اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

منطلق» ، أو بعدها نحو : «أفزيد منطلق» ، وكلاهما ممتنع ، أمّا الأوّل فلتصدر «الفاء» على الهمزة.

وأما الثّاني ، فإنه يؤدّي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجب فيه الإتيان بها وهذا بخلاف هل ، فإنك تأتي بالفاء قبلها ، فنقول : «إن قمت فهل زيد قائم» ؛ لأنه ليس لها تمام التصدير الذي تستحقّه الهمزة ، ولذلك تصدّرت على بعض حروف العطف ، وقد تقدّم [مشروحا](١) مرارا.

الثالث : أنه (أَغَيْرَ اللهِ) وهو ظاهر عبارة الزمخشري ، فإنه قال : «ويجوز أن يتعلّق الشّرط بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) ، كأنه قيل : أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله».

قال أبو حيّان : ولا يجوز أن يتعلّق الشرط بقوله : (أَغَيْرَ اللهِ) ؛ لأنه لو تعلّق به لكان جوابا له ، لكنه لا يقع جوابا ؛ لأن جواب الشّرط إذا كان استفهاما بالحرف لا يقع إلا ب «هل» وذكر ما قدّمته إلى آخره ، وعزاه الأخفش عن العرب ، ثم قال : «ولا يجوز أيضا من وجه آخر ؛ لأنّا قد قرّرنا أنّ «أرأيتك» متعدّية إلى اثنين ؛ أحدهما في هذه الآية محذوف ، وأنه من باب التّنازع ، والآخر وقعت الجملة الاستفهاميّة موقعه ، فلو جعلتها جواب الشّرط لبقيت «أرأيتكم» متعدّية إلى واحد ، وذلك لا يجوز».

قال شهاب الدين (٢) : وهذا لا يلزم الزمخشري ، فإنه لا يرتضي ما قاله من الإعراب المشار إليه.

قوله : «يلزم تعدّيها لواحد».

قلنا : لا نسلّم ، بل يتعدّى لاثنين محذوفين ثانيهما جملة الاستفهام ، كما قدّره غيره : ب «أرأيتكم عبادتكم هل تنفعكم» ثم قال : «وأيضا التزام العرب في الشّرط الجائي بعد «أرأيت» مضيّ الفعل دليل على أنّ جواب الشرط محذوف ؛ لأنه لا يحذف جواب الشرط إلّا عند مضيّ فعله ، قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) [الأنعام : ٤٧] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ (٣) إِنْ أَخَذَ اللهُ) [الأنعام : ٤٦] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ) [القصص : ٧١] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ) [يونس : ٥٠] (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) [الشعراء : ٢٠٥] (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [العلق : ١٣] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال الشاعر : [الرجز]

٢١٦٧ ـ أريت إن جاءت به أملودا (٣)

وأيضا مجيء الجملة الاستفهاميّة مصدّرة بهمزة الاستفهام دليل على أنها ليست جواب الشّرط ، إذ لا يصحّ وقوعها جوابا للشرط» انتهى.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٠.

(٣) تقدم.

١٤١

ولمّا جوّز الزمخشري أن الشّرط متعلّق بقوله : «أغير الله» سأل سؤالا ، وأجاب عنه ، قال : «فإن قلت : إن علّقت الشّرط به ، فما تصنع بقوله : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) مع قوله : (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) ، وقوارع السّاعة لا تكشف عن المشركين؟

قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة وهو قوله : (إِنْ شاءَ) إيذانا بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة ، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه».

قال أبو حيّان (١) : «وهذا مبنيّ على أن الشّرط متعلق ب (أَغَيْرَ اللهِ) وقد استدللنا على أنه لا يجوز».

قال شهاب الدين (٢) : ترك الشّيخ التّنبيه على ما هو أهمّ من ذلك ، وهو قوله : «إلّا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه» وهذا أصل فاسد من أصول المعتزلة يزعمون أن أفعاله ـ تعالى ـ تابعة لمصالح وحكم ، يترّجح مع بعضها الفعل ، ومع بعضها الترك ، ومع بعضها يجب الفعل أو الترك ، تعالى الله عن ذلك ، بل أفعاله لا تعلّل بغرض من الأغراض ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] ، كما تقرر في علم الأصول.

الرابع : أن جواب الشّرط محذوف تقديره : إن أتاكم عذاب الله ، أو أتتكم السّاعة [دعوتم](٣) ودلّ عليه قوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

الخامس : أنه محذوف أيضا ، ولكنه مقدّر من جنس ما تقدّم في المعنى ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله ، أو أتتكم السّاعة فأخبروني عنه أتدعون غير الله لكشفه ، كما تقول : «أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به» ، أي : إن جاءك فأخبرني عنه ، فحذف الجواب لدلالة «أخبرني» عليه ، ونظيره : أنت ظالم إن فعلت ، أي : فأنت ظالم ، فحذف «فأنت ظالم» لدلالة ما تقدّم عليه.

وهذا ما اختاره أبو حيّان.

قال : «وهو جار على قواعد العربية» وادّعى أنه لم يره لغيره.

قوله : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ).

«غير» مفعول مقدّم ل «تدعون» ، وتقديمه : إمّا للاختصاص كما قال الزمخشري : بكّتهم بقوله : أغير الله تدعون ، بمعنى : أتخصّون آلهتكم بالدّعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ ، أم تدعون الله دونها ، وإمّا للإنكار عليهم في دعائهم للأصنام ؛ لأن المنكر إنما هو دعاء الأصنام لا نفس الدّعاء ، ألا ترى أنك إذا قلت : «أزيدا تضرب» إنما تنكر كون «زيد» محلّا للضّرب ، [ولا تنكر نفس الضرب ،](٤) وهذا من قاعدة بيانيّة قدمت التنبيه عليها عند قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٠.

(٣) سقط في ب.

(٤) سقط في ب.

١٤٢

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) جوابه محذوف لدلالة الكلام عليه ، وكذلك معمول «صادقين» ، والتقدير : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ غير الله إله ، فهل تدعونه لكشف ما يحلّ بكم من العذاب؟

فصل في المراد من الآية

معنى الآية : قال ابن عبّاس : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله قبل الموت ، أرأيتكم السّاعة يعنى العذاب يوم القيامة ، أترجعون إلى غير الله في دفع البلاء والضّرّ ، أو ترجعون إلى الله في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان (١) ، وأراد أن الكفّار يدعون الله في أحوال الاضطرار كما أخبر الله عنهم (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [لقمان : ٣٢] لا جرم قال : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) «بل» حرف إضراب وانتقال ، لا إبطال لما عرف غير مرّة من أنها في كلام الله كذلك ، و «إيّاه» مفعول مقدّم للاختصاص عند الزمخشري (٢) ، ولذلك قال : بل تخصّونه بالدّعاء ، وعند غيره للاعتناء ، وإن كان ثمّ حصر واختصاص فمن قرينة أخرى ، و «إياه» ضمير منصوب منفصل تقدّم الكلام عليه في «الفاتحة» (٣).

وقال ابن عطية (٤) : «هنا «إيّا» اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه مضاف أبدا».

قال أبو حيان (٥) : وهذا خلاف مذهب سيبويه (٦) أن ما بعد «إيّا» حرف يبيّن أحوال الضمير ، وليس مضافا لما بعده لئلا يلزم تعريف الإضافة ، وذلك يستدعي تنكيره ، والضّمائر لا تقبل التنكير فلا تقبل الإضافة.

قوله : «ما تدعون» يجوز في «ما» أربعة أوجه :

أظهرها : أنها موصولة بمعنى «الذي» ، أي : فيكشف الذي تدعون ، والعائد محذوف لاستكمال الشروط ، أي : تدعونه.

الثاني : أنها ظرفيّة ، قاله ابن عطية (٧) ، وعلى هذا فيكون مفعول «يكشف» محذوفا تقديره : فيكشف العذاب مدّة دعائكم ، أي : ما دمتم داعينه وقال أبو حيّان (٨) : وهذا ما لا حاجة إليه مع أنّ فيه وصلها بمضارع ، وهو قليل جدا تقول : «لا أكلّمك ما طلعت الشمس» ، ويضعف : «ما تطلع الشمس».

__________________

(١) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ١٨٤) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٢.

(٣) آية ٥.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٢.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ٣٨٠.

(٧) المحرر الوجيز ٢ / ٢٩١.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٢.

١٤٣

قال شهاب الدين (١) : قوله : «بمضارع» كان ينبغي أن يقول : «مثبت» ؛ لأنه متى كان منفيّا ب «لم» كثر وصلها به ، نحو قوله : [الطويل]

٢١٦٨ ـ ولن يلبث الجهّال أن [يتهضّموا] (٢)

أخا الحلم ما لم يستعن بجهول (٣)

ومن وصلها بمضارع مثبت قوله : [الوافر]

٢١٦٩ ـ أطوف ما أطوّف ثمّ آوي

إلى أمّى ويرويني النّقيع (٤)

وقول الآخر : [الوافر]

٢١٧٠ ـ أطوّف ما أطوّف ثمّ آوي

إلى بيت قعيدته لكاع (٥)

ف «أطوّف» صلة ل «ما» الظرفية.

الثالث : أنها نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء (٦) ، والعائد أيضا محذوف أي : فيكشف شيئا تدعونه ، أي : تدعون كشفه ، والحذف من الصّفة أقلّ منه من الصلة.

الرابع : أنها مصدريّة ، قال ابن عطيّة (٧) : «ويصحّ أن تكون مصدريّة على حذف في الكلام».

قال الزّجّاج (٨) : وهو مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

قال شهاب الدين (٩) : فيكشف سبب دعائكم وموجبه.

قال أبو حيّان (١٠) : وهذه دعوى محذوف غير معيّن ، وهو خلاف الظاهر.

وقال أبو البقاء (١١) : «وليست مصدريّة إلّا تجعلها مصدرا بمعنى المفعول» يعني

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٢.

(٢) في ب : يتنمصوا.

(٣) البيت لكعب الغنوي ينظر : الهمع ١ / ٨٢ ، الخزانة ٨ / ٥٧٣ ، الأصمعيات ٧٦ ، الدر المصون ٣ / ٦٢.

(٤) البيت لنفيع بن جرموز العبشمي.

ينظر : المؤتلف والمختلف ص (١٩٥) ، نوادر أبي زيد ص (١٩) ، وينظر : الدرر ٥ / ٥٤ ، شرح الأشموني ٢ / ٣٣٢ ، شرح عمدة الحافظ ص (٥١٢) ، لسان العرب (نقع) ، المقاصد النحوية ٤ / ٢٤٧ ، المقرب ١ / ٢١٧ ، ٢ / ٢٠٦ ، همع الهوامع ٣٢ / ٥٣ ، الدر المصون ٣ / ٦٢.

(٥) البيت للحطيئة في ملحق ديوانه ص (١٥٦) ، جمهرة اللغة ص (٦٦٢) ، خزانة الأدب ٢ / ٤٠٤ ، ٤٠٥ ، الدرر ١ / ٢٥٤ ، شرح التصريح ٢ / ١٨٠ ، شرح المفصل ٤ / ٥٧ ، المقاصد النحوية ١ / ٤٧٣ ، ٤ / ٢٢٩ ، ولأبي الغريب النصري في لسان العرب (لكع) وينظر : أوضح المسالك ٤ / ٤٥ ، شرح شذور الذهب ص (١٢٠) ، شرح ابن عقيل ص (٧٦) ، المقتضب ٤ / ٢٣٨ ، همع الهوامع ١ / ٨٢ ، ١٧٨ الدر المصون ٣ / ٦٢.

(٦) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٢.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩١.

(٨) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٧١.

(٩) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٢.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٢.

(١١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٢.

١٤٤

يصير تقديره : فيكشف مدعوّكم ، أي : الذي تدعون لأجله ، وهو الضّرّ ونحوه.

قوله : «إليه» فيما يتعلّق به وجهان :

أحدهما : أن يتعلّق ب «تدعون» ، والضّمير حينئذ يعود على «ما» الموصولة ، أي : الذي تدعون إلى كشفه ، و «دعا» بالنسبة إلى متعلّق الدعاء يتعدّى ب «إلى» أو «اللام».

قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ) [النور : ٤٨].

وقال : [الطويل]

٢١٧١ ـ وإن أدع للجلّى أكن من حماتها

 .......... (١)

وقال : [البسيط]

٢١٧٢ ـ وإن [دعوت] (٢) إلى جلّى ومكرمة

يوما سراة كرام النّاس فادعينا (٣)

وقال : [المتقارب]

٢١٧٣ ـ دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبّي يدي مسور (٤)

والثاني : أن يتعلّق ب «يكشف».

قال أبو البقاء (٥) : «أي : يرفعه إليه» انتهى.

والضمير على هذا عائد على الله تعالى ، وذكر أبو البقاء وجهي التعلق ولم يتعرّض للضمير ، [وقد عرفته](٦).

وقال ابن عطية (٧) : والضمير في «إليه» يحتمل أن يعود إلى الله ، بتقدير : فيكشف ما تدعون فيه إليه.

قال أبو حيّان (٨) : وهذا ليس بجيد ؛ لأنّ «دعا» يتعدّى لمفعول به دون حرف جرّ :

__________________

(١) البيت لطرفة ينظر : ديوانه (٨٥) شرح القصائد للتبريزي (١٨٤) ، التهذيب ١٠ / ٤٨٧ (جل) اللسان (جلل) الدر المصون ٣ / ٦٢.

(٢) في ب : دعيت.

(٣) تقدم.

(٤) البيت لرجل من بني أسد.

ينظر : الدرر ٣ / ٦٨ ، شرح التصريح ٢ / ٣٨ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩١٠ ، لسان العرب (لبى) ، المقاصد النحوية ٣ / ٣٨١ ، وأوضح المسالك ٣ / ١٢٣ ، خزانة الأدب ٢ / ٩٢ ، ٣. ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٧٤٧ ، شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٧٩ ، شرح الأشموني ٢ / ٣١٢ ، شرح ابن عقيل ص (٣٨٣ ، ٣٨٥) ، الكتاب ١ / ٣٥٢ ، المحتسب ١ / ٧٨ ، ٢ / ٢٣ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٧٨ ، همع الهوامع ١ / ١٩٠ ، الدر المصون ٣ / ٦٣.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٢.

(٦) سقط في ب.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٩١.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٣.

١٤٥

(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] ، (إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] ومن كلام العرب: «دعوت الله سميعا».

قلت : ومثله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء : ١١٠] (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) [الأعراف : ٥٥] قال : «ولا تقول بهذا المعنى : «دعوت إلى الله» بمعنى : دعوت الله ، إلّا أنه يمكن أن يصحّح كلامه بمعنى التّضمين ، ضمّن «تدعون» معن ى «تلجؤون فيه إلى الله» إلّا أنّ التضمين ليس بقياس ، لا يصار إليه إلّا عند الضّرورة ، ولا ضرورة تدعو إليه هنا».

قال شهاب الدين (١) : ليس التضمين مقصورا على الضرورة ، وهو في القرآن أكثر من أن يحصر ، وقد تقدّم منه جملة صالحة ، وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ مثلها على أنه قد يقال : تجويز أبي محمّد عود الضمير إلى الله ـ تعالى ـ محمول على أن «إليه» متعلّق ب «يكشف» ، كما تقدّم نقله عن أبي البقاء ، وأن معناه يرفعه إليه ، فلا يلزم المحذور المذكور ، لو لا أنه يعكّر عليه تقديره بقوله : «تدعون فيه إليه» ، فتقديره : «فيه» ظاهره أنه يزعم تعلّقه ب «تدعون».

قوله : «إن شاء» جوابه محذوف لفهم المعنى ، ودلالة ما قبله عليه ، أي : إن شاء أن يكشف كشف ، وادّعاء تقديم جواب الشرط هنا واضح لاقترانه ب «الفاء» فهو أحسن من قولهم : «أنت ظالم إن فعلت» لكن يمنع من كونها جوابا هنا أنها سببيّة مرتبة ، أي : أنها أفادت ترتّب الكشف عن الدعاء ، وأن الدّعاء سبب فيه ، على أن لنا خلافا في «فاء» الجزاء : هل تفيد السّببيّة أو لا؟

قوله : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) الظاهر في «ما» أن تكون موصولة اسمية ، والمراد بها ما

عبد من دون الله مطلقا : العقلاء وغيرهم ، إلّا أنه غلّب غير العقلاء عليهم كقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ) [النحل : ٤٩] والعائد محذوف ، أي : ما تشركونه مع الله في العبادة.

وقال الفارسي : «الأصل : وتنسون دعاء ما تشركون ، فحذف المضاف».

ويجوز أن تكون مصدريّة ، وحينئذ لا تحتاج إلى عائد عند الجمهور.

ثم هل هذا المصدر باق على حقيقته؟ أي : تنسون الإشراك نفسه لما يلحقكم من الدّهشة والحيرة ، أو هو واقع موقع المفعول به ، أي : وتنسون المشرك به ، وهي الأصنام وغيرها ، وعلى هذه فمعناه كالأوّل ، وحينئذ يحتمل أن يكون السياق على بابه من «الغفلة» وأن يكون بمعنى التّرك ، وإن كانوا [ذاكرين](٢) لها أي : للأصنام وغيرها.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٣.

(٢) في ب : داركين.

١٤٦

فصل في المراد من الآية

معنى الآية فيكشف الضّرّ الذي من أجله دعوتم إن شاء ، وهذه الآية تدلّ على أنه ـ تعالى ـ قد يجيب الدّعاء إن شاء ، وقد لا يجيبه.

فإن قيل : قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] يفيد الجزم بالإجابة ، وهاهنا علّق الإجابة على المشيئة ، فكيف يجمع بين الآيتين؟

فالجواب أن يقال : تارة يجزم سبحانه بالإجابة ، وتارة لا يجيب إمّا بحسب المشيئة كما يقول أهل السّنّة ، أو بحسب رعاية المصلحة كما يقول المعتزلة ، ولمّا كان كلا الأمرين حاصلا لا جرم وردت الآيتين على هذين الوجهين (١).

فصل في أن أصل الدين هو الحجة

وهذه الآية من أقوى الدّلائل على أن أصل الدين هو الحجّة والدليل ، لا يخصّ التقليد ؛ لأنه ـ تعالى ـ كان يقول لعبدة الأوثان إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله لا إلى الأصنام والأوثان ، فلم تقدمون على الأصنام التي لا تنتفعون بعبادتها ألبتّة ، وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الدّليل والحجّة مقبولا ، أمّا لو كان مردودا وكان الواجب التقليد كان هذا الكلام ساقطا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤٣)

في الكلام حذف تقديره : «أرسلنا رسلا إلى أمم فكذبوا فأخذناهم» وهذا الحذف ظاهر جدا.

و «من قبلك» متعلّق ب «أرسلنا» ، وفي جعله صفة ل «أمم» كلام تقدّم مرارا ، وتقدّم تفسير (الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [البقرة : ١٧٧] ولم يلفظ لهما بمذكر على «أفعل».

قوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا).

«إذ» منصوب ب «تضرّعوا» فصل به بين حرف التحضيض وما دخل عليه ، وهو جائز حتى في المفعول به ، تقول : «لو لا زيدا ضربت» ، وتقدّم أن حرف التّحضيض مع الماضي يكون معناه التّوبيخ ، والتّضرّع : «تفعّل» من الضّراعة ؛ وهي الذّلّة والهيبة المسببة عن الانقياد إلى الطاعة ، يقال : «ضرع يضرع ضراعة فهو ضارع وضرع».

قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ١٨٤.

١٤٧

٢١٧٤ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (١)

وللسهولة والتّذلّل المفهومة من هذه المادة اشتقّوا منها للثّدي اسما فقالوا له : «ضرعا».

قوله : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) «لكن» هنا واقعة بين ضدّين ، وهما اللّين والقسوة ؛ وذلك أن قوله : «تضرّعوا» مشعر باللّين والسّهولة ، وكذلك إذا جعلت الضّراعة عبارة عن الإيمان ، والقسوة عبارة عن الكفر ، وعبّرت عن السبب بالمسبّب ، وعن المسبّب بالسبب ، ألا ترى أنك تقول : «آمن قلبه فتضرّع ، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء (٢) : «ولكن» استدراك على المعنى ، أي ما تضرّعوا ولكن يعني أن التّحضيض في معنى النّفي ، وقد يترجّح هذا بما قاله الزمخشري (٣) فإنه قال : معناه نفي التضرّع كأنه قيل : لم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا ، ولكنه جاء ب «لو لا» ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التّضرّع إلّا قسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زيّنها الشّيطان لهم.

قوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ) هذه الجملة تحتمل وجهين :

أحدهما : أن تكون استئنافيّة أخبر تعالى عنهم بذلك.

والثاني ـ وهو الظاهر ـ : أنها داخلة في حيّز الاستدراك فهو نسق على قوله : (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) وهذا رأي الزمخشري فإنه قال (٤) : «لم يكن لهم عذر في ترك التّضرّع إلّا قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم» كما تقدّم و «ما» في قوله : (ما كانُوا) يحتمل [أن تكون موصولة اسمية أي : الذي كانوا يعملونه](٥) وأن تكون مصدرية ، أي : زيّن لهم عملهم ، كقوله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] ويبعد جعلها نكرة موصوفة.

فصل

دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السّنة ، لأنه بيّن في الآية الأولى أن الكفّار يرجعون إلى الله ـ تعالى ـ عند نزول الشّدائد ثم بيّن في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله ـ تعالى ـ عند كل ما كان من جنس الشّدائد ، بل قد يبقون مصرّين على الكفر غير راجعين إلى الله تعالى ، وذلك يدلّ على أنّ من لم يهده الله لم يهتد سواء شاهد الآيات أو لم يشاهد.

فإن قيل : أليس قوله : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) يدلّ على أنهم تضرّعوا ، وهاهنا يقول : «قست قلوبهم ولم يتضرّعوا».

فالجواب : أولئك أقوام وهؤلاء أقوام آخرون ، أو نقول : أولئك تضرّعوا لطلب إزالة

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ١٤٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٣.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٣.

(٥) سقط في أ.

١٤٨

البليّة ولم يتضرّعوا على سبيل الإخلاص لله تعالى ، فلهذا الفرق حسن الإثبات والنفي (١).

فصل

احتج الجبّائي (٢) بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) على أنه ـ تعالى ـ إنما أرسل الرسل إليهم ، وإنما سلّط البأساء والضّرّاء عليهم لإرادة أن يتضرعوا أو يؤمنوا ، وذلك يدلّ على أنه ـ تعالى ـ أراد الإيمان والطاعة من الكلّ.

والجواب أن كلمة «لعلّ» للتّرجّي والتّمنّي ، وهو في حق الله ـ تعالى ـ محال ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المطلوب ، ونحن نحمله على أنه ـ تعالى ـ عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله لكان المقصود منه هذا المعنى ، فأمّا تعليل حكم الله ـ تعالى ـ ومشيئته ، فذلك محال على ما ثبت بالدّليل ، ثم نقول : إن دلّت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه ، فإنها تدلّ على ضدّ قولكم من وجه آخر ، وذلك لأنها تدلّ على أنهم إنما لم يتضرّعوا لقسوة قلوبهم ، ولأجل أنّ الشّيطان زيّن لهم أعمالهم ، فنقول : تلك القسوة إن [حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن](٣) حصلت بفعل الله ـ تعالى ـ فالقول قولنا.

وأيضا : هب أن الكفّار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [بسبب تزيين الشيطان ، إلّا أنا نقول : ولم بقي الشيطان مصرا على هذا الفعل القبيح](٤) فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير نهاية ، وإذا بطلت هذه التّقادير وانتهت إلى أنّ كلّ أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشّرّ ؛ لأجل الدّواعي التي تحصل في قلبه ثم ثبت أن تلك الدّواعي لا تحصل إلّا بإيجاد الله ، فحينئذ يصحّ قولنا ، ويفسد قولهم بالكلية ، والله أعلم.

قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤٥)

وهذا من تمام القصة الأولى بيّن تعالى أنه أخذهم بالبأساء والضرّاء لعلّهم يتضرّعوا ثمّ بيّن في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكّروا به من البأساء والضّرّاء فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء ، ونقلناهم من البأساء والضّرّاء إلى الرّاحة والرّخاء ، وأنواع الآلاء والنعماء والمقصود أنه ـ تعالى ـ عاملهم بتسليط المكاره والشّدائد تارة ، فلم ينتفعوا به ، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدّها ، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم ، فلم ينتفعوا به أيضا ، وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٥.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

١٤٩

قوله : «فتحنا» : قرأ الجمهور (١) «فتحنا» مخفّفا ، وابن (٢) عامر «فتّحنا» مثقلا ، والتثقيل مؤذن بالتكثير ؛ لأن بعده «أبواب» فناسب التكثير والتخفيف هو الأصل.

وقرأ ابن عامر أيضا في «الأعراف» (لَفَتَحْنا) [الأعراف : ٩٦] وفي «القمر» (فَفَتَحْنا) [القمر : ١١] بالتّشديد أيضا ، وشدّد أيضا (فُتِحَتْ يَأْجُوجُ) [الأنبياء : ٩٦] والخلاف أيضا في (فُتِحَتْ أَبْوابُها) في «الزمر» في الموضعين [آية ٧١ ، ٧٣] ، (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) في النبأ [آية ١٩] فإن الجماعة (٣) وافقوا ابن عامر على تشديدها ، ولم يقرأها بالتخفيف (٤) إلّا الكوفيون ، فقد جرى ابن عامر على نمط واحد في هذا الفعل ، والباقون شدّدوا في المواضع الثلاثة المشار إليها ، وخفّفوا في الباقي جمعا بين اللغتين.

قوله : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) «إذا» هي الفجائيّة ، وفيها ثلاثة مذاهب :

مذهب سيبويه (٥) أنها ظرف مكان ، ومذهب جماعة منهم الرّياشي أنها ظرف زمان ، ومذهب الكوفيين (٦) أنها حرف ، فعلى تقدير كونها ظرفا زمانا أو مكانا النّاصب لها خبر المبتدأ ، أي: أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها.

والإبلاس : الإطراق.

وقيل : هو الحزن المعترض من شدة البأس ، ومنه اشتقّ «إبليس» وقد تقدّم في موضعه ، وأنّه هل هو أعجمي أم لا؟

قال القرطبي (٧) : المبلس الباهت الحزين الآيس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدّة ما نزل به من سوء الحال.

قال العجّاج : [الرجز]

٢١٧٥ ـ يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال : نعم أعرفه وأبلسا (٨)

أي : تحيّر لهول ما رأى ، ومن ذلك اشتقّ اسم إبليس ، وأبلس الرّجل سكت ،

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥ ، حجة القراءات ص (٢٥١) إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، اعراب القراءات السبع ١ / ١٥٧ ، النشر ٢ / ٢٥٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٠) ، النشر ٢ / ٢٥٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، اعراب القراءات السبع ١ / ١٥٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٠) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ النشر ٢ / ٢٥٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٠) ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، النشر ٢ / ٢٥٨.

(٥) ينظر : الكتاب.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥ ، الكتاب لسيبويه ٢ / ٣١١.

(٧) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٧٥.

(٨) ينظر : ديوانه ضمن مجموع أشعار العرب ٢ / ٣١ ، واللسان (كرس) ، وتهذيب اللغة ١ / ٥٣ (كرس).

والطبري ٥ / ١٩٤ ، والقرطبي ٦ / ٢٧٥.

١٥٠

وأبلست النّاقة وهي مبلاس إذا لم ترع من شدّة الضّبعة يقال : ضبعت النّاقة تضبع ضبعة وضبعا إذا أرادت الفحل.

فصل في معنى الآية

المعنى : فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء كان مغلقا عنهم من الخير ، أي : لمّا قست قلوبهم ولم يتفطّنوا ونسوا ما ذكروا به من الوعظ فتحنا عليهم أبواب الخير مكان البلاء والشّدّة حتى إذا فرحوا بما أوتوا ، وهذا فرح بطر مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا.

قال الحسن : في هذه الآية مكر بالقوم وربّ الكعبة (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأيت الله يعطي العاصي ، فإنّ ذلك استدراج من الله» ثم قرأ هذه الآية. ثم قال (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) : فجاءة أين ما كانوا (٢).

قال أهل المعاني (٣) : وإنما أخذوا في حال الرّاحة والرّخاء ليكون أشدّ لتحسّرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية ، (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) آيسون من كلّ خير.

قال الفرّاء (٤) : المبلس الذي انقطع رجاؤه ، ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجّته : قد أبلس.

وقال الزّجّاج (٥) : المبلس الشديد الحسرة الحزين.

قوله : (فَقُطِعَ دابِرُ) الجمهور (٦) على «فقطع» مبنيّا للمفعول «دابر» مرفوع به.

وقرأ عكرمة (٧) : «قطع» مبنيّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، «دابر» مفعول به ، وفيه التفات ، إذ هو خروج من تكلم في قوله : «أخذناهم» إلى غيبة.

و «الدّابر» التّابع من خلف ، يقال : دبر الولد والده ، ودبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا.

وقيل : الدّابر الأصل ، يقال : قطع الله دابره ، أي : أصله قاله الأصمعيّ ، وقال أبو عبيد : «دابر القوم آخرهم» ، وأنشدوا لأميّة بن أبي الصّلت : [البسيط]

٢١٧٦ ـ فاستؤصلوا بعذاب حصّ دابرهم

فما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا (٨)

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٢ ـ ٢٣) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن.

(٢) أخرجه أحمد (٤ / ١٤٥) والطبري (٥ / ١٩٣) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤٥٤٠) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٣) من حديث عاقبة بن عامر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٢) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٦.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٧.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥.

(٧) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٥.

(٨) البيت لأمية بن أبي الصلت ينظر : ديوانه ص (٣٢) ، تفسير القرطبي ٦ / ٢٧٥ ، الطبري ٥ / ١٩٤ ، الدر المصون ٣ / ٦٥.

١٥١

ومنه دبر السّهم الهدف ، أي : سقط خلفه.

وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود : «من النّاس من لا يأتي الصّلاة إلّا دبريّا» أي : في آخر الوقت (١).

فصل في المراد بالآية

والمعنى أنّ الله ـ تعالى ـ استأصلهم بالعذاب ، فلم يبق منهم باقية.

و (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

قيل : على هلاكهم.

وقيل : تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه ، حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم ؛ لأنه نعمة على الرّسل ، فذكر الحمد تعليما لهم ، ولمن آمن بهم أن يحمدوا الله على كفايته شرّ الظالمين ، وليحمد محمد وأصحابه ربّهم إذا أهلكنا المكذّبين.

وتضمّنت هذه الآية الحجّة على وجوب ترك الظلم لما تعقّب من قطع الدّابر إلى العذاب الدائم مع استحقاق القاطع للحمد من كل حامد.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)(٤٦)

(أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ) المفعول الأوّل محذوف ، تقديره : أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله ، والجملة الاستفهاميّة في موضع الثاني ، وقد تقدّم أن أبا حيّان يجعله من التّنازع ، وجواب الشرط محذوف على نحو ما مرّ.

وقال الحوفي : وحرف الشّرط وما اتّصل به في موضع نصب على الحال ، والعامل في الحال «أرأيتم» كقولك : «اضربه إن خرج» أي : خارجا ، وجواب الشّرط ما تقدّم مما دخلت عليه همزة الاستفهام وهذا إعراب لا يظهر.

ولم يؤت هنا ب «كاف» الخطاب ، وأتي به هناك ؛ لأن التّهديد هناك أعظم فناسب التأكيد بالإتيان ب «كاف» الخطاب ولمّا لم يؤت بالكاف وجب بروز علامة الجمع في التاء لئلا يلتبس ، ولو جيء معها بالكاف لاستغني بها كما تقدّم ، وتوحيد السّمع ، وجمع الأبصار مفهوم مما تقدّم في «البقرة».

قوله : «من إله» مبتدأ وخبر ، و «من» استفهاميّة ، و «غير الله» صفة ل «إله» و «يأتيكم» صفة ثانية ، و «الهاء» في «به» تعود على «سمعكم».

وقيل : تعود على الجميع ، ووحّد ذهابا به مذهب اسم الإشارة.

وقيل : تعود على الهدى المدلول عليه بالمعنى.

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ٦ / ٢٧٥.

١٥٢

وقيل : يعود على المأخوذ والمختوم المدلول عليهما بالأخذ والختم ، والاستفهام هنا للإنكار.

والجمهور (١) : «به انظر» بكسر الهاء على الأصل ، وروى المسيّبي عن نافع «به انظر» بضم الهاء [وهي لغة من يقر أ«فخسفنا بهو وبدار هو الأرض» فحذف «الواو» لالتقاء الساكنين ، فصار «به انظر» والباقون بكسرها (٢).

وقرأ حمزة (٣) ، والكسائي «يصدفون» بإشمام الزّاي ، والباقون بالصاد (٤).

فصل في معنى الآية

قال ابن عبّاس : المعنى : أيّها المشركون إن أخذ الله ، أي : أذهب وانتزع سمعكم وأبصاركم ، وختم على قلوبكم ، أي : طبع على قلوبكم فلم تعقل الهدى (٥).

وقيل : معناه : أزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين.

وقيل : المراد من هذا الختم الأمانة.

فصل في إثبات الصانع

المراد من هذا الكلام الدّلالة على وجود الصانع الحكيم المختار ؛ لأن أشرف أعضاء الإنسان هو السّمع والبصر والقلب ، والأذن محل القوة السّامعة ، والعين محلّ القوة الباصرة ، والقلب محلّ الحياة والعلم والعقل ، فلو زالت هذه الصّفات عن هذه الأعضاء اختلّ أمر الإنسان ، وبطلت مصالحه في الدنيا والدّين.

ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها ، وصونها عن الآفات ليس إلا الله تعالى ، وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العظيمة هو الله سبحانه وتعالى.

قوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ).

«كيف» معمول ل «نصرّف» ونصبها : إمّا على التّشبيه بالحال ، أو التشبيه بالظّرف ، وهي معلّقة ل «انظر» فهي في محلّ نصب بإسقاط حرف الجرّ ، وهذا ظاهر مما تقدّم.

و «نصرّف» : نبيّن ، و «يصدفون» معناه : يعرضون ، يقال : صدف عن الشيء صدفا وصدوفا وصدافية ، وصادفته مصادفة أي : لقيته عن إعراض من جهته.

قال عديّ بن الرقاع : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٥ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، السبعة ٣ / ٣١٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٦ ، البحر المحيط ٤ / ١٣٥ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢ ، السبعة ٣ / ٣١٠.

(٣) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢.

(٤) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢٧٦) عن ابن عباس.

١٥٣

٢١٧٧ ـ إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه

وهنّ عن كلّ سوء يتّقى صدف (١)

«صدف» جمع «صدوف» ك «صبر» في جمع «صبور».

وقيل : معنى «صدف» : «مال» ، مأخوذ من الصّدف في البعير ، وهو أن يميل خفّه من اليد إلى الرّجل من الجانب الوحشيّ.

و «الصّدف» جمع «صدفة» ، وهي المحارة التي تكون فيها الدّرّة.

قال : [البسيط]

٢١٧٨ ـ وزادها عجبا أن رحت في سبل

وما درت دوران الدّرّ في الصّدف (٢)

و «الصّدف» و «الصّدف» بفتح الصاد والدال وضمّهما ، وضم الصاد وسكون الدال ناحية الجبل المرتفع ، وسيأتي لهذا مزيد بيان.

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

قال الكعبي (٣) : دلّت هذه الآية على أن الله ـ تعالى ـ مكّنهم من الفهم ، ولم يخلق فيهم الإعراض والصّدّ ، ولو كان تعالى هو الخالق للكفر فيهم لم يكن لهذا الكلام معنى.

واحتجّ أهل السّنّة بعين هذه الآية قالوا : إنه ـ تعالى ـ بيّن أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها ، وإزالة الشبهات عنها ، ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلّا تماديا في الكفر والعناد ، وذلك يدلّ على أن الهدى والإضلال لا يحصلان إلّا بهداية الله ـ تعالى ـ وإضلاله ، فدلالة الآية على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٤٧)

اعلم أن الدلائل المتقدّمة كانت مختصّة بأخذ السّمع والبصر والقلب ، وهذا عامّ في جميع أنواع العذاب ، والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب ، ولا محصّل لخير من الخيرات إلّا الله تعالى ، فوجب أن يكون هو المعبود دون غيره.

والمراد ب «البغتة» العذاب الذي يأتيهم فجاءة من غير سبق علامة ، والمراد ب «الجهرة» العذاب الذي يأتيهم مع سبق علامة تدلّ عليه.

وقال الحسن : «بغتة» أو «جهرة» : معناه : ليلا أو نهارا (٤).

__________________

(١) البيت في تفسير الطبري ٥ / ١٩٥ ، المحرر الوجيز ٢ / ٥٣٤ ، اللسان (صدق) القرطبي ٦ / ٤٢٨ ، البحر ٤ / ١٢٢ الدر المصون ٣ / ٦٦.

(٢) البيت لأبي هفّان ينظر : التبيان ٢ / ٢٨١ ، والوساطة ص ٣٢٥ والبحر ٤ / ١٢٢ والدر المصون ٣ / ٦٦.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٨.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٩.

١٥٤

قال القاضي (١) : والأوّل أولى ؛ لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلا وقد عاينوا قدومه لم يكن بغتة ، ولو جاءهم نهارا وهم لا يشعرون بقدومه لم يكن جهرة.

قوله : «هل يهلك» هذا استفهام بمعنى النّفي ؛ ولذلك دخلت «إلّا» وهو استثناء مفرّغ ، والتقدير : ما يهلك إلّا القوم الظالمون ، وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأوّل محذوف ، وهو من التّنازع على رأي أبي حيّان (٢) كما تقدّم تقريره.

وقال أبو البقاء (٣) : الاستفهام هنا بمعنى التّقرير ، فلذلك ناب عن جواب الشّرط ، أي : إن أتاكم هلكتم ، والظّاهر ما تقدّم ، ويجيء هنا قول الحوفيّ المتقدّم في الآية قبلها من كون الشرط حالا.

وقرأ ابن محيصن (٤) : «هل يهلك» مبنيّا للفاعل.

فإن قيل : إن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التّمييز بين المطيع والعاصي. فالجواب أن العذاب وإن عمّ الأبرار والأشرار في الظاهر ، إلّا أن الهلاك في الحقيقة مختصّ بالظالمين ؛ لأن الأخيار يستوجبون [بسبب نزول تلك](٥) المضارّ بهم أنواعا عظيمة من الثواب والدّرجات الرفيعة عند الله.

قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٤٩)

والمقصود من هذه الآية أن الأنبياء إنما بعثوا مبشّرين بالثواب على الطّاعات ، ومنذرين بالعقاب على المعاصي ، ولا قدرة لهم على إظهار الآيات والمعجزات ، بل ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته.

أي : لم نرسلهم لأن نقترح عليهم الآيات ، بل لأن يبشروا وينذروا.

وقرأ (٦) إبراهيم ، ويحيى : «مبشرين» بالتخفيف ، وقد تقدّم أن «أبشر» لغة في «بشّر».

قوله : (فَمَنْ آمَنَ) يجوز في «من» أن تكون شرطيّة ، وأن تكون موصولة ، وعلى كلا التقديرين فمحلّها رفع بالابتداء.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٦.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٧ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١٢.

(٥) سقط في أ.

(٦) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٧.

١٥٥

والخبر (فَلا خَوْفٌ) فإن كانت شرطيّة ، فالفاء جواب الشّرط ، وإن كانت موصولة فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط ، وعلى الأول يكون محلّ الجملتين الجزم ، وعلى الثاني لا محلّ للأولى ومحل الثانية الرفع ، وحمل على اللفظ فأفرد في «آمن» و «أصلح» ، وعلى المعنى فجمع في (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، ويقوّي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا).

وقرأ (١) علقمة : «نمسّهم» : بنون مضمومة من «أمسّه كذا» «العذاب» نصبا ، والمسّ في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل.

وقرأ الأعمش (٢) ، ويحيى بن وثاب «يفسقون» بكسر السّين ، وقد تقدّم أنها لغة ، و «ما» مصدريّة على الأظهر ، أي : بفسقهم.

فصل في رد شبهة للقاضي

قال القاضي (٣) : إنه ـ تعالى ـ علّل عذاب الكفّار ؛ لأنهم فاسقين ، فاقتضى أن يكون كل فاسق كذلك ، فيقال له : هذا معارض بما أنه خص الذين كفروا وكذّبوا بآيات الله وهذا يدل على أنه من لم يكن مكذّبا بآيات الله ألّا يلحقه هذا الوعيد أصلا ، وأيضا فإن كان هذا الوعيد معلّلا بفسقهم فلم قلتم : إن فسق من عرف الله ، وأقرّ بالتوحيد والنبوة والمعاد مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء؟

قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)(٥٠)

هذا بقية الكلام على قوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقال الله تعالى : قل لهؤلاء الأقوام : إني بعثت مبشّرا ومنذرا وليس لي أن أتحكّم على الله.

واعلم أن القوم كانوا يقولون : إن كنت رسولا من عند الله فاطلب من الله حتى يوسّع

علينا منافع الدّنيا وخيراتها ، فقال الله تعالى : قل له م «إني لا أقول لكم عندي خزائن الله» ، فهو ـ تعالى ـ يؤتي الملك من يشاء ، ويعزّ من يشاء ، ويذلّ من يشاء ، لا بيدي.

الخزائن : جمع «خزانة» ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي (٤).

قوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) في محلّ هذه الجملة وجهان :

أحدهما : النّصب عطفا على قوله : (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) لأنه من جملة المقول ، كأنه قال : «لا أقول لكم هذا القول ، ولا هذا القول».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٦٧.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٩.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٠.

١٥٦

قاله الزمخشري (١). وفيه نظر من حيث إنه يؤدّي إلى أنه يصير التقدير : ولا أقول لكم : لا أعلم الغيب وليس بصحيح.

والثاني : أنه معطوف على «لا أقول» لا معمول له ، فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو «قل» ، وهذا تخريج أبي حيّان (٢) قال بعد أن حكى قول الزّمخشري : «ولا يتعيّن ما قاله ، بل الظّاهر أنه معطوف على لا أقول» إلى آخره.

فصل في معنى الآية

والمعنى : أن القوم يقولون : إن كنت رسولا من عند الله ، فلا بدّ وأن تخبرنا عمّا سيقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعدّ لتحصيل تلك المنافع ، ولدفع تلك المضارّ ، فقال تعالى : «قل : إني لا أعلم الغيب ولا أقول : إنّي ملك» ومعناه : أنهم كانوا يقولون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ويتزوج ويخالط الناس ، فقال تعالى : قل لهم : إني لست من الملائكة.

فصل في بيان فائدة هذه الأحوال

اختلفوا في الفائدة من ذكر هذه الأحوال الثلاثة ، فقيل : المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه التّواضع لله ، والاعتراف بعبوديّته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النّصارى في المسيح عليه الصّلاة والسّلام.

وقيل : إن القوم كانوا يقترحون عليه إظهار المعجزات القاهرة ، كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] فقال تعالى في آخر الآية : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] يعني : أنا لا أدّعي إلّا الرسالة والنّبوّة ، وهذه الأمور التي طلبتموها ، فلا يمكن تحصيلها إلّا بقدرة الله.

وقيل : المراد من قوله : (لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، أي : لا أدّعي كوني موصوفا بالقدرة ، ولا أعلم الغيب ، أي : ولا أدّعي كوني موصوفا بعلم الله تعالى ، وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدّعي الإلهيّة.

ثمّ قال : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي مَلَكٌ) وذلك ؛ لأنه ليس بعد الإلهيّة درجة أعلى حالا من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنّه يقول : لا أدّعي الإلهية ، ولا أدّعي الملكيّة ، ولكن أدّعي الرّسالة ، وهذا منصب لا يمتنع حصوله [للبشر](٣) فكيف أطبقتم على استنكار قولي (٤).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ١٣٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩١.

١٥٧

فصل في رد شبهة الجبائي في تفضيل الملائكة

قال الجبّائي : دلّت الآية على أنّ الملك أفضل من الأنبياء ؛ لأن [معنى الكلام](١) لا أدّعي منزلة أقوى من منزلتي ، ولو لا أن الملك أفضل ، وإلّا لم يصح.

قال القاضي (٢) : إن كان الغرض بها نفي (٣) طريقة التّواضع ، فالأقرب يدلّ على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلّا الملائكة لم يدلّ على كونهم أفضل.

قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

يدلّ على أنه لا يعمل إلّا بالوحي ، وأنه لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام ، وأنّه ما كان يجتهد ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ، ٤].

واستدلّ نفاة القياس بهذا النصّ ، قالوا : لأنّه عليه الصّلاة والسّلام ما كان يعمل إلا بالوحي النّازل ، فوجب ألّا يجوز لأحد من أمّته أن يعمل إلّا بالوحي النّازل ، ولقوله تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) [الأعراف : ١٥٨] وذلك ينفي جواز العمل بالقياس.

ثم أكّد ذلك بقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) ، وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى ، والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير ، ثم قال تعالى : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).

والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين ، وألّا يكون غافلا عن معرفة الله.

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٥١)

لما وصف الرسل بكونهم مبشّرين ومنذرين أمر الرّسول في هذه الآية بالإنذار ، فقال : «وأنذر» أي : خوّف به ، أي : بالقرآن ، قاله ابن عبّاس ، والزّجّاج (٤) لقوله تعالى قبل هذه الآية : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

وقال الضّحّاك : (وَأَنْذِرْ بِهِ) أي : بالله (٥).

وقوله : (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) أي : يبعثوا ، فقيل : المراد بهم الكافرون الذين تقدّم ذكرهم ؛ لأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان يخوّفهم من عذاب الآخرة ، وكان بعضهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩١.

(٣) في أ : بها يعني.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٠٢) عن ابن عباس.

(٥) انظر المصدر السابق.

١٥٨

يتأثّر من ذلك التخويف ، ويقول : ربّما كان الذي يقوله محمّد حقّا ، ولا يجوز حمله على المؤمنين ، لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم ، والعلم خلاف الخوف والظن.

ولقائل أن يقول : إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون ؛ لأنهم وإن [تيقّنوا](١) الحشر فلم يتيقّنوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم ألّا يموت أحدهم على الإيمان ، وتجويز ألّا يموتوا على هذه الحالة ، فلهذا السّبب كانوا خائفين من الحشر بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه.

وقيل : المراد بهم المؤمنون ؛ لأنهم المقرّون بصحّة الحشر والنّشر والقيامة والبعث ، فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم.

وقيل : إنه يتناول الكلّ ؛ لأنه لا عاقل إلّا وهو يخاف الحشر ، سواء قطع بحصوله أو شكّ فيه ، ولأنه عليه الصّلاة والسّلام كان مبعوثا إلى الكلّ ، وإنّما خصّ الذين يخافون الحشر ؛ لأن انتفاعهم بذلك الإنذار أكمل ؛ لأن خوفهم يحملهم على إعداد الزّاد ليوم المعاد.

قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) العامل فيه «يخافون» وهاهنا بحث ، وذلك أنه إذا كان المراد من الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم الكفّار ، فالكلام ظاهر لأنه ليس لهم عند الله شفعاء ، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] فكذّبهم الله فيه.

وقال في آية أخرى (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] ، وقال : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨].

وإن كان المراد المسلمين ، فنقول : قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) [لا](٢) ينافي مذهب أهل السّنّة في إثبات الشّفاعة للمؤمنين ، فنقول : لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله ـ تعالى ـ لقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] فلما كانت تلك الشّفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله.

قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

قال ابن عبّاس : وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا ، وينتهوا عن الكفر والمعاصي (٣).

قالت المعتزلة (٤) : وهذا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ أراد من الكفّار التّقوى والطاعة ، وقد سبق الكلام على مثل هذا النوع مرارا.

قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما

__________________

(١) في ب : يقنوا.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٢.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٣.

١٥٩

عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٥٢)

قال سلمان ، وخباب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية (١).

جاء الأقرع بن حابس التّميميّ ، وعيينة بن حصن الفزاريّ ، وذووهم من المؤلّفة قلوبهم فوجدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعدا مع بلال ، وصهيب ، وعمّار ، وخبّاب في ناس من ضعفاء المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم ، فأتوه فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنّا هؤلاء وأرواح جبابهم ، وكان عليهم جباب صوف ولم يكن عليهم غيرها ، لجالسناك وأخذنا عنك ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بطارد المؤمنين ، قالوا : فإنّا نحبّ أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك ، فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئنا فأبعدهم عنّا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت ، فقال : «نعم» طمعا في إيمانهم.

قال : ثم قالوا : اكتب لنا عليك بذلك كتابا.

قال : فدعا بالصّحيفة ، ودعا عليّا ليكتب ، قال : ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريلعليه‌السلام بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) إلى قوله : «بالشّاكرين» فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول (سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وكنّا نقعد معه حتى تمسّ ركبتنا ركبته ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا ، فأنزل الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه وقال : «الحمد لله الذي أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمّتي معكم المحيا ومعكم الممات» (٢).

فصل في بيان شبهة الطاعنين في العصمة

احتجّ الطّاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية من وجوه :

أحدها : أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ طردهم ، والله ـ تعالى ـ نهاه عن ذلك ، فكان ذنبا.

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ قال : (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقد ثبت أنه طردهم.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٩٣.

(٢) أخرجه الطبري (٥ / ١٩٩) وأبو يعلى وابن أبي شيبة كما في «المطالب العالية» (٣ / ٣٣٢) حديث (٣٦١٨) عن خباب.

وأخرجه ابن ماجه مختصرا (٢ / ١٧٣).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

١٦٠