اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

قوله : (عَلى قَوْمِهِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «آياتنا» قاله ابن عطيّة (١) والحوفي ، أي : أظهرناها لإبراهيم على قومه.

والثاني : أنها متعلّقة بمحذوف ؛ على أنها حال ، أي : آتيناها إبراهيم حجّة على قومه ، أو دليلا على قومه ، كذا قدّره أبو البقاء (٢) ، ويلزم من هذا التّقدير أن تكون حالا مؤكّدة ؛ إذ التّقدير : وتلك حجّتنا آتيناها له حجّة.

وقدّره أبو حيّان (٣) على حذف مضاف ، فقال : أي : آتيناها إبراهيم مستعلية على حجج قومه قاهرة لها وهذا أحسن.

ومنع أبو البقاء (٤) أن تكون متعلّقة ب «حجتنا» قال : لأنها مصدر و «آتيناها» خبر أو حال ، وكلاهما لا يفصل به بين الموصول وصلته.

ومنع أبو حيّان (٥) ذلك أيضا ، ولكن لكون الحجّة ليست مصدرا.

قال : إنما هو الكلام المؤلّف للاستدلال على الشيء ، ثم قال : ولو جعلناها مصدرا لم يجز ذلك أيضا ؛ لأنه لا يفصل بالخبر ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدر ومطلوبه.

وفي منعه ومنع أبي البقاء ذلك نظر ؛ لأنّ الحال وإن كانت جملة ليست أجنبيّة حتّى يمنع الفصل بها ؛ لأنها من جملة مطلوبات المصدر ، وقد تقدّم نظير ذلك بأشبع من هذا.

قوله : «نرفع» فيه وجهان :

الظاهر منهما : أنها مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب.

الثاني : ـ جوّزه أبو البقاء (٦) ، وبدأ به ـ أنها في موضع الحال من «آتيناها» يعني من فاعل«آتيناها» ، أي : في حال كوننا رافعين ، ولا تكون حالا من المفعول ؛ إذ لا ضمير فيها يعود إليه.

ويقرأ «نرفع» (٧) بنون العظمة ، وبياء الغيبة (٨) ، وكذلك «نشاء» وقرأ أهل الكوفة (٩) : «درجات» بالتّنوين ، وكذلك التي في يوسف [آية ٧٦] والباقون (١٠) بالإضافة فيهما ، فقراءة الكوفيين يحتمل نصب «درجات» فيها من خمسة أوجه :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٦.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٠.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٤.

(٨) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، حجة أبي زرعة ص (٢٥٨) ، الدر المصون ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٩) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، الدر المصون ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(١٠) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦ ، حجة أبي زرعة ص (٢٥٨) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٠ ، النشر ٢ / ٢٦٠.

٢٦١

أحدها : أنها منصوبة على الظّرف ، و «من» مفعول «نرفع» ؛ أي : نرفع من نشاء مراتب ومنازل.

والثاني : أن ينتصب على أنه مفعول ثان قدّم على الأوّل ، وذلك يحتاج إلى تضمين «نرفع» معنى فعل يتعدّى لاثنين ، وهو «نعطي» مثلا ، أي : نعطي بالرفع من نشاء درجات ، أي : رتبا ، فالدّرجات هي المرفوعة لقوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) [غافر : ١٥].

وفي الحديث : «اللهمّ ارفع درجته في علّيّين» ، وإذا رفعت الدرجة فقد رفع صاحبها.

والثالث : ينتصب على حذف حرف الجرّ ؛ أي : إلى منازل ، أو إلى درجات.

الرابع : أن ينتصب على التّمييز ، ويكون محوّلا من المفعوليّة ، فتؤول إلى قراءة الجماعة (١) ؛ إذ الأصل : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالإضافة ، ثمّ حوّل كقوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] ، أي : عيون الأرض.

الخامس : أنها منتصبة على الحال ، وذلك على حذف مضاف ، أي : ذوي درجات ، ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥] ، (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ) [الزخرف : ٣٢] (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى) [البقرة : ٢٥٣].

وأما قراءة الجماعة (٢) : ف «درجات» مفعول «نرفع».

فصل في معنى الدرجات

قيل : الدّرجات درجات أعماله في الآخرة.

وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة ؛ لأنها توجب الثّواب العظيم.

وقيل : نرفع درجات من نشاء بالعلم والفهم والفضيلة والعقل ، كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهتدى. والخطاب في «إنّ ربّك» للرّسول محمد عليه الصلاة والسلام.

وقيل : للخليل إبراهيم ، فعلى هذا يكون فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب منبّها بذلك على تشريف له وقوله : (حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ؛ أي : إنما نرفع درجات من نشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشّهوة والمجازفة ، فإن أفعال الله ـ تعالى ـ منزّهة عن العبث.

قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٢) الدر المصون ٣ / ١١٤.

٢٦٢

(٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٨٨)

في «وهبنا» وجهان :

أصحهما : أنها معطوفة على الجملة الاسمية من قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) وعطف الاسميّة على الفعلية وعكسه جائز.

والثاني : أجازه ابن عطيّة (١) ، وهو أن يكون نسقا على «آتيناها» ، وردّه أبو حيّان (٢) بأن «آتيناها» لها محلّ من الإعراب ، إمّا الخبر وإمّا الحال ، وهذه لا محلّ لها ؛ لأنها لو كانت معطوفة على الخبر أو الحال لاشترط فيها رابط ، و «كلّا» منصوب ب «هدينا» بعده. والتقدير : وكلّ واحد من هؤلاء المذكورين.

فصل في المراد بالهداية

اختلفوا في المراد بهذه الهداية ، وكذا في قوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) وقوله في آخر الآيات (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) قال بعض المحقّقين (٣) : المراد بهذه الهداية الثّواب العظيم ، وهو الهداية إلى طريق الجنّة ؛ لقوله بعده (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وجزاء المحسنين هو الثواب ، وأمّا الإرشاد إلى الدين ، فلا يكون جزاء على عمله.

وقيل : لا يبعد أن يكون المراد الهداية إلى الدّين ، وإنما كان جزاء على الإحسان الصادر منهم ؛ لأنهم اجتهدوا في طلب الحقّ ، فالله ـ تعالى ـ جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحقّ ، كقوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

وقيل : المراد بهذه الهداية الإرشاد إلى النّبوّة والرسالة ؛ لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلّا ذلك.

فإن قيل : لو كان كذلك لكان قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يقتضي أن تكون الرّسالة جزاء على عمل ، وذلك باطل.

فالجواب أنّ قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يحمل على الجزاء الذي هو الثّواب ، فيزول الإشكال.

واعلم أنّه ـ تعالى ـ لمّا حكى عن إبراهيم أنه أظهر حجّة الله في التوحيد ، وذبّ عنها عدّد وجوه نعمه وإحسانه إليه.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٧٦.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٤.

٢٦٣

فأوّلها : قوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) أي : نحن آتيناه تلك الحجّة ، وهديناه إليها ، وأفقنا عقله على حقيقتها ، وذكر نفسه باللفظ الدّالّ على العظمة [وذلك يوجب] أن تكون تلك النعمة عظيمة.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ خصّه بالرّفعة إلى الدّرجات العالية ، وهو قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ).

وثالثها : أنه ـ تعالى ـ جعله عزيزا في الدّنيا ؛ لأنه جعل للأنبياء والدا ، والرّسل من نسله ومن ذرّيّته ، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة فقال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) لصلبه و «يعقوب» بعده من إسحاق.

فإن قيل : لم لم يذكر إسماعيل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ مع إسحاق ، بل أخّر ذكره [عنه](١) بدرجات؟

فالجواب : أن المقصود بالذّكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق.

وأمّا إسماعيل فإنه لم يخرج من صلبه نبيّ إلّا محمد عليه الصّلاة والسّلام ، [ولا يجوز ذكر محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا المقام ؛ لأنه تعالى أمر محمدا](٢) أن يحتجّ على العرب في نفي الشّرك بالله بأنّ إبراهيم لمّا ترك الشرك وأصرّ على التّوحيد رزقه الله النّعم العظيمة في الدنيا بأن آتاه أولادا كانوا أنبياء وملوكا ، فإذا كان المحتج بهذه الحجّة هو محمد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ امتنع أن يذكر في هذا المعرض.

فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق.

قوله : (وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) فالمراد أنّه ـ تعالى ـ جعل إبراهيم في أشرف الأنساب ؛ لأنه رزقه أولادا مثل إسحاق ويعقوب ، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما ، وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل «نوح» و «شيث» و «إدريس» ، والمقصود بيان كرامة إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ بحسب الأولاد والآباء.

قوله : (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) «الهاء» فيها وجهان :

أحدهما : أنها تعود على نوح ؛ لأنه أقرب مذكور ، ولأنّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم منسوبون إليه ، [ولأنه ذكر من جملتهم لوطا ، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته ، ذكره مكّي وغيره ، وما كان من ذرّيّته ، بل كان من ذرّيّة نوح عليه‌السلام ، وكان رسولا في زمن إبراهيم.

وأيضا : يونس ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ما كان من ذرّيّة إبراهيم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٢٦٤

وأيضا قيل : إنّ ولد الإنسان لا يقال : إنّه ذرّيّة ، فعلى هذا إسماعيل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان من ذرّيّة إبراهيم](١).

الوجه الثاني : أنها تعود على إبراهيم ؛ لأنه المحدث عنه والقصّة مسوقة إلى ذكره وخبره ، وإنما ذكر نوحا ، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رفعه إبراهيم.

ولكن ردّ هذا القول بما تقدّم من كون لوط ليس من ذرّيّته إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي (٢) وغيره.

وقد أجيب عن ذلك ، فقال ابن عباس : هؤلاء الأنبياء كلهم مضافون إلى ذرّيّة إبراهيم ، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادة من قبل أمّ ولا أب ؛ لأن لوطا ابن أخي إبراهيم ، والعرب تجعل العمّ أبا ، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عن ولد «يعقوب» أنهم قالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣].

وقال أبو سليمان الدّمشقيّ : «ووهبنا له لوطا» في المعاضدة والمناصرة ، فعلى هذا يكون «لوطا» منصوبا ب «وهبنا» من غير قيد ؛ لكونه من ذرّيّته.

وقوله : «داود» وما عطف عليه منصوب إما بفعل الهبة ، وإما بفعل الهداية.

و (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ) يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف ، وتكون «من» لابتداء الغاية.

والثاني : أنها حال أي : حال كون هؤلاء الأنبياء منسوبين إليه.

قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي) الكاف في محلّ نصب نعتا لمصدر محذوف ، أي : نجزيهم جزاء مثل ذلك الجزاء ، ويجوز أن يكون في محلّ رفع ، أي الأمر كذلك ، وقد تقدّم ذلك في قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ).

ومعنى «كذلك» أي : كما جزينا إبراهيم على توحيده بأن رفعنا درجته ، ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم.

فصل في بيان نسب بعض الأنبياء

«داود» ابن إيشا.

و «سليمان» هو ابنه.

و «أيوب» ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم.

و «يوسف» ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.

و «موسى» ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.

و «هارون» أخو موسى أكبر منه بسنة ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : المشكل ٢٧٥.

٢٦٥

واعلم أنه ـ تعالى ـ ذكر أوّلا أربعة من الأنبياء ، وهم : «نوح» و «إبراهيم» و «إسحاق» و «يعقوب» ، ثم ذكر من ذرّيّتهم أربعة عشر من الأنبياء : «داود» ، و «سليمان» ، و «أيّوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» ، و «زكريا» ، و «يحيى» ، و «عيسى» ، و «إلياس» ، و «إسماعيل» ، و «إليسع» ، و «يونس» ، و «لوطا».

فإن قيل : رعاية التّرتيب واجبة ، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة ، وإما أن يعتبر بحسب الزمان ، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السّبب فيه؟

فالجواب أن «الواو» لا توجب التّرتيب ، وهذه الآية أحد الدلائل على صحّة هذا المطلوب.

قوله : «وزكريا» هو ابن إدّ وبرخيّا و «يحيى» هو ابنه و «عيسى» هو ابن مريم ابنة عمران.

واستدلّ بهذه الآية على أن الحسن والحسين من ذرّيّة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأن الله ـ تعالى ـ جعل عيسى من ذرّيّة إبراهيم ، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلّا بالأمّ ، فكذلك الحسن والحسين ويقال : إن أبا جعفر الباقر استدلّ بهذه الآية عند الحجّاج بن يوسف الثقفي (١).

فصل فيما يستفاد من الآية

قال أبو حنيفة والشافعي : من وقف (٢) على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بناته أيضا ما تناسلوا ، وكذلك في الوصيّة للقرابات يدخل فيه ولد البنات ، والقرابة عند أبي حنيفة كلّ ذي رحم محرم ، ويسقط عنده ابن العمّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة ؛ لأنهم ليسوا بمحرمين.

وقال الشافعي رحمه‌الله تعالى : القرابة كلّ ذي رحم محرم وغيره ، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك : لا يدخل في ذلك ولد البنات (٣).

وإذا قال : لقرابتي وعقبي فهو كقوله : لولدي وولد ولدي (٤).

قوله : «وإلياس» قال ابن مسعود : هو إدريس وله اسمان مثل «يعقوب» و «إسرائيل» ، والصحيح أنه غيره ؛ لأن ـ تعالى ـ ذكره في ولد نوح ، وإدريس جد أبي نوح ، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران (كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقوله : «وإسماعيل» هو ابن إبراهيم.

و «إليسع» [وهو ابن أخطوب بن العجوز](٥).

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٥.

(٢) ينظر : القرطبي ٧ / ٢٢.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٢٣.

(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٧ / ٢٣.

(٥) سقط في ب.

٢٦٦

قرأ الجمهور (١) «اليسع» بلام واحدة وفتح الياء بعدها.

وقرأ الأخوان (٢) : اللّيسع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها ، فقراءة الجمهور فيها تأويلان :

أحدهما : أنه منقول من فعل مضارع ، والأصل : «يوسع» ك «يوعد» ، فوقعت الواو بين ياء وكسرة تقديرية ؛ لأن الفتحة جيء بها لأجل حرف الحلق ، فحذفت لحذفها في «يضع» و «يدع» و «يهب» وبابه ، ثم سمي به مجرّدا عن ضمير ، وزيدت فيه الألف واللام على حدّ زيادتها في قوله : [الطويل]

٢٢٢٨ ـ رأيت الوليد بن اليزيد مباركا

شديدا بأغباء الخلافة كاهله (٣)

وكقوله : [الرجز]

٢٢٢٩ ـ باعد أمّ العمر من أسيرها

حرّاس أبواب على قصورها (٤)

وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدّر تنكيره.

والثاني : أنه اسم أعجميّ لا اشتقاق له ؛ لأن «اليسع» يقال : إنه يوشع بن نون فتى موسى ، فالألف واللام فيه زائدتان ، أو معرفتان كما تقدم.

وهل «أل» لازمة له على تقدير زيادتها؟

فقال الفارسيّ : إنها لازمة شذوذا ، كلزومها في «الآن».

وقال ابن مالك : «ما قارنت الأداة نقله كالنّضر والنّعمان ، أو ارتجاله كاليسع والسموءل ، فإنّ الأغلب ثبوت أل فيه وقد تحذف».

وأما قراءة الأخوين (٥) ، فأصله ليسع ، ك «ضيغم وصيرف» وهو اسم أعجميّ ، ودخول الألف واللام فيه على الوجهين المتقدمين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٥ ـ ١١٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢١ ، الحجة لأبي زرعة ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، السبعة ٢٦٢ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، التبيان ١ / ٥١٦ ، الزجاج ٢ / ٢٦٩ ، المشكل ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، إعراب القراءات السبع ١ / ١٦٣ ، روح المعاني ٧ / ٢١٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١٧٨ ، البحر المحيط ٤ / ١١٥ ـ ١١٦ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢١ ، الحجة لأبي زرعة ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، السبعة ٢٦٢ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، التبيان ١ / ٥١٦ ، الزجاج ٢ / ٢٦٩ ، المشكل ١ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، إعراب القراءات السبع ١ / ١٦٣ ، الفراء ١ / ٣٤٢ ، الأخفش ٢ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٤) ، البيان ١ / ٢٣٠ ، الرازي ١٣ / ٦٦.

(٣) البيت لابن ميادة وهو الرماح بن أبرد.

ينظر : الإنصاف ١ / ٣١٧ ، ابن يعيش ٤٤١ ، الخزانة ٢ / ٢٢٦ ، المغني ١ / ٥٢ ، معاني الفراء ١ / ٣٤٢ الدر المصون ٣ / ١١٦.

(٤) البيت لأبي النجم العجلي.

ينظر : المقتضب ٤ / ٤٩ ، الإنصاف ١ / ٣١٧ ، لسان العرب (وبر) ، همع الهوامع ١ / ٨٠ ، المنصف ٣ / ١٣٤ ، المغني ١ / ٥٢ ، الدر المصون ٣ / ١١٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٦ والبحر المحيط ٤ / ١٧٨.

٢٦٧

واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف ، فقال : «سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث : اليسع ولم يسمّه أحد منهم اللّيسع» ، وهذا لا حجّة فيه ؛ لأنه روى اللفظ بأحد لغتيه ، وإنما آثر الرّواة هذه اللفظة لخفّتها لا لعدم صحّة الأخرى.

وقال الفراء (١) في قراءة التشديد : «هي أشبه بأسماء العجم».

قوله «يونس» : هو يونس بن متى ، وقد تقدم أن فيه ثلاث لغات [النساء : ١٦٣] وكذلك في سين «يوسف» وقوله : «ولوطا» وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم.

قوله : (وَكلًّا فَضَّلْنا) كقوله : (كُلًّا هَدَيْنا).

قوله (عَلَى الْعالَمِينَ) استدلّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ؛ لأن «العالم» اسم لكل موجود سوى الله ـ تعالى ـ فيدخل فيه الملائكة. وقال بعضهم (٢) : معناه فضّلناهم على عالمي زمانهم.

قوله : (وَمِنْ آبائِهِمْ) «آبائهم» : فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق بذلك الفعل المقدر ، أي : وهدينا من آبائهم ، أو فضّلنا من آبائهم ، و «من» تبعيضيّة قال ابن عطية (٣) : «وهدينا من آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم جماعات» ، ف «من» للتبعيض ، والمفعول محذوف.

الثاني : أنه معطوف على «كلّا» ، أي : وفضّلنا بعض آبائهم.

وقدّر أبو البقاء (٤) هذا الوجه بقوله : «وفضلنا كلّا من آبائهم ، وهدينا كلّا من آبائهم». وإذا كانت للتّبعيض دلّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين.

وقوله : «وذرّيّاتهم» ، أي : وذرّيّة بعضهم ، لأن «عيسى» و «يحيى» لم يكن لهما ولد ، وكان في ذرية بعضهم من كان كافرا.

وقوله : (وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ) يجوز أن يعطف على «فضّلنا» ، ويجوز أن يكون مستأنفا وكرر لفظ الهداية توكيدا ، ولأن الهداية أصل كل خير ، والمعنى : اصطفيناهم ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم.

قوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) المشار إليه هو المصدر المفهوم من الفعل قبله ؛ إما الاجتباء ، وإما الهداية ؛ أي : ذلك الاجتباء هو هدى ، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله ، ويجوز أن يكون (هُدَى اللهِ) خبرا ، وأن يكون بدلا من «ذلك» والخبر (يَهْدِي بِهِ) ، وعلى الأول يكون «يهدي» حالا ، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ، و (مِنْ عِبادِهِ) تبيين أو حال ؛ إما من «من» وإما من عائده المحذوف.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٤٢.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٨.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥١.

٢٦٨

فصل في تحرير معنى الهداية

يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله ـ تعالى ـ وتنزيهه عن الشرك ؛ لقوله تعالى بعده : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإيمان لا يحصل إلّا بخلق الله تعالى.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)(٩٠)

(أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : الكتب المنزّلة عليهم ، و «الحكم» يعني العلم والفقه ، و «النبوة». والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ، ويحتمل أن يكون المراد ب (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : الفهم التّامّ لما في الكتاب ، والإحاطة بحقائقه ، وهذا هو الأولى ؛ لأن الثمانية عشر لم ينزل على كل واحد منهم كتابا إلهيا على التعيين.

قوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) هذه «الهاء» تعود على الثلاثة الأشياء ، وهي : الكتاب والحكم والنبوة ، وهو قول الزمخشري.

وقيل : يعود على «النبوة» فقط ؛ لأنها أقرب مذكور ، والباء في قوله : (لَيْسُوا بِها) متعلّقة بخبر «ليس» ، وقدم على عاملها ، والباء في «بكافرين» زائدة توكيدا.

فصل في معنى الآية

معنى قوله : (يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) يعني أهل «مكة» (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ؛ قال ابن عباس : المراد بالقوم الأنصار ، وأهل «المدينة» ، وهو قول مجاهد (١).

وقال قتادة والحسن : يعني الأنبياء الثمانية عشر (٢).

قال الزجاج (٣) : ويدلّ عليه قوله بعد هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

وقال أبو رجاء العطاردي (٤) فإن يكفر بها أهل الأرض ، فقد وكّلنا بها أهل السماء ، يعني الملائكة ، وهو بعيد ؛ لأن اسم القوم كلّ ما يقع على غير بني آدم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٦٠) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٢) عن قتادة وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٦٠).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٣ / ٥٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٢٦٩

وقال مجاهد : هم الفرس (١).

وقال ابن زيد : كل من لم يكفر ، فهو منهم ، سواء كان ملكا ، أو نبيّا ، أو من الصحابة ، أو من التابعين (٢).

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) «أولئك» مفعول مقدّم ل (هَدَى اللهُ) ويضعف جعله مبتدأ على حذف العائد ، أي : هداهم الله كقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة: ٥٠] برفع «حكم» [والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم](٣).

قوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) قرأ (٤) الأخوان بحذف الهاء في الوصل والباقون أثبتوها (٥) وصلا ووقفا ، إلا أن ابن عامر بكسرها ، ونقل ابن ذكوان عنه (٦) وجهين :

أحدهما : الكسر من غير وصل بمدة ، والباقون (٧) بسكونها. أما في الوقف فإن القراء اتّفقوا على إثباتها ساكنة واختلفوا في «ماليه» و «سلطانيه» في «الحاقّة» وفي «ماهيه» في «القارعة» بالنسبة إلى الحذف والإثبات ، واتفقوا على إثباتها في «كتابيه» و «حسابيه» فأما قراءة الأخوين (٨) ، فالهاء عندهما للسّكت ، فلذلك حذفاها وصلا ؛ إذ محلها الوقف ، وأثبتاها وقفا إتباعا لرسم المصحف ، وأما من أثبتها ساكنة ، فيحتمل عنده وجهين :

أحدهما : هي هاء سكت ، ولكنها ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف ، كقوله : (لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ) [البقرة : ٢٥٩] في أحد الأقوال كما تقدم.

والثاني : أنها ضمير المصدر سكّنت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف ، نحو : (نُؤْتِهِ) [آل عمران : ١٤٥] و (فَأَلْقِهْ) [النمل : ٢٨٨] و (أَرْجِهْ) [الأعراف : ١١١] ، و (نُوَلِّهِ) [النساء : ١١٥] (وَنُصْلِهِ) [النساء : ١١٥].

واختلف في المصدر الذي تعود عليه هذه «الهاء» ، فقيل : الهدى ، أي اقتدى

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٣ / ٥٦) عن مجاهد.

(٢) ذكره الرازي (١٣ / ٥٦) عن ابن زيد.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٣ / ١٨٠ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢١ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠) ، السبعة ص (٢٦٢) ، النشر ٢ / ١٤٢. التبيان ١ / ٥١٧ ، الزجاج ٢ / ٢٩٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٣ / ١٨٠ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢١ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠) ، السبعة ص (٢٦٢) ، النشر ٢ / ١٤٢. التبيان ١ / ٥١٧ ، الزجاج ٢ / ٢٩٧ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٥).

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٣ / ١٨٠ ، الكشف ١ / ٤٣٩ ، روح المعاني ٢ / ١٤.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٣ / ١٨٠ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢١ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠) ، السبعة ص (٢٦٢) ، النشر ٢ / ١٤٢. التبيان ١ / ٥١٧ ، الزجاج ٢ / ٢٩٧ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤٥) ، هامش السبعة ص (٢٦٢) عن أبي على الفارسي.

(٨) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٨٠.

٢٧٠

الهدى ، والمعنى اقتد اقتداء الهدى ، ويجوز أن يكون الهدى مفعولا لأجله ؛ أي : فبهداهم اقتد لأجل الهدى.

وقيل : الاقتداء ؛ أي : اقتد الاقتداء ، ومن إضمار المصدر قول الشاعر : [البسيط]

٢٢٣٠ ـ هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب (١)

أي : يدرس الدّرس ، ولا يجوز أن تكون «الهاء» ضمير القرآن ؛ لأن الفعل قد تعدّى له ، وإنما زيدت «اللام» تقوية له ، حيث تقدّم معموله ، وكذلك جعل النّحاة نصب «زيدا» من «زيدا ضربته» بفعل مقدّر ، خلافا للفراء (٢).

قال ابن الأنباريّ : «إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل ، وإن الأصل : اقتد اقتد ، ثم جعل المصدر بدلا من الفعل الثاني ، ثم أضمر فاتّصل بالأول».

وأما قراءة ابن عامر (٣) فالظّاهر فيها أنها ضمير ، وحرّكت بالكسر من غير وصل وهو الذي يسميه القرّاء الاختلاس تارة ، وبالصلة وهو المسمّى إشباعا أخرى كما قرىء : (أَرْجِهْ) [الأعراف : ١١١] ونحوه.

وإذا تقرّر هذا فقول ابن مجاهد عن ابن عامر «يشمّ الهاء من غير بلوغ ياء» وهذا غلط ؛ لأن هذه «الهاء» هاء وقف لا تعرب في حال من الأحوال ، أي : لا تحرك وإنما تدخل ليتبيّن بها حركة ما قبلها ليس بجيّد لما تقرر من أنها ضمير المصدر ، وقد ردّ الفارسي (٤) قول ابن مجاهد بما تقدم.

والوجه الثاني : أنها هاء سكت أجريت مجرى الضمير ، كما أجريت هاء الضمير مجراها في السكون ، وهذا ليس بجيّد ، ويروى قول المتنبي : [البسيط]

٢٢٣١ ـ واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم

 .......... (٥)

بضم «الهاء» وكسرها على أنها «هاء» السّكت ، شبّهت بهاء الضمير فحركت ، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير ؛ لأن «هاء» الضمير لا تكسر بعد الألف ، فكيف بما يشبهها؟

والاقتداء في الأصل طلب الموافقة قاله اللّيث. ويقال : قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البناء الذي يتشعب منه تصريف الاقتداء.

__________________

(١) تقدم برقم ٨٤٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١٠ / ٨٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٨.

(٤) ينظر : الحجة ٢ / ٤١٢.

(٥) صدر بيت وعجزه :

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

ينظر : ديوانه ٤ / ١٨٠ ، ابن يعيش ١٠ / ٤٤ ، التصريح ٢ / ١٨٣ ، العمدة ٢ / ١٢٣ ، الدر المصون ٣ / ١١٨.

٢٧١

قال الواحدي (١) : الاقتداء في اللغة : الإتيان بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله و «بهداهم» متعلق ب «اقتده». وجعل الزمخشري تقديمه مفيدا للاختصاص على قاعدته.

فصل فيما يقتدى بهم فيه

هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء بهم فيه.

فقيل : المراد أن يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه ، وهو التوحيد والتّنزيه عن كلّ ما لا يليق بالباري سبحانه وتعالى في الذّات والصّفات والأفعال.

وقيل : المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصّه الدليل على هذا ، فالآية دليل على أن شرع من قبلنا (٢) يلزمنا وقيل : المراد به إقامة الدلالة على إبطال الشّرك ، وإقامة التوحيد ؛ لأنه ختم الآية بقوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨] ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أي : اقتد بهم في نفي الشرك ، وإثبات التوحيد ، وتحمّل سفاهات الجهّال.

وقال آخرون : اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلّا ما خصّه الدّليل المنفصل.

قال القاضي (٣) يبعد حمل هذه الآية على أمر الرّسول بمتابعة الأنبياء المتقدّمين في شرائعهم لوجوه :

أحدها : أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصحّ مع تناقضها أن يكون مأمورا بالاقتداء بهم في تلك الأحكام (٤) المتناقضة.

وثانيها : أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : دليل ثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات فقط ، فكيف يستدلّ بذلك على اتّباعهم في شرائعهم في كل الأوقات.

وثالثها : أن كونه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ متّبعا لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقلّ من منصبهم ، وذلك باطل بالإجماع ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم.

والجواب عن الأول ، أن قوله : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم ، فنقول : العام يجب تخصيصه في هذه الصّورة ، ويبقى فيما عداها حجّة.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط للزركشي ٦ / ٣٩ ، التمهيد للإسنوي ٤٤١ ، المنخول للغزالي ٢٣١ ، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ٣٦٩ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ٥ / ١٤٩ ، إرشاد الفحول للشوكاني ٢٣٩.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٧.

(٤) في أ : الأحوال.

٢٧٢

وعن الثاني : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لو كان مأمورا بأن يستدلّ بالدليل الذي استدلّ به الأنبياء المتقدّمون لم يكن ذلك متابعة ؛ لأن المسلمين لما استدلّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال : إنهم متّبعون لليهود والنّصارى في هذا الباب ؛ لأن المستدلّ بالدليل يكون أصلا في ذلك الحكم ، ولا تعلّق له بمن قبله ألبتّة ، والاقتداء والاتّباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوّل سببا لوجوب الفعل عن الثاني.

وعن الثالث : أنه أمر الرّسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصّفات الحميدة ، والأخلاق الشريفة ، وذلك لا يوجب كونه أقلّ مرتبة من الكلّ على ما يأتي في الفصل الذي بعده.

فصل في أفضلية نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

احتجّ العلماء بهذه الآية على أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ؛ لأن خصال الكمال وصفات الشّرف كانت مفرّقة فيهم ف «داود» و «سليمان» كانا من أصحاب الشكر على النعمة ، و «أيّوب» كان من أصحاب الصّبر على البلاء ، و «يوسف» كان جامعا لهاتين الحالتين ، و «موسى» عليه الصلاة والسلام كان صاحب الشريعة القويّة القاهرة ، والمعجزات الظاهرة و «زكريا» و «يحيى» و «عيسى» و «إلياس» كانوا أصحاب الزّهد ، و «إسماعيل» كان صاحب الصّدق و «يونس» كان صاحب التّضرّع.

وثبت أنه ـ تعالى ـ إنما ذكر كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء ؛ لأن الغالب عليه خصلة معيّنة من خصال المدح والشرف ، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمدا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بأن يقتدي بهم بأسرهم ، فكان التقدير كأنه ـ تعالى ـ أمر محمدا أن يجمع من خصال العبوديّة والطاعة كل الصفات التي كانت متفرّقة فيهم بأجمعهم ، ولما أمره الله ـ تبارك وتعالى ـ بذلك امتنع أن يقال : إنه قصّر في تحصيلها ، فثبت أنه حصّلها ، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال : إنه أفضلهم بكليتهم(١).

قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين ، وكان من جملة هدايتهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين ، وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم في ذلك فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [و «الهاء» في «عليه»](٢) تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السّياق عليهما ، و «أن» نافية ولا عمل لها على المشهور ، ولو كانت عاملة لبطل عملها ب «إلّا» في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى) أن يذكره ويعظه. «وللعالمين» متعلق ب «ذكرى» و «اللام» معدية أي : إن القرآن العظيم إلّا تذكير للعالمين ، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف على أنها صفة للذّكرى ، وهذه الآية تدلّ على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٥٨.

(٢) سقط في ب.

٢٧٣

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)(٩١)

قوله : وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة.

اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنّبوّة ، فالله ـ تعالى ـ لما حكى عن إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ أنه أثبت دليل [التوحيد ،](١) وإبطال الشرك ذكر بعده تقرير أمر النبوة ، فقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) حين أنكروا النّبوّة والرسالة ، فهذا بيان وجه النّظم. (حَقَّ قَدْرِهِ) منصوب على المصدر ، وهو في الأصل صفة للمصدر ، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه ، والأصل قدرة الحقّ كقولهم : «جرد قطيفة وسحق عمامة».

وقرأ الحسن البصريّ (٢) ، وعيسى الثقفي : «قدّروا» بتشديد الدّال «قدره» بتحريكها ، وقد تقدّم أنهما لغتان. قوله : «إذ قالوا» منصوب ب «قدروا» ، وجعله ابن عطية (٣) منصوبا ب «قدره» [وفي كلام ابن عطية (٤) ما يشعر بأنها](٥) للتعليل ، و (مِنْ شَيْءٍ) مفعول به زيدت فيه «من» لوجود شرطي الزيادة.

فصل في معنى الآية

قال ابن عبّاس : ما عظّموا الله حقّ تعظيمه (٦).

وروي عنه أيضا أنه قال : معناه ما آمنوا أن الله على كلّ شيء قدير (٧).

وقال أبو العالية (٨) : ما وصفوا الله حقّ صفته.

وقال الأخفش (٩) : ما عرفوه حقّ معرفته ، وحقّق الواحدي (١٠) رحمه‌الله ـ تعالى ـ فقال : قدر الشّيء إذا سبره وحرّره ، وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضمير قدرا ، ومنه قوله

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٨١ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٢٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٢٠.

(٥) سقط في أ.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣) من طريق السدي عن أبي مالك وعزاه لابن أبي حاتم.

وذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ٦٠) عن ابن عباس.

(٧) أخرجه الطبري (٥ / ٢٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.

(٨) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ٦٠) عن أبي العالية.

(٩) ينظر : ١٣ / ٦٠.

(١٠) ينظر : المصدر السابق.

٢٧٤

عليه الصّلاة والسّلام : «إن غمّ عليكم فاقدروا له» أي : فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ، ثم يقال لمن عرف شيئا : هو يقدر قدره ، وإن لم يعرفه بصفاته : إنه لا يقدر قدره ، فقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) صحيح في كلّ المعاني المذكورة (١) ولما حكى عنهم أنهم ما قدروا الله حقّ قدره بيّن السّبب فيه ، وهو قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

واعلم أن كلّ من أنكر النّبوّة والرّسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حقّ معرفته ، وتقديره من وجوه :

الأول : أن منكر البعث والرسالة إما أن يقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ ما كلّف أحدا من الخلق [تكليفا أصلا](٢) أو يقول : إنه ـ تبارك وتعالى ـ كلّفهم ، والأول باطل ؛ لأن ذلك يقتضي أنه ـ تبارك وتعالى ـ أباح لهم جميع المنكرات والقبائح ، نحو [شتم](٣) الله ووصفه بما لا يليق به والاستخفاف بالأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ والرسل ، والإعراض عن شكر الله ـ تعالى ـ ومقابلة الإنعام بالإساءة ، وكل ذلك باطل.

وإن سلم أنه ـ تعالى ـ كلّف الخلق بالأمر [والنهي فهاهنا لا بدّ](٤) من مبلّغ وشارع مبيّن ، وما ذلك إلّا للرّسول.

فإن قيل لم لا يجوز أن يقال : العقل كاف في إيجاب الموجبات ، واجتناب المقبحات؟

فالجواب : هب أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فثبت أن كل من منع من البعثة والرسالة ، فقد طعن في حكمة الله ـ تعالى ـ وكان ذلك جهلا بصفة الإلهية ، وحينئذ يصدق في حقه قوله تبارك وتعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى : أن من الناس من يقول : إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصّلاة والسلام ؛ لأن يمتنع [إظهار](٥) المعجزة على وفق دعواه تصديقا له ، والقائلون بهذا القول لهم مقامات.

أحدها : أن يقولوا : إنه ليس في الإمكان خرق العادات ، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة.

والثاني : يسلمون إمكان ذلك ، إلّا أنهم يقولون : إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات ، فلا دلالة لها على صدقه من الرسالة ، وكلا القولين يوجب القدح في كمال قدرة الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : النفي فيها هنا لا بد.

(٥) سقط في أ.

٢٧٥

أما الأوّل وهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله ، وإذا كان كذلك كان جسم القمر والشمس قابلا للتّمزّق والتّفرّق ، فإن قلنا : إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفا له بالعجز ، ونقصان القدرة ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر الله حقّ قدره.

وإن قلنا : إنه ـ تعالى ـ قادر عليه ، وحينئذ لا يمتنع عقلا انشقاق القمر ، ولا حصول سائر المعجزات.

وأما المقام الثاني : وهو أن [حدوث](١) هذه الأفعال الخارقة عند دعوى مدّعي النبوة يدلّ على صدقه ، فهذا أيضا ظاهر على ما قدر في كتب الأصول ، فثبت أن كلّ من أنكر مكان البعثة والرسالة ، فقد وصف الله تبارك وتعالى بالعجز ونقصان القدرة ، فكل من قال ذلك ، فهو ما قدر الله حقّ قدره.

والوجه الثالث : أنه لما ثبت حدوث العالم ، فنقول : حدوثه يدلّ على أن إله العالم قادر عليم حكيم ، وأن الخلق كلهم عبيده ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي ، وتكليف على عباده ، وأن يكون له وعد على الطاعة ، ووعيد على المعصية ، وذلك لا يتم ولا يكمل إلّا بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكا مطاعا ، ومن اعتقد ذلك ، فهو ما قدر الله حقّ قدره.

فصل في بيان سبب النزول

في هذه الآية الكريمة [بحث](٢) صعب ، وهو أن يقال : هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) إما أن يقال : إنهم كفّار قريش ، أو يقال : إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فإن كان الأول فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) وذلك أن كفّار قريش والبراهمة ينكرون رسالة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم.

وإن كان قائل هذا القول من أهل الكتاب فهو أيضا مشكل ؛ لأنهم لا يقولون هذا القول ، وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى ، والإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأيضا فهذه السّورة مكيّة ، والمناظرة التي وقعت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود والنّصارى كلها مدنية ، فكيف يمكن حمل هذه الآية الكريمة عليها ، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية.

واعلم أن النّاس اختلفوا فيه على قولين ، والقول أن هذه الآية نزلت في حقّ اليهود ، وهو المشهور عند الجمهور (٣).

__________________

(١) في ب : حصول.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٦١.

٢٧٦

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلا سمينا فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنشدك بالّذي أنزل التّوراة على موسى هل تجد في التّوراة أن الله يبغض الحبر السّمين ، وأنت الحبر السّمين وقد سمنت من الأشياء الّتي تطعمك اليهود» فضحك القوم فغضب [مالك](١) بن الصيف ثم التفت إلى عمر ، فقال : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فقال له قومه : ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك ، [أليس](٢) أن الله أنزل التوراة على موسى ، فلم قلت : ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف : إنه أغضبني ، فقلت ذلك فقالوا له : وأنت إن غضبت تقول على الله غير الحق ، فنزعوه عن رياستهم ؛ وجعلوا مكانة كعب بن الأشرف (٣).

وقال السّدّيّ : نزلت في فنحاص بن عازوراء (٤) وهو قائل هذه المقالة.

قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال : «نعم». قالوا : والله ما أنزل من السماء كتابا ، فأنزل الله تبارك وتعالى (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(٥) ؛ إذ قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، وفي سبب النزول سؤالات :

السؤال الأول : لفظ الآية وإن كان مطلقا إلّا أنه يتقيّد بحسب العرف ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [من الدار](٦) فغضب الزّوج ، فقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا : اللفظ وإن كان مطلقا إلا أنه بحسب العرف يتقيّد بتلك المرأة ، فكذا هاهنا فقوله: (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وإن كان مطلقا بحسب أصل اللغة إلّا أنه يتقيد بتلك الواقعة بحسب العرف ، فكان لقوله تعالى : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) في أنه يبغض الحبر السمين ، وإذا كان هذا المطلق محمولا على هذا المقيّد لم يكن قوله : (مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً) مبطلا لكلامه.

السؤال الثاني : أن مالك بن الصيف كان مفتخرا بكونه يهوديّا متظاهرا بذلك ، ومع هذا المذهب لا يمكنه أن يقول : ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل ، أو على سبيل طغيان اللسان ، ومثل هذا الكلام لا يليق بالله ـ تبارك

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٦٢) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٤) عن سعيد وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره الرازي في تفسيره (١٣ / ٦١) عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٦٣) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣ ـ ٥٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عنه ولم ينسبه للطبري.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٢٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٣) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس.

(٦) سقط في أ.

٢٧٧

وتعالى ـ إنزال القرآن الباقي على وجه [الدهر](١) في إبطاله.

والقول الثاني : أن القائل : ما أنزل الله على بشر من شيء من كفّار قريش ، وفيه سؤال : هو أن كفّار قريش كانوا ينكرون نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسلام ، فكيف يمكن إلزامهم بنبوّة موسى ، وأيضا فما بعد هذه الآية لا يليق بكفّار قريش ، وإنما يليق باليهود ، وهو قوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قول من يقول : إن أول الآية خطاب للكفار ، وآخرها خطاب مع اليهود (٢) ، وهذا فاسد ، لأنه يوجب تفكيك نظم الآية ، وفساد تركيبها ، وذلك لا يليق بكلامنا ، فضلا عن كلام ربّ العالمين ، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول (٣).

أما السؤال الأول : فيمكن دفعه بأن كفّار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى ، وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التّواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مثل : «انقلاب العصى ثعبانا» و «فلق البحر» و «إظلال الجبل» وغيرها ، والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات [وكانوا] يقولون : لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنّا بك ، فكان مجموع هذه الكلمات جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراض ، والاعتراف بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام ، وإذا كان الأمر كذلك [لم يبعد إيراد](٤) نبوة موسى إلزاما عليهم في قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).

وأما الثاني : فجوابه أن كفار قريش ، وأهل الكتاب لما اشتركوا في إنكار بنوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبعد أن يكون الكلام بعضه خطابا مع كفار «مكة» وبقيّته خطابا مع اليهود والنصارى.

فصل فيما يستفاد من الآية

دلّت هذه الآية الكريمة على أحكام :

منها : أن النّكرة في موضع النّفي تفيد العموم ، فإن قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) نكرة في موضع النفي ، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) إبطالا له ونقضا عليه ، وكان استدلالا فاسدا.

ومنها : أن النّقض يقدح في صحّة الكلام ؛ لأنه ـ تبارك وتعالى ـ نقض قولهم : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) بقوله تعالى : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) فلو لم يدلّ النّقض على فساد الكلام لما كانت هذه الحجّة مفيدة لهذا المطلوب (٥).

__________________

(١) في أ : ألزم.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٢.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الرازي ١٣ / ٦٣.

٢٧٨

واعلم أن من يقول : إن الفارق بين الصّورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجّة الله في هذه الآية الكريمة ؛ لأن اليهود كانوا يقولون : معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أظهر وأبهر من معجزاتك ، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هاهنا ، ولو كان هذا الفرق [مقبولا لسقطت هذه الحجة ، وحيث لا يجوز القول بسقوطها ، علمنا أن النقض](١) على الإطلاق مبطل.

قوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ).

وصف الكتاب بصفتين :

أحدهما : قوله : «نورا» وهو منصوب على الحال ، وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنه «الهاء» في «به» ، فالعامل فيها «جاء».

والثاني : أنه «الكتاب» ، فالعامل فيه «أنزل» ، و «للناس» صفة ل «هدى» وسمّاه «نورا» تشبيها له بالنّور الذي يبين به الطريق.

فإن قيل : فعلى هذا لا يبقى بين كونه نورا ، وبين كونه هدى للناس فرق ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التّغاير.

فالجواب : أن للنور صفتان :

أحدها : كونه في نفسه ظاهرا جليّا.

والثانية : كونه بحيث يكون سببا لظهور غيره ، فالمراد من كونه (نُوراً وَهُدىً) هذان الأمران وقد وصف القرآن أيضا بهذين الوصفين ، فقال : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢].

قوله : «تجعلونه» قرأ ابن كثير (٢) وابن عمرو بياء الغيبة ، وكذلك «يبدونها ويخفون كثيرا» والباقون (٣) بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال ، فأما الغيبة فللحمل على ما تقدم من الغيبة في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا) إلى آخره.

وعلى هذا فيكون في قوله : «وعلّمتم» تأويلان :

أحدهما : أنه خطاب لهم أيضا وإنما جاء به على طريق الالتفات.

والثاني : أنه خطاب إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ) وبين قوله : (قُلِ اللهُ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٨١ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠ ـ ٢٦١) السبعة ١٦٢ ـ ٢٦٣ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، التبيان ١ / ٥١٨ ـ ٥١٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ١١٩ ، البحر المحيط ٤ / ١٨١ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٦٠ ـ ٢٦١) السبعة ١٦٢ ـ ٢٦٣ ، النشر ٢ / ٢٦٠ ، التبيان ١ / ٥١٨ ـ ٥١٩.

٢٧٩

وأما القراءة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله : (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ) ورجّحها مكي وجماعة كذلك قال مكي : «وذلك حسن في المشاكلة والمطابقة ، واتّصال بعض الكلام ببعض ، وهو الاختيار لذلك ، ولأن أكثر القراء عليه».

قال أبو حيّان (١) : «ومن قال : إن المنكرين العرب ، أو كفار قريش لم يكن جعل الخطاب لهم ، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السّؤال والجواب : تجعلونه قراطيس [يبدونها](٢) ، ومثل هذا يبعد وقوعه ؛ لأن فيه تفكيكا للنّظم ، حيث جعل أول الكلام خطابا لكفار قريش ، وآخره خطابا لليهود».

قال : «وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نبوّة رسالة رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بعض الكلام خطابا للعرب وبعضه خطابا لبني إسرائيل».

قوله : «تجعلونه قراطيس» : يجوز أن تكون «جعل» بمعنى «صيّر» وأن تكون بمعنى «ألقى» أي : يضعونه في كاغد.

وهذه الجملة في محلّ نصب على الحال ، إما من «الكتاب» وإما من «الهاء» في «به» كما تقدم في «نورا».

قوله : «قراطيس» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه على حذف حرف الجر ، أي : في قراطيس وورق ، فهو شبيه بالظّرف المبهم ، فلذلك تعدّى إليه الفعل بنفسه.

والثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : يجعلونه ذا قراطيس.

والثالث : أنهم نزّلوه منزلة القراطيس ، وقد تقدم تفسير القراطيس. والجملة من قوله : «تبدونها» في محل نصب صفة ل «قراطيس» وأما «تخفون» فقال أبو البقاء (٣) : إنها صفة أيضا لها ، وقدر ضميرا محذوفا ، أي : تخفون منها كثيرا.

وأما مكي (٤) فقال : (وَتُخْفُونَ) مبتدأ لا موضع له من الإعراب. انتهى.

كأنه لما رأى خلوّ الجملة من ضمير يعود على «قراطيس» منع كونه صفة ، وقد تقدم أنه مقدّر ، وهو أولى ، وقد جوّز الواحدي في «تبدون» أن يكون حالا من ضمير «الكتاب» من قوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى ؛ لأنه مكتتب فيها. انتهى.

قوله : (عَلى أَنْ تَجْعَلَ) اعتذار عن مجيء خبره مؤنّثا ، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع.

قوله : (وَعُلِّمْتُمْ) يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في «يجعلونه» ، وما عطف

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٨١.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٥٢.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٧٧.

٢٨٠