اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

ياء لانكسار ما قبلها وسكونها ، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولا من أجله لو لا ما يأباه «تضرّعا» من المعنى.

قوله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) الظاهر أن هذه الجملة القسميّة تفسير للدّعاء قبلها.

ويجوز أن تكون منصوبة المحلّ على إضمار القول ، ويكون ذلك القول في محلّ نصب على الحال من (١) فاعل «تدعونه» أي : تدعونه قائلين ذلك ، وقد عرف مما تقدّم غير مرّة كيفية اجتماع الشرط والقسم.

وقرأ الكوفيون (٢) «أنجانا» بلفظ الغيبة مراعاة لقوله «تدعونه» والباقون (٣) «أنجيتنا» بالخطاب حكاية لخطابهم في حالة الدعاء ، وقد قرأ كلّ بما رسم في مصحفه ، فإن في مصاحف «الكوفة» : «أنجانا» ، وفي غيرها : «أنجيتنا».

قوله : «من هذه» متعلّق بالفعل قبله ، و «من» لابتداء الغاية ، و «هذه» اشارة إلى الظّلمات ، لأنها تجري مجرى المؤنثة الواحدة ، وكذلك في «منها» تعود على الظلمات.

وقوله : (وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ) عطف على الضمير المجرور بإعادة حرف الجر ، وهو واجب عند البصريين ، وقد تقدّم.

و «الكرب» غاية الغمّ الذي يأخذ النّفس.

قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) يريد أنهم يقرّون أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي ينجّيهم ، ثم يشركون معه الأصنام التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع.

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٦٧)

وهذا نوع آخر من دلائل التوحيد ممزوج بالتخويف فبين كونه ـ تعالى ـ قادرا على إيصال العذاب إليهم من هذه الطّرق المختلفة تارة من فوقهم ، وتارة من تحت أرجلهم ، فقيل : هذا حقيقة.

فأما العذاب من فوقهم كالمطر النازل عليهم في قصّة نوح ، والصّاعقة ، والرّيح ، والصّيحة ، ورمي أصحاب الفيل.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٦ ، الوسيط ٢ / ٢٨٣ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٥ الحجة لابن خالويه ص (١٤١ ـ ١٤٢) ، المصاحف لابن أبي داود ص (٣٩ ، ٤٨).

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٤ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٦ ، الوسيط ٢ / ٢٨٣ ، الحجة لأبي زرعة ص (٢٥٥) ، السبعة ص (٢٥٩) ، النشر ٢ / ٢٥٩ ، التبيان ١ / ٥٠٥ ، الحجة لابن خالويه ص (١٤١ ـ ١٤٢) ، روح المعاني ٧ / ١٧٩.

٢٠١

وأما الذي من تحت أرجلهم : كالرّجفة والخسف ، وقيل : حبس المطر والنبات. وقيل : هذا مجاز.

قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة : (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي : من الأمراء ، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسّفلة (١).

قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) يجوز أن يكون الظّرف متعلّقا ب «نبعث» وأن يكون متعلّقا بمحذوف على أنه صفة ل «عذابا» أي : عذابا كائنا من هاتين الجهتين. قوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) عطف على «يبعث».

والجمهور (٢) على فتح الياء من «يلبسكم» وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتّى كل فرقة مشايعة لإمام ، ومعنى خلطهم : إنشاب القتال بينهم ، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي : [الكامل]

٢١٩٠ ـ وكتيبة لبّستها بكتيبة

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي

فتركتهم تقص الرّماح ظهورهم

ما بين منعفر وآخر مسند (٣)

وهذه عبارة الزمخشري (٤) : فجعله من اللّبس الذي هو الخلط ، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدّي «يلبس» إلى المفعول ، و «شيعا» نصب على الحال ، وهي جمع «شيعة» ك «سدرة» و «سدر».

وقيل : «شيعا» منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول ، أي : إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوسا.

قال أبو حيّان (٥) : «ويحتاج في جعله مصدرا إلى نقل من اللغة».

ويجوز على هذا أيضا أن يكون حالا ك «أتيته ركضا» أي : راكضا ، أو ذا ركض.

وقال أبو البقاء (٦) : والجمهور على فتح الياء ، أي : يلبس عليكم أموركم ، فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجود أن يكون التقدير : أو يلبس أموركم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه.

فصل في معنى الآية

قال المفسّرون : معناه : أن يجعلكم فرقا ، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة.

وروى عمرو بن دينار عن جابر ، قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ١٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ٤ / ١٥٥.

(٣) البيتان للفرار السلمي.

ينظر : الحماسة ١ / ١٩١ ، البحر ٤ / ١٥٥ مشاهد الإنصاف ٢ / ٢٦ ، الدر المصون ٣ / ٨٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٣.

(٥) البحر المحيط ٤ / ١٥٥.

(٦) ينظر : الإملا ١ / ٢٤٦.

٢٠٢

عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بوجهك» قال : (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال : «أعوذ بوجهك». قال : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا أهون أو هذا أيسر» (١) وعن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل وصلّى ركعتين ، وصلينا معه فناجى ربه طويلا ، ثم قال : «سألت ربّي ثلاثا : ألّا يهلك أمّتي فأعطانيها ، وسألته ألّا يهلك أمّتي بالسّنة فأعطانيها ، وسألته ألّا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (٢) وعن ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا في مسجد ، فسأل الله ثلاثا فأعطاه اثنتين ، ومنعه واحدة ، سأله ألّا يسلّط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألا يهلكهم بالسّنين ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألّا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك (٣).

فصل في مزيد بيان عن الآية

ظاهر قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أنه يجعلهم على الأهواء المختلفة ، والمذاهب المتنافية ، والحق منها ليس إلا لواحد ، وما سواه فهو باطل ، وهذا يقتضي أنه ـ تعالى ـ قد يحمل المكلّف على اعتقاد الباطل.

وقوله : (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) لا شكّ أن أكثرها ظلم ومعصية ، وهذا يدل على كونه ـ تعالى ـ خالقا للخير والشر.

وأجاب الخصم (٤) عنه بأن الآية تدلّ على أنه ـ تعالى ـ قادر عليه ، وعندنا أن الله ـ تعالى ـ قادر على القبح ، إنما النزاع في أنه ـ تعالى ـ هل يفعل ذلك أم لا؟

وأجيب بأن وجه التّمسّك بالآية شيء آخر ، فإنه قال : (هُوَ الْقادِرُ) على ذلك ، وهذا يفيد الحصر ، فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك ، وقد حصل الاختلاف بين الناس ، فثبت بمقتضى الحصر المذكور ألّا يكون ذلك صادرا عن غير الله ، فوجب أن يكون صادرا عن الله ، وهو المطلوب.

فصل في إثبات النظر والاستدلال

قالت المعتزلة والحشويّة (٥) : هذه الآية من أدلّ الدلائل على المنع من النظر

__________________

(١) أخرجه البخاري ٨ / ١٤١ ـ كتاب التفسير : باب قوله تعالى : قُلْ هُوَ الْقادِرُ (٤٦٢٨) وطرفه في (٧٣١٣ ـ ٧٤٠٦) والترمذي ٥ / ٢٤٤ كتاب تفسير القرآن : باب ما جاء في الأنعام (٣٠٦٥).

والطبري في «تفسيره (٥ / ٢٢٠) والبغوي في شرح السنة (٧ / ٢٧٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٢) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد ونعيم بن حماد في الفتن وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ٤ / ٢٢١٦ ، كتاب الفتن باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض الحديث (٢ / ٢٨٩٠) والسّنة : القحط العام.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الرازي ١٣ / ٢٠.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٢٠٣

والاستدلال ؛ لأن فتح تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف ، والمنازعة في الأديان ، وتفريق الخلائق إلى هذه المذاهب والأديان ، وذلك مذموم بهذه الآية ، والمفضي إلى المذموم مذموم ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مذموما.

وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النّظر والاستدلال كما تقدّم مرارا.

فصل في قراءة «يلبسكم»

قرأ (١) أبو عبد الله المدني : «يلبسكم» بضم الياء من «ألبس» رباعيا ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المفعول الثّاني محذوفا ، تقديره أو يلبسكم الفتنة ، و «شيعا» على هذا حال ، أي : يلبسكم الفتنة في حال تفرّقكم وشتاتكم.

الثاني : أن يكون «شيعا» هو المفعول الثاني ، كأنه جعل النّاس يلبسون بعضهم مجازا كقوله: [المتقارب]

٢١٩١ ـ لبست أناسا فأفنيتهم

وأفنيت بعد أناس أناسا (٢)

والشّيعة : من يتقوّى بهم الإنسان ، والجمع : «شيع» كما تقدم ، و «أشياع» ، كذا قاله الراغب (٣) ، والظاهر أن «أشياعا» جمع «شيع» ك «عنب» و «أعناب» ، و «ضلع» و «أضلاع» و «شيع» جمع «شيعة» فهو جمع الجمع.

قوله : «ويذيق» نسق على «يبعث» ، والإذاقة استعارة ، وهي فاشية : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٤٨] ، (ذُقْ إِنَّكَ) [الدخان : ٤٩] ، (فَذُوقُوا الْعَذابَ) [الأنعام : ٣٠].

وقال : [الوافر]

٢١٩٢ ـ أذقناهم كئوس الموت صرفا

وذاقوا من أسنّتنا كئوسا (٤)

وقرأ الأعمش (٥) : «ونذيق» بنون العظمة ، وهو التفات ، فائدته تعظيم الأمر ، والتحذير من سطوته.

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).

قال القاضي (٦) : هذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ أراد بتصريف الآيات ، وتقرير هذه البيّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل ، ويفقه الكل تلك البيّنات.

وأجيب بأن ظاهر الآية يدلّ على أنه ـ تعالى ـ ما صرّف هذه الآيات إلا لمن فقه

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المفردات ٢٧١.

(٤) البيت في البحر ٤ / ١٥٦ ، الدر المصون ٣ / ٨٦.

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٦. البحر المحيط ٤ / ١٥٦.

(٦) ينظر : الرازي ١٣ / ٢٠.

٢٠٤

وفهم ، فأما من أعرض وتمرّد فهو تعالى ما صرّف هذه الآيات لهم.

قوله تعالى : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ).

قوله : «وكذّب به» «الهاء» في «به» تعود على العذاب المتقدّم في قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قاله الزمخشري (١).

وقيل : تعود على القرآن.

وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة.

وقيل : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا بعيد ؛ لأنه خوطب بالكاف عقيبه ، فلو كان كذلك لقال : وكذب به قومك ، وادّعاء الالتفات فيه أبعد.

وقيل : لا بد من حذف صفة هنا ، أي : وكذب به قومك المعاندون ، أو الكافرون ؛ لأن قومه كلهم لم يكذّبوه ، كقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] أي الناجين ، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جدا ، بخلاف العكس.

وقرأ ابن أبي عبلة (٢) : «وكذّبت» بتاء التأنيث ، كقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) [الشعراء : ١٠٥] ، (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) [الشعراء : ١٦٠] باعتبار الجماعة.

قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ) في هذه الجملة وجهان :

الظاهر منهما : أنها استئناف.

والثاني : أنها حال من «الهاء» في «به» ، أي : كذبوا به في حال كونه حقّا ، وهو أعظم في القبح.

والمعنى أن الضمير في «به» للعذاب ، فمعنى كونه حقّا لا بد أن ينزل بهم ، وإن عاد إلى القرآن ، فمعنى كونه حقّا ، أي : كتاب منزل من عند الله ، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي : أنهم كذّبوا كون هذه الأشياء دلالات ، وهو حق (٣).

قوله : «عليكم» متعلّق بما بعده ، وهو توكيد ، وقدم لأجل الفواصل ، ويجوز أن يكون حالا من قوله : «بوكيل» ؛ لأنه لو تأخّر لجاز أن يكون صفة له ، وهذا عند من يجيز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ، وهو اختيار جماعة ، وأنشدوا عليه : [الخفيف]

٢١٩٣ ـ غافلا تعرض المنيّة للمر

ءفيدعى ولات حين إباء (٤)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٦.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٢١.

(٤) البيت في الأشموني ٢ / ١٧٧ ، المقاصد النحوية ٣ / ١٦١ ، الدر المصون ٣ / ٨٦.

٢٠٥

فقدم «غافلا» على صاحبها ، وهو «المرء» ، وعلى عاملها وهو «تعرض» فهذا أولى. ومنه [الطويل]

٢١٩٤ ـ لئن كان برد الماء هيمان صاديا

إليّ حبيبا إنّها لحبيب (١)

أي : إليّ هيمان صاديا ، ومثله : [الطويل]

٢١٩٥ ـ فإن يك أذواد أصبن ونسوة

فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال (٢)

«فرغا» حال من «يقتل» ، و «حبال» بالمهملة اسم رجل مع أن حرف الجر هنا زائد ، فجوازه أولى مما ذكرناه.

فصل في المراد بالآية

معنى الآية : قل لهم يا محمد : لست عليكم برقيب ، وقيل : بمسلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم ، وأجازيكم على تكذيبكم ، وإعراضكم عن قبول الدلائل ، إنما أنا رسول ومنذر ، والله المجازي لكم بأعمالكم.

قال ابن عبّاس والمفسرون : نسختها آية القتال ، وهو بعيد (٣).

قوله : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) [الأنعام : ٦٧] يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية ، وخبره الجارّ قبله ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله ، ويجوز أن يكون «مستقر» اسم مصدر أي : استقرار [مكان ، أو زمان ؛](٤) لأن ما زاد على الثّلاثيّ كان المصدر منه على زنة اسم المفعول ؛ نحو ، «المدخل» و «المخرج» بمعنى «الإدخال» و «الإخراج» ، والمعنى أن لكل وعد ووعيد من الله استقرار ، ولا بد وأن يعلموا [أن الأمر كما أخبر الله تعالى](٥) ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [وأن](٦) لكل خبر يخبره الله وقتا أو مكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير ، وهذا الذي خوّف الكفار به يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة ، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحرب والقتل في الدّنيا.

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٦٨)

قال تعالى في الآية الأولى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) فتبيّن به أنه لا يجب على الرّسول ملازمة المكذّبين بهذا الدّين.

__________________

(١) البيت للمجنون ينظر : ديوانه ص (٤٩) ، سمط اللآلىء ص (٢٤٠٠) ، ولعروة بن حزام في خزانة الأدب ٣ / ٢١٢ ، ٢١٨ ، الشعر والشعراء ص (٦٢٧) ، وهو لكثير عزّة في ديوانه ص (٥٢٢) ، السمط ص (٤٠٠) ، المقاصد النحوية ٣ / ١٥٦ ، ولقيس بن ذريح في ديوانه ص (٦٢) في شرح الأشموني ١ / ٢٤٩ ، شرح ابن عقيل ص (٣٣) ، شرح عمدة الحافظ ص (٤٢٨). الدر المصون ٣ / ٨٧.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٢١.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٢٠٦

وبيّن في هذه الآية أن أولئك المكذّبين إن ضمّوا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدّين والطّعن في الرسول ، فإنه يجب الإعراض عنهم ، وترك مجالستهم.

قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فقيل : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به غيره.

وقيل : الخطاب لغيره ، أي : إذا رأيت أيها السّامع الذين يخوضون في آياتنا.

نقل الواحديّ (١) أنّ المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن فشتموا واستهزءوا فأمرهم ألّا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره.

والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللّعب والعبث.

قال تعالى حكاية عن الكفار : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) [المدثر : ٤٥] وإذا قال الرجل : تركت القوم يخوضون أفاد أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها.

قوله : «إذا» منصوب بجوابها ، وهو «فأعرض» ؛ أي : فأعرض عنهم في هذا الوقت و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البصريّة ، وهو الظاهر ، ولذلك تعدّت لواحد.

قال أبو حيّان (٢) : «ولا بدّ من تقدير حال محذوفة ، أي : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ، وهم خائضون فيها ، أي : وإذا رأيتهم ملتبسين بالخوض فيها». انتهى.

قال شهاب الدّين (٣) : ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن قوله : «يخوضون» مضارع ، والراجح حاليّته وأيضا فإن (الَّذِينَ يَخُوضُونَ) في قوّة الخائضين ، واسم الفاعل حقيقة في الحال بلا خلاف ، فيحمل هذا على حقيقته ، فيستغنى عن حذف هذه الحال التي قدّرها وهي حال مؤكدة.

ويحتمل أن تكون علمية ، وضعّفه أبو حيان (٤) بأنه يلزم منه حذف المفعول الثاني ، وحذفه إما اقتصار ، وإما اختصار ، فإن كان الأوّل : فممنوع اتفاقا وإن كان الثاني : فالصحيح المنع حتى منع ذلك بعض النحويين.

قوله : «غيره» «الهاء» فيها وجهان :

أحدهما : أنها تعود على الآيات ، وعاد مفردا مذكرا ؛ لأن الآيات في معنى الحديث والقرآن.

وقيل : إنها تعود على الخوض ، أي : المدلول عليه بالفعل كقوله : [الوافر]

٢١٩٦ ـ إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف (٥)

أي : جرى إلى السّفه ، دلّ عليه الصّفة كما دلّ الفعل على مصدره ؛ أي : حتى يخوضوا في حديث غير الخوض.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٣ / ٢١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٧.

(٥) تقدم.

٢٠٧

وقوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) قراءة (١) العامّة «ينسينّك» بتخفيف السّين من «أنساه» كقوله : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف : ٦٣] (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) [يوسف : ٤٢].

وقرأ ابن عامر (٢) : بتشديدها من «نسّاه» ، والتعدّي جاء في هذا الفعل بالهمزة مرة ، وبالتضعيف أخرى ، كما تقدم في «أنجى» و «نجّى» و «أمهل» و «مهّل».

والمفعول الثاني محذوف في القراءتين ؛ تقديره : وإما ينسينّك الشّيطان الذّكر أو الحقّ.

والأحسن أن يقدر ما يليق بالمعنى ، أي : وإما ينسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مجالسة الخائضين بعد تذكيرك ، فلا تقعد بعد ذلك معهم ، وإنما أبرزهم ظاهرين تسجيلا عليهم بصفة الظّلم ، وجاء الشرط الأول ب «إذا» ؛ لأن خوضهم في الآيات محقّق ، وفي الشرط الثاني ب «إن» لأن إنساء الشيطان له ليس أمرا محقّقا ، بل قد يقع وقد لا يقع ، وهو معصوم منه.

ولم يجىء مصدر على «فعلى» غير «ذكرى».

وقال ابن عطيّة (٣) : «وإمّا» شرط ، ويلزمها في الأغلب النون الثقيلة ، وقد لا تلزم كقوله : [البسيط]

٢١٩٧ ـ إمّا يصبك عدوّ في مناوأة

 .......... (٤)

وهذا الذي ذكره من لزوم التوكيد هو مذهب الزّجّاج ، والنّاس على خلافه ، وأنشدوا ما أنشده ابن عطية وأبياتا أخر منها : [الرجز]

٢١٩٨ ـ إمّا تريني اليوم أمّ حمز (٥)

وقد تقدّم طرف من هذه المسألة أوّل البقرة ، إلا أن أحدا لم يقل : يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة ، وإن كان ظاهر كلام ابن عطية ذلك.

قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(٦٩)

يجوز أن تقدر «ما» حجازية ، فيكون (مِنْ شَيْءٍ) اسمها ، و «من» مزيدة فيه لتأكيد

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٨ ، البحر المحيط ٤ / ١٥٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٤.

(٤) صدر بيت وعجزه :

يوما فقد كنت تستعلي وتنتصر

ينظر : القرطبي ٧ / ١١ ، فتح القدير ٢ / ١٢٢ ، الدر المصون ٣ / ٨٨.

(٥) تقدم.

٢٠٨

الاستغراق ، و (عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) خبرها عند من يجيز إعمالها مقدمة الخبر مطلقا ، أو يرى ذلك في الظّرف وعديله.

و (مِنْ حِسابِهِمْ) حال من «شيء» لأنه لو تأخّر لكان صفة ، ويجوز أن تكون مهملة إما على لغة «تميم» وإما على لغة «الحجاز» لفوات شرط ، وهو تقديم خبرها وإن كان ظرفا ، وتحقيق ذلك مما تقدّم في قوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢].

قوله : (وَلكِنْ ذِكْرى) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنها منصوبة على المصدر بفعل مضمر ، فقدّره بعضهم أمرا ؛ أي : ولكن ذكّروهم ذكرى ، وبعضهم قدّره خبرا ؛ أي : ولكن يذكرونهم ذكرى.

الثاني : أنه مبتدأ خبره محذوف ؛ أي : ولكن عليهم ذكرى ، أو عليكم ذكرى ؛ أي : تذكيرهم.

الثالث : أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي : هو ذكرى ؛ أي : النهي عن مجالستهم والامتناع منها ذكرى.

الرابع : أنه عطف على موضع «شيء» المجرور ب «من» ؛ أي : ما على المتّقين من حسابهم شيء ، ولكن عليهم ذكرى ، فيكون من عطف المفردات ، وأما على الأوجه السّابقة فمن عطف الجمل.

وقد ردّ الزمخشري (١) هذا الوجه الرابع ، وردّه عليه أبو حيان.

فأما ردّ الزمخشري (٢) ، فقال : «ولا يجوز أن يكون عطفا على محلّ من شيء ؛ كقولك : «ما في الدار من أحد ولكن زيد» ؛ لأن قوله : (مِنْ حِسابِهِمْ) يأبى ذلك».

قال أبو حيّان (٣) : كأنه تخيّل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه ، وهو (مِنْ حِسابِهِمْ) فهو قيد في «شيء» فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفا على (مِنْ شَيْءٍ) على الموضع ؛ لأنه يصير التقدير عنده : ولكن ذكرى من حسابهم ، وليس المعنى على هذا ، وهذا الذي تخيّله ليس بشيء ، ولا يلزم في العطف ب «لكن» ما ذكر ؛ تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق ، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش ، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل ، فعلى هذا الذي قرّرناه يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم ، وأن يكون من عطف المفردات والعطف بالواو ، ولكن جيء بها للاستدراك.

قال شهاب الدّين (٤) : قوله : «تقول : ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق» إلى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٨٩.

٢٠٩

آخر الأمثلة التي ذكرها لا يردّ على الزمخشري (١) ؛ لأن الزمخشري وغيره من أهل اللّسان والأصوليين يقولون : إنّ العطف ظاهر في التشريك ، فإن كان في المعطوف عليه قيد ، فالظّاهر تقييد المعطوف بذلك القيد ؛ إلّا أن تجيء قرينة صارفة ، فيحال الأمر عليها.

فإذا قلت : ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا ، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضّرب مقيدا بيوم الجمعة ، فإن قلت : وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده ، والآية الكريمة من قبيل النوع الأول ؛ أي : لم يؤت مع المعطوف بقرينة تخرجه ، فالظاهر مشاركته للأول في قيده ، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزمخشري ، وأما الأمثلة التي أوردها فالمعطوف مقيّد بغير القيد الذي قيد به الأوّل ، وإنما كان ينبغي أن يمثّل بقوله : «ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي» ، فالظاهر من هذا أن المعنى : ولكن امرأة سوء ، ولكن صبي من قريش.

وقول الزمخشري (٢) : «عطفا على محل : من شيء» ولم يقل : عطفا على لفظه لفائدة حسنة يعسر معرفتها ، وهو أن «لكن» حرف إيجاب ، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب «من» لفظا لزم زيادة «من» في الواجب ، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه ، ويدلّ على اعتبار الإيجاب في «لكن» أنهم إذا عطفوا بعد خبر «ما» الحجازية أبطلوا النّصب ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي ، و «بل» ك «لكن» فيما ذكرنا.

فصل في النزول

روي عن ابن عبّاس أنه قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال المسلمون : لئن كنّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن ، وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا على أن نجلس في المسجد الحرام ، وأن نطوف بالبيت ، وهم يخوضون أبدا (٣).

وفي رواية : قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ، ولا ننهاهم ، فأنزل الله (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ) أي : من آثام الخائفين من شيء (وَلكِنْ ذِكْرى) أي : ذكّروهم وعظوهم بالقرآن ، والذّكر والذّكرى واحد ، يريد ذكروهم ذكرى لعلّهم يتقون الخوض إذا وعظتموهم ، فرخص في مجالستهم على الوعظ لعلّهم يمنعهم ذلك من الخوض.

وقيل : لعلّهم يستحيون.

قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٢٦) عن أبي مالك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٧) عن أبي مالك وسعيد بن جبير وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢١٠

وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

«اتّخذوا» فيها وجهان :

أحدهما : أنها متعدّية لواحد ، على أنها بمعنى «اكتسبوا» و «عملوا» ، و «لهوا ولعبا» على هذا مفعول من أجله ؛ أي : اكتسبوه لأجل اللهو واللعب.

والثاني : أنها المتعدّية إلى اثنين : أولهما «دينهم» ، وثانيهما (لَعِباً وَلَهْواً).

قال أبو حيّان (١) : ويظهر من بعض كلام الزمخشري (٢) ، وكلام ابن عطية (٣) أنّ (لَعِباً وَلَهْواً) هو المفعول الأوّل ، و «دينهم» هو المفعول الثاني.

قال الزمخشري (٤) : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعبا ولهوا ، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تبحير البحائر وتسييب السّوائب من باب اللهو واللعب ، واتّباع هوى النفس ، وما هو من جنس الهزل لا الجدّ ، أو اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام دينا لهم ، أو اتخذوا دينهم الذي كلّفوه ، وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به ؛ قال : «فظاهر تقديره الثاني يدلّ على ما ذكرنا».

وقال ابن عطيّة (٥) : «وأضاف الدّين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللّعب واللهو دينا ، ويحتمل أن يكون المعنى : اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا ، فتفسيره الأوّل هو ما ذكرناه عنه». انتهى.

قال شهاب الدين (٦) : وهذا الذي ذكراه إنما ذكراه تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وكيف يجعلان النكرة مفعولا أوّل ، والمعرفة مفعولا ثانيا من غير داعية إلى ذلك ، مع أنهما من أكابر أهل هذا اللسان ، وانظر كيف أبرزا ما جعلاه مفعولا أول معرفة ، وما جعلاه ثانيا نكرة في تركيب كلامهما [يخرج] على كلام العرب ، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثا عنها ، والمعرفة حديثا في كلام الله تعالى؟

قوله تعالى : و (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها مستأنفة.

والثاني : أنها عطف على صلة «الّذين» ، أي : الذين اتّخذوا وغرّتهم ، وقد تقدم معنى «الغرور» في آخر آل عمران.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٥٩.

(٢) الكشاف ٢ / ٣٦.

(٣) المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٥.

(٥) المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٥.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٠.

٢١١

وقيل هنا : غرّتهم من «الغرّ» بفتح الغين ، أي : ملأت أفواههم وأشبعتهم ، وعليه قول الشاعر : [الطويل]

٢١٩٩ ـ ولمّا التقينا بالحليبة غرّني

بمعروفه حتّى خرجت أفوق (١)

فصل في معنى الآية

المراد من هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا ، يعني الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا.

وقيل : إن الله ـ تعالى ـ جعل لكل قوم عيدا واتّخذ كل قوم دينهم ؛ أي عيدهم لعبا ولهوا ، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير ، وفعل الخير مثل الجمعة والفطر والنّحر.

وقيل : إن الكفّار كانوا يحكمون في دين الله بمجرّد [التشهّي والتمني مثل تحريم](٢) السّوائب والبحائر.

وقيل : اتخاذهم الأصنام وغيرها دينا لهم.

وقيل : هم الذين ينصرون الدين ليتوسّلوا به إلى أخذ المناصب والرّياسة ، وغلبة الخصم ، وجمع الأموال ، فهولاء الذين [نصروا الدّين](٣) لأجل الدنيا ، وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو.

ويؤكّد هذا الوجه قوله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

قوله : (وَذَكِّرْ بِهِ) أي : بالقرآن ، يدلّ له قوله : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] وقيل : يعود على «حسابهم».

وقيل : على «الدّين» أي : الذي يجب عليهم أن يتداينوا ، ويعتقدوا بصحته.

وقيل : هذا ضمير يفسره ما بعده ، وسيأتي إيضاحه.

قوله : (أَنْ تُبْسَلَ) في هذا وجهان :

المشهور ـ بل الإجماع ـ على أنه مفعول من أجله ، وتقديره : مخافة أن تبسل ، أو كراهة أن تبسل أو ألّا تبسل.

والثاني : قال أبو حيّان (٤) بعد أن نقل الاتّفاق على المفعول من أجله : «ويجوز عندي أن يكون في موضع جرّ على البدل من الضمير ، والضمير مفسّر بالبدل ، ويضمر الإبسال لما في الإضمار من التّفخيم ، كما أضمروا ضمير الأمر والشّأن ، والتقدير : وذكّر

__________________

(١) ينظر البيت في البحر ٤ / ١٦٠ ، روح المعاني ٧ / ١٨٦ ، والدر المصون ٣ / ٩٠ ، حاشية الشهاب على البيضاوي ٤ / ٨٠.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٦٠.

٢١٢

بارتهان النفوس ، وحبسها بما كسبت ، كما قالوا : «اللهم صلّ عليه الرءوف الرحيم» ، وقد أجاز ذلك سيبويه (١) ؛ قال : فإن قلت : ضربت وضربوني قومك ، نصبت إلا في قول من قال : «أكلوني البراغيث» أو تحمله على البدل من المضمر.

وقال أيضا : فإن قلت : «ضربني وضربتهم قومك ، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل ، كما جعلته في الرفع». انتهى.

وقد روي قوله : [الطويل]

٢٢٠٠ ..........

 .......... فاستاكت به عود إسحل(٢)

بجر «عود» على البدل من الضمير.

قال شهاب الدين (٣) : أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل ، فهو قول الأخفش ، وأنشد عليه هذا العجز وأوله : [الطويل]

٢٢٠١ ـ إذا هي لم تستك بعود أراكة

تنخّل فاستاكت به عود إسحل (٤)

والبيت لطفيل الغنويّ ، يروى برفع «عود» ، وهذا هو المشهور عند النّحاة ، ورفعه على إعمال الأول ، وهو «تنخّل» ، وإهمال الثاني وهو «فاستاكت» ، فأعطاه ضميره ، ولو أعمله لقال : «فاستاكت بعود إسحل» ، ولا يمكن لانكسار البيت ، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جدّا لا يعرفها أكثر المعربين ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله : [الطويل]

٢٢٠٢ ـ على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم (٥)

بجر «حاتم» بدلا من الهاء في «جوده» ، والقوافي مجرورة لكان أولى.

والإبسال : الارتهان ، ويقال : أبسلت ولدي وأهلي ، أي ارتهنتهم ؛ قال : [الوافر]

٢٢٠٣ ـ وإبسالي بنيّ بغير جرم

بعوناه ولا بدم مراق (٦)

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٣٩.

(٢) جزء من عجز بيت وتمامه في البيت الذي يليه ، والبيت لعمر بن أبي ربيعة في ملحق ديوانه ص (٤٩٨) ، الرد على النحاة ص (٩٧) ، شرح المفصل ١ / ٧٩ ، الكتاب ١ / ٧٨ ، ولطفيل الغنوي في ديوانه ص (٦٥ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ١٨٨ ، ولعمر أو لطفيل أو للمقنّع الكندي في المقاصد النحوية ٣ / ٣٢ ، ولعبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي أو لطفيل الغنوي في شرح شواهد الإيضاح ص (٨٩) ، أمالي ابن الحاجب ١ / ٤٤٤ ، الدرر ١ / ٢٢٢ ، شرح الأشموني ١ / ٢٠٥ ، همع الهوامع ١ / ج ٦٦ ، الدر المصون ٣ / ٩١ البحر المحيط ٤ / ١٦٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩١.

(٤) تقدم قريبا.

(٥) تقدم.

(٦) البيت لعوف بن الأحوص الباهلي.

ينظر : لسان العرب (بعا) ، التهذيب ٣ / ٢٤١ ، القرطبي ٧ / ١٣ ، مجاز القرآن ١ / ١٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٩١.

٢١٣

بعونا : جنينا ، والبعو : الجناية.

وقيل : الإبسال أن يسلم الرجل نفسه للهلكة وقال الراغب (١) : «البسل : ضمّ الشيء ومنعه ، ولتضمّنه معنى الضّمّ استعير لتقطّب الوجه ، فقيل : هو باسل ومبتسل الوجه ، ولتضمينه معنى المنع قيل للمحرّم والمرتهن : بسل» ، ثم قال : والفرق بين الحرام والبسل أنّ الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالقهر والحكم ، والبسل هو الممنوع بالقهر ، وقيل للشجاعة : بسالة ؛ إما لما يوصف به الشجاع من عبوس وجهه ، ولأنه شديد البسورة يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه ، وقال تعالى : (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) [المدثر : ٢٢] فإذا زاد قالوا بسل ، أو لكونه محرما على أقرانه ، أو لأنه يمنع ما في حوزته ، وما تحت يده من أعدائه والبسلة : أجرة الرّاقي مأخوذة من قول الرّاقي : أبسلت زيدا ؛ أي : جعلته محرّما على الشيطان ، أو جعلته شجاعا قويّا على مدافعته ، و «بسل» في معنى «أجل» و «بس». أي : فيكون حرف جواب ك «أجل» ، واسم فعل بمعنى اكتف ك «بس».

وقوله «بما» متعلّق ب «تبسل» ، أي بسبب ، و «ما» مصدرية ، أو بمعنى «الذي» ، أو نكرة وأمرها واضح.

فصل في معنى التبسل

قال مجاهد وعكرمة والسدي : قال ابن عبّاس : «تبسل» : تهلك (٢) ، وروي عن ابن عباس ترتهن في جهنّم بما كسبت في الدنيا ، وهو قول الفراء (٣).

وقال قتادة : تحبس في جهنم (٤).

وقال الضحاك : تحرق.

وقال الأخفش : تجازى.

وروي عن ابن عباس : تفضح (٥) وقال ابن زيد : تؤخذ (٦).

قوله : «ليس لها» هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك.

والثاني : أنها في محلّ رفع صفة ل «نفس».

__________________

(١) ينظر : المفردات ٤٦.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٣ / ٢٤) عن الحسن ومجاهد.

(٣) ينظر : الرازي ١٣ / ٢٤.

(٤) أخرجه الطبري (٥ / ٢٢٩) عن قتادة وابن زيد.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٢٢٩) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٣٩) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والرازي ١٣ / ٢٤.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٢٩) عن ابن زيد.

٢١٤

والثالث : أنها في محلّ نصب حالا من الضمير في «كسبت».

قوله : «من دون» في «من» وجهان :

أظهرهما : أنها لابتداء الغاية.

والثاني : أنها زائدة نقله ابن عطية (١) ، وليس بشيء ، وإذا كانت لابتداء الغاية ، ففيما يتعلّق به وجهان :

أحدهما : أنها حال من «وليّ» ؛ لأنها لو تأخرّت لكانت صفة له فتتعلّق بمحذوف هو حال.

الثاني : أنها خبر «ليس» فتتعلّق بمحذوف أيضا هو خبر ل «ليس» ، وعلى هذا فيكون «لها» متعلقا بمحذوف على البيان ، كما تقدم نظيره ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) فيه حذف مضاف أي: من دون عذابه وجزائه وليّ ولا شفيع يشفع لها في الآخرة.

قوله : (وَإِنْ تَعْدِلْ) أي : تفتدي «كلّ عدل» : كلّ فداء ، و «كل» منصوب على المصدرية ؛ لأن «كل» بحسب ما تضاف إليه هذا هو المشهور ، ويجوز نصبه على المفعول به ؛ أي : وإن تفد يداها كلّ ما تفدي به لا يؤخذ ، فالضمير في «لا يؤخذ» على الأوّل ، قال أبو حيّان : «عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ، ولا يعود إلى المصدر ؛ لأنه لا يسند إليه الأخذ ، وأما في (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] فبمعنى المفديّ به فيصح» انتهى. أي : إنه إنما أسند الأخذ إلى العدل صريحا في «البقرة» ؛ لأنه ليس المراد المصدر ، بل الشيء المفديّ به ، وعلى الثّاني يعود على «كل عدل» ؛ لأنه ليس مصدرا فهو كآية البقرة.

وقال ابن الخطيب (٢) : ويمكن حمل الأخذ هنا بمعنى القبول ؛ قال تعالى (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة : ١٠٤] أي : يقبلها وإذا [ثبت هذا فيحمل](٣) الأخذ هاهنا على القبول ويزول المحذور ، وفي إسناد الأخذ إلى المصدر عبارة عن الفعل يعني يؤخذ مسندا «إلى» منها لا إلى ضميره أي : لأن العدل بالمعنى المصدري لا يؤخذ ، بخلاف قوله : (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فإنه المفديّ به.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا) ، يجوز أن يكون «الّذين» خبرا ، و (لَهُمْ شَرابٌ) خبرا ثانيا ، وأن يكون (لَهُمْ شَرابٌ) حالا ؛ إما من الضمير في «أبسلوا» وإمّا من الموصول نفسه ، و «شراب» فاعل لاعتماد الجار قبله على ذي الحال ، ويجوز أن يكون (لَهُمْ شَرابٌ) مستأنفا ، فهذه ثلاثة أوجه ، ويجوز أن يكون «الذين» بدلا من «أولئك» أو نعتا فيتعين أن تكون الجملة من «لهم شراب» خبرا للمبتدأ ، فيحصل في الموصول أيضا ثلاثة

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٦.

(٢) ينظر : الرازي ١٣ / ٢٤.

(٣) سقط في أ.

٢١٥

أوجه ؛ كونه خبرا ، أو بدلا ، أو نعتا فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه في هذه الآية ، و «شراب» يجوز رفعه من وجهين ؛ الابتدائية والفاعلية عند الأخفش ، وعند سيبويه أيضا على أن يكون «لهم» هو خبر المبتدأ أو حالا ، حيث جعلناه حالا ، و «شراب» مرتفع به لاعتماده على ما تقدّم ، و «من حميم» صفة ل «شراب» فهو في محلّ رفع ، ويتعلق بمحذوف.

و «شراب» فعال بمعنى مفعول ك «طعام» بمعنى «مطعوم» ، و «شراب» بمعنى «مشروب» لا ينقاس ولا يقال : «أكال» بمعنى «مأكول» ولا «ضراب» بمعنى «مضروب».

والإشارة بذلك إلى الّذين اتخذوا في قول الزمخشري (١) والحوفي ، فلذلك أتى بصيغة الجمع ، وفي قول ابن عطية (٢) وأبي البقاء (٣) إلى الجنس المفهوم من قوله (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) إذ المراد به عموم الأنفس ، فلذلك أشير إليه بالجمع ، ومعنى الآية : أولئك الذين أبسلوا أسلموا للهلاك بما كسبوا (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).

قوله تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٧٢)

المقصود من هذه الآية الرّدّ على عبدة الأصنام ، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الأنعام : ٥٦].

فقوله : (أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي : أنعبد من دون الله النّافع الضّارّ ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه ، ولا على ضرنا إن تركناه.

قوله (أَنَدْعُوا) استفهام توبيخ وإنكار ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، و «ما» مفعولة ب «ندعوا» ، وهي موصولة أو نكرة موصوفة ، و (مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق ب «ندعوا».

قال أبو البقاء (٤) : «ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في «ينفعنا» ولا معمولا ل «ينفعنا» لتقدّمه على «ما» ، والصلة والصفة لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف.

قوله : «من الضمير في ينفعنا» يعني به المرفوع العائد على «ما» وقوله : «لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف» يعني : أن «ما» لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون (مِنْ دُونِ) حالا من «ما» نفسها على قوله ؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالا من ضميره الذي في «ينفعنا» إلّا صناعيا لا معنويا ، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٧.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٧.

٢١٦

أنه إذا جاز أن يكون حالا من ظاهره ، جاز أن يكون حالا من ضميره ، إلا أن يمنع مانع.

قوله : «ونردّ» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه نسق على «ندعوا» فهو داخل في حيّز الاستفهام المتسلّط عليه القول.

الثاني : أنه حال على إضمار مبتدأ ؛ أي : ونحن نردّ.

قال أبو حيّان (١) بعد نقله هنا عن أبي البقاء : «وهو ضعيف لإضمار المبتدأ ، ولأنها تكون حالا مؤكّدة» ، وفي كونها مؤكدة نظر ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوّل ، وكأنه يقول : من لازم الدعاء (مِنْ دُونِ اللهِ) الارتداد على العقب.

قوله : (عَلى أَعْقابِنا) فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلّق ب «نردّ».

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع «نرد» أي : نرد راجعين على أعقابنا ، أو منقلبين ، أو متأخرين كذا قدّروه ، وهو تفسير معنى ؛ إذا المقدّر في مثله كون مطلق ، وهذا يحتمل أن يقال فيه : إنه حال مؤكدة ، و «بعد إذ» متعلّق ب «نردّ».

[ومعنى الآية : ونرد على أعقابنا إلى الشّرك مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام.

يقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى خلف ، ورجع على عقبيه ، ورجع القهقرى ؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل ثم يترقى ويتعلم حتى يتكامل ، ويحصل له العلم. قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل : ٧٨] فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى ، فكأنه رجع إلى أوّل أمره ، فلهذا السبب يقال : فلان ردّ على عقبيه](٢).

قوله (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ) في هذه الكاف وجهان :

أحدهما : أنه نعت مصدر محذوف ؛ أي : نردّ ردّا مثل ردّ الذين.

الثاني : في محلّ نصب على الحال من مرفوع «نرد» ، أي : نرد مشبهين الذي استهوته الشياطين ، فمن جوّز تعدّد الحال جعلها حالا ثانية ، إن جعل (عَلى أَعْقابِنا) حالا ، ومن لم يجوّز ذلك جعل هذه الحال بدلا من الحال الأولى ، أو لم يجعل على أعقابنا حالا ، بل متعلّقا ب «نرد». والجمهور على (٣) «استهوته» بتاء التأنيث ، وحمزة (٤) «استهواه» وهو على قاعدته من الإمالة ، والوجهان معروفان مما تقدم في (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) [الأنعام : ٦١] وقرأ (٥) أبو عبد الرحمن والأعمش : «استهوته الشّيطان» بتأنيث الفعل ، والشيطان مفردا.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩٣.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢ ، حجة القراءات ص (٢٥٦).

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٩٢ ، حجة القراءات ص (٢٥٦).

(٥) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢ ، روح المعاني ٧ / ١٨٩.

٢١٧

قال الكسائي (١) : «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» ، وتوجيه هذه القراءة أنّا نؤوّل المذكر بمؤنث كقولهم : «أتته كتابي فاحتقرها» ؛ أي : صحيفتي ، وتقدّم له نظائر.

وقرأ الحسن البصري (٢) : «الشّياطون» وجعلوها لحنا ، ولا تصل إلى اللّحن ، إلا أنها لغيّة رديئة ، سمع : حول بستان فلان بساتون وله سلاطون ، ويحكى أنه لما حكيت قراءة الحسن لحّنه بعضهم ، فقال الفراء (٣) : «أي والله يلحّنون الشيخ ، ويستشهدون بقول رؤبة». ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك.

والمراد ب «الّذي» الجنس ، ويحتمل أن يراد به الواحد الفذّ.

قوله : (فِي الْأَرْضِ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق بقوله : «استهوته».

الثاني : أنه حال من مفعول «استهوته».

الثالث : أنه حال من «حيران».

الرابع : أنه حال من الضمير المستكنّ في «حيران» ، و «حيران» حال إما من «هاء» «استهوته» على أنها بدل من الأولى ، وعند من يجيز تعدّدها ، وإما من «الّذي» ، وإما من الضمير المستكن في الظرف ، و «حيران» مؤنثه «حيرى» ، فلذلك لم ينصرف ، والفعل حار يحار حيرة وحيرانا وحيرورة ، و «الحيران» المتردّد في الأمر لا يهتدي إلى مخرج.

وفي اشتقاق «استهوته» قولان :

الأول : أنه مشتق من الهويّ في الأرض ، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [السافلة](٤) العميقة [في قعر الأرض](٥) فشبه الله تعالى حال هذا الضّال به ، كقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) [الحج : ٣١] ولا شك أن الإنسان حال هويّه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يكون في غاية الاضطراب والدهشة والحيرة.

والثاني : أنه مشتقّ من اتّباع الهوى والميل ، فإنه من كان كذلك ، فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة.

واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن ؛ لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة ، يحصل له كمال التّردّد والدهشة والحيرة ؛ لأنه لا يعرف على أي موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقلّ (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢ ، روح المعاني ٧ / ١٨٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢ ، روح المعاني ٧ / ١٨٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢ ، روح المعاني ٧ / ١٨٩.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الرازي ١٣ / ٢٠.

٢١٨

قوله «له أصحاب» جملة في محلّ نصب صفة ل «حيران» ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «حيران» ، وأن تكون مستأنفة (١) ، و (إِلَى الْهُدَى) متعلقة ب «يدعونه» ، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته : «أتينا» بصيغة الماضي ، و (إِلَى الْهُدَى) على هذه القراءة متعلّق به ، وعلى قراءة الجمهور ، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقولون : ائتنا والقول المضمر في محل صفة لأصحاب وكذلك «يدعونه». قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان.

وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضّالّ أصحابا يدعونه إلى ذلك الضّلال ، ويسمونه بأنه هو الهدى ، والصحيح الأوّل.

ثم قال تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) يزجر بذلك عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلك ، فإن الهدى هدى الله لا هادي غيره. قوله : «وأمرنا لنسلم» في هذه «اللام» أقوال :

أحدها : وهو مذهب سيبويه (٢) أن هذه اللام بعد الإرادة والأمر وشبههما متعلّقة بمحذوف على أنها خبر للمبتدأ ، وذلك المبتدأ هو مصدر من ذلك الفعل المتقدم ، فإذا قلت : أردت لتقوم وأمرت زيدا ليذهب ، كان التقدير : الإرادة للقيام ، والأمر للذّهاب ، كذا نقل أبو حيّان (٣) ذلك عن سيبويه وأصحابه ، وفيه ضعف تقدّم في سورة النساء عند قوله (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦].

الثاني : أن مفعول الأمر والإرادة محذوف ، وتقديره : وأمرنا بالإخلاص لنسلم.

الثالث : قال الزمخشري (٤) : هي تعليل للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم.

الرابع : أن «اللام» زائدة ؛ أي : أمرنا أن نسلم.

الخامس : أنها بمعنى «الباء» أي بأن نسلم.

السادس : أن «اللام» وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي : أنهما متعاقبان ، فتقول : أمرتك لتقوم ، وأن تقوم ، وهذا مذهب الكوفيين.

وقال ابن عطية (٥) : ومذهب سيبويه أن «لنسلم» في موضع المفعول ، وأن قولك : أمرت لأقوم وأن أقوم يجريان سواء وقال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٩٤ ، البحر المحيط ٤ / ١٦٢.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٧٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٦٣.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٧.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٨.

٢١٩

٢٠٤٤ ـ أريد لأنسى حبّها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ طريق (١)

وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه ما تقدّم تحقيقه في «سورة النساء».

قوله (وَأَنْ أَقِيمُوا) فيه أقوال :

أحدها : أنها في محلّ نصب بالقول نسقا على قوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي : قل هذين الشيئين.

والثاني : أنه نسق على «لنسلم» أي : وأمرنا بكذا للإسلام ، ولنقيم الصلاة ، و «أن» توصل بالأمر كقولهم : كتبت إليه بأن قم ، حكاه سيبويه (٢) وهذا رأي الزّجّاج (٣).

والثالث : أنه نسق على «ائتنا» قال مكي (٤) : لأن معناه : «أن ائتنا» ، وهو غير ظاهر.

والرابع : أنه معطوف على مفعول الأمر المقدر ، والتقدير : وأمرنا بالإيمان ، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية (٥).

قال أبو حيّان (٦) : وهذا لا بأس به ، إذ لا بدّ من تقدير المفعول الثاني ل «أمرنا» ويجوز حذف المعطوف عليه لفهم المعنى ؛ تقول : أضربت زيدا؟ فتجيب نعم وعمرا ؛ التقدير : ضربته وعمرا.

وقد أجاز الفراء : «جاءني الذي وزيد قائمان» ، التقدير : الذي هو وزيد قائمان ، فحذف «هو» لدلالة المعنى عليه ، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين.

و «أما نعم وعمرا» فلا دلالة فيه ؛ لأن «نعم» قامت مقام الجملة المحذوفة.

وقال مكي (٧) قريبا من هذا القول ، إلّا أنه لم يصرّح بحذف المعطوف عليه ، فإنه قال : و «أن» في موضع نصب بحذف الجارّ ، تقديره : وبأن أقيموا ، فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية ، إلّا أن ذلك [أوضحه](٨) بحذف المعطوف عليه.

وقال الزمخشري (٩) : فإن قلت : علام عطف قوله : (وَأَنْ أَقِيمُوا)؟ قلت : على موضع «لنسلم» كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم ، وأن أقيموا.

قال أبو حيّان (١٠) : وظاهر هذا التقدير أن «لنسلم» في موضع المفعول الثاني ل «أمرنا» وعطف عليه : (وَأَنْ أَقِيمُوا) فتكون اللام على هذا زائدة ، وكان قد تقدّم قبل هذا أن «اللام» تعليل للأمر ، فتناقض كلامه ؛ لأن ما يكون علّة يستحيل أن يكون مفعولا ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٧٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٨٨.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٧١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣٠٨.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٦٤.

(٧) ينظر : المشكل ١ / ٢٧١.

(٨) سقط في أ.

(٩) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٨.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٦٤.

٢٢٠