اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

قال شهاب الدين (١) : «ولا أدري كيف توهّم كون هذه الهاء الدّالّة على الوحدة في مفرد أسماء الأجناس ؛ كثمرة وبرّة ونبقة للمبالغة ، كهي في رواية ونسّابة وفروقة؟

فصل في الدلالة من الآية

تمسّك أهل السّنّة بهذه الآية الكريمة في أن الهداية والضّلال من الله ـ تعالى ـ ؛ لأن لفظها يدلّ على المسألة ، ويدل على الدّليل العقليّ المتقدّم في المسألة وهو العلم والدّاعي ، وبيانه أن العبد قادر على الإيمان والكفر ، وقدرته بالنّسبة إلى هذين الأمرين على السّويّة ، فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلا من الكفر ، أو الكفر بدلا من الإيمان ، إلّا إذا حصل في القلب داعية إليه ، وتلك الدّاعية لا معنى لها ، إلّا علمه أو اعتقاده أو ظنّه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ، ومنفعة راجحة ، فإذا حصل هذا المعنى في قلبه ، دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشّيء ، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظنّ بكون ذلك الفعل مشتملا على مفسدة راجحة وصور زائدة ، دعاه ذلك إلى تركه ، وثبت أن حصول هذه الدّواعي لا بدّ وأن تكون من الله ـ تعالى ـ ، وإذا ثبت ذلك فنقول : يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلّا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أنّ الإيمان راجح المنفعة ، زائد المصلحة ، فحينئذ يميل قلبه وترغب نفسه في تحصيله ، وهذا هو انشراح الصّدر للإيمان ، فإن حصل في القلب أنّه مفسدة عظيمة في الدّين والدّنيا ، وأنه يوجب المضارّ الكثيرة ، فحينئذ يترتّب على هذا الاعتقاد نفرة عظيمة عن الإيمان ، وهذا هو المراد من أنّه ـ تبارك وتعالى ـ يجعل صدره ضيّقا حرجا.

قالت المعتزلة (٢) : لنا ههنا مقامان :

الأوّل : في بيان أنّه لا دلالة لكم في هذه الآية الكريمة.

والثاني : التّأويل المطابق لمذهبنا.

أما المقام الأول : فتقريره من وجوه :

أحدها : أن هذه الآية الكريمة ليس فيها أنه ـ تبارك وتعالى ـ أضلّ قوما أو يضلّهم ؛ لأنّه ليس فيها إلّا أنه [متى أراد أن يهدي إنسانا ، فعل به كيت وكيت ، وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت ، وليست الآية أنّه](٣) ـ تعالى ـ يريد ذلك أو لا يريد ذلك ، ويدلّ عليه قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] ، فبين أنه ـ تبارك وتعالى ـ كيف يفعل اللهو لو أراده ، ولا خلاف أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لا يريد ذلك ولا يفعله.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ لم يقل : ومن يرد أن يضلّه عن الإسلام ، بل قال : «ومن يرد

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٤٦.

(٣) سقط في أ.

٤٢١

أن يضلّه» فلم قلتم : إن المراد : ومن يرد أن يضلله عن الإيمان.

وثالثها : أنه ـ تبارك وتعالى ـ بيّن في آخر الآية الكريمة ، أنه إنّما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره ، وأنّه ليس ذلك على سبيل الابتداء ، فقال : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

ورابعها : أنّ قوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) يدلّ على تقدّم الضّيق والحرج على حصول الضّلال ، وأن لحصول ذلك المتقدّم أثر في حصول الضّلال ، وذلك باطل بالإجماع ، أما عندنا ، فلا نقول به وأمّا عندكم ؛ فلأن المقتضي لحصول الجهل والضّلال هو الله ـ تبارك وتعالى ـ يخلقه فيه بقدرته.

وأما المقام الثاني : فهو تفسير الآية الكريمة على ما يطابق مذهبنا ، وذلك من وجوه :

الأول : وهو اختيار الجبّائي (١) ، ونصره القاضي (٢) أن تقدير الآية الكريمة : فمن يرد الله أن يهديه إلى طريق الجنّة ، يشرح صدره للإسلام ، حتى يثبت عليه ولا يزول عنه ، وتفسير هذا الشّرح : هو أنّه ـ تعالى ـ يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثّبات عليه ، وهذه الألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن ، إلّا بعد أن يصيّره مؤمنا حتّى يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه ، وإليه الإشارة بقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] وبقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، فإذا آمن العبد وأراد ثباته على الإيمان ، فحينئذ يشرح صدره ، أي : يفعل به الألطاف الّتي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه ، وأمّا إذا كفر وعاند وأراد الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يضلّه عن طريق الجنّة ، فعند ذلك (٣) يلقي في صدره الضّيق والحرج ، ثم سأل الجبّائي نفسه ، فقال : كيف يصحّ ذلك ونجد الكفّار طيّبي النّفوس ، لا غمّ لهم ألبتّة ولا حزن (٤).

وأجاب عنه : بأنّه ـ تبارك وتعالى ـ لم يخبر بأنّه يفعل بهم ذلك في كلّ وقت ، فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيّبي القلوب ، وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالا آخر ، فقال : فيجب أن تقطعوا في كلّ كافر بأنّه يجد في نفسه ذلك الضّيق في بعض الأوقات.

وأجاب عنه : بأنّه قال : وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصا عند ورود أدلّة الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين ، وعند ظهور الذّلّة والصّغار فيهم.

التّأويل الثاني : أن المراد : فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنّة ، فيشرح صدره للإسلام

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٤٦.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) في أ : فحينئذ.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٤٦.

٤٢٢

[أي : يشرح صدره للإسلام](١) في ذلك الوقت الّذي يهديه فيه إلى الجنّة ؛ لأنه لما رأى أنّ بسبب الإيمان وجد هذه الدّرجة العالية ، يزداد رغبته في الإيمان ، ويحصل مزيد انشراح [في صدره](٢) ، ومن يرد أن يضلّه يوم القيامة عن طريق الجنّة ، ففي ذلك الوقت يضيق صدره ؛ بسبب الحزن الّذي ناله عن الحرمان من الجنّة والدّخول في النّار.

التأويل الثالث : أن في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : من شرح صدر نفسه بالإيمان ، فقد أراد الله أن يهديه ، أي : يخصه بالألطاف الدّاعية إلى الثّبات على الإيمان ، هذا مجموع كلامهم.

والجواب عن قولهم أولا : أنه لم يقل في هذه الآية أنه يضلّه ، بل قال : إنّه لو أراد أن يضلّه ، لفعل كذا وكذا ، فنقول : إن قوله في آخر الآية الكريمة : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) تصريح بأنّه يفعل بهم ذلك الضّلال ؛ لأن حرف «الكاف» في قوله : «كذلك» يفيد التّشبيه ، والتّقدير : وكما جعلنا ذلك الضّيق والحرج في صدره ، فكذلك يجعل الله الرّجس على قلوب الّذين لا يؤمنون (٣).

والجواب عن الثّاني : وهو أن قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) ليس فيه بيان أن يضلّه عن الدّين ، فنقول : إن قوله في آخر الآية : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) تصريح بأن المراد من قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) هو أن يضلّه عن الدّين.

والجواب عن الثالث : وهو أنّه ـ تبارك وتعالى ـ إنّما يلقي الضّيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم فنقول : لا نسلّم أن المراد ذلك ، بل المراد : كذلك يجعل الله الرّجس على قلوب الّذين قضى عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وإذا جعلنا الآية على هذا الوجه ، سقط ما ذكروه.

والجواب عن قولهم : إنّ ظاهر الآية الكريمة يقتضي أن يكون ضيق الصّدر وحرجه شيئا متقدّما على الضّلال ، أو موجبا له ، فنقول : والأمر كذلك ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ إذا خلق في قلبه اعتقادا بأنّ الإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب الذّم في الدّنيا ، والعقوبة في الآخرة ، فهذا الاعتقاد يوجب اعراض النّفس عن قبول ذلك الإيمان ، وهذه الحالة شبيهة بالطّريق الضّيّق ؛ لأن الطّريق إذا كان ضيّقا ، لم يقدر الدّاخل أن يدخل فيه فذلك القلب إذا حصل فيه ذلك الاعتقاد ، امتنع دخول الإيمان فيه فلأجل حصول المشابهة من هذا الوجه ، جاز إطلاق لفظ الضيّق والحرج عليه.

وأما الجواب عن التّأويلات الثلاثة فنقول :

أما الأوّل : فإن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفسير الضيق والحرج ، فلمّا كان المراد منه حصول الغمّ والحزن في قلب الكافر ، فذلك يوجب أن يكون ما يحصل في

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٤٧.

٤٢٣

قلب المؤمن زيادة يعرفها كلّ أحد ، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك ، بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السّويّة ، بل كان الحزن والبلاء في حقّ المؤمن أكثر ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣] ، وقال عليه الصلاة والسلام : «خصّ البلاء بالأنبياء ثمّ بالأمثل فالأمثل» (١).

والجواب عن الثّاني : أنه مدفوع ؛ لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات ؛ لأن كل أحد يعلم بالضّرورة أن كلّ من هداه الله إلى الجنّة بسبب الإيمان يفرح بسبب تلك الهداية ، وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت ، وكذلك القول في قوله : المراد : ومن يضلّه عن طريق الجنّة بأنه يضيق قلبه في ذلك الوقت ، فحصول هذا المعنى معلوم بالضّرورة ، وحمل الآية الكريمة عليه إخراج للآية عن الفائدة.

والجواب عن التّأويل الثالث : فهو يقتضي تفكيك نظم الآية ؛ لأن الآية الكريمة تقتضي أن يحصل انشراح الصّدر من قبل الله ـ تبارك وتعالى ـ أولا ، ثم يترتّب عليه حصول الهداية والإيمان ، وأنتم عكستم القضيّة ، فقلتم : العبد يجعل نفسه أولا منشرح الصّدر ، ثم إن الله ـ تبارك وتعالى ـ أوّلا بعد ذلك يهديه ، بمعنى أنه يخصّه بمزيد الألطاف الدّاعية له إلى الثّبات على الإيمان ، والدّلائل اللّفظية إنما يمكن التّمسّك [بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات ، والترتيبات ، فأمّا إذا أبطلناها وأزلناها ، لم يمكن التّمسّك](٢) بشيء منها أصلا ، وفتح هذا الباب يوجب ألّا يمكن التّمسّك بشيء من الآيات ، ولكن طعن في القرآن العظيم ، وإخراج له عن كونه حجّة.

قوله : «كأنّما» «ما» هذه مهيّئة لدخول كأنّ على الجمل الفعلية ؛ كهي في (وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ) [آل عمران : ١٨٥].

قوله : «يصّعّد» وقرأ (٣) ابن كثير : «يصعد» ساكن الصّاد ، مخفّف العين ، مضارع «صعد» أي : ارتفع ، وأبو بكر عن عاصم : «يصّاعد» بتشديد الصّاد بعدها ألف ، وأصلها يتصاعد ، أي : «يتعاطى الصّعود ويتكلّفه» فأدغم التّاء في الصّاد تخفيفا ، والباقون : «يصّعّد» بتشديد الصّاد والعين دون ألف بينهما ، من «يصّعّد» أي : يفعل الصّعود ويكلّفه ، والأصل : «يتصعّد» فأدغم كما في قراءة شعبة وهذه الجملة التشبيهيّة يحتمل أن تكون مستأنفة ، شبّه فيها حال من جعل الله صدره ضيّقا حرجا ؛ بأنه بمنزلة من يطلب الصّعود إلى السّماء المظللة أو إلى مكان مرتفع [وعر](٤) كالعقبة الكؤود. والمعنى : أنه يسبق عليه الإيمان كما يسبق عليه صعود السّماء ، وجوّزوا فيها وجهين آخرين :

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : السبعة ٢٦٨ النشر ٢ / ٢٦٢ التبيان ١ / ٥٣٨ ، الحجة لابن خالويه ١٤٩.

(٤) سقط في ب.

٤٢٤

أحدهما : أن يكون مفعولا آخر تعدّد كما تعدّد ما قبلها.

والثاني : أن يكون حالا وفي صاحبها احتمالان :

أحدهما : هو الضّمير المستكنّ في «ضيّقا».

والثاني : هو الضّمير في «حرجا» ، و (فِي السَّماءِ) متعلّق بما قبله.

قوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ) هو كنظائره وقدّره الزّجّاج (١) : «مثل ما قصصنا عليك يجعل» أي : فيكون مبتدأ وخبرا ، أو نعت مصدر محذوف ، فلك أن ترفع «مثل» وأن تنصبها بالاعتبارين عنده ، والأحسن أن يقدّر لها مصدر مناسب كما قدره النّاس ، وهو : مثل ذلك الجعل ـ أي : جعل الصّدر ضيّقا حرجا ـ «يجعل الله الرّجس» كذا قدّره مكّي (٢) وغيره ، و «يجعل» يحتمل أن تكون بمعنى «ألقى» وهو الظّاهر ، فتتعدّى لواحد بنفسها وللآخر بحرف الجرّ ، ولذلك تعدّت هنا ب «على» والمعنى : «كذلك يلقي الله العذاب على الّذين لا يؤمنون».

ويجوز أن تكون بمعنى صيّر ، أي : «يصيّره مستعليا عليهم محيطا بهم» ، والتّقدير الصّناعي : مستقرّا عليهم.

فصل في بيان معنى الرجس

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : الرّجس هو الشّيطان (٣).

وقال الكلبي : هو المأثم.

وقال مجاهد : الرّجس : ما لا خير فيه (٤).

وقال عطاء : الرّجس العذاب مثل الرّجز (٥).

وقيل هو النّجس ؛ روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان إذا دخل الخلاء قال : «اللهم إنّي أعوذ بك من الرّجس والنّجس» (٦).

وقال الزّجّاج (٧) : الرّجس : اللّعنة في الدّنيا ، والعذاب في الآخرة.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣١٩.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٨٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤١) وذكره القرطبي (٧ / ٥٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١٥٠) والقرطبي (٧ / ٥٥).

(٥) انظر تفسير الرازي (١٣ / ١٥٠) والبحر المحيط (٤ / ٢٢٠).

(٦) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (رقم ٢) عن الحسن مرسلا وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (١٨) عن أنس بن مالك مرفوعا وأخرجه أيضا رقم (٢٥) عن ابن عمر.

وأخرجه ابن ماجه (٢٩٩) عن أبي أمامة مرفوعا.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ١٥٠.

٤٢٥

قوله تعالى : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦)

«هذا» إشارة إلى ما تقدّم تقريره ، وهو أن الفعل يتوقّف على الدّاعي ، وحصول تلك الدّاعية من الله ـ تبارك وتعالى ـ فوجب كون الفعل من الله ـ تعالى ـ ، وذلك يوجب التّوحيد المحض ، وسماه صراطا ؛ لأن العلم به يؤدّي إلى العلم بالتّوحيد الحق.

وقيل : «هذا» إشارة إلى الّذي أنت عليه يا محمّد طريق ربّك ودينه الذي ارتضى لنفسه ، مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام.

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ و «هذا» إشارة إلى القرآن الكريم (١).

قوله ـ تعالى ـ : «مستقيما» حال من «صراط» والعامل فيه أحد شيئين : إمّا «ها» لما فيها من معنى التّنبيه ، وإمّا «ذا» لما فيه من معنى الإشارة ، وهي حال مؤكدة لا مبيّنة ؛ لأن صراط الله لا يكون إلّا كذلك.

قال الواحدي (٢) : انتصب «مستقيما» على الحال ، والعامل فيه معنى هذا ، وذلك أن «ذا» يتضمّن معنى الإشارة ؛ كقولك : هذا زيد قائما ، معناه : أشير إليه في حال قيامه ، وإذا كان العامل في الحال معنى الفعل لا الفعل ، لم يجز تقديم الحال عليه ، لا يجوز : «قائما هذا زيد» و [يجوز] ضاحكا جاء زيد.

ثم قال تبارك وتعالى : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) أي : ذكرناها فصلا فصلا ، بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر ، وقوله : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ).

قال ابن الخطيب (٣) : فالّذي أظنه والعلم عند الله أنه ـ تبارك وتعالى ـ إنّما جعل مقطع هذه الآية الكريمة هذه اللّفظة ؛ لأنّه تقرّر في عقل كلّ واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجّح على الآخر إلّا لمرجّح ، فكأنّه ـ تبارك وتعالى ـ يقول للمعتزليّ : أيها المعتزليّ ، تذكّر ما تقرّر في عقلك أن الممكن ؛ لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، حتّى تزول الشّبهة عن قلبك بالكلّية في مسألة القضاء والقدر.

قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٢٧)

قوله ـ تعالى ـ : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، فلا محلّ لها ؛ كأن سائلا سأل عمّا أعدّ الله لهم ، فقيل له ذلك ، ويحتمل أن يكون حالا من فاعل «يذّكّرون» ، ويحتمل أن يكون وصفا لقوم ، وعلى هذين الوجهين فيجوز أن تكون الحال أو الوصف الجارّ والمجرور فقط ، ويرتفع (دارُ السَّلامِ) بالفاعليّة ، وهذا عندهم أولى ؛ لأنه أقرب إلى المفرد من الجملة ، والأصل في الوصف والحال والخبر الإفراد ، فما قرب إليه فهو أولى.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ١٥٣).

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٥٣.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ١٥٤.

٤٢٦

و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال من «دار» ويجوز أن ينتصب «عند» بنفس «السّلام» ؛ لأنه مصدر ، أي : يسلّم عليهم عند ربّهم ، أي : في جنّته ، ويجوز أن ينتصب بالاستقرار في «لهم».

وقوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يحتمل أيضا الاستئناف ، وأن يكون حالا ، أي : لهم دار السلام ، والحال أن الله وليّهم وناصرهم.

(وَبِما كانُوا) الباء سببيّة ، و «ما» بمعنى الّذي ، أو نكرة أو مصدريّة.

فصل في معنى السلام

قيل : السّلام اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ والمعنى : دار الله كما قيل : الكعبة بيت الله ، والخليفة عبد الله.

وقيل : السّلام صفة الدّار بمعنى : دار السّلامة ، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها ، يقولون : ضلال وضلالة ، وسفاه وسفاهة ، ورضاع ورضاعة ، ولذاذ ولذاذة.

وقيل : السّلام جمع السّلامة ، وإنّما سمّيت الجنّة بهذا الاسم ؛ لأن أنواع السّلامة بأسرها حاصلة فيها ، وفي المراد بهذه العنديّة وجوه :

أحدها : أنّها معدّة عنده كما تكون الحقوق معدّة مهيأة حاضرة ؛ كقوله : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [البينة : ٨].

ثانيها : أن هذه العنديّة تشعر بأن هذا الأمر المؤخّر موصوف بالقرب من الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وهذا ليس قرب بالمكان والجهة ، فوجب كونه بالشّرف والرّتبة ، وذلك يدلّ على أن ذلك الشّيء بلغ في الكمال والرّفعة إلى حيث لا يعرف كنهه ، إلّا أنه كقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧].

وثالثها : هي كقوله في صفة الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [الأنبياء : ١٩] ، وقوله : «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (١) ، و «أنا عند ظنّ عبدي بي» (٢) ، وقال ـ تعالى ـ : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، وقال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [البينة: ٨] وكل ذلك يدلّ على أنّ حصول كمال صفة العنديّة بواسطة صفة العبوديّة.

وقوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يدل على قربهم من الله ؛ لأن الوليّ معناه القريب ، لا وليّ لهم إلّا هو ، ثم قال : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ وإنما ذكر ذلك لئلّا ينقطع العبد عن العمل.

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفا (١ / ٢٠٣) وقال : قال في المقاصد : ذكره في البداية للغزالي وقال القارىء عقبه : ولا يخفى أن الكلام في هذا المقام لم يبلغ الغاية.

(٢) تقدم تخريجه.

٤٢٧

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(١٢٨)

لما بين حال من يتمسّك بالصّراط المستقيم ، بيّن بعده حال من يكون بالضّدّ من ذلك ؛ ليكون قصّة أهل الجنّة مردفة بقصّة أهل النّار ، وليكون الوعيد مذكورا بعد الوعد.

قوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) يجوز أن ينتصب بفعل مقدّر ، فقدّره أبو البقاء (١) تارة ب «اذكر» ، وتارة بالقول المحذوف العامل في جملة النّداء من قوله : «يا معشر» أي : ويقول : «يا معشر يوم نحشرهم» ، وقدّره الزّمخشري (٢) : «ويوم يحشرهم وقلنا يا معشر كان ما لا يوصف لفظاعته».

قال أبو حيّان (٣) : «وما قلناه أولى» يعني : من كونه منصوبا ب «يقول» المحكي به جملة النّداء ، قال : «لاستلزامه حذف جملتين : إحداهما جملة «وقلنا» ، والأخرى العاملة في الظّرف» وقدّره الزّجّاج بفعل قول مبني للمفعول : «يقال لهم : يا معشر يوم نحشرهم» وهو معنى حسن ؛ كأنه نظر إلى معنى قوله : «ولا يكلّمهم ولا يزكّيهم» فبناه للمفعول ، ويجوز أن ينتصب «يوم» بقوله : «وليّهم» لما فيه من معنى الفعل ، أي : «وهو يتولّاهم بما كانوا يعملون ، ويتولّاهم يوم يحشرهم» ، و «جميعا» حال أو توكيد على قول بعض النّحويّين.

وقرأ حفص (٤) : «يحشرهم» بياء الغيبة ردا على قوله : «ربهم» أي : «ويوم يحشرهم ربّهم» والضّمير في «يحشرهم» يعود إلى الجنّ والإنس بجمعهم في يوم القيامة.

وقيل : يعود إلى الشّياطين الّذين تقدم ذكرهم في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ).

قوله : (يا مَعْشَرَ) في محلّ نصب بذلك القول المضمر ، أي : «نقول أو قلنا» ، وعلى تقدير الزّجّاج يكون في محلّ رفع ؛ لقيامه مقام الفاعل المنوب عنه ، والمعشر : الجماعة ؛ قال القائل : [الوافر]

٢٣١١ ـ وأبغض من وضعت إليّ فيه

لساني معشر عنهم أذود (٥)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦١.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٢.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣٠ ـ ٣١ ، الدر المصون ٣ / ١٧٨ ، السبعة ٢٦٩ ، النشر ٢ / ٢٦٢.

(٥) البيت لعقيل بن علفة ؛ وهو في الدرر ١ / ٢٨٦ ، همع الهوامع ١ / ٨٨ وحاشية يس على شرح التصريح ١ / ١٢٨ ، شرح الحماسة ١ / ٤٠١ الدر المصون ٣ / ١٧٨.

٤٢٨

والجمع : معاشر ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث» (١). قال الأودي : [البسيط]

٢٣١٢ ـ فينا معاشر لن يبنوا لقومهم

وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا (٢)

قوله تعالى : (مِنَ الْإِنْسِ) في محلّ نصب على الحال ، أي : أولياؤهم حال كونهم من الإنس ، ويجوز أن تكون «من» لبيان الجنس ؛ لأن أولياءهم كانوا إنسا وجنا ، والتقدير : أولياؤهم الذين هم الإنس ، و «ربّنا» حذف منه حرف النّداء.

وقوله : (قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) يعني : أولياء الشّياطين الّذين أطاعوهم من الإنس ، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) والمعنى : استكثرتم من الإنس بالإضلال والإغواء ، أي : أضللتم كثيرا.

وقال الكلبيّ : استمتاع الإنس بالجنّ هو الرّجل كان إذا سافر وترك بأرض قفر ، وخاف على نفسه من الجنّ ، قال : أعوذ بسيّد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت آمنا في جوارهم ، وأما استمتاع الجنّ بالإنس ، فهو أنّهم قالوا : قد سعدنا الإنس مع الجنّ ، حتى عاذوا بنا فيزدادوا شرفا في قومهم وعظما في أنفسهم ؛ كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) [الجن : ٦].

وقيل : استمتاع الإنس بالجنّ ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف ، والسّحر والكهانة ، وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها ، وتسهيل سبيلها عليهم ، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزيّنون لهم من الضّلالة والمعاصي.

وقال محمد بن كعب القرظي : هو طاعة بعضهم بعضا (٣) ، وقيل : قوله : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) كلام الإنس خاصّة.

قوله : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) قرأ الجمهور : «أجلنا» بالإفراد ؛ لقوله : «الّذي» وقرىء (٤) : «آجالنا» بالجمع على أفعال «الّذي» بالإفراد والتّذكير وهو نعت للجمع.

فقال أبو عليّ : هو جنس أوقع «الّذي» موقع «الّتي».

قال أبو حيّان (٥) : وإعرابه عندي بدل ؛ كأنه قيل : «الوقت الّذي» وحينئذ يكون جنسا ولا يكون إعرابه نعتا ؛ لعدم المطابقة بينهما ، وفيه نظر ؛ لأن المطابقة تشترط في البدل أيضا ، وكذلك نصّ النّحاة على قول النّابغة : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر ٤ / ٢٢٣ ، الدر المصون ٣ / ١٧٨.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٥) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٣ ، الدر المصون ٣ / ١٧٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٣.

٤٢٩

٢٣١٣ ـ توهّمت آيات لها فعرفتها

لستّة أعوام وذا العام سابع

رماد ككحل العين لأيا أبينه

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (١)

أي : رماد ونوى مقطوعان على «هما رماد ونوى» لا بدل من آيات لعدم المطابقة ، ولذلك لم يرويا إلّا مرفوعين لا منصوبين.

فصل في المراد بالآية

معنى الآية : أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معيّن ووقت محدود ، ثمّ جاءت الخيبة والحسرة والنّدامة من حيث لا دفع ، واختلفوا في ذلك الأجل.

فقيل : هو وقت الموت.

وقيل : هو وقت البعث والقيامة ، والّذين قالوا بالقول الأوّل قالوا : إنه بدل على أن كلّ من مات من مقتول وغيره ، فإنه يموت بأجله ؛ لأنهم أقرّوا بأنّا بلغنا أجلنا الّذي أجّلت لنا ، وفيهم المقتول وغير المقتول ، ثم قال ـ تعالى ـ : (النَّارُ مَثْواكُمْ) أي : المقام والمقرّ والمصير.

قوله : (خالِدِينَ فِيها) منصوب على الحال ، وهي حال مقدّرة ، وفي العامل فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه «مثواكم» لأنه هنا اسم مصدر لا اسم مكان ، والمعنى : النّار ذات ثوائكم ، أي : إقامتكم في هذه الحال ، ولذلك ردّ الفارسيّ على الزّجّاج (٢) ؛ حيث قال : المثوى «المقام» ، أي : «النّار مكان ثوائكم» أي : إقامتكم.

قال الفارسيّ : «المثوى عندي في الآية : اسم للمصدر دون المكان ؛ لحصول الحال معملا فيها واسم المكان لا يعمل عمل الفعل ؛ لأنه لا معنى للفعل فيه ، وإذا لم يكن مكانا ، ثبت أنّه مصدر ، والمعنى : «النّار ذات إقامتكم فيها خالدين». فالكاف والميم في المعنى فاعلون ، وإن كان في اللّفظ خفضا بالإضافة ؛ ومثله قول الشاعر : [الطويل]

٢٣١٤ ـ وما هي إلّا في إزار وعلقة

مغار ابن همّام على حيّ خثعما (٣)

وهذا يدلّ على حذف المضاف ، المعنى : «وما هي إلا إزار وعلقة وقت إغارة ابن

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٧٩) ، المقرب ١ / ٢٤٧ ، مجاز القرآن ١ / ٣٣ ، الخزانة ٢ / ٤٥٣ ، شرح شواهد الشافية (١٠٨) ، الكتاب ٢ / ٨٦ ، المقتضب ٤ / ٣٢٢ ، الدر المصون ٣ / ١٧٩ وروي في الخزانة صدر البيت الثاني هكذا :

رماد ككحل العين ما إن تبينه

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٢٠.

(٣) البيت لحميد بن ثور ينظر : الكتاب ١ / ٢٣٥ ، المقتضب ٢ / ١٢١ ، الخصائص ٢ / ٢٠٨ ، المحتسب ٢ / ٢٦٦ ، ابن يعيش ٦ / ١٠٩ ، اللسان «علق» ، الدر المصون ٣ / ١٧٩.

٤٣٠

همّام» ، ولذلك عدّاه ب «على» ، ولو كان مكانا ، لما عدّاه ؛ فثبت أنّه اسم مصدر لا مكان ، فهو كقولك : «آتيك خفوق النّجم ومقدم الحاجّ» ، ثم قال «وإنّما حسن ذلك في المصادر لمطابقتها الزّمان ، ألا ترى أنّه منقض غير باق كما أنّ الزّمان كذلك».

والثاني : أن العامل فيها فعل محذوف ، أي : يثوون فيها خالدين ، ويدلّ على هذا الفعل المقدّر «مثواكم» ويراد ب «مثواكم» مكان الثّواء ، وهذا جواب عن قول الفارسيّ المعترض به على الزّجّاج.

الثالث : قاله أبو البقاء (١) : أنّ العامل معنى الإضافة ، ومعنى الإضافة لا يصلح أن يكون عاملا ألبتّة ، فليس بشيء.

قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) اختلفوا في المستثنى منه : فقال الجمهور : هو الجملة التي تليها ، وهي قوله : (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها) وسيأتي بيانه عن قرب.

وقال أبو مسلم : «هو مستثنى من قوله : «وبلغنا أجلنا الّذي أجّلت لنا» أي : إلا من أهلكته واخترمته قبل الأجل الذي سمّيته لكفره وضلاله». وقد ردّ النّاس عليه هذا المذهب من حيث الصّناعة ، ومن حيث المعنى. أمّا الصّناعة فمن وجهين :

أحدهما : أنّه لو كان الأمر كذلك ، لكان التّركي ب «إلّا ما شئت» ليطابق قوله : «أجّلت».

والثاني : أنه قد فصل بين المستثنى والمستثنى منه بقوله : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها) ومثل ذلك لا يجوز.

وأما المعنى : فلأن القول بالأجلين : أجل الاخترام ، والأجل المسمّى باطل ؛ لدلائل مقرّرة في غير هذا الموضع.

ثم اختلفوا في هذا الاستثناء : هل هو متّصل أو منقطع؟ على قولين :

فذهب مكّي بن (٢) أبي طالب ، وأبو البقاء (٣) في أحد قوليهما : إلى أنّه منقطع ، والمعنى : «قال النّار مثواكم إلّا من آمن منكم في الدّنيا» كقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] أي : لكن الموتة الأولى ، فإنهم قد ذاقوها في الدنيا كذلك هذا ؛ لكن الّذين شاءهم الله أن يؤمنوا منكم في الدّنيا ، وفيه بعد ، وذهب آخرون إلى أنّه متّصل ، ثم اختلفوا في المستثنى منه ما هو؟

فقال قوم : هو ضمير المخاطبين في قوله : «مثواكم» أي : إلا من آمن في الدّنيا بعد

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦١.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٩٠.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦١.

٤٣١

أن كان من هؤلاء الكفرة. علله ابن عبّاس ، و «ما» هنا بمعنى «من» التي للعقلاء ، وساغ وقوعها هنا ؛ لأن المراد بالمستثنى نوع وصنف ، و «ما» تقع على أنواع من يعقل ، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣].

ولكن قد استبعد هذا ؛ من حيث إن المستثنى مخالف للمستثنى منه في زمان الحكم عليهما ، ولا بدّ أن يشتركا في الزّمان ، لو قلت : «قام القوم إلّا زيدا» ، كان معناه [إلا زيدا فإنه لم يقم ، ولا يصحّ أن يكون المعنى : فإنه سيقوم في المستقبل ، ولو قلت : «سأضرب القوم إلا زيدا»](١) ، كان معناه : فإنّي لا أضربه في المستقبل ، ولا يصحّ أن يكون المعنى : فإني ضربته فيما مضى اللهم إلا أن يجعل استثناء منقطعا كما تقدّم تفسيره.

وذهب قوم : إلى أن المستثنى منه زمان ، ثم اختلف القائلون بذلك :

فمنهم من قال : ذلك الزّمان هو مدّة إقامتهم في البرزخ ، أي : «القبور».

وقيل : «هو المدّة التي بين حشرهم إلى دخولهم النّار». وهذا قول الطّبري (٢) قال : «وساغ ذلك من حيث إنّ العبارة بقوله : (النَّارُ مَثْواكُمْ) لا يخصّ بها مستقبل الزّمان دون غيره».

وقال الزجاج (٣) : «هو مجموع الزمانين ، أي : مدّة إقامتهم في القبور ، ومدّة حشرهم إلى دخولهم النّار».

وقال الزمخشري (٤) : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ، أي : يخلّدون في عذاب النّار الأبد كلّه إلا ما شاء الله إلا الأوقات الّتي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزّمهرير ؛ فقد روي : أنهم يدخلون واديا فيه من الزّمهرير ما يقطع أوصالهم ، فيتعاوون ويطلبون الرّدّ إلى الجحيم».

وقال قوم : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هم العصاة الّذين يدخلون النّار من أهل التّوحيد ، ووقعت «ما» عليهم ؛ لأنّهم نوع كأنه قيل : إلا النّوع الذي دخلها من العصاة ، فإنهم لا يخلّدون فيها ، والظاهر أن هذا استثناء حقيقة ؛ بل يجب أن يكون كذلك.

وزعم الزّمخشري (٥) : أنه يكون من باب قول الموتور الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرّق عليه أنيابه ، وقد طلب أن ينفّس عن خناقه : «أهلكني الله إن نفّست عنك إلا إذا شئت» وقد علم أنه لا يشاء ذلك إلا التّشفّي منه بأقصى ما يقدر عليه من التّشديد والتّعنيف ، فيكون قوله : «إلّا إذا شئت» من أشدّ الوعيد مع تهكّم.

قال شهاب الدّين (٦) : ولا حاجة إلى ادّعاء ذلك مع ظهور معنى الاستثناء فيه ،

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الطبري ٥ / ٣٤٣.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٢١.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٥.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٥.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٨٠.

٤٣٢

وإرتكاب المجاز وإبراز ما لم يقع في صورة الواقع.

وقال الحسن البصريّ : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ؛ أي : من كونهم في الدّنيا بغير عذاب» (١) فجعل المستثنى زمن حياتهم ، وهو أبعد ممّا تقدّم.

وقال الفرّاء ـ وإليه نحا الزّمخشري (٢) ـ : «والمعنى : إلا ما شاء الله من زيادة في العذاب».

وقال غيره : إلا ما شاء الله من النّكال ، وكلّ هذا إنّما يتمشّى على الاستثناء المنقطع.

قال أبو حيّان (٣) : «وهذا راجع إلى الاستثناء من المصدر الذي يدلّ عليه معنى الكلام ؛ إذ المعنى : يعذّبون في النّار خالدين فيها إلا ما شاء الله من العذاب الزّائد على النّار ، فإنه يعذّبهم ، ويكون إذ ذاك استثناء منقطعا ؛ إذ العذاب الزّائد على عذاب النّار لم يندرج تحت عذاب النّار».

وقال ابن عطيّة (٤) : «ويتّجه عندي في هذا الاستثناء أن يكون مخاطبة للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، وليس مما يقال يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم الله ؛ كأنه لما أخبرهم أنه يقال للكفّار : (النَّارُ مَثْواكُمْ) استثنى لهم من يمكن أن يؤمن ممّن يرونه يومئذ كافرا ، وتقع «ما» على صفة من يعقل ، ويؤيّد هذا التّأويل أيضا قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي : بمن يمكن أن يؤمن منهم».

قال أبو حيان (٥) : «وهو تأويل حسن ، وكان قد قال قبل ذلك : «والظّاهر أن هذا الاستثناء هو من كلام الله ـ تعالى ـ للمخاطبين ، وعليه جاءت تفاسير الاستثناء» وقال ابن عطيّة» (٦) ثم ساقه إلى آخره ، فكيف يستحسن شيئا حكم عليه بأنّه خلاف الظّاهر من غير قرينة قويّة مخرجة للّفظ عن ظاهره؟

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي : فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجاز ، أو كأنّه يقول : إنما حكمت لهؤلاء الكفّار بعذاب الأبد ؛ لعلمي أنّهم يستحقّون ذلك.

وقيل : «عليم» بالّذي استثناه وبما في قلوبهم من البرّ والتّقوى.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٢٩)

قوله : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي) أي : كما خذلنا عصاة الإنس والجنّ حتى استمتع بعضهم ببعض ، كذلك نكل بعضهم إلى بعض في النّصرة والمعونة وقيل : نسلّط بعضهم على

__________________

(١) انظر البحر المحيط لأبي حيان (٤ / ٢٢٤).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٤٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٢٤.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٤٦.

٤٣٣

بعض ، فيأخذ من الظّالم بالظّالم ؛ كما جاء «من أعان ظالما ، سلّطه الله عليه».

قال قتادة : نجعل بعضهم أولياء لبعض ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان ، والكافر وليّ الكافر حيث كان (١).

وروى معمر عن قتادة : يتبع بعضهم بعضا في النّار من المولاة (٢).

وقيل : معناه : نولي ظلمة الجنّ ظلمة الإنس ، ونولي ظلمة الإنس ظلمة الجنّ ، أي : نكل بعضهم إلى بعض ؛ كقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ١١٥] فهي نعت لمصدر محذوف ، أو في محلّ رفع ، أي : الأمر مثل تولية الظالمين ، وهو رأي الزّجّاج في غير موضع.

وروى الكلبيّ عن أبي صالح في تفسيرها : هو أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم ، وإذا أراد بقوم شرّا ولّى أمرهم شرارهم (٣).

وروى مالك بن دينار قال جاء في [بعض] كتب الله المنّزلة أنّا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني ، جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ، لكن توبوا إلىّ أعطّفهم عليكم.

وقوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تقدّم نظيره.

قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)(١٣٠)

هذه الآية من بقيّة توبيخ الكفّار يوم القيامة.

قال أهل اللّغة : المعشر كل جماعة أمرهم واحد ، ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة ، والجمع : معاشر (٤).

قوله : «منكم» في محلّ رفع صفة لرسل ، فيتعلّق بمحذوف ، وقوله : «يقصّون» يحتمل أن يكون صفة ثانية ، وجاءت كذا مجيئا حسنا ، حيث تقدّم ما هو قريب من المفرد على الجملة ، ويحتمل أن يكون في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٣٤٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٥) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٦) وعزاه لأبي الشيخ من طريق منصور بن أبي الأسود عن الأعمش بمعناه.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ١٥٩.

٤٣٤

أحدهما : هو رسل وجاز ذلك وإن كان نكرة ؛ لتخصّصه بالوصف.

والثاني : أنه الضّمير المستتر في «منكم» وقوله : (رُسُلٌ مِنْكُمْ) زعم الفرّاء : أن في هذه الآية حذف مضاف ، أي : «ألم يأتكم رسل من أحدكم ، يعني : من جنس الإنس» قال : كقوله ـ تعالى ـ : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] ، وإنما يخرجان من الملح (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] ، وإنما هو في بعضها ، فالتّقدير : يخرج من أحدهما ، وجعل القمر في إحداهنّ فحذف للعلم به ، وإنما احتاج الفرّاء إلى ذلك ؛ لأن الرّسل عنده مختصّة بالإنس ، يعني : أنه لم يعتقد أنّ الله أرسل للجنّ رسولا منهم ، بل إنما أرسل إليهم الإنس ، كما يروى في التّفسير ، وعليه قام الإجماع أن النّبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل للإنس والجنّ ، وهذا هو الحقّ ، أعني : أن الجنّ لم يرسل منهم إلا بواسطة رسالة الإنس ؛ كما جاء في الحديث مع الجنّ الذين لمّا سمعوا القرآن ولّوا إلى قومهم منذرين ، ولكن لا يحتاج إلى تقدير مضاف ، وإن قلنا : إن رسل الجنّ من الإنس للمعنى الذي ذكرناه ، وهو أنه يطلق عليهم رسل مجازا ؛ لكونهم رسلا بواسطة رسالة الإنس ، وزعم قوم منهم الضّحّاك : أن الله أرسل للجنّ رسولا منهم يسمّى يوسف (١).

قال ابن الخطيب : ودعوى الإجماع في هذا بعيد ؛ لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ، قال : ويمكن أن يحتجّ الضحّاك بقوله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩٢].

قال المفسّرون : والسّبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك ، فوجب في حكم الله ـ تبارك وتعالى ـ أن يجعل رسل الإنس من الإنس ؛ ليكمل الاستئناس ، وهذا المعنى حاصل في الجنّ ، فوجب أن يكون رسل الجنّ من الجنّ ؛ لتزول النّفرة ويحصل كمال الاستئناس.

وقال الكلبي : كانت الرّسل قبل أن يبعث محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبعثون إلى الجنّ وإلى الإنس جميعا (٢).

وقال مجاهد : الرّسل من الإنس والنّذر من الجنّ ، ثم قرأ [قوله ـ تعالى ـ] : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)(٣) [الأحقاف : ٢٩] ، وهم قوم يسمعون كلام الرّسل فيبلّغون الجنّ ما سمعوا ، وليس للجنّ رسل.

ثم قال : (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي : يقرءون عليكم كتبي (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) وهو يوم القيامة ، فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فذلك قالوا : شهدنا على أنفسنا.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦٠.

(٢) انظر : «البحر المحيط» (٤ / ٢٢٦).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٣٥

فإن قيل : كيف أقرّوا في هذه الآية الكريمة بالكفر ، وجحدوا في قوله : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

فالجواب : يوم القيامة يوم طويل ، والأحوال فيه مختلفة ، فتارة يقرّون وأخرى يجحدون ، وذلك يدلّ على شدّة الخوف واضطراب أحوالهم ، فإن من عظم خوفه ، كثر الاضطراب في كلامه ، قال ـ تبارك وتعالى ـ : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : أنهم إنّما وقعوا في الكفر بسبب أنّ الحياة الدّنيا غرّتهم ، حتى لم يؤمنوا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافرين ، وحمل مقاتل قوله (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بأنه تشهد عليهم الجوارح بالشّرك والكفر ومقصوده دفع التكرار عن الآية الكريمة ، وهذه الآية تدلّ على أنّه لا تكليف قبل ورود الشّرع ، وإلّا لم يكن لهذا التّعليل فائدة.

قوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)(١٣١)

قوله : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : ذلك الأمر.

الثاني : عكس ذلك الأمر.

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل ، أي : فعلنا ذلك ، وإنما يظهر المعنى إذا عرف المشار إليه ، وهو يحتمل أن يكون إتيات الرّسل قاصّين الآيات ، ومنذرين بالحشر والجزاء ، وأن يكون ذلك الّذي قصصنا من أمر الرّسل وأمر من كذّب ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى السّؤال المفهوم من قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) وقوله : (أَنْ لَمْ يَكُنْ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه على حذف لام العلّة أي : ذلك الأمر الّذي قصصنا ، أو ذلك الإتيان ، أو ذلك السّؤال لأجل (أَنْ لَمْ يَكُنْ) فلما حذفت اللّام احتمل موضعها الجرّ والنّصب كما عرف مرارا.

والثاني : أن يكون بدلا من ذلك.

قال الزّمخشري (١) : ولك أن تجعله بدلا من ذلك ؛ كقوله : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦] انتهى.

فيجوز أن يكون في محلّ رفع أو نصب على ما تقدّم في ذلك ، إلّا أنّ الزّمخشري القائل بالبدليّة لم يذكر لأجل ذلك إلّا الرّفع على خبر مبتدأ مضمر ، و «أن» يجوز أن تكون النّاصبة للمضارع ، وأن تكون مخفّفة ، واسمها ضمير الشّأن ، و «لم يكن» في محلّ رفع خبرها ، وهو نظير قوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) [طه : ٨٩].

وقوله : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧.

٤٣٦

٢٣١٥ ـ في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (١)

و «بظلم» يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «ربّك» أو من الضّمير في «مهلك» أي : لم يكن مهلك القرى ملتبسا بظلم ، ويجوز أن يكون حالا من القرى ، أي : ملتبسة بذنوبها ، والمعنيان منقولان في التّفسير.

والثاني : أن يتعلّق ب «مهلك» على أنّه مفعول وهو بعيد ، وقد ذكره أبو البقاء (٢).

وقوله : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) جملة حالية أي : لم ينذروا حتى يبعث إليهم رسلا تنذرهم ، وقال الكلبي : يهلكهم بذنوبهم من قبل أن يأتيهم الرّسل (٣).

وقيل : معناه لم يكن ليهلكهم دون التّنبيه والتّذكير بالرّسل ، فيكون قد ظلمهم ؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ أجرى السّنّة ألا يأخذ أحدا إلا بعد وجود الذّنب ، وإنما يكون مذنبا إذا أمر فلم يأتمر ، ونهي فلم ينته ، وذلك إنما يكون بعد إنذار الرّسل ، وهذه الآية تدلّ على أنّه لا وجوب ولا تكليف قبل ورود الشّرع.

قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)(١٣٢)

أي : ولكلّ درجات في الثّواب والعقاب ، على قدر أعمالهم في الدّنيا ، وحذف المضاف إليه للعلم به ، أي : ولكلّ فريق منهم من الجنّ والإنس.

قوله : (مِمَّا عَمِلُوا) في محلّ رفع نعتا ل «درجات».

وقيل : ولكلّ من المؤمنين خاصّة.

وقيل : ولكلّ من الكفّار خاصّة ؛ لأنها جاءت عقيب خطاب الكفّار ، إلا أنّه يبعده قوله : «درجات» ، وقد يقال : إن المراد بها هنا المراتب ، وإن غلب استعمالها في الخير (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) قرأ العامّة (٤) بالغيبة ردّا على قوله : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) وقرأ ابن عامر بالخطاب مراعاة لما بعده في قوله : «يذهبكم» ، «من بعدكم» ، كما «أنشأكم».

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)(١٣٤)

لما بيّن ثواب المطيعين وعقاب العاصين ، وبيّن أن لكلّ قوم درجة مخصوصة في

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٦١.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ١٣٢.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٣١ ، الدر المصون ٣ / ١٨٣ ، السبعة ٢٦٩ ، الحجة لأبي زرعة ٢٧٢ البحر المحيط ٤ / ٢٢٧.

٤٣٧

الثّواب والعقاب ، بيّن أنه غير محتاج إلى ثواب المطيعين ، أو ينتقص بمعصية المذنبين ؛ لأنه ـ تعالى ـ غنيّ لذاته عن جميع العالمين ، ومع كونه غنيا ، فإنّ رحمته عامّة كاملة.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : ذو الرّحمة بأوليائه وأهل طاعته.

قوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) يجوز أن يكون الغنيّ والرّحمة خبرين أو وصفين ، و «إن يشأ» وما بعده خبر الأوّل ، أو يكون «الغنيّ» وصفا و (ذُو الرَّحْمَةِ) خبرا ، والجملة الشّرطيّة خبر ثان أو مستأنف.

فصل في دحض شبهة للمعتزلة

قالت المعتزلة : هذه الآية الكريمة دالّة على كونه عادلا منزّها عن فعل القبيح ، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيّا عنه ، وكلّ من كان كذلك ، فإنّه متعال عن فعل القبيح ، وتقريره من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن في الحوادث ما يكون قبيحا ؛ كالظّلم والسّفه والكذب والعبث ، وهذا غير مذكور في الآية لغاية ظهوره.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ عالم بالمعلومات ؛ لقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ غنيّ عن الحاجات ؛ لقوله : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) وإذا ثبتت هذه المقدّمات ، ثبت أنه عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيّا عنها ، وإذا ثبت هذا ، امتنع كونه فاعلا لها ؛ لأن المقدم على فعل القبيح إمّا أن يكون إقدامه لجهله بكونه قبيحا ، وإما لاحتياجه ، فإذا كان عالما بالكلّ ، امتنع كونه جاهلا بقبح القبائح ، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ منزّه عن فعل القبيح ، فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحدا فلما كلّف عبيده الأفعال الشّاقّة ، وجب أن يثيبهم عليها ، ولما رتّب العقاب (١) على فعل المعاصي ، وجب أن يكون عادلا فيها ، فحينئذ انتفى الظّلم عن الله ـ تعالى ـ ، فما الفائدة في التكليف؟.

قال ابن الخطيب (٢) : والجواب أن التكليف إحسان ورحمة على ما قرّر في كتب الكلام.

قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فقيل : المراد يهلككم يا أهل مكّة ، وقيل : يميتكم ، وقيل : يحتمل ألّا يبلغهم مبلغ التّكليف ، ويستخلف من بعد إذهابكم ؛ لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل.

قوله : «ما يشاء» يجوز أن تكون «ما» واقعة على ما هو من جنس الآدميّين ، وإنّما أتى ب «ما» وهي لغير العاقل للإبهام الحاصل ، ويجوز أن تكون واقعة على غير العاقل وأنّه يأتي بجنس آخر ، ويجوز أن تكون واقعة على النّوع من العقلاء كما تقدّم.

__________________

(١) في أ : العذاب.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦٥.

٤٣٨

قوله : (كَما أَنْشَأَكُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر على غير المصدر ؛ لقوله : «ويستخلف» لأن معنى «يستخلف» : ينشىء.

والثاني : أنها نعت مصدر محذوف ، تقديره : استخلافا مثل ما أنشأكم.

وقوله : (مِنْ ذُرِّيَّةِ) متعلق ب «أنشأكم» وفي «من» هذه أوجه :

أحدها : أنها لابتداء الغاية ، أي : ابتدأ إنشاءكم من ذرّيّة قوم.

الثاني : أنّها تبعيضيّة ، قاله ابن عطيّة (١).

الثالث : بمعنى البدل ، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب : هي كقولك : «أخذت من ثوبي درهما» أي : بدله وعوضه ، وكون «من» بمعنى البدل قليل أو ممتنع ، وما ورد منه مؤوّل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) [الزخرف : ٦٠] أي : بدلكم.

وقوله : [الرجز]

٢٣١٦ ـ جارية لم تأكل المرقّقا

ولم تذق من البقول الفستقا (٢)

أي : بدل البقول ، والمعنى : من أولاد قوم متقدّمين أصلهم آدم.

وقال الزّمخشري (٣) : من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم ، وهم أهل سفينة نوح.

وقرأ أبيّ بن كعب (٤) : «ذرّيّة» بفتح الذّال ، وأبان بن عثمان : «ذريّة» بتخفيف الرّاء مكسورة ، ويروى عنه أيضا : «ذرية». بزنة ضربة ، وقد تقدّم تحقيقه ، وقرأ زيد بن ثابت : «ذرّيّة» بكسر الذال ، قال الكسائي هما لغتان.

قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) «ما» بمعنى الّذي وليست الكافّة ، و «توعدون» صلتها ، والعائد محذوف ، أي : إنّ ما توعدونه و «لآت» خبر مؤكّد باللّام.

قال الحسن : (ما تُوعَدُونَ) من مجيء السّاعة ؛ لأنهم كانوا ينكرون الحشر (٥).

وقيل : يحتمل الوعد والوعيد ، ولما ذكر الوعد ، جزم بكونه آتيا ، ولما ذكر الوعيد ، ما زاد على قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) وذلك يدلّ على أن جانب الرّحمة والإحسان غالب.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٤٨.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٨٣ ، البحر المحيط ٤ / ٢٢٨.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٧ / ٥٨) والرازي (١٣ / ١٦٦).

٤٣٩

قوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(١٣٥)

لما بيّن أن ما توعدون لآت ، أمر رسوله بعده أن يهدّد من ينكر البعث من الكفّار.

قرأ أبو بكر (١) عن عاصم «مكاناتكم» بالجميع في كلّ القرآن ، أي : على تمكّنكم.

وقال عطاء : على حالاتكم التي أنتم عليها ، والباقون : مكانتكم.

قال الواحدي (٢) : والوجه الإفراد ؛ لأنه مصدر ، والمصادر في أكثر الأمر مفردة ، وقد يجمع في بعض الأحوال إلا أنّ الغالب هو الأوّل ، فمن أفرد فلإرادة الجنس ، ومن جمع فليطابق ما بعده ، فإن المخاطبين جماعة ، وقد أضيفت إليهم ، وقد علم أن الكلّ واحد مكانه.

قال الزمخشري (٣) : المكانة تكون مصدرا ؛ يقال : مكن مكانة إذا تمكّن أبلغ التمكّن ، وبمعنى المكان ؛ يقال : مكان ومكانة ، ومقام ومقامة ، فقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يحتمل «اعملوا» على تمكّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، ويحتمل أن يراد «اعملوا» على حالتكم الّتي أنتم عليها ، يقال للرّجل إذا أمر أن يثبت على حاله : مكانتك يا فلان ، أي : اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ، واختلف في ميم «مكان» و «مكانة» :

فقيل : هي أصليّة ، وهما من مكن يمكن ، وقيل : هما من الكون فالميم زائدة ، فيكون المعنى على الأوّل : اعملوا على تمكّنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، قال معناه أبو إسحاق الزّجّاج (٤) ، وعلى الثاني : اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها.

قوله : (إِنِّي عامِلٌ) على مكانتي الّتي أنا عليها ، والمعنى : اثبتوا على عداوتكم وكفركم ، فإني ثابت على الإسلام وعلى مضارّتكم ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أيّنا ينال العاقبة المحمودة ، وهذا أمر تهديد ؛ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).

قوله : (مَنْ تَكُونُ لَهُ) يجوز في «من» هذه وجهان :

أحدهما : أن تكون موصولة وهو الظّاهر ، فهي في محلّ نصب مفعولا به ، و «علم» هنا متعدّية لواحد ؛ لأنّها بمعنى العرفان.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٨٤ ، البحر المحيط ٤ / ٢٢٨ ، السبعة ٢٦٩ ، النشر ٢ / ٢٦٣ الحجة لأبي زرعة ٢٧٢ الحجة لابن خالويه ١٤٩ ، الزجاج ٢ / ٣٢٣.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ١٦٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٢٣.

٤٤٠