اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

وقوله : «الّذي يقال له : الله» راجع إلى كونه مرتجلا ، وكأنه ـ رحمه‌الله ـ استشعر بالاعتراض المذكور.

والاعتراض منقول عن الفارسيّ.

قال : «وإذا جعلت الظّرف متعلّقا باسم الله جاز عندي على قياس من يقول : إنّ الله أصله «الإله» ، ومن ذهب بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب ألّا يتعلّق به «عنده» إلّا أن تقدّر فيه ضربا من معنى الفعل» ، فكأنه الزمخشري ـ والله أعلم ـ أخذ هذا من قول الفارسيّ وبسطه ، إلّا أنّ أبا البقاء (١) نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلّق «في» باسم الله ؛ لأنّه صار بدخول الألف واللام ، والتغيير (٢) الذي دخله كالعلم ، ولهذا قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] فظاهر هذا النقل أنه يمنع التعلّق به وإن كاني في الأصل مشتقّا.

وقال الزّجّاج (٣) : «وهو متعلّق بما تضمّنه اسم الله من المعاني ، كقولك : أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب».

قال ابن عطيّة (٤) : «هذا عندي أفضل الأقوال ، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللّفظ ، وجزالة المعنى.

وإيضاحه أنّه أراد أن يدلّ على خلقه وآثار قدرته وإحاطته واستيلائه ، ونحو هذه الصفات ، فجمع هذه كلّها في قوله : (وَهُوَ اللهُ) ؛ أي : الذي له هذه كلّها في السّموات ، وفي الأرض كأنه قال : وهو الخالق ، والرازق ، والمحيي ، والمحيط في السماوات وفي الأرض كما تقول : زيد السّلطان في «الشام» و «العراق» ، فلو قصدت ذات زيد لكان محالا ، فإذا كان مقصد قولك [: زيد](٥) الآمر النّاهي الذي يولّي ويعزل كان فصيحا صحيحا ، فأقمت (٦) السّلطنة مقام هذه الصّفات ، كذلك في الآية الكريمة أقمت «الله» مقام تلك الصّفات».

قال أبو حيّان (٧) : ما ذكره الزّجّاج ، وأوضحه ابن عطيّة صحيح من حيث المعنى ، لكنّ صناعة النحو لا تساعد عليه ؛ لأنهما زعما أن (فِي السَّماواتِ) متعلّق باسم الله ؛ لما تضمّنه من تلك المعاني ، ولو صرّح بتلك المعاني لم تعمل فيه جميعها ، بل العمل من حيث اللفظ لواحد منها ، وإن كان (فِي السَّماواتِ) متعلّقا بجميعها من حيث المعنى ، بل الأولى أن يتعلّق بلفظ «الله» لما تضمّنه من معنى الألوهيّة ، وإن كان علما ؛ لأن العلم

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٥.

(٢) في أ : النص.

(٣) معاني القرآن ٢ / ٢٥٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٧.

(٥) زيادة من المحرر الوجيز اقتضاها السياق.

(٦) في ب : فأقمت هذه.

(٧) البحر المحيط ٤ / ٧٧.

٢١

يعمل في الظّرف لما يتضمّنه من المعنى كقوله : [الرجز]

٢١٠٧ ـ أنا أبو المنهال بعض الأحيان (١)

لأنّ «بعض» نصب بالعلم ؛ لأنّه في معنى أنا المشهور.

قال شهاب الدين (٢) : [قوله](٣) : «لو صرّح بها لم تعمل» ممنوع ، بل تعمل ويكون عملها على سبيل التّنازع ، مع أنه لو سكت عن الجواب لكان واضحا. ولما ذكر أبو حيّان ما قاله الزّمخشريّ قال (٤) : «فانظر كيف قدّر العامل فيها واحدا لا جميعها».

يعني : أنّه استنصر به فيما ردّ على الزّجّاج ، وابن عطية.

الوجه الثاني : أن (فِي السَّماواتِ) متعلّق بمحذوف هو صفة لله تعالى حذفت لفهم المعنى ، فقدّرها بعضهم : وهو الله المعبود ، وبعضهم : وهو الله المدبّر ، وحذف الصّفة قليل جدا لم يرد منه إلّا مواضع يسيرة على نظر فيها ، فمنها (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) [الأنعام : ٦٦] أي : المعاندون ، (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] أي : النّاجين ، فلا ينبغي أن يحمل هذا عليه.

الوجه الثالث : قال النّحّاس (٥) ـ وهو أحسن ما قيل فيه ـ : إنّ الكلام تمّ عند قوله : (وَهُوَ اللهُ) ، والمجرور متعلّق بمفعول «يعلم» ، وهو (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، أي : يعلم سرّكم ، وجهركم فيهما. وهذا ضعيف جدّا لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه ، وقد عرف ما فيه.

الوجه الرابع : أنّ الكلام تمّ أيضا عند الجلالة ، ويتعلّق الظرف بنفس «يعلم» وهذا ظاهر ، و «يعلم» على هذين الوجهين مستأنف.

الوجه الخامس : أنّ الكلام تمّ عند قوله : (فِي السَّماواتِ) فيتعلّق (فِي السَّماواتِ) باسم الله على ما تقدّم ، ويتعلّق (فِي الْأَرْضِ) ب «يعلم» وهو قول الطّبري.

وقال أبو البقاء (٦) : «وهو ضعيف ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ معبود في السّموات وفي الأرض ، ويعلم ما في السّموات ، وما في الأرض ، فلا تتخصّص إحدى الصّفتين بأحد الظرفين». وهو ردّ جميل.

الوجه السادس : أنّ (فِي السَّماواتِ) متعلّق بمحذوف على أنّه حال من «سرّكم» ، ثمّ قدّمت الحال على صاحبها ، وعلى عاملها.

__________________

(١) البيت لأبي المنهال.

ينظر : لسان العرب (أين) ، الخصائص ٣ / ٢٧٠ ، الدرر ٥ / ٣١٠ ، شرح شواهد المغني ٣ / ٨٤٣ ، مغني اللبيب ٢ / ٤٣٤ ، ٥١٤ ، همع الهوامع ٢ / ١١٧ ، الشيرازيات ٢ / ٢٧٤. الدر المصون ٣ / ٧.

(٢) الدر المصون ٣ / ٧.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٨.

(٥) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٣٦.

(٦) الإملاء : ١ / ٢٣٥.

٢٢

السابع : أنه متعلّق ب «يكسبون» ، وهذا فاسد من جهة أنه يلزم منه تقديم معمول الصّلة على الموصول ؛ لأن «ما» موصولة اسمية ، أو حرفية ، وأيضا فالمخاطبون كيف يكسبون في السماوات؟ ولو ذهب هذا القائل إلى أنّ الكلام تمّ عند قوله : (فِي السَّماواتِ) ، وعلّق (فِي الْأَرْضِ) ب «يكسبون» لسهل الأمر من حيث المعنى لا من حيث الصناعة.

الوجه الثّامن : أنّ «الله» خبر أوّل ، و (فِي السَّماواتِ) خبر ثان.

قال الزمخشري (١) : «على معنى : أنّه الله (٢) ، وأنّه في السماوات وفي الأرض ، وعلى معنى : أنّه عالم بما فيهما لا يخفى عليه شيء ، كأنّ ذاته فيهما».

قال أبو حيّان (٣) : «وهذا ضعيف ؛ لأن المجرور ب «في» لا يدلّ على كون مقيّد ، إنما يدلّ على كون مطلق ، وتقدّم جوابه مرارا».

الوجه التاسع : أن يكون «هو» مبتدأ ، و «الله» بدل منه ، و «يعلم» خبره ، و (فِي(٤) السَّماواتِ) على ما تقدّم.

الوجه العاشر : أن يكون «الله» بدلا أيضا ، و (فِي السَّماواتِ) الخبر بالمعنى الذي قاله الزمخشري.

الحادي عشر : أنّ «هو» ضمير الشّأن في محلّ رفع بالابتداء ، والجلالة مبتدأ ثان ، وخبرها (فِي السَّماواتِ) بالمعنى المتقدّم ، أو «يعلم» ، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني عشر.

وأمّا «يعلم» فقد عرفت (٤) من تفاصيل ما تقدّم أنّه يجوز أن يكون مستأنفا ، فلا محلّ له ، أو في محلّ رفع خبرا ، أو في محلّ نصب على الحال ، و (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) : يجوز أن يكونا على بابهما من المصدريّة ، ويكونان مضافين إلى الفاعل.

وأجاز أبو البقاء (٥) أن يكونا واقعين موقع المفعول به ، أي : مسرّكم ومجهوركم ، واستدلّ بقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [البقرة : ٧٧] ولا دليل فيه ، لأنه يجوز «ما» مصدرية وهو الأليق لمناسبة المصدرين قبلها ، وأن تكون بمعنى «الذي».

فصل في معنى الآية

«وهو الله في السماوات والأرض» كقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥.

(٢) في ب : الله قادر.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٨.

(٤) في ب : علمت.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٥.

٢٣

وقيل : هو المعبود في السّموات والأرض.

وقال محمد بن جرير (١) : معنيان : وهو الله يعلم سرّكم وجهركم في السماوات والأرض ، يعلم ما تكسبون من الخير والشرّ.

فصل في شبه إنكار الفوقية

استدلّ القائلون بأنّ الله في السماوات بهذه الآية.

قالوا : ولا [يلزمنا](٢) أن يقال : فيلزم أن يكون في الأرض لقوله : (وَفِي الْأَرْضِ) وذلك يقتضي حصوله في مكانين معا ، وهو محال ؛ لأنّا نقول : أجمعنا على أنه ليس موجودا في الأرض ، ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظّاهرين ترك العمل بالظّاهر الآخر من غير دليل ، فوجب أن يبقى قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) ، ثم يبتدىء فيقول : (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، والمعنى أنه تعالى يعلم سرائركم الموجودة في الأرض ، فيكون قوله : (وَفِي الْأَرْضِ) صلة لقوله : «سرّكم».

قال ابن الخطيب (٣) : والجواب : أنّا نقيم الدّلالة أوّلا على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، وذلك من وجوه :

أحدها : أنّه قال في هذه السورة : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام:١٢] فبيّن أنّ كلّ ما في السماوات والأرض ، فهو ملك لله تعالى ومملوك له فلو كان الله أحد الأشياء الموجودة في السماوات لزم (٤) كونه ملك نفسه ، وذلك محال وكذا قوله : في «طه» : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [طه : ٦]. فإن قالوا : كلمة [«ما»](٥) مختصّة [بمن لا يعقل](٦) فلا يدخل فيها ذات الله.

قلنا : لا نسلّم بدليل قوله : (وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٥ ـ ٧].

وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] والمراد بكلمة «ما» هاهن ا «هو الله تعالى».

وثانيها : أنّ قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) إمّا أن يكون المراد منه أنّه موجود في جميع السماوات ، أو المراد أنّه موجود في سماء واحدة.

والثاني ترك للظّاهر ، والأوّل على قسمين ، لأنّه إما (٧) أن يكون الحاصل منه ـ

__________________

(١) ينظر بتصرف الطبري ٥ / ١٤٨.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٨.

(٤) في أ : فيلزم.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : بعلم.

(٧) في أ : إنما.

٢٤

تعالى ـ في أحد السّموات عين ما حصل منه في سائر السّموات أو غيره ، والأوّل يقتضي حصول المتحيّز الواحد [في مكانين ، وهو باطل ببديهة العقل](١).

والثاني يقتضي كونه ـ تعالى ـ مركّبا من الأجزاء والأبعاض ، وهو محال.

وثالثها : أنّه لو كان موجودا في السّموات لكان محدودا متناهيا وكلّ ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنّقصان ممكنا ، وكلّ ما كان كذلك فهو محدث.

ورابعها : أنّه لو كان في السّموات ، فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق هذه السماوات أو لا يقدر (٢)؟ وذلك من وجهين :

والثاني (٣) يوجب تعجيزه وهو محال والأول (٤) يقتضي أنّه ـ تعالى ـ لو فعل ذلك لحصل تحت ذلك العالم ، والقوم منكرون كونه تحت العالم.

وخامسها : أنه تعالى قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [الحديد : ٤] وقال (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦].

وقال : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] وقال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] وكلّ ذلك يبطل القول بالمكان والجهة ، وإذا ثبت بهذه الدّلائل أنّه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، وجب التّأويل ، وهو من وجوه :

الأول : أنّ قوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، أي : في تدبير السماوات والأرض ، كما يقال : «فلان في أمر كذا» أي : في تدبيره ، وإصلاح مهمّاته ، كقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ).

الثاني : أنّ الكلام [تمّ](٥) عند قوله : (وَهُوَ اللهُ) ثمّ ابتدأ (٦) ، فقال : (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، أي : يعلم ما في السّموات سرائر الملائكة ، وفي الأرض يعلم سرائر البشر الإنس والجن.

الثالث : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، وهو «الله يعلم ما في السماوات ، وما في الأرض سرّكم وجهركم» (٧).

فصل في بيان معنى «ما تكسبون»

قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) فيه سؤال ، وهو أنّ الأفعال إمّا أفعال القلوب ، وهو المسمّى بالسّرّ ، وإمّا أعمال الجوارح ، وهي المسمّاة بالجهر ، فالأفعال لا تخرج عن السّرّ والجهر.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) زاد في ب : وذلك من وجهين.

(٣) في ب : والأول.

(٤) في ب : والثاني.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : أخذ.

(٧) ينظر : الرازي ١٢ / ١٢٩.

٢٥

فكان قوله : (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) يقتضي عطف الشيء على نفسه ، وإنّه فاسد.

والجواب يجب حمل قوله : (ما تَكْسِبُونَ) على ما يستحقّه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب.

والحاصل أنّه محمول على المكتسب (١) كما يقال : «هذا المال كسب فلان» ، أي : مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب ؛ لأنّه يلزم منه عطف الشيء على نفسه والآية (٢) تدل على كون الإنسان مكتسبا للفعل ، والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع ، أو دفع ضرر ، ولا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه ـ تعالى ـ منزّه عن جلب النّفع ، ودفع الضرر.

قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٤)

«من آية» فاعل زيدت فيه «من» لوجود الشرطين (٣) ، فلا تعلّق لها.

و «من آيات» صفة ل «آية» ، فهي في محلّ جر على اللّفظ ، أو رفع على الموضع (٤).

وقال الواحدي (٥) : «من» في قوله : «من آية» صفة ل «آية» أي : آية لاستغراق الجنس الذي يقع في النّفي ، كقولك : «ما أتاني من أحد».

والثانية : في قوله : (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) للتبعيض.

والمعنى : وما يظهر لهم دليل قط من الدّلائل التي يجب فيها النّظر والاعتبار ، إلّا كانوا عنها معرضين ، والمراد بهم أهل «مكة» ، والمراد بالآيات : انشقاق القمر وغيره.

وقال عطاء : يريد : من آيات القرآن.

قوله : «إلّا كانوا» هذه الجملة الكونيّة في محلّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنّه الضمير في «تأتيهم».

والثاني : أنّه «من آية» وذلك لتخصيصها (٦) بالوصف.

و «تأتيهم» يحتمل أن يكون ماضي المعنى (٧) لقوله : «كانوا» ، ويحتمل أن يكون مستقبل المعنى ؛ لقوله «تأتيهم».

واعلم أنّ الفعل الماضي لا يقع بعد «إلّا» إلّا بأحد شرطين : إمّا وقوعه بعد فعل

__________________

(١) في أ : المذهب.

(٢) ثبت في ب : فصل.

(٣) وهذان الشرطان هما : أن يكون مجرورها نكرة ، والثاني : أن يسبق بنفي أو نهي أو استفهام.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩.

(٥) ينظر : الرازي ١٢ / ١٣٠.

(٦) في ب : لتخصيصهم.

(٧) في أ : الفعل.

٢٦

كهذه الآية ، أو يقترن ب «قد» نحو : «ما زيد إلّا قد قام» وهنا التفات من خطابه بقوله : «خلقكم» إلى آخره إلى الغيبة بقوله : (وَما تَأْتِيهِمْ).

قوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٥)

«الفاء» هنا للتّعقيب ، يعني : أنّ الإعراض عن الآيات أعقبه التّكذيب.

وقال الزمخشري (١) : «فقد كذّبوا» مردود على كلام محذوف ، كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات ، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها.

وقال أبو حيان (٢) : ولا ضرورة تدعو إلى هذا في انتظام الكلام وقوله : «بالحق» من إقامة الظاهر مقام المضمر ، إذ الأصل : فقد كذبوا بها أي : بالآية.

فصل في بيان المراد «بالحق»

والمراد بالحقّ هاهنا القرآن.

وقيل : [محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل :](٣) جميع الآيات.

فصل

واعلم أنّه ـ تعالى ـ رتّب أمور هؤلاء الكفّار على ثلاث مراتب :

أولها : كونهم معرضين عن التأمّل والتّفكر في الدّلائل [والبيّنات](٤).

والمرتبة الثانية : كونهم مكذّبين بها ، وهذه أزيد مما قبلها ؛ لأنّ المعرض عن الشّيء قد لا يكون مكذبا به ، بل قد يكون غفل عنه ؛ فإذا صار مكذّبا به ، فقد زاد على الإعراض.

والمرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين بها ؛ [لأن المكذب](٥) بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدّ الاستهزاء ، فإذا بلغ إلى هذا الحدّ ، فقد بلغ الغاية القصوى في الإنكار ، [ثم](٦) بيّن ـ تعالى ـ أنّ أولئك الكفّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب (٧).

قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

«الأنباء» جمع «نبأ» ، وهو ما يعظم وقعه من الأخبار ، وفي الكلام حذف ، أي : يأتيهم مضمون الأنباء ، و «به» متعلّق بخبر «كانوا».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٧٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٧٩.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : الرازي ١٢ / ١٣٠.

٢٧

و «لمّا» حرف وجوب أو ظرف زمان ، والعامل فيه «كذبوا» (١).

و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، والضمير في «به» عائد عليها ، ويجوز أن تكون مصدرية (٢).

قال ابن عطيّة (٣) : أي : أنباء كونهم مستهزئين ، وعلى هذا فالضمير لا يعود عليها ؛ لأنها حرفية ؛ بل تعود على الحقّ ، وعند الأخفش (٤) يعود عليها ؛ لأنها اسم عنده.

ومعنى الآية : وسوف يأتيهم أخبار استهزائهم وجزاؤه ، أي : سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذّبوا ، فقيل : يوم «بدر» ، وقيل : يوم القيامة.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)(٦)

قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) لمّا منعهم عن الإعراض والتّكذيب ، والاستهزاء بالتهديد والوعيد ، أتبعه بما يجري مجرى الموعظة ، فوعظهم بالاعتبار بالقرون الماضية.

و «كم» (٥) يجوز أن تكون استفهاميّة وخبريّة ، وفي كلا التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العمل ؛ لأنّ الخبريّة تجري مجرى الاستفهاميّة في ذلك ، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التّصدير وغيره ، والرّؤية هنا علميّة ، ويضعف كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل ؛ لأنّ البصرية تجري مجراها ، فإن كانت علميّة ف «كم» وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعولين ، وإن كانت بصريّة فمسدّ واحد.

و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص ، فتكون مفعولا بها ، ناصبها «أهلكنا» ، و (مِنْ قَرْنٍ) على هذا تمييز لها وأن تكون عبارة عن المصدر فتنتصب انتصابه ب «أهلكنا» أي : إهلاكا ، و (مِنْ قَرْنٍ) على هذا صفة لمفعول «أهلكنا» أي : أهلكنا قوما ، أو فوجا من القرون ؛ لأنّ قرنا يراد به الجمع ، و «من» تبعيضية ، والأولى لابتداء الغاية.

وقال الحوفي (٦) : «من» الثانية بدل من «من» الأولى ، وهذا لا يعقل فهو وهم بيّن ، ويجوز أن تكون «كم» عبارة عن الزّمان ، فتنتصب على الظرف.

قال أبو حيان : تقديره : كم أزمنة أهلكنا فيها.

__________________

(١) ينظر : رصف المباني ٢٨٤ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٠ ، والدر المصون ٣ / ٩.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٨ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠ ، والدر المصون ٣ / ٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠.

٢٨

وجعل أبو البقاء (١) على هذا الوجه (مِنْ قَرْنٍ) هو المفعول به ، و «من» مزيدة فيه ، وجاز ذلك ؛ لأن الكلام غير موجب ، والمجرور نكرة ، إلّا أنّ أبا حيّان منع ذلك بأنّه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت : «كم أزمانا ضربت رجلا» أو كم مرة ضربت رجلا لم يكن مدلول رجل رجالا ، لأنّ السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرّات التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس موضع زيادة «من» لأنّها لا تزاد في الاستفهام ، إلّا وهو استفهام محض أو يكون بمعنى النّفي ، والاستفهام هنا ليس محضا ولا مرادا به النفي. انتهى.

قال شهاب الدّين (٢) : وجوابه لا يسلم.

و «قرن» الجماعة من النّاس وجمعه «قرون».

وقيل : القرن مدّة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، [ويقال : ستّون سنة](٣) ، ويقال : أربعون سنة ، ويقال : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ؛ لما روي أنّه ـ عليه‌السلام ـ قال لعبد الله بن بشر المازني : «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة ، فيكون معنى الآية على هذه الأقاويل من أهل قرن ؛ لأنّ القرن الزمان ، ولا حاجة إلى ذلك إلّا على [اعتقاد](٤) أنه حقيقة فيه مجاز في النّاس ، وسيأتي بيان أن الراجح خلافه.

وعلى القول الأوّل : هم القوم المقترنون واشتقاقه من الاقتران ، قاله الواحدي (٥) ـ رحمه‌الله ـ ، وسيأتي بقيّة الكلام عليه في الصّفحة الثانية.

قوله : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) في موضع جرّ صفة ل «قرن» ، وعاد الضمير عليه جمعا باعتبار معناه.

قاله أبو البقاء (٦) ـ رضي الله عنه ـ ، والحوفي رحمه‌الله. وضعّفه أبو حيان (٧) بأن (مِنْ قَرْنٍ) تمييز ل «كم» ، ف «كم» هي المحدّث عنها بالإهلاك ، فهي المحدّث عنها بالتّمكين لا ما بعدها ؛ إذ (مِنْ قَرْنٍ) يجري مجرى التّبيين ، ولم يحدّث عنه.

وجوّز أبو حيّان (٨) ـ رحمه‌الله تعالى ـ أن تكون هذه الجملة استئنافا جوابا لسؤال مقدّر ، قال : كأنّه قيل : ما كان من حالهم؟ فقيل : مكّنّاهم ، وجعله هو الظّاهر ، وفيه نظر ، فإنّ النكرة مفتقرة للصّفة فجعلها صفة أليق ، والفرق بين قوله تبارك وتعالى : (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) وقوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) [أن «مكنه في كذا» أثبته فيها ، ومنه (وَلَقَدْ

__________________

(١) ينظر : الإملا ١ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٨٠ ، والدر المصون ٣ / ١٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الرازي ٢ / ١٣١.

(٦) ينظر : الإملا ١ / ٢٣٥.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨١.

(٨) ينظر : السابق.

٢٩

مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦] وأما مكنّا له فمعناه جعل له مكانا ، ومنه : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) [الكهف : ٨٤] (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) [القصص : ٥٧](١).

ومثله «أرض له» أي : جعل له أرضا ، هذا قول الزمخشري (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ وأما أبو حيّان (٣) ـ رضي الله عنه ـ فإنّه يظهر من كلامه التّسوية بينهما ، فإنّه قال : وتعدّي «مكّن» هنا للذّوات بنفسه وبحرف الجرّ ، والأكثر تعديته باللام [نحو](٤)(مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) [يوسف : ٢١] (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ) [الكهف : ٨٤] ، (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) [القصص : ٥٧].

وقال أبو عبيدة (٥) : «مكّنّاهم ومكّنّا لهم : لغتان فصيحتان ، نحو : نصحته ، ونصحت له» وبهذا قال أبو علي والجرجاني.

قوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) في «ما» هذه خمسة أوجه (٦) :

أحدها : أن تكون موصولة بمعنى «الّذي» ، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف ، [والتقدير: التمكين الذي لم نمكّن لكم ، والعائد محذوف أي :](٧) الذي لم نمكّنه لكم.

الثاني : أنها نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره : تمكينا ما لم نمكّنه لكم ، ذكرهما الحوفيّ رحمه‌الله تعالى (٨).

وردّ أبو حيّان (٩) ـ رحمه‌الله تعالى ـ الأوّل بأنّ «ما» بمعنى «الذي» لا تكون صفة لمعرفة ، وإن كان «الذي» يقع صفة لها ، لو قلت : «ضربت الضّرب ما ضرب زيد» تريد الضرب الذي ضربه زيد ، لم يجز ، فإن قلت : «الضّرب الذي ضربه زيد» جاز.

وردّ الثاني بأن «ما» النكرة التي تقع صفة لا يجوز حذف موصوفها ، لو قلت : «قمت ما وضربت ما» وأنت تعني : قمت قياما ما وضربت ضربا ما لم يجز.

الثالث : أن تكون مفعولا بها ل «مكّن» على المعنى ، لأنّ معنى مكّنّاهم : أعطيناهم ما لم نعطكم ، ذكره أبو البقاء (١٠) ـ رحمه‌الله ـ.

قال أبو حيّان (١١) ـ رحمه‌الله ـ : «هذا تضمين ، والتّضمين لا ينقاس».

الرابع : أن تكون «ما» مصدريّة ، والزّمان محذوف ، أي : مدّة ما لم نمكّن لكم ، والمعنى : مدّة انتفاء التمكين لكم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦.

(٣) البحر المحيط ٤ / ٨١.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٨٦ البحر المحيط ٤ / ٨١. الدر المصون ٣ / ١٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٠ البحر المحيط ٤ / ٨١.

(٧) سقط في ب.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨١ الدر المصون ٣ / ١٠.

(٩) انظر المصدرين السابقين.

(١٠) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٥ الدر المصون ٢ / ١١.

(١١) البحر المحيط ٤ / ٨١.

٣٠

الخامس : أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفيّة بعدها ، والعائد محذوف ، أي : شيئا لم نمكّنه لكم ، ذكرهما أيضا أبو البقاء (١) قال أبو حيان ـ رحمه‌الله تعالى ـ في الأخير : «وهذا أقرب إلى الصّواب» (٢).

قال شهاب الدين (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ولو قدّره أبو البقاء بخاصّ لكان أحسن من تقديره بلفظ «شيء» ، فكان يقول : مكّنّاهم تمكينا لم نمكّنه لكم.

والضمير في «يروا» قيل : عائد على المستهزئين ، والخطاب في «لكم» راجع إليهم أيضا ، فيكون على هذا التفاتا فائدته التّعريض بقلّة تمكّن هؤلاء ، ونقص أحوالهم عن حال أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حلّ بهم الهلاك ، فكيف وأنتم أقلّ منهم تمكينا وعددا؟.

وقال ابن عطيّة (٤) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «والمخاطبة في «لكم» هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر النّاس كافّة ، كأنه قيل : لم نمكّن يا أهل هذا العصر لكم ، ويحتمل أن يقدّر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال : يا محمّد قل لهم : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) الآية ، فإذا أخبرت أنك قلت ـ أو أمرت أن يقال ـ فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب» انتهى.

ومثاله : «قلت لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه».

و «القرن» يقع على معان كثيرة ، فالقرن (٥) : الأمّة من النّاس ، سمّوا بذلك لاقترانهم في مدّة من الزّمان ، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «خير القرون قرني» (٦).

وقال الشاعر [في ذلك المعنى :](٧) [الطويل]

٢١٠٨ ـ أخبّر أخبار القرون التي مضت

أدبّ كأنّي كلّما قمت راكع (٨)

وقال قسّ (٩) بن ساعدة : [مجزوء الكامل]

٢١٠٩ ـ في الذّاهبين الأوّلي

ن من القرون لنا بصائر (١٠)

وقيل : أصله الارتفاع ، ومنه قرن الثّور وغيره ، فسمّوا بذلك لارتفاع السّنّ.

__________________

(١) الإملاء ١ / ٢٣٥ الدر المصون ٣ / ١١ البحر المحيط ٤ / ٨١.

(٢) البحر ٤ / ٨١ الدر ٣ / ١١.

(٣) ينظر : الدر ٣ / ١١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٦٩.

(٥) في ب : والقرن.

(٦) الترمذي برقم (٢٣٠٢).

(٧) سقط في ب.

(٨) تقدم.

(٩) في ب : قيس.

(١٠) ينظر : البحر ٤ / ٧١ ، معجم الشعراء ٢٢٢ ، التهذيب واللسان (بصر) الدر المصون ٣ / ١١.

٣١

وقيل : لأنّ بعضهم يقرن ببعض ، ويجعل مجتمعا معه ، ومنه القرن للحبل يجمع به بين البعرين ، ويطلق على المدّة من الزّمان أيضا.

وهل إطلاقه على النّاس والزّمان بطريق الاشتراك (١) ، أو الحقيقة والمجاز؟ يرجّح الثّاني ؛ لأنّ المجاز خير من الاشتراك.

وإذ قلنا بالراجح ، فإنها الحقيقة (٢) ، الظاهر أنه القوم ؛ لأنّ غالب ما يطلق عليهم ، والغلبة مؤذنة بالأصالة غالبا.

__________________

(١) المشترك : هو اللفظ الواحد المتناول العدد لمعان من حيث هي كذلك بطريق الحقيقة على السواء ، واحترزنا بالواحد عن المتباينين ، وب «متناول» العدد معان عن العلم ، ومن حيث هي كذلك من حيث إنها متعددة ، لا من حيث إنها مشتركة في معنى واحد عن المتواطىء وب «طريق الحقيقة» عما يكون تناوله أو بعضه بالمجاز ، وب «سواء» عن المنقول.

ينظر البحر المحيط للزركشي ٢ / ١٢٢ ، سلاسل الذهب له ص ١٧٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ / ٢٠ ، نهاية السول للإسنوي ٢ / ١١٤ ، زوائد الأصول له ص ٢١٤ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ٢٩٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٤٨ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٢١٢ ، حاشية البناني ١ / ٢٩٢ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ٢٤٨ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٢ / ١٠٠ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٣٨٤ ، التحرير لابن الهمام ٨١ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١ / ١٨١ ـ ١٨٥ ، كشف الأسرار للنسفي ١ / ١٩٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ١ / ١٣٤ ، نسمات الأسحار لابن عابدين ص ٨٥ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٤٩١ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ١٩ ، نشر البنود ١ / ١١٨ ، الكوكب المنير للفتوحي ص ٤٣ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ١ / ٢١٣.

(٢) قال ابن فارس : الحقيقة من قولنا : حق الشيء إذا وجب ، واشتقاقه من الشيء المحق ، وهو المحكم.

تقول : ثوب محقق النسج ، أي : محكم. وقال غيره : اشتقاقها من الاستحقاق لا من الحق ، وإلّا لكان المجاز باطلا.

وتطلق الحقيقة ويراد بها ذات الشيء وماهيته ، كما يقال : حقيقة العالم : من قام به العلم ، وحقيقة الجوهر : المتحيز ، وهذا محل نظر المتكلمين.

وتطلق بمعنى اليقين ، وفي الحديث : لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان.

وتطلق ويراد بها : المستعمل في أصل ما وضعت له في اللغة.

فقولنا : «المستعمل» خرج به اللفظ قبل الاستعمال ، فليس بحقيقة ولا مجاز ، وقولنا : «ما وضع له» أخرج المجاز إن قلنا : إنه ليس بموضوع ، فإن قلنا : موضوع قلنا : وضع أولا.

قال ابن سيده في «المحكم» : الحقيقة في اللغة : ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه ، والمجاز بخلاف ذلك ، وحكاه في «المحصول» عن ابن جني.

البحر المحيط للزركشي ٢ / ١٥٢ ، سلاسل الذهب له ص ١٨٢ ، التمهيد للإسنوي ص ١٨٥ ، نهاية السول له ٢ / ١٤٥ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ٣٢٧ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٤٦ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ٢٢١ ، المستصفى للغزالي ١ / ٣٤١ ، حاشية البناني ١ / ٣٠٠ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ٢٧١ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٢ / ١٥٢ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص ٦٨ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٣٩٣ ، المعتمد لأبي الحسين ١ / ١٤ ، ٢ / ٤٠٥ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٤ / ٤٣٧ ، التحرير لابن الهمام ص ١٦٠ ، تيسير ـ

٣٢

وقال ابن عطيّة (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله تعالى : (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [الأنعام : ٦] فجعله معنى ، وليس بواضح وقيل : القرن : النّاس المجتمعون كما تقدّم ، قلّت السّنون أو كثرت ، واستدلّوا بقوله عليه الصلاة والسلام : «خير القرون قرني» وبقوله : [مجزوء الكامل]

٢١١٠ ـ في الذّاهبين الأوّلي

ن من القرون لنا بصائر (٢)

وبقول القائل في ذلك : [الطويل]

٢١١١ ـ إذا ذهب القوم الّذي كنت فيهم

وخلّفت في قرن فأنت غريب (٣)

فأطلقوه على النّاس ليفيد الاجتماع.

ثم اختلف النّاس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزّمان ، فالجمهور على أنّه مائة سنة ، واستدلّوا له بقوله عليه‌السلام : «تعيش قرنا» ، فعاش مائة سنة ، وقيل : مائة وعشرون سنة ، قاله إياس معاوية ، وزرارة بن أبي أوفى.

وقيل : ثمانون نقله أبو صالح (٤) عن ابن عبّاس.

وقيل : سبعون ؛ قاله الفرّاء (٥).

وقيل : ستّون لقوله عليه‌السلام : «معترك المنايا ما بين السّتّين إلى السّبعين» (٦).

وقيل : أربعون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النّبي عليه الصّلاة والسّلام ، وكذلك الزّهراوي أيضا يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : ثلاثون حكاه النّقّاش عن أبي عبيدة (٧) ، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة.

__________________

ـ التحرير لأمير بادشاه ١ / ٧٢ ، ٢ / ٢. كشف الأسرار للنسفي ١ / ٢٢٥ ، حاشية التفتازاني والشريف على المنتهى ١ / ١٣٨ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١ / ٧٢ ، حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين ص ٩٧ ، شرح مختصر المنار للكوراني ص ٥٨ ، الوجيز للكراماستي ص ٨ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٥٢٧ ، تقريب الوصول لابن جزي ص ٧٣ ، إرشاد الفحول للشوكاني ص ٢٥٠ ، نشر البنود للشنقيطي ١ / ٢١ ، الكوكب المنير للفتوحي ص ٣٩ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ٢ / ٢.

(١) ينظر تفسير ابن عطية ٢ / ٢٦٩ ، الدر المصون ٣ / ١٢.

(٢) تقدم.

(٣) البيت لأبي العتاهية ينظر : ديوانه (٣٤) ، اللسان (قرن) البحر ٤ / ٧١ ، القرطبي ٦ / ٢٥٢ ، الدر المصون ٣ / ١٢.

(٤) هو أبو صالح السمان ذكوان. ينظر : تهذيب الكمال ١٥ / ١٥٦.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢٨.

(٦) أخرجه الخطيب (٥ / ٤٧٦) والحكيم الترمذي كما في «كنز العمال» (٤٢٦٩٦) من حديث أبي هريرة.

(٧) ينظر مجاز القرآن ١ / ١٨٥ الدر المصون ٢ / ١٢.

٣٣

وقيل : عشرون سنة ، وهو رأي الحسن البصري.

وقيل : ثمانية عشر عاما (١).

وقيل : المقدار الوسط مثل أعمار أهل ذلك الزمان ، واستحسن هذا بأنّ أهل الزّمن القديم كانوا يعيشون أربعمائة سنة ، وثلاثمائة سنة ، وألفا وأكثر وأقلّ.

ومعنى الآية : أعطيناهم ما لم نعطكم.

وقال ابن عبّاس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود (٢).

قوله : (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) يعني المطر «مفعال» من الدّرّ و «مدرارا» حال من «السماء» إن أريد بها السحاب ، فإن السحاب يوصف بكثرة التّتابع أيضا.

قال ابن عبّاس : مدرارا متتابعا في أوقات الحاجات (٣) ، وإن أريد بها الماء فكذلك ، ويدلّ على أنه يراد به الماء قوله في الحديث : «في أثر سماء كانت من اللّيل» (٤) ويقولون : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، ومنه : [الوافر]

٢١١٢ ـ إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٥)

أي : رعينا ما ينشأ عنه ، وإن أريد بها هذه المظلّة ، فلا بدّ من حذف مضاف حينئذ ، أي : مطر السماء ، ويكون «مدرارا» حالا منه.

و «مدرار» مفعال للمبالغة كامرأة مذكار ومئناث.

قالوا : وأصله من «درّ اللّبن» وهو كثرة وروده على الحالب.

ومنه : «لا درّ درّه» في الدّعاء عليه بقلّة الخير.

وفي المثل «سبقت درّته غزاره» (٦) وهي مثل قولهم : «سبق سيله مطره» (٧) و «استدّرت المعزى» (٨) كناية عن طلبها الفحل.

__________________

(١) في أ : سنة.

(٢) ينظر تفسير الرازي (١٢ / ٣١).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨) عن ابن عباس وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ من طريق علي بن أبي طلحة عنه.

(٤) أخرجه أبو داود ٤ / ١٦ في كتاب الطبّ باب في النجوم حديث (٣٩٠٦).

(٥) البيت لمعود الحكماء معاوية بن مالك.

ينظر : اللسان (سمو) ، القرطبي ٦ / ٣٩٢ ، تأويل مشكل القرآن ١٣٥ ، الأصمعيات ٢١٤ ، الصاحبي ٦٣ ، معجم الشعراء ٣٩١ ، المفضليات ٣٥٩ ، الصناعتين ٢١٢ ، معجم مقاييس اللغة ٣ / ٩٨ ، العمدة ١ / ٢٣٧ ، معاهد التنصيص ٢ / ٢٦٠ ، الدر المصون ٣ / ١٢.

(٦) ينظر : مجمع الأمثال ٢ / ١١١ (١٧٩٦).

(٧) ينظر : مجمع الأمثال رقم (١٧٩٧).

(٨) استدرت المعزى : أرادت الفحل ؛ يقال للمعزى إذا أرادت الفحل : قد استدرت استدرارا ، وللضأن : قد ـ

٣٤

قالوا : لأنّها إذا طلبته حملت فولدت فدرّت.

قوله : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) إن جعلنا «جعل» تصييرية (١) كان «تجري» مفعولا ثانيا ، وإن جعلناها إيجاديّة كان حالا.

و (مِنْ تَحْتِهِمْ) يجوز فيه أوجه :

أن يكون متعلّقا ب «تجري» ، وهو أظهرها ، وأن يكون حالا ، إمّا من فاعل «تجري» ، أو من «الأنهار» ، وأن يكون مفعولا ثانيا ل «جعلنا» ، و «تجري» على هذا حال من الضمير في الجارّ ، وفيه ضعف لتقدّمها على العامل المعنويّ ، ويجوز أن يكون (مِنْ تَحْتِهِمْ) حالا من «الأنهار» كما تقدّم ، و «تجري» حال من الضمير المستكنّ فيه ، وفيه الضّعف المتقدّم (٢).

فصل

المراد من قوله : (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) كثرة البساتين ، والمعنى أنهم وجدوا من منافع الدّنيا أكثر مما وجده أهل «مكّة» المشرفة ، ثمّ مع هذه الزيادة في العزّ ، وكثرة العدد والبسطة في المال والجسم لمّا كفروا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم ، وهذا يوجب الاعتبار.

فإن قيل : ليس في هذا الكلام إلّا أنهم هلكوا إلّا أن الإهلاك غير مختصّ بهم ، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضا قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزّجر عن الكفر مع أنه يشترك فيه الكافر والمؤمن؟.

فالجواب : ليس المقصود منه الزّجر بمجرد الموت والهلاك ، بل المراد منه أنهم باعوا الدّين بالدنيا ؛ فعوقبوا بسبب الامتناع من الإيمان ، وهذا المعنى غير مشترك بين الكافر والمؤمن (٣).

فإن قيل : كيف قال : «أو (لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) مع أنّ القوم ماتوا مقرّين بصدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يخبر به عنه ، وأيضا فهم لم يشاهدوا وقائع الأمم السّالفة؟

فالجواب : أنّ [أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم ، ومجرد سماعها يكفي في الإعتبار.

فإن قيل : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟

فالجواب : أن](٤) فائدته التّنبيه أنّه لا يتعاظمه إهلاكهم وإخلاء بلادهم منهم ، فإنه قادر على إنشاء آخرين مكانهم يعمّر بهم بلاده ، كقوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها) [الشمس : ١٥].

__________________

ـ استوبلت استيبالا ، ويقال أيضا : استذرت المعزى استذراء من المعتل ، بالذال المعجمة ، اللسان : «درر» ١٣٥٨.

(١) في ب : تفسيرية.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٣.

(٣) ينظر : الرازي ٢ / ١٣٢.

(٤) سقط في أ.

٣٥

و (مِنْ بَعْدِهِمْ) متعلّق ب «أنشأنا».

قال أبو البقاء (١) : ولا يجوز أن يكون حالا من «قرن» ؛ لأنه ظرف زمان يعني : أنه لو تأخّر عن قرن لكان يتوهّم جواز كونه صفة له ، فلما قدّم عليه قد يوهم أن يكون حالا منه ؛ لكنه منع ذلك كونه ظرف زمان والزّمان لا يخبر به عن الحدث ولا يوصف ، وقد تقدّم أنه يصحّ ذلك بتأويل في «البقرة» عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] و «آخرين» صفة ل «قرن» ؛ لأنه اسم جمع ك «قوم» و «رهط» ، فلذلك اعتبر معناه ، ومن قال : إنّه الزّمان قدّر مضافا ، أي : أهل قرن آخرين ، وقد تقدّم أنّه مرجوح ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)(٧)

قال الكلبي (٢) ومقاتل : نزلت هذه الآية في النّضر بن الحرث (٣) ، وعبد الله بن أبي أميّة ، ونوفل بن خويلد قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند الله ، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون معه أنّه من عند الله ، وأنّك رسوله ، فأنزل الله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) مكتوبا من عنده (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي : عاينوه ومسّوه بأيديهم ، وذكر اللّمس ولم يذكر المعاينة ، لأن اللّمس أبلغ في إيقاع العلم من الرؤية ، ولأنّ السّحر يجري على المرئي ، ولا يجري على الملموس (٤).

قوله : (فِي قِرْطاسٍ) يجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنه صفة ل «كتاب» ، سواء أريد ب «كتاب» المصدر ، أم الشيء المكتوب ، ويجوز أن يتعلّق بنفس «كتابا» ، سواء أريد به المصدر ، أم الشّيء المكتوب ، ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله : [الطويل]

٢١١٣ ـ .......... صحيفة

أتتك من الحجّاج يتلى كتابها (٥)

ومن النّاس من جعل «كتابا» في الآية الكريمة مصدرا ؛ لأن نفس الكتب لا توصف بالإنزال إلّا بتجوّز بعيد ، ولكنهم قد قالوا هنا ويجوز أن يتعلّق (فِي قِرْطاسٍ) ب «نزّلنا».

والقرطاس : الصّحيفة يكتب فيها تكون من رقّ وكاغد (٦) ، بكسر القاف وضمها ، والفصيح الكسر ، وقرىء (٧) بالضّم شاذّا نقله أبو البقاء (٨) ـ رحمه‌الله تعالى ـ.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٦.

(٢) في أ : القرطبي وينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢٥٣.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٥٣) عن الكلبي.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٢.

(٥) تقدم.

(٦) الكاغد : القرطاس معّرب. ينظر : ترتيب القاموس ٤ / ٦٢ ، اللسان (كغد) (٣٨٩٢).

(٧) ينظر : الشواذ ص ٤٢.

(٨) ينظر : الإملاء ١ / ٣٣٦.

٣٦

والقرطاس : اسم أعجميّ معرّب ، ولا يقال : قرطاس إلّا إذا كان مكتوبا ، وإلّا فهو طرس (١) وكاغد ، وقال زهير : [البسيط]

٢١١٤ ـ لها أخاديد من آثار ساكنها

كما تردّد في قرطاسه القلم (٢)

قوله : «فلمسوه» الضمير المنصوب يجوز أن يعود على «القرطاس» ، وأن يعود على «كتاب» بمعنى مكتوب.

و «بأيديهم» متعلّق ب «لمس».

و «الباء» للاستعانة كعملت بالقدّوم. و «لقال» جواب «لو» ، جاء على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام.

قوله : «إن هذا» [و](٣) «إن» نافية ، و «هذا» مبتدأ ، و «إلّا سحر» خبره ، فهو استثناء مفرّغ ، والجملة المنفيّة في محلّ نصب بالقول ، وأوقع الظّاهر موقع المضمر في قوله : (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) شهادة عليهم بالكفر ، والجملة الامتناعيّة لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها.

ومعنى الآية الكريمة : أنّه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ(٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)(٩)

وهذه شبهة ثالثة (٤) من شبه منكري النّبوة ، فإنهم يقولون : لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرّسول من الملائكة ؛ لأن الملك أكثر علما وأشدّ قدرة ومهابة ، والشّك في رسالته قليل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهمّ ، فإنما يستعين في تحصيله بمن هو أقدر على تحصيله ، وإذا كان وقوع الشّبهات في نبوّة الملائكة أقلّ وجب إن بعث الله رسولا إلى الخلق أن يكون ذلك الرّسول من الملائكة.

قوله : «وقالوا : لو لا» الظّاهر أنّ هذه الجملة مستأنفة سيقت للإخبار عنهم لفرط تعنّتهم وتصلّبهم في كفرهم.

قيل : ويجوز أن تكون معطوفة على جواب «لو» ، أي : لو نزّلنا عليك كتابا لقالوا كذا وكذا ، ولقالوا : لو أنزل عليه ملك.

وجيء بالجواب على أحد الجائزين ، أعني حذف «اللام» من المثبت ، وفيه بعد ؛

__________________

(١) الطّرس : الصحيفة ، ويقال : هي التي محيت ثم كتبت ، وقال ابن سيده : الطرس الكتاب الذي محي ثم كتب. ينظر : اللسان : (طرس) (٢٦٥٥).

(٢) ينظر : البحر ٤ / ٧١ ، الدر المصون ٣ / ١٤.

(٣) سقط في أ.

(٤) في ب : ثانية.

٣٧

لأن قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ) ليس مترتّبا على قوله : «لو لا نزّلنا» و «لو لا» هنا تحضيضيّة ، والضمير في «عليه» الظّاهر عوده على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : يجوز أن يعود على الكتاب أو القرطاس.

والمعنى : لو لا أنزل مع الكتاب ملك يشهد بصحّته ، كما يروى في القصّة أنه قيل له : لن نؤمن لك حتى تعرج (١) فتأتي بكتاب ، ومعه أربعة ملائكة يشهدون ، فهذا يظهر على رأي من يقول : إنّ الجملة من قوله : (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ) معطوفة على جواب «لو» ، فإنّه يتعلّق به من حيث المعنى حينئذ.

فصل في دحض شبهة منكري النبوة

واعلم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أجاب عن هذه الشّبهة بوجهين :

أحدهما : قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ومعنى القضاء : الإتمام والإلزام ، والمعنى : ولو أنزلنا ملكا لم يؤمنوا ، وإذا لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب ، وهذه سنّة الله تعالى في الكفّار.

والوجه الثاني : أنّهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ؛ لأنّ الآدمي إذا رأى الملك ، فإمّا أن يراه على صورته الأصليّة ، أو على صورة البشر ، فإن رآه على صورته الأصليّة غشي عليه ، وإن رآه على صورة البشر ، فحينئذ يكون المرئيّ شخصا على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه ، سواء كان هو ملكا أو بشرا ، ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط ، وخصّهم داود وجبريل حيث تخيّل لمريم بشرا سويا.

واعلم أنّ عدم إرسال الملك فيه مصالح :

أحدها : أن رؤية إنزال الملك على البشر آية قاهرة (٢) ، فبتقدير نزوله على الكفّار ، فربّما لم يؤمنوا ، كما قال الله تبارك وتعالى (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) إلى قوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] ، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال(٣).

وثانيها : ما ذكرنا من عدم قدرتهم على رؤية الملائكة.

وثالثها : أنّ إنزال الملك معجزة قاهرة جارية مجرى الإلجاء ، وإزالة الاختيار ، وذلك يخلّ بمصلحة التكليف.

ورابعها : أنّ إنزال الملك وإن كان يدفع الشّبهات من الوجوه المذكورة ، لكنّه يقوّي الشّبهة من هذه الوجوه (٤).

__________________

(١) في ب : تفجر ، وعليه تكون آية الإسراء.

(٢) في أ : ظاهرة وفي الرازي ١٢ / ١٣٤ باهرة.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٣٤.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٣٤.

٣٨

والمراد من قوله تعالى : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) فالفائدة في «ثم» التنبيه على أنّ عدم الإنظار أشدّ من مضيّ الأمر ؛ لأن المفاجئة أشدّ من نفس الشدة.

قال قتادة : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ثمّ لم يؤمنوا لعجّل لهم العذاب ولم يؤخّر طرفة عين.

وقال مجاهد : (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، أي : لقامت القيامة (١).

وقال الضحّاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا (٢).

قوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) يعني : لو أرسلناه إليهم ملكا لجعلناه رجلا يعني في صورة رجل آدمي ؛ لأنهم لا يستطيعون النّظر إلى الملائكة ، كان جبريل عليه‌السلام يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية الكلبي وجاء الملكان إلى داود عليه‌السلام في صورة رجلين ، ولأن الجنس إلى الجنس أميل وأيضا فإنّ طاعة الملائكة قويّة ، فيستحقرون طاعات البشر ، وربّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي.

قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) في «ما» قولان :

أحدهما : أنها موصولة بمعنى «الذي» ، أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم ، أو على غيرهم ، قاله أبو البقاء (٣) ـ رحمه‌الله تعالى ـ وتكون «ما» حينئذ مفعولا بها.

الثاني : أنّها مصدريّة ، أي : وللبسنا عليهم مثل ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم ، والمعنى شبّهوا على ضعفائهم فشبّه عليهم.

قال ابن عباس : هم أهل الكتاب ، فرّقوا دينهم وحرّفوا الكلم عن مواضعه ، فلبس الله عليهم ما يلبسون (٤).

وقرأ ابن (٥) محيصن : «ولبسنا» بلام واحدة هي فاء الفعل ، ولم يأت بلام في الجواب اكتفاء بها في المعطوف عليه.

وقرأ الزهري (٦) : «وللبّسنا» بلامين وتشديد الفعل على التّكثير.

قال الواحدي (٧) : يقال : لبّست الأمر على القوم ألبّسه لبسا إذا شبّهته عليهم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٥١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٨) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ١٥٢) من طريق الضحاك عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٩) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٥٣) عن ابن عباس.

(٥) ينظر : الشواذ ٤٢ ، البحر المحيط ٤ / ٨٤ ، الكشاف ٢ / ٨ ، الدر المصون ٣ / ١٤.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٨ ، البحر المحيط ٤ / ٨٤ ، الدر المصون ٣ / ١٤.

(٧) ينظر : الرازي ١٢ / ١٣٤.

٣٩

وجعلته مشكلا ، وأصله من التّستّر بالثوب ، ومنه لبس الثوب ؛ لأنه يفيد ستر النفس ، والمعنى : إذا جعلنا الملك في صورة البشر ، فهم يظنون أن ذلك الملك بشرا ، فيعود سؤالهم أنّا لا نرضى برسالة هذا الشّخص ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١٠)

قرأ حمزة (١) ، وعاصم ، وأبو عمرو بكسر الدّال على أصل التقاء السّاكنين ، والباقون (٢) بالضم على الإتباع ، ولم يبال بالساكن ؛ لأنه حاجز غير حصين وقد تقرّرت هذه القاعدة بدلائلها في سورة «البقرة» عند قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ) [الآية ١٧٣] و «برسل» متعلّق ب «استهزىء» و «من قبلك» صفة ل «رسل» ، وتأويله ما تقدّم في وقوع «من قبل» صلة (٣).

والمراد من الآية : التّسلية لقلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : أن هذه الأنواع الكثيرة التي يعاملونك بها كانت موجودة في سائر القرون.

قوله : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا) ، فاعل «حاق» : «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية ، والعائد «الهاء» في «به» ، و «به» يتعلّق ب «يستهزئون» ، و «يستهزئون» خبر ل «كان» ، و «منهم» متعلّق ب «سخروا» على أنّ الضمير يعود على الرّسل ، قال تبارك وتعالى : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) [هود : ٣٨].

ويجوز أن يتعدّى بالباء نحو : سخرت به ، ويجوز أن يتعلّق «منهم» بمحذوف على أنّه حال من فاعل «سخروا» والضمير في «منهم» يعود على الساخرين.

وقال أبو البقاء (٤) : «على المستهزئين».

وقال الحوفي (٥) : «على أمم الرسل».

وقد ردّ أبو حيّان على الحوفي بأنه يلزم إعادته على غير مذكور.

وجوابه أنه في قوة المذكور ، وردّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى : فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين ، فلا حاجة إلى هذه الحال ؛ لأنها مفهومة من قوله : «سخروا» وجوّزوا أن تكون «ما» مصدريّة ، ذكره أبو حيّان ولم يتعرض (٦) للضمير في «به».

__________________

(١) ينظر : السبعة ١٧٤ ، النشر ٢ / ٢٤٧ ، البحر المحيط ٤ / ٨٥ ، الدر المصون ٣ / ١٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٥ ، الدر المصون ٣ / ١٤.

(٣) في أ : صفة.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٣٦ والدر المصون ٣ / ١٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٥ الدر المصون ٣ / ١٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨٥.

٤٠