أحسن ؛ فيكون الذي عبارة عن موسى.

وقال أبو عبيدة : على كلّ من أحسن ، أي : أتممنا فضيلة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالكتاب على المحسنين ، أي : أظهرنا فضله عليهم.

وقيل : على المحسنين من قومه ، أي : على من أحسن من قومه ، وكان فيهم محسن ومسيء ، وتدلّ عليه قراءة ابن مسعود : وعلى الذي أحسن.

وقيل : كلّ من أحسن ، أي : الذي أحسنه موسى من العلم ، والحكمة ، والإحسان في الطاعة والعبادة ، وتبليغ الرّسالة.

وقيل : «الذي» عبارة عمّا عمله موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأتقنه ، أي : تماما على الذي أحسنه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

والثاني : أنّ «أحسن» اسم على وزن أفعل ، ك «أفضل» و «أكرم» ، واستغنى بوصف الموصول عن صلته ، وذلك أنّ الموصول متى وصف بمعرفة ، نحو : «مررت بالذي أخيك» ، أو بما يقارب المعرفة ، نحو : «مررت بالذي خير منك ، وبالذي أحسن منك» ، جاز ذلك ، واستغني به عن صلته ، وهو مذهب الفرّاء ، وأنشد قوله : [الرجز]

٢٣٨٦ ـ حتّى إذا كانا هما اللّذين

مثل الجديلين المحملجين (١)

بنصب «مثل» على أنه صفة ل «اللّذين» المنصوب على خبر كان ، ويجوز أن تكون «الّذي» مصدريّة ، و «أحسن» فعل ماض صلتها ، والتقدير : تماما على إحسانه ، أي : إحسان الله ـ تعالى ـ إليه ، وإحسان موسى إليهم ، وهو رأي يونس ، والفراء ؛ كقوله : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٦٥ ، الدرر ١ / ٦٢ وخزانة الأدب ٦ / ٨١ ، سر صناعة الإعراب ١ / ٣٦٥ ، شرح المفصل ٣ / ١٥٣ ، همع الهوامع ١ / ٨٦ شرح الكافية الشافية ١ / ٢٦٧ ، ابن يعيش ٣ / ١٥٣ الدر المصون ٣ / ٢٢٠.

٥٢٠