اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

مستأنف ، وأن يكون حالا ، وإنما أتى به مخاطبا لأجل الالتفات ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حال ، ومن اشترط «قد» في الماضي الواقع حالا أضمرها هنا ، أي : وقد علمتم ما لم تعلموا.

والأكثرون على أن الخطاب هذا لليهود ؛ يقول : علمتم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فضيعوه ولم ينتفعوا به.

وقال مجاهد : هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١).

فإن قيل : إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس ، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب ، فما السبب في أن الله ـ تبارك وتعالى ـ حكى هذا المعنى في معرض الذّمّ لهم؟

فالجواب : أن الذّمّ لم يقع على هذا المعنى فقط ، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس ، وفرّقوه وبعّضوه ، لا جرم قدروا على إبداء البعض وإخفاء البعض ، وهو الذي فيه صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : كيف يقدرون على ذلك ، مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب ، وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه ، كما أن الرّجل في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزّيادة والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك ، فكذا القول في التّوراة؟

فالجواب أنا ذكرنا في سورة «البقرة» أن المراد من التّحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الفاسدة الباطلة ، كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن (٢).

فإن قيل : هب أنه حصل في التوراة آيات دالّة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا أنها قليلة ولم يخفوا من التوراة إلّا تلك الآيات ، فكيف قال : «ويخفون كثيرا».

فالجواب أن القوم [كانوا](٣) يخفون الآيات الدّالّة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا](٤) إخفاء الآية الدالة على رجم [الزاني](٥) المحصن.

قوله : (قُلِ اللهُ) لفظ الجلالة يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن يكون فاعلا لفعل محذوف أي : قل أنزله ، وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ) [الزخرف : ٩].

والثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : والله أنزله ، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال ، وذلك أن جملة السؤال اسمية ، فلتكن جملة الجواب كذلك.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٥.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : أحكام أخر كما أخفوا الآية الدالة.

(٥) سقط في أ.

٢٨١

ومعنى الآية الكريمة : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلّا فقل فأنت الله الذي أنزلت ، أي أن العقل السليم والطّبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل معجزات موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون إلا من الله ـ تعالى ـ فلما صار هذا المعنى ظاهرا لظهور الحجّة القاطعة ، لا جرم قال تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : قل لهم المنزّل لذلك الكتاب هو الله ، ونظيره قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ) [الأنعام : ١٩] كما أن الرجل الذي يريد إقامة الدلالة على الصّانع يقول : من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ، ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ومن الذي أودع الحدقة القوّة الباصرة ، وفي الصّماخ القوّة السّامعة ، ثم إن هذا القائل بعينه يقول : الله ، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا.

قوله : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) يجوز أن يكون (فِي خَوْضِهِمْ) متعلقا ب «ذرهم» ، وأن يتعلق ب «يلعبون» ، وأن يكون حالا من مفعول «ذرهم» وأن يكون حالا من فاعل «يلعبون» [فهذه أربعة أوجه](١) وأما «يلعبون» فيجوز أن يكون حالا من مفعول «ذرهم».

ومن منع أن تتعدّد الحال لواحد لم يجز حينئذ أن يكون (فِي خَوْضِهِمْ) حالا من مفعول «ذرهم» ، بل يجعله إما متعلقا ب «ذرهم» ، كما تقدّم أو ب «يلعبون» ، أو حالا من فاعله.

ويجوز أن يكون «يلعبون» حالا من ضمير «خوضهم» وجاز ذلك لأنه في قوّة الفاعل ؛ لأن المصدر مضاف لفاعله ؛ لأن التقدير : «ذرهم يخوضون لاعبين» وأن يكون حالا من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالا ؛ لأنه يتضمّن معنى الاستقرار ، فتكون حالا متداخلة.

فصل في معنى الآية

معنى الكلام إذا أقمت الحجّة عليهم ، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم لم يبق عليك من أمرهم شيء ألبتّة ، ونظيره قوله تعالى : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨].

قال بعضهم (٢) : هذه الآية منسوخة بآية السّيف ، وهذا بعيد ؛ لأن قوله : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) مذكور لأجل التهديد ، ولا ينافي ذلك حصول المقاتلة ، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدّالّة على وجوب المقاتلة رافعا لمدلول هذه الآية ، فلم يحصل النّسخ.

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) (٩٢)

قوله : «هذا» إشارة إلى القرآن ، أي : القرآن كتاب مبارك «أنزلناه مصدق الذي بين يديه».

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٥.

٢٨٢

وفيه دليل على تقديم الصّفة غير الصريحة على الصريحة ، وأجيب عنه بأن «مبارك» خبر مبتدأ مضمر ، وقد تقدم تحقيق هذا في قوله (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) [المائدة : ٥٤].

وقال الواحدي : «مبارك» : خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة ، والتقدير : هذا [كتاب](١) مبارك أنزلناه ، كقوله : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠].

قال شهاب الدين (٢) : وهذا الذي ذكره لا يتمشّى إلا على أن قوله : «مبارك» خبر ثان ل «هذا» وهذا بعيد جدا وإذا سلّم له ذلك ، فيكون «أنزلناه» عنده اعتراضا على ظاهر عبارته ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ، بل يجعل «أنزلناه» صفة ل «كتاب» ولا محذور حينئذ على هذا التقدير ، وفي الجملة فالوجه ما تقدّم فيه من الإعراب.

وقدّم وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة ، بخلاف قوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ).

قالوا [لأن الأهم](٣) هنا وصفه بالإنزال إذا جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر شيء ، بخلاف هناك ، ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية ؛ لأن الإنزال يتجدّد وقتا فوقتا والثانية اسما صريحا ؛ لأن الاسم يدلّ على الثبوت والاستقرار ، وهو مقصود هنا أي : [بركته](٤) ثابتة مستقرة.

قال القرطبي (٥) رحمه‌الله : «ويجوز نصب «مبارك» في غير القرآن العظيم على الحال ، وكذا : مصدق الذي بين يديه».

فصل في المقصود بالإنزال

قوله : «أنزلناه» المقصود أن يعلم أنه من عند الله لا من عند الرسول ، وقوله تعالى : «مبارك» قال أهل المعاني أي : كثير خيره دائم منفعته يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية.

قوله : «مصدّق» صفة أيضا ، أو خبر بعد خبر على القول بأن «مبارك» خبر لمبتدأ مضمر وقع صفة لنكرة ؛ لأنه في نيّة الانفصال ، كقوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف: ٢٤] وكقول القائل في ذلك : [البسيط]

٢٢٣٢ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يعرفكم

 .......... (٦)

وقال مكي : (مُصَدِّقُ الَّذِي) نعت ل «الكتاب» على حذف التنوين لالتقاء الساكنين

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٠.

(٣) في أ : لا يتم.

(٤) في أ : شركته.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٢٧.

(٦) صدر بيت لجرير وعجزه :

لاقى مباعدة منكم وحرمانا

ينظر : ديوانه ، ابن يعيش ٣ / ٥١ ، معاني الفراء (٢ / ١٥) ، الدر المصون ٣ / ١٢٠.

٢٨٣

و «الذي» في موضع نصب وإن لم يقدر حذف التنوين كان «مصدق» خبرا و «الذي» في موضع خفض ، وهذا الذي قاله غلط فاحش ؛ لأن حذف التنوين إنما هو الإضافة اللفظية ، وإن كان اسم الفاعل في نيّة الانفصال ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو ندور ؛ كقوله : [المتقارب]

٢٢٣٣ ـ ..........

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (١)

والنحويون كلهم يقولون في «هذا ضارب الرجل» : إن حذف التنوين للإضافة تخفيفا ، ولا يقول أحد منهم في مثل هذا : إنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين.

فصل في معنى التصديق في الآية

معنى كون ه «مصدقا لما قبله» من الكتب المنزلة قبله أنها [توافقنا في نفي الشرك وإثبات التوحيد](٢).

قوله : (وَلِتُنْذِرَ) قرأ الجمهور (٣) بتاء الخطاب للرّسول عليه الصلاة والسلام ، وأبو بكر (٤) عن عاصم بياء الغيبة ، والضمير للقرآن الكريم ، وهو ظاهر أي : ينذر بمواعظه وزواجره ويجوز أن يعود على الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ للعلم به.

وهذه «اللام» فيها وجهان :

أحدهما : هي متعلّقة ب «أنزلنا» عطف على مقدّر قدّره أبو البقاء : «ليؤمنوا ولتنذر» ، وقدّرها الزمخشري (٥) ، فقال : «ولتنذر» معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب ، كما قيل : أنزلناه للبركات وليصدق ما تقدّمه من الكتب والإنذار.

والثاني : أنها متعلّقة بمحذوف متأخّر ، أي ولتنذر أنزلناه.

قوله : (أُمَّ الْقُرى) يجوز أن يكون من باب الحذف ، أي : أهل أم القرى ، وأن يكون من باب المجاز أطلق للحمل إلى المحلّ على الحال ، وإنهما أولى أعني المجاز والضمير في المسألة ثلاثة أقوال ، تقدم بيانها ، وهذا كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] وهناك وجه لا يمكن هنا ، وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حقيقة ، ويكون ذلك معجزة للنبي ، وهنا لا يتأتي ذلك وإن كانت القرية أيضا نفسها هنا تتكلّم إلا أن الإنذار لا يقع لعدم فائدته.

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢١ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢ ، السبعة ص (٢٦٣) ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، ٢٩٨ ، التبيان ١ / ٥١٩ ـ ٥٢٠.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢١ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٣ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢ ، السبعة ص (٢٦٣) ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، ٢٩٨ ، التبيان ١ / ٥١٩ ـ ٥٢٠ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٥).

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥.

٢٨٤

وقوله : (وَمَنْ حَوْلَها) عطف على «أهل» المحذوف ، أي : ولتنذر من حول أمّ القرى ، ولا يجوز أن يعطف على (أُمَّ الْقُرى) ، إذ يلزم أن يكون معنى (وَلِتُنْذِرَ) أهل من حولها ولا حاجة تدعو إلى ذلك ؛ لأن (مَنْ حَوْلَها) يقبلون الإنذار.

قال أبو حيان (١) : ولم يحذف «من» ، فيعطف حول على (أُمَّ الْقُرى) ، وإنّه لا يصح من حيث المعنى ؛ لأن «حول» ظرف لا ينصرف ، فلو عطف على (أُمَّ الْقُرى) لصار مفعولا به لعطفه على المفعول به ، وذلك لا يجوز ؛ لأن العرب لا تستعمله إلّا ظرفا.

فصل في تسمية «مكة»

اتفقوا على أن أم القرى «مكّة» سميت بذلك ؛ قال ابن عباس : لأن الأرضين دحيت (٢) من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل [النسل.

قال الأصم : سميت بذلك ؛ لأنها قبلة أهل الدنيا ، فصارت هي كالأصل](٣) وسائر البلاد والقرى تابعة.

وأيضا من أصول عبادات أهل الدنيا الحجّ وهو إنما يكون في هذه البلدة ، فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها ، كما يجتمع الأولاد إلى الأم.

وأيضا فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحجّ لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ، ولا شكّ أن الكسب والتجارة من أصول المنافع ، فلهذا السبب سميت «مكة» بأم القرى.

وقيل (٤) : «مكة» المشرفة أوّل بلدة سكنت في الأرض.

قوله : (مَنْ حَوْلَها) يدخل فيه سائر البلدان والقرى.

قال المفسرون (٥) : المراد أهل الأرض شرقا وغربا.

قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره «يؤمنون» ولم يتّحد المبتدأ والخبر لتغاير متعلقيهما ، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ ، وإلا فيمتنع أن تقول : «الذي يقوم يقوم» ، و «الذين يؤمنون يؤمنون» ، وعلى هذا فذكر الفضلة هنا واجب ، ولم يتعرّض النحويون لذلك ، ولكن تعرضوا لنظائره.

والثاني : أنه منصوب عطفا على (أُمَّ الْقُرى) أي : لينذر الذين أمنوا ، فيكون

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٣.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ٢٦٧) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٥) ونسبه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٧.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٧.

٢٨٥

«يؤمنون» حالا من الموصول ، وليست حالا مؤكدة ؛ لما تقدم من تسويغ وقوعه خبرا ، وهو اختلاف المتعلّق ، و «الهاء» في «به» تعود على القرآن ، أو على الرسول.

فصل في معنى الآية

ذكر العلماء في [معنى](١) قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي : الذي يؤمن بالآخرة ، وهو الذي يؤمن بالوعد والوعيد ، والثواب والعقاب ، ومن كان كذلك فإنه تعظم (٢) رغبته في تحصيل الثواب ، ورهبته عن حلول العقاب ، ويبالغ في النظر في دلائل التوحيد والنبوة ، فيصل إلى العلم والإيمان (٣).

وقال بعضهم : إن دين محمد عليه الصلاة والسلام [مبني على الإيمان بالبعث والقيامة ، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين](٤).

قوله : (وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) حال ، وقدّم (عَلى صَلاتِهِمْ) لأجل الفاصلة ، وذكر أبو علي في «الروضة» ، أنّ أبا بكر (٥) قرأ «على صلواتهم» جمعا والمراد المحافظة على الصلوات الخمس.

فإن قيل : الإيمان بالآخرة يحمل على كلّ الطاعات ، فما الفائدة في تخصيص الصّلاة؟ فالجواب : أن المقصود التّنبيه على أن الصّلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى ، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة ، إلّا على الصلاة ، كما قال تبارك وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي : صلاتكم ، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلّا على ترك الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : «من ترك الصّلاة متعمّدا فقد كفر».

فلما اختصّت الصلاة بهذا النوع من التشريف خصها الله ـ تبارك وتعالى ـ بالذّكر هاهنا.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(٩٣)

لما بيّن كون القرآن كتابا نازلا من عند الله ، وبيّن شرفه ورفعته ذكر بعده ما يدلّ

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : متعظم.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٧.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٣.

٢٨٦

على وعيد من ادّعى النبوة والرسالة كذبا وافتراء.

قال قتادة : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذّاب الحنفيّ صاحب «اليمامة» وفي الأسود العنسي صاحب «صنعاء» كانا يدّعيان الرّسالة والنبوة من عند الله كذبا وافتراء ، وكان مسيلمة يقول لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة (١).

وقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض ، فوضع في يديّ سواران من ذهب فكبرا عليّ وأهمّاني ، فأوحى الله إليّ أن أنفخهما فذهبا فأوّلتهما الكذّابين الّلذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب يمامة» (٢).

قال القاضي (٣) : الذي يفتري على الله الكذب يدخل فيه من يدّعي الرسالة كذبا ولكن لا يقتصر عليه ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السّبب.

قال القرطبي (٤) : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار ، وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الرّبّانيّة ، فيقفون على أسرار الكليات ، ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشّرائع ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة ، وأما الأولياء ، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النّصوص.

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) مبتدأ وخبر ، وقوله : «كذبا» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مفعول «افترى» أي : اختلق كذبا وافتعله.

الثاني : أنه مصدر له على المعنى ، أي : [افترى] افتراء ، وفي هذا نظر ؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المصدر فيه نوعا من الفعل ، نحو : قعد القرفصاء أو مرادفا له ك «قعدت جلوسا» أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو : افترى كذبا ، وتقرفص قعودا ، فهذا غير معهود ، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمّ من الافتراء ، وقد تقدّم تحقيقه.

الثالث : أنه مفعول من أجله ، أي : افترى لأجل الكذب.

الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : افترى حال كونه كاذبا ، وهي حال مؤكّدة.

وقوله : «أو قال» عطف على «افترى» و «إلى» في محلّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، قال : تقديره : «أوحى إليّ

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ٦٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٦٩) عن قتادة.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٨.

(٤) ينظر : القرطبي ٧ / ٢٧.

٢٨٧

الوحي» ، أو الإيحاء. والأوّل أولى ؛ لأن فيه فائدة جديدة ، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قبله.

قوله : (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ) جملة حالية ، وحذف الفاعل هنا تعظيما له ؛ لأن الموحي هو الله تعالى.

قوله : (وَمَنْ قالَ) مجرور المحلّ ؛ لأنه نسق على «من» المجرور ب «من» أي : وممن قال ، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في «البقرة» وهناك سؤال وجوابه.

قوله (سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) وقرأ أبو حيوة (١) : «سأنزّل» مضعفا وقوله : «مثل» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : سأنزل قرآنا مثل ما أنزل الله ، و «ما» على هذا موصولة اسمية ، أو نكرة موصوفة ، أي : مثل الذي أنزله ، أو مثل شيء أنزله.

والثاني : أن يكون نعتا لمصدر محذوف ، تقديره : سأنزل إنزالا مثل ما أنزل الله ، و «ما» على هذا مصدرية ، أي : مثل إنزال الله.

فصل في نزول الآية

قيل : نزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي سرح كان قد أسلم ، وكان يكتب الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان إذا أملى عليه (سَمِيعاً بَصِيراً) كتب عليما حكيما ، وإذا أملى عليه (عَلِيماً حَكِيماً) كتب (غَفُوراً رَحِيماً) فلما نزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] أملاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان ، فلما انتهى إلى قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) فقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتبها فهكذا نزلت» فشكّ عبد الله. فقال : لئن كان محمد صادقا فقد أوحى إلي كما أوحي إليه فارتدّ عن الإسلام ، ولحق بالمشركين ، ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح «مكّة» المشرفة ، إذ نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : يريد النّضر بن الحارث ، والمستهزئين ، وهو جواب لقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] وقوله في القرآن : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) فكل أحد يمكنه الإتيان [بمثله](٢).

(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الظَّالِمُونَ) و «إذ» منصوب ب «ترى» ، ومفعول الرؤية محذوف ، أي : ولو ترى الكفّار الكذبة ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول ، أي : ولو كنت من أهل الرّؤية في هذا الوقت ، وجواب «لو» محذوف ، أي : لرأيت أمرا عظيما.

و «الظالمون» يجوز أن تكون فيه «أل» للجنس ، وأن تكون للعهد ، والمراد بهم من تقدّم

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٤.

(٢) في أ : مثله.

٢٨٨

ذكره من المشركين واليهود والكذبة المفترين و (فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) خبر المبتدأ ، والجملة في محلّ خفض بالظّرف.

و «الغمرات» جمع «غمرة» وهي الشدة المفظعة وأصلها من غمره الماء إذا ستره ، وغمرة كلّ شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب.

ويقال : غمرت الشيء إذا علاه وغطّاه.

قال الزّجّاج (١) : يقال لكل من كان في شيء كثير : قد غمره ذلك وغمره الدّين إذا كثر عليه ، ثم يقال للمكاره والشدائد : غمرات ، كأنها تستر بغمرها وتنزل به قال في ذلك : [الوافر]

٢٢٣٤ ـ ولا ينجي من الغمرات إلّا

براكاء القتال أو الفرار (٢)

ويجمع على «غمر» ك «عمرة» و «عمر» كقوله : [الوافر]

٢٢٣٥ ـ ..........

وحان لتالك الغمر انقشاع (٣)

ويروى «انحسار».

وقال الرّاغب (٤) : أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله : غمر وغامر ، وأنشد غير الراغب على غامر : [الكامل]

٢٢٣٦ ـ نصف النّهار الماء غامره

ورفيقه بالغيب لا يدري (٥)

ثم قال : «والغمرة معظم الماء لسترها مقرّها ، وجعلت مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها».

والغمر : الذي لم يجرّب الأمور ، وجمعه أغمار ، والغمر : ـ بالكسر ـ الحقد ، والغمر بالفتح : الماء الكثير ، والغمر بفتح الغين والميم : ما يغمر من رائحة الدّسم سائر الروائح ، ومنه الحديث «من بات وفي يديه غمر».

وغمر يده ، وغمر عرضه دنس ، ودخلوا في غمار الناس وخمارهم ، والغمرة ما

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ٦٩.

(٢) البيت لبشر بن أبي خازم. ينظر : شرح المفضليات ٣ / ١١٩٣ ، جامع البيان ١١ / ٥٣٨ ، اللسان (برك) ، الدر المصون ٣ / ١٢٣.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المفردات ٣٦٥.

(٥) البيت للمسيب بن علس ، ونسب للأعشى ميمون.

ينظر : أدب الكاتب ص (٣٥٩) ، إصلاح المنطق ص (٢٤١ ، ٢٥٠) ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٨ ، لسان العرب (نصف) ، وللأعشى في جمهرة اللغة ص (١٢٦٢) ، خزانة الأدب ٣ / ٢٣٣ ، ٥ / ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، الدرر ٤ / ١٧ ، تذكرة النحاة ص (٦٨٣) ، رصف المباني ص (٤١٩) ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٦٤٢ ، شرح الأشموني ١ / ٢٦٠ ، شرح المفصل ٢ / ٦٥ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٠٥ ، ٦٣٦ ، همع الهوامع ١ / ٢٤٦ ، الدر المصون ٣ / ١٢٣.

٢٨٩

يطلى به من الزّعفران ، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء : غمر ، وفلان مغامر إذا رمى بنفسه في الحرب ، إما لتوغّله وخوضه فيه ، وإما لتصوّر الغمارة منه.

قوله : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) [جملة في محلّ نصب على الحال من الضمير](١) المستكن في قوله : (فِي غَمَراتِ) ، و «أيديهم» خفض لفظا ، وموضعه نصب أي : باسطو أيديهم بالعذاب يضربون وجوههم وأدبارهم وقوله «أخرجوا» منصوب المحل بقول مضمر ، والقول يضمر كثيرا ، تقديره : يقولون : أخرجوا ، كقوله : (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] أي : يقولون : سلام عليكم ، وذلك القول المضمر في محلّ نصب على الحال من الضمير في «باسطو».

فإن قيل : إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام؟

فالجواب : أن في تفسير هذه الكلمة وجوه :

أحدها : ولو ترى الظّالمين إذ صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة ، فأدخلوا جهنم ، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشّدائد والعذاب ، والملائكة باسطو أيديهم [عليهم بالعذاب] يبكّتونهم بقولهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم.

وثانيها : أن المعنى (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) عند نزول الموت في الدنيا ، والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشّدائد ، وخلّصوها من هذه الآلام.

وثالثها : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [أي : أخرجوها إلينا] من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال كما يفعل الغريم الملازم الملحّ ، ويقول : أخرج ما لي عليك السّاعة ، ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك.

ورابعها : أن هذه اللّفظة كناية عن شدّة حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولّى بنفسه إزهاق روحه.

خامسها : أنه ليس بأمر ، بل هو وعيد [وتقريع](٢) كقول القائل : امض الآن لترى ما يحلّ بك.

قوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) في هذا الظرف وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب ب «أخرجوا» بمعنى : أخرجوها من أبدانكم ، فهذا القول في الدنيا ، ويجوز أن يكون في يوم القيامة ، والمعنى خلّصوا أنفسكم من العذاب ، كما تقدّم ، فالوقف على قوله : «اليوم» ، والابتداء بقوله : (تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ).

__________________

(١) في أ : خفض لفظا وموضعه نصب.

(٢) سقط في أ.

٢٩٠

والثاني : أنه منصوب ب «تجزون» والوقف حينئذ على «أنفسكم» ، والابتداء بقوله : «اليوم» ، والمراد ب «اليوم» يحتمل أن يكون وقت الاحتضار ، وأن يكون يوم القيامة ، و «عذاب» مفعول ثان ، والأول قام مقام الفاعل.

والهون : الهوان ؛ قال تعالى : (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) [النحل : ٥٩].

وقال ذو الأصبع : [البسيط]

٢٢٣٧ ـ إذهب إليك فما أمّي براعية

ترعى المخاض ولا أغضي على الهون (١)

وقالت الخنساء : [المتقارب]

٢٢٣٨ ـ يهين النّفوس وهون النّفو

س يوم الكريهة أبقى لها (٢)

وأضاف العذاب إلى الهون إيذانا بأنه متمكّن فيه ، وذلك أنه ليس كل عذاب يكون فيه هون ؛ لأنه قد لا يكون فيه هون ؛ لأنه قد يكون على سبيل الزّجر والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، وذلك أن الأصل العذاب الهون وصف به مبالغة ، ثم أضافه إليه على حدّ إضافته في قولهم : بقلة الحمقاء ونحوه ، ويدل عليه أن الهون بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك.

و «الهون» بفتح الهاء : الرّفق والدّعة ؛ قال تبارك وتعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣].

واعلم أنه ـ تبارك وتعالى ـ جمع هناك بين الإيلام والإهانة ، فكما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة معروفة بالتعظيم ، فكذا العقاب شرطه أن يكون مضرّة مقرونة بالإهانة.

قوله : (بِما كُنْتُمْ) «ما» مصدرية ، أي : بكونكم قائلين غير الحقّ ، وكونكم مستكبرين و «الباء» متعلقة ب «تجزون» أي : بسببه ، و (غَيْرَ الْحَقِّ) نصبه من وجهين :

أحدهما : أنه مفعول به ، أي : تذكرون غير الحق.

والثاني : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : تقولون القول غير الحق.

وقوله : (وَكُنْتُمْ) يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه عطف على «كنتم» الأولى ، فتكون صلة كما تقدم.

والثاني : أنها جملة مستأنفة سيقت للإخبار بذلك و (عَنْ آياتِهِ) متعلّق بخبر «كان» ، وقدم لأجل الفواصل ، والمراد بقوله : (كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي : تتعظّمون عن الإيمان بالقرآن لا تصدّقونه.

__________________

(١) ينظر : تفسير الطبري ٥ / ٢٧٢ ، الأمالي ١ / ٢٥٦ ، لسان العرب (هون) ، الدر المصون ٣ / ١٢٤.

(٢) البيت ينظر : تفسير الطبري ٥ / ٢٧٢ ، لسان العرب (هون) ، شرح الحماسة ١ / ١٤٠ ، الأغاني ١٣ / ١٣٦ ، الدر المصون ٣ / ١٢٤.

٢٩١

وذكر الواحدي (١) أي : لا تصلّون له ، قال عليه الصلاة والسلام : «من سجد [لله سجدة](٢) بنيّة صادقة فقد برىء من الكبر» (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)(٩٤)

«فرادى» منصوب على الحال من فاعل «جئتمونا» ، و «جئتمونا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه بمعنى المستقبل ، أي : تجيئوننا ، وإنما أبرزه في صورة الماضي لتحقّقه كقوله تعالى: (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤].

والثاني : أنه ماض ، والمراد به حكاية الحال بين يدي الله ـ تعالى ـ يوم يقال لهم ذلك ، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضيا بالنسبة إلى ذلك اليوم.

واختلفوا في قول هذا القائل ، فقيل : هو قول الملائكة الموكّلين بعقابهم.

وقيل : هو قول الله تعالى ، ومنشأ هذا الخلاف أن الله ـ تبارك وتعالى ـ هل يتكلّم مع الكفّار أم لا؟ فقوله تبارك وتعالى في صفة الكفار : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) يوجب ألّا يتكلم معهم ، فلهذا السبب وقع الاختلاف ، والأول أقوى ؛ لأن هذه الآية الكريمة معطوفة على ما قبلها ، والعطف يوجب التّشريك.

واختلفوا في «فرادى» هل هو جمع أم لا ، والقائلون بأنه جمع اختلفوا في مفرده : فقال الفراء : «فرادى» جمع «فرد وفريد وفرد وفردان» فجوز أن يكون جمعا لهذه الأشياء.

وقال ابن قتيبة (٤) : هو جمع «فردان» كسكران وسكارى وعجلان وعجالى.

وقال قوم : هو جمع فريد كرديف وردافى ، وأسير وأسارى ، قاله الراغب (٥) ، وقال : هو جمع «فرد» بفتح الراء ، وقيل بسكونها ، وعلى هذا فألفها للتأنيث كألف «سكارى» و «أسارى» فيمن لم يتصرف.

وقيل : هو اسم جمع ؛ لأن «فرد» لا يجمع على فرادى فرد أفراد ، فإذا قلت : جاء القوم فرادى فمعناه واحدا واحدا.

قال الشاعر [الطويل]

٢٢٣٩ ـ ترى النّعرات الزّرق تحت لبانه

فرادى ومثنى أثقلتها صواهله (٦)

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٧١.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (٧ / ٣٠٨) رقم (١٩٠١٧) وعزاه إلى الديلمي عن ابن عباس.

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ١٥٧.

(٥) ينظر : المفردات ٣٧٥.

(٦) تقدم.

٢٩٢

ويقال : فرد يفرد فرودا فهو فارد ، وأفردته أنا ، ورجل أفرد ، وامرأة فرداء كأحمر وحمراء ، والجمع على هذا فرد كحمر ، ويقال في فرادى : «فراد» على زنة «فعال» ، فينصرف ، وهي لغة «تميم» وبها قرأ عيسى (١) بن عمر ، وأبو حيوة : «ولقد جئتمونا فرادا» وقال أبو البقاء (٢) : وقرىء بالشاذ (٣) بالتنوين على أنه اسم صحيح ، فقال في الرفع فراد مثل : «تؤام ودخال وهو جمع قليل». انتهى.

ويقال أيضا : جاء القوم فراد غير منصرف ، فهو كأحاد ورباع في كونه معدولا صفة ، وهو قراءة شاذّة هنا.

وروى خارجة عن نافع ، وأبي عمرو كليهما (٤) أنهما قرأ «فرادى» مثل «سكارى» اعتبارا بتأنيث الجماعة ، كقوله تبارك وتعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [الحج : ٢] فهذه أربع قراءات مشهورة ، وثلاث في الشواذ فراد الرجال ، فرادا كأحاد ، فردى كسكرى.

قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ) في هذه أوجه :

أحدها : أنها منصوبة المحل على الحال من فاعل «جئتمونا» فمن أجاز تعدّد الحال أجاز من غير تأويل ، ومن منع ذلك جعل «الكاف» بدلا من «فرادى».

الثاني : أنها في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم ، وقدره (٥) مكي : منفردين انفرادا مثل حالكم أول مرة ، والأوّل أحسن ؛ لأن دلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة الوصف عليه.

الثالث : أن «الكاف» في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «فرادى» ، أي: مشبهين ابتداء خلقكم ، كذا قدّره أبو البقاء (٦) ، وفيه نظر ؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم ، وصوابه أن يقدر مضافا أي : مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم.

قوله : «أوّل مرّة» منصوب على ظرف الزمان ، والعامل فيه «خلقناكم» ، و «مرة» في الأصل مصدر ل «مرّ يمرّ مرّة» ثم اتّسع فيها ، فصارت زمانا.

قال أبو البقاء (٧) رحمه‌الله : «وهذا يدلّ على قوة شبه الزمان بالفعل».

وقال أبو حيان (٨) : «وانتصب (أَوَّلَ مَرَّةٍ) على الظرف ، أي : أول زمان ولا يتقدّر أوّل خلق ؛ لأن أول خلق يستدعي خلقا ثانيا ، إنما ذلك إعادة لا خلق».

يعني : أنه لا يجوز أن يكون المرّة على بابها من المصدريّة ، ويقدر أوّل مرة من الخلق لما ذكر.

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٨.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٥.

(٥) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٨.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٣.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

٢٩٣

قوله : «وتركتم» فيها وجهان :

أحدهما : إنها في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئتمونا» ، و «قد» مضمرة على رأي الكوفيين أي : وقد تركتم.

والثاني : أنها لا محلّ لها لاستئنافها ، و «ما» مفعولة ب «ترك» ، وهي موصولة اسمية ، ويضعف جعلها نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي : ما خولناكموه ، و «ترك» متعدية لواحد ؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى «صيّر» تعدّت لاثنين ، و «خوّل» يتعدّى لاثنين ؛ لأنه بمعنى «أعطى وملك» ، والخول ما أعطاه الله من النّعم.

قال أبو النجم : [الرجز]

٢٢٤٠ ـ كوم الذّرى من خول المخوّل (١)

فمعنى : خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم : خوّلته ، أي : ملكته المال.

وقال الرّاغب (٢) : التّخويل في الأصل إعطاء الخول.

وقيل : إعطاء ما يصير له خولا وقيل : إعطاء ما يحتاج أن يتعهّده من قولهم : «فلان خال مال وخايل مال أي حسن القيام عليه».

وقوله : (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) متعلّق ب «تركتم» ويجوز أن يضمن «ترك» هنا معنى «صيّر» ، فيتعدى لاثنين : أولهما : الموصول ، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف ، أي : وصيّرتم بالتّرك الذي خوّلناكموه كائنا وراء ظهوركم.

قوله تعالى : (وَما نَرى) الظّاهر أنها المتعدّية لواحد ، فهي بصرية ، فعلى هذا يكون «معكم» متعلّق ب «نرى» ، ويجوز أن يكون بمعنى «علم» ، فيتعدى لاثنين ، ثانيهما هو الظرف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : ما نراهم كائنين معكم ، أي : مصاحبتكم.

إلّا أن أبا البقاء (٣) استضعف هذا الوجه ، وهو كما قال ؛ إذ يصير المعنى : وما يعلم شفعاءكم معكم ، وليس المعنى عليه قطعا.

وقال أبو البقاء (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «ولا يجوز أن يكون أي معكم حالا من «الشفعاء» ؛ إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا تراهم». وفيما قاله نظر لا يخفى ، وذلك أن النفي إذا دخل على ذات بقيد ، ففيه وجهان :

__________________

(١) عجز بيت وصدره :

أعطى فلم يبخل ولم يبخّل

من أرجوزة طويلة مع شرحها في الطرائف الأدبية ٥٧ ـ ٧١ ، اللسان (خول) ، مجاز القرآن ٢ / ١٨٨ ، وشواهد المغني ص ١٥٤ ، والمعاهد ١ / ٧ ، الخزانة ٢ / ٣٩٠ ، الدر المصون ٣ / ١٢٦ ، والقرطبي ١٥ / ٢٣٧.

(٢) ينظر : المفردات ١٦٣.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٤.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٢٩٤

أحدهما : نفي تلك الذّات بقيدها.

والثاني : نفي القيد فقط دون نفي الذّات.

فإن قلت «ما رأيت زيدا ضاحكا» ، فيجوز أنك لم تر زيدا ألبتّة ، ويجوز أنك رأيته من غير ضحك ، فكذا هاهنا ، إذ التقدير : وما نرى معكم شفعاءكم مصاحبيكم ، يجوز أن لم يروا الشفعاء ألبتّة ، ويجوز أن يروهم دون مصاحبتهم لهم ، فمن أين يلزم أنهم يكونون معهم ، ولا يرونهم من هذا التركيب ، وقد تقدم تحقيق هذه القاعدة في أوائل سورة «البقرة» (١) في قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [البقرة : ٢٧٣].

و «أنهم» سد مسدّ المفعولين ل «زعم» و «فيكم» متعلق بنفس شركاء ، والمعنى : الذين زعمتم أنهم شركاء الله فيكم ، أي في عبادتكم ، أو في خلقكم ، لأنكم أشركتموهم مع الله ـ تعالى ـ في عبادتكم وخلقكم.

وقيل «في» بمعنى «عند» ، ولا حاجة إليه.

وقيل : المعنى أنهم يتحملون عنكم نصيبا من العذاب ، أي : شركاء في عذابكم إن كنتم تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابتكم نائبة شاركوكم فيها.

فصل في معنى الآية

معنى الآية الكريمة : (جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) : حفاة عراة ، وخلّفتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم خلف ظهوركم في الدنيا ، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، وذلك أن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام ؛ لأنهم شركاء الله ، وشفعاؤهم عنده ، والمراد من الآية التّقريع والتوبيخ ، وذلك لأنهم صرفوا جدّهم وجهدهم إلى تحصيل المال والجاه ، وعبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى ، ثم أنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق لهم من تلك الأموال شيء ، ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة فبقوا فرادى على كل ما حصّلوه في الدنيا ، وعوّلوا عليه ، بخلاف أهل الإيمان ، فإنهم صرفوا همّهم إلى الأعمال الصالحة ، فبقيت معهم في قبورهم ، وحضرت معهم في محفل القيامة ، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى.

قوله (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ). قرأ نافع ، والكسائي (٢) ، وعاصم في رواية حفص عنه «بينكم» نصبا ، والباقون (٣) «بينكم» رفعا.

__________________

(١) الآية ٢٧٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢ ـ ٢٣ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، السبعة ٢٦٣ ، النشر ٢ / ٢٦٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢ ـ ٢٣ ، الحجة لأبي زرعة ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، السبعة ٢٦٣ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، التبيان ١ / ٥٢٢ ، الزجاج ٢ / ٣٠٠ ، الفراء ١ / ٣٤٥ ، المشكل ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٣ ، المستدرك ٢ / ٢٣٨ الحجة ٢٦٣.

٢٩٥

فأما القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه :

أحدها ، وهو أحسنها : أن الفاعل مضمر يعود على الاتّصال ، والاتصال وإن لم يكن مذكورا حتى يعود عليه ضمير ، لكنه تقدّم ما يدلّ عليه ، وهو لفظ «شركاء» ، فإن الشركة تشعر بالاتّصال ، والمعنى : لقد تقطع بينكم الاتصال على الظرفية.

الثاني : أن الفاعل هو «بينكم» ، وإنما بقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله ، وهو مذهب الأخفش ، وجعلوا من ذلك أيضا قوله : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) [الحج : ١٧] فيمن بناه إلى المفعول ، وكذا قوله تعالى : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] [قال الواحدي (١) : كما جرى في كلامهم](٢) منصوبا ظرفا ، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ثم قال في قوله : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ، ف «دون» في موضع رفع عندهم ، وإن كان منصوب اللفظ ، ألا ترى أنك تقول : منا الصالحون ، ومنا الظالمون ، إلا أن الناس لما حكوا هذا المذهب لم يتعرّضوا على هذا الظرف ، بل صرحوا بأنه معرب ، وهو مرفوع المحل قالوا : أو إنما بقي على انتصابه اعتبارا بأغلب أحواله في كلام أبي حيان ، لما حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مبنيّ ، فإنه قال : وخرجه الأخفش على أنه فاعل ، ولكنه مبني حملا على أكثر أحوال هذا الظّرف ، وفيه نظر ؛ لأن ذلك لا يصلح أن يكون علّة البناء ، وعلل البناء محصورة ليس هذا منها.

ثم قال أبو حيان (٣) : «وقد يقال لاضافته إلى مبني كقوله (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] وهذا ظاهر في أنه جعل حمله على أكثر أحواله علّة لبنائه كما تقدم».

الثالث : أن الفاعل محذوف و «بينكم» صفة له قامت مقامه ، تقديره : لقد تقطع وصل بينكم. قاله أبو البقاء (٤) ، وردّه أبو حيان (٥) بأن الفاعل لا يحذف ، وهذا غير ردّ عليه ، فإنه يعني بالحذف عدم ذكره لفظا وأن شيئا قام مقامه ، فكأنه لم يحذف.

وقال ابن عطيّة (٦) : «ويكون الفعل مسندا إلى شيء محذوف ، أي : لقد تقطّع الاتّصال بينكم والارتباط ونحو هذا».

وهذا وجه واضح ، وعليه فسّر الناس ، وردّه أبو حيان (٧) لما تقدم ، ويجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإضمار ، لأن كلا منهما غير موجود لفظا.

الرابع : أن «بينكم» هو الفاعل ، وإنما بني لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله تعالى : (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات : ٢٣] بفتح «مثل» ، وهو تابع ل «حق» المرفوع ، ولكنه

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ٧٢.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٤.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٥.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

٢٩٦

بني لإضافته إلى غير متمكّن ، وسيأتي في مكانه ، ومثله قول الآخر في ذلك : [الرمل]

٢٢٤١ ـ تتداعى منخراه بدم

مثل ما أثمر حمّاض الجبل (١)

بفتح «مثل» مع أنها تابعة ل «دم» ، ومثله قول الآخر : [البسيط]

٢٢٤٢ ـ لم يمذع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أوقال (٢)

بفتح «غير» ، وهي فاعل «يمنع» ، ومثله قول النابغة : [الطويل]

٢٢٤٣ ـ أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني

وتلك الّتي تستكّ منها المسامع

مقالة أن قد قلت : سوف أناله

وذلك من تلقاء مثلك رائع (٣)

ف «مقالة» بدل م ن «أنّك لمتني» ، وهو فاعل ، والرواية بفتح تاء «مقالة» لإضافتها إلى «أن» وما في حيّزها.

الخامس : أن المسألة من باب الإعمال ، وذلك أن «تقطّع» و «ضلّ» كلاهما يتوجّهان على (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) كل منهما يطلبه فاعلا ، فيجوز أن تكون المسألة من باب إعمال الثاني ، وأن تكون من إعمال الأوّل ، لأنه ليس هنا قرينة تعيّن ذلك ، إلا أنه تقدم في «البقرة» أن مذهب البصريين اختيار إعمال الثاني ، ومذهب الكوفيين بالعكس ، فعلى اختيار البصريين يكون «ضلّ» هو الرافع ل (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميره فاستتر فيه ، وعلى اختيار الكوفيين يكون «تقطّع» هو الرافع ل (ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ، وفي «ضلّ» ضمير فاعل به ، وعلى كلا القولين ف «بينكم» منصوب على الظّرف ، وناصبه «تقطّع» هو الرافع. السادس : أن الظرف صلة لموصول محذوف تقديره : تقطّع ما بينكم ، فحذف الموصول وهو «ما» وقد تقدّم أن ذلك رأي الكوفيين ، وتقدم ما استشهدوا به عليه من القرآن ، وأبيات العرب ، واستدلّ القائل بذلك بقول الشاعر حيث قال في ذلك : [الطويل]

٢٢٤٤ ـ يديرونني عن سالم وأديرهم

وجلدة بين الأنف والعين سالم (٤)

__________________

(١) ينظر البيت في : المقرب ١ / ١٠٢ ، ابن يعيش ٨ / ١٣٥ ، لسان العرب (حمص) ، ابن الشجري ٢ / ٢٦٦ ، الدر المصون ٣ / ١٢٧.

(٢) البيت لأبي قيس بن الأسلت في ديوانه ص (٨٥) ، جمهرة اللغة ص (١٣١٦) ، خزانة الأدب ٣ / ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، الدرر ٣ / ١٥٠ ، ولأبي قيس بن رفاعة في شرح أبيات سيبويه ٢ / ١٨٠ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤٥٨ ، شرح المفصل ٣ / ٨٠ ، خزانة الأدب ٦ / ٥٣٢ ، ٥٥٢ ، ٥٥٣ ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٠٧ ، شرح التصريح ١ / ١٥ ، الكتاب ٢ / ٣٢٩ ، لسان العرب (نطق) ، (وقل) ، مغني اللبيب ١ / ١٥٩ ، همع الهوامع ١ / ٢١٩ ، الدر المصون ٣ / ١٢٧.

(٣) ينظر : ديوانه ص (٥٤) ، المغني ص ٢ / ٥١٨ ، معاهد التنصيص ١ / ٣٣٣١ ، الدر المصون ٣ / ١٢٧.

(٤) البيت لأبي الأسود ، وقيل لعبد الله بن عمرو وقيل لعبد الله بن معاوية ينظر : أمالي القالي ١ / ١٥ ، اللسان (دور) ، الدر المصون ٣ / ١٢٨.

٢٩٧

وقول الآخر في ذلك : [البسيط]

٢٢٤٥ ـ ما بين عوف وإبراهيم من نسب

إلّا قرابة بين الزّنج والرّوم (١)

تقديره : وجلدة ما بين ، وإلّا قرابة ما بين ، ويدل على ذلك قراءة عبد الله ، ومجاهد (٢) ، والأعمش : «لقد تقطّع ما بينكم».

السابع : قال الزمخشري (٣) : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) : لقد وقع التّقطّع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشّيئين ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل قول حسن ، وذلك لأن لو أضمر في «تقطّع» ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير : تقطع التّقطع بينكم ، وإذا تقطّع التقطع بينهم حصل الوصل ، وهذا ضدّ المقصود ، فاحتاج أن قال : إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور ، إلا أن أبا حيّان (٤) اعترضه ، فقال : «فظاهره أنه ليس بجيّد ، وتحريره أنه أسند الفعل إلى ضمير مصدره فأضمره فيه ؛ لأنه إن أسنده إلى صريح المصدر ، فهو محذوف ، ولا يجوز حذف الفاعل ، ومع هذا التقدير فليس بصحيح ؛ لأن شرط الإسناد مفقود فيه ، وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ؛ يعني : أنه لا يجوز أن يتّحد الفعل والفاعل في لفظ واحد من غير فائدة ، لا تقول : قام القائم ، ولا قعد القاعد ، فتقول : إذا أسند الفعل إلى مصدره ، فإما إلى مصدره الصريح من غير إضمار ، فيلزم حذف الفاعل ، وإما على ضميره ، فيبقى تقطّع التّقطّع ، وهو مثل : قام القائم ، وذلك لا يجوز ، مع أنه يلزم عليه أيضا فساد المعنى كما تقدم منه أنه يلزم أن يحصل لهم الوصل».

قال شهاب الدّين (٥) : وهذا الذي أورده الشّيخ لا يرد لما تقدّم من قول الزمخشري (٦) على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل ، وقد تقدّم ذلك التأويل.

وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه اتّسع في هذا الظرف ، فأسند الفعل إليه ، فصار اسما كسائر الأسماء المتصرف فيها ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] فاستعمله مجرورا ب «من» وقوله تعالى : (فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] (مَجْمَعَ بَيْنِهِما) [الكهف : ٦١] (شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) [المائدة : ٦] وحكى سيبويه : «هو أحمر بين العينين» (٧)

__________________

(١) البيت لجرير. ينظر : ديوانه (٣٩٣) وروايته فيه :

ما بين تيم وإسماعيل من نسب

إلا القرابة بين الزنج والروم

الدر المصون ٣ / ١٢٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٣٠.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٧.

(٧) ينظر : الكتاب ١ / ١٠٠ وكذلك قولهم : «هو جيّد وجه الدّار» من هذا الباب.

٢٩٨

وقال عنترة : [الكامل]

٢٢٤٦ ـ وكأنّما أقص الإكام عشيّة

بقريب بين المنسمين مصلّم (١)

وقال مهلهل : [الوافر]

٢٢٤٧ ـ كأنّ رماحنا أشطان بئر

بعيدة بين جاليها جرور (٢)

فقد استعمل في هذه المواضع كلها مضافا إليه متصرّفا فيه ، فكذا هنا ، ومثله قوله : [الطويل]

٢٢٤٨ ـ ..........

وجلدة بين الأنف والعين سالم (٣)

وقوله في ذلك : [البسيط]

٢٢٤٩ ـ ..........

إلّا قرابة بين الزّنج والرّوم (٤)

وقول القائل في ذلك : [الطويل]

٢٢٥٠ ـ ولم يترك النّبل المخالف بينها

أخا لاح [قد] يرجى وما ثورة الهند (٥)

يروى برفع «بينها» وفتحه على أنها فعل ل «مخالف» ، وإنما بني لإضافته إلى ذلك ومثله في ذلك : «أمام» و «دون» ، كقوله : [الكامل]

٢٢٥١ ـ فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٦)

برفع «أمام» ، كقول القائل في ذلك : [الطويل]

٢٢٥٢ ـ ألم تر أنّي قد حميت حقيقتي

وباشرت حدّ الموت والموت دونها (٧)

برفع «دون».

__________________

(١) ينظر : ديوانه ص (١٩٩) ، شرح التبريزي على المعلقات ص (٢٨١) ، الدر المصون ٣ / ١٢٩.

(٢) ينظر : لسان العرب (بين) ، المحتسب ٢ / ١٩٠ ، أمالي القالي ٢ / ١٣٢ ، مجالس العلماء ص (١٤٣) ، شرح الحماسة ١ / ٣٩٩ الكامل ١ / ٣٧٦ ، مجاز القرآن ١ / ٢٠١. الدر المصون ٣ / ١٢٩.

(٣) عجز بيت لأبي الأسود وصدره :

يديرونني عن سالم وأديرهم

ينظر : ديوانه ٢٥٠ ، الدر المصون ٣ / ١٢٩.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٢٩.

(٦) البيت من معلقة لبيد بن ربيعة.

ينظر : الكتاب ١ / ٤٠٧ ، المقتضب ٣ / ١٠٢ ، ابن يعيش ٢ / ٤٤ ، همع الهوامع ١ / ٢١٠ ، الدرر ١ / ١٧٨ ، لسان العرب (كلا) شواهد الكشاف ٥٤٢ ، الدر المصون ٣ / ١٢٩.

(٧) البيت لموسى بن جابر.

ينظر : الحماسة ١ / ٣٧١ ، شذور الذهب ص (٨١) ، التصريح ١ / ٢٩٠ ، الهمع ١ / ٢١٣ ، الدر المصون ٣ / ١٢٩.

٢٩٩

الثاني : أن «بين» اسم غير ظرف ، وإنم منعناها الوصل ، أي : لقد تقطّع وصلكم.

ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن «بين» مصدر «بان يبين بينا» بمعنى «بعد» ، فيكون من الأضداد ، أي : إنه مشترك اشتراكا لفظيا يستعمل للوصل والفراق ك «الجون» للأسود ، والأبيض ، ويعزى هذا لأبي عمرو ، وابن جني ، والمهدوي ، والزهري ، وقال أبو عبيد : وكان أبو عمرو يقول : معنى (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) تقطع فصارت هنا اسما بغير أن يكون معها «ما».

وقال الزجاج (١) : والرفع أجود ، ومعناه : لقد تقطع وصلكم ، فقد أطلق هؤلاء أن «بين» بمعنى الوصل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، إلا أن ابن عطية طعن فيه ، وزعم أنه لم يسمع من العرب البين بمعنى الوصل ، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة ، لو أنه أريد بالبين الافتراق ، وذلك عن الأمر البعيد ، والمعنى : لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها ، فعبر عن ذلك بالبين.

قال شهاب الدين (٢) : فظاهر كلام ابن عطية يؤذن بأنه فهم أنها بمعنى الوصل حقيقة ، ثم ردّه بكونه لم يسمع من العرب ، وهذا منه غير مرض ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني ، والزهراوي ، والمهدوي ، والزجاج أئمة يقبل قولهم.

وقوله : «وإنما انتزع من هذه الآية» ممنوع ، بل ذلك مفهوم من لغة العرب ، ولو لم يكن من نقلها إلا أبو عمرو لكفى به ، وعبارته تؤذن بأنه مجاز ، ووجه المجاز كما قال الفارسي (٣) أنه لما استعمل «بين» مع الشيئين المتلابسين في نحو : «بيني وبينك رحم وصداقة» صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوصلة ، وعلى خلاف الفرقة ، فلهذا جاء : «لقد تقطّع وصلكم» وإذا تقدّر هذا ، فالقول بكونه مجازا أولى من القول بكونه مشتركا ؛ لأنه متى تعارض الاشتراك والمجاز ، فالمجاز خير منه عند الجمهور.

وقال أبو علي أيضا : ويدلّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفا أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مصدر ، فلا يجوز أن يكون هذا القسم ؛ لأن التّقدير يصير : لقد تقطّع افتراقكم ، وهذا خلاف المقصد ، والمعنى أي : ألا ترى أن المراد وصلكم ، وما كنتم تتآلفون عليه.

فإن قلت : كيف جاز أن يكون بمعنى : الوصل ، وأصله : الافتراق ، والتّباين.

قيل : إنه لما استعمل مع الشّيئين المتلابسين في نحو : «بيني وبينك شركة» فذكر ما تقدّم عنه من وجه المجاز.

وأجاز أبو عبيدة ، والزّجّاج (٤) ، وجماعة : قراءة الرفع ، قال أبو عبيدة : وكذلك

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٥.

(٣) ينظر : الحجة ٣ / ٣٥٨ ، ٣٥٩.

(٤) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٣٠٠.

٣٠٠