اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٥٢

على الحال ، إلّا أن هذا القول يبعده قوله تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ، إلا أن يكون من ترشيح المجاز ، وقد تقدّم له نظائر.

وقرىء (١) «يرجعون» من «رجع» اللّازم.

اعلم أن الجسد الخالي [عن](٢) الرّوح يظهر منه النّتن والصّديد ، وأصلح أحواله أن يدفن تحت التّراب ، والرّوح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنونا يستوجب القيد والحبس ، والعقل بالنسبة إلى الرّوح كالرّوح بالنسبة إلى الجسد ، والعقل بدون معرفة الله وطاعته كالضّائع الباطل ، فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الرّوح ، ونسبة الروح إلى الجسد ؛ فمعرفة الله ومحبّته هي روح الرّوح ، فالنّفس الخالية عن هذه المعرفة تكون كصفة الأموات ، فلهذا السّبب وصف الكفّار بأنهم موتى.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣٧)

وهذا من شبهات منكري نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم قالوا : لو كان رسولا من عند الله فهلّا أنزل عليه آية قاهرة.

روي أنّ بعض الملحدة طعن فقال : لو كان محمّد قد أوتي بآية معجزة لما صحّ أن يقول

أولئك الكفّار : لو لا نزّل عليه آية ، ولما قال : «قل إنّ الله قادر على أن ينزل آية».

والجواب أن القرآن معجزة قاهرة وبيّنة باهرة ؛ لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تحدّاهم به فعجزوا عن معارضته ، فدّل على كونه معجزا.

فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك ، فكيف قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ).

فالجواب من وجوه :

الأول : لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزة على سبيل اللّجاج والعناد ، وقالوا : إنه من جنس الكتب ، والكتاب لا يكون من جنس المعجزات كالتّوراة والإنجيل والزّبور ، فلأجل هذه الشّبهة طلبوا المعجزة.

الثاني : أنهم طلبوا معجزات [قاهرة] من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل «فلق البحر» و «إظلال الجبل» و «إحياء الموتى».

الثالث : أنهم طلبوا مزيد الآيات على سبيل التّعنّت واللّجاج مثل إنزال الملائكة ، وإسقاط السماء كسفا.

الرابع : أن يكون المراد ما حكاه الله عن بعضهم في قوله : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].

__________________

(١) ينظر : روح المعاني ٧ / ١٤٧ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٣.

(٢) في ب : من.

١٢١

ثم إنّه ـ تعالى ـ أجابهم بقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) ، أي : أنّه قادر على إيجاد ما طلبتموه ، وتحصيل ما اقترحتموه ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

قوله : (مِنْ رَبِّهِ) فيها وجهان :

أحدهما : أنها متعلّقة ب «نزّل».

والثاني : أنها متعلّقة بمحذوف ؛ لأنها صفة ل «آية» ، أي : آية [كائنة](١) من ربّه.

وتقدّم الكلام على «لو لا» وأنّها تحضيضيّة.

فصل في المراد بالآية

معنى قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : ما عليهم في إنزالها ، واختلفوا في تفسيرها على وجوه :

أحدها : أن يكون المراد أنه ـ تعالى ـ لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة ، وهي القرآن كان طلب الزيادة جار مجرى التحكّم والتّعنّت الباطل ، وهو أنه سبحانه له الحكم والأمر ، فإن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل ؛ لأن فاعليّته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السّنّة (٢) ، أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة (٣) ، وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم ، فإن شاء أجابهم إليها ، وإن شاء لم يجبهم.

الثاني : أنّه لمّا ظهرت المعجزة القاهرة ، والدلالة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علّة ، فبعد ذلك لو أجابهم الله ـ تعالى ـ إلى اقتراحهم فلعلّهم يقترحون اقتراحا ثانيا وثالثا ورابعا إلى ما لا نهاية له ، وذلك يفضي إلى ألّا يستقرّ الدليل ولا تتم الحجة ، فوجب سدّ هذا الباب في أوّل الأمر والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة.

الثالث : أنّه ـ تعالى ـ لو أعطاهم ما طلبوا من المعجزات القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقّوا عذاب الاستئصال ، فاقتضت رحمته صونهم عن هذا البلاء ، فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه ـ تعالى ـ لهم ، وإن كانوا لا يعلمون كيفيّة هذه الرحمة.

الرابع : أنّه ـ تعالى ـ علم منهم أن طلبهم هذه المعجزات لأجل العناد لا لطلب فائدة ، وعلم أنه ـ تعالى ـ لو أعطاهم مطلوبهم لم يؤمنوا ، فلهذا السبب ما أعطاهم ؛ لأنه لا فائدة في ذلك.

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(٣٨)

قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ) : «من» زائدة لوجود الشرطين ، وهي مبتدأ ، و (إِلَّا أُمَمٌ) خبرها مع ما عطف عليها.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٣.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

١٢٢

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) صفة ل «دابة» ، فيجوز لك أن تجعلها في محلّ جرّ باعتبار اللفظ ، وأن تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع.

قوله : (وَلا طائِرٍ) الجمهور (١) على جرّه نسقا على لفظ «دابة».

وقرأ (٢) ابن أبي عبلة برفعها نسقا على موضعها.

وقرأ (٣) ابن عبّاس «ولا طير» من غير ألف ، وقد تقدّم الكلام فيه ، هل هو جمع أو اسم جمع؟

وقوله : «يطير» في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون في محلّ جرّ باعتبار لفظه ، ويحتمل أن يكون في محلّ رفع باعتبار موضعه.

وأمّا على قراءة ابن أبي عبلة ، ففي محلّ رفع ليس إلّا.

وفي قوله : (وَلا طائِرٍ) ذكر خاصّ بعد عامّ ؛ لأن الدّابّة تشتمل على كلّ ما دبّ من طائر وغيره ، فهو كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٨] وفيه نظر ؛ إذ المقابلة هنا تنفي أن تكون الدّابة تشمل الطائر.

قوله : «بجناحيه» فيه قولان :

أحدهما : أن «الباء» متعلّقة ب «يطير» ، وتكون «الباء» للاستعانة.

والثاني : أن تتعلّق بمحذوف على أنها حال ، وهي حال مؤكّدة كما يقال : «نظرت عيني» ، وفيها رفع مجاز يتوهّم ؛ لأن الطّيران يستعار في السرعة قال : [البسيط]

٢١٥٦ ـ قوم إذا الشّرّ أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا (٤)

ويطلق الطّير على العمل ، قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣].

وقوله : (إِلَّا أُمَمٌ) خبر المبتدأ ، وجمع وإن لم يتقدّمه إلّا شيئان ؛ لأن المراد بهما الجنس.

و «أمثالكم» صفة ل «أمم» ، يعني أمثالهم في الأرزاق والآجال ، والموت والحياة ، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من ظالمها.

وقيل : في معرفة الله وعبادته.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٢ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٢ ، الكشاف ٢ / ٢١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٢.

(٤) البيت لقريط بن أنيف العنبري.

ينظر : الحماسة ص ١ / ٢٧ ، الخصائص ٢ / ٢٧٠ ، روح المعاني ٧ / ١٤٣ ، مجالس ثعلب ٢ / ٤٠٥ ، الدر المصون ٣ / ٥٢.

١٢٣

وقال مجاهد : أصناف مصنّفة تعرف بأسمائها ، يريد أن كلّ جنس من الحيوان أمّة : فالطير أمّة ، والدّوابّ أمّة ، والسّباع (١) أمة ، تعرف بأسمائها مثل بني آدم يعرفون بأسمائهم ، يقال : الإنس والناس ، قال عليه الصلاة والسلام : «لو لا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها كلّ أسود بهيم» (٢).

وقيل : أمثالكم يفقه بعضهم عن بعض.

فصل في وجه النظم

وجه النظم أنه ـ تعالى ـ بيّن في الآية الأولى أنّه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها إلّا أنه لمّا لم يكن إظهارها مصلحة للمكلّفين لم يظهرها ، وهذا الجواب إنما يتمّ إذا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلّفين ، ويتفضّل عليهم بذلك ، فبيّن ذلك وقرّره بأن قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في وصول فضل الله ـ تعالى ـ وعنايته ، ورحمته ، وإحسانه إليهم ، وذلك كالأمر المشاهد المحسوس ، فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات ، فلو كان إظهار هذه المعجزات مصلحة للمكلفين لفعلها ولم يبخل بها ؛ لأنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها ؛ يدلّ ذلك على أنّه ـ تعالى ـ لم يظهر تلك المعجزات ؛ لأن إظهارها يخلّ بمصالح المكلّفين (٣).

وقال القاضي : إنّه ـ تعالى ـ لمّا قدّم ذكر الكفّار وبيّن أنهم يرجعون إلى الله ، ويحشرون ـ بيّن أيضا بعده ـ بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ـ في أنهم يحشرون ، والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حقكم ، كذلك هو حاصل في حق البهائم (٤).

فصل في أسئلة على الآية والإجابة عنها

حصر الحيوان في هاتين الصفتين ، وهما : إمّا أن يدبّ ، وإمّا أن يطير.

وفي الآيات سؤالات :

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢ / ٩٥.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧ والدارمي في السنن ٢ / ٩٠ ، كتاب الصيد ، باب في قتل الكلاب ، وأبو داود في السنن ٣ / ٢٦٧ ، كتاب الصيد ، باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره الحديث (٢٨٤٥) والترمذي في السنن ٤ / ٨٠. كتاب الأحكام والفوائد باب ما جاء في قتل الكلاب الحديث (١٤٨٦) والنسائي في المجتبى من السنن ٧ / ١٨٥ كتاب الصيد والذبائح باب الكلاب التي أمر بقتلها وابن ماجة في السنن ٢ / ١٠٦٩ كتاب الصيد باب النهي عن اقتناء الكلب إلّا كلب صيد الحديث (٣٢٠٥). وذكره البغوي في تفسيره ٢ / ٩٥ ، والرازي ١٢ / ١٧٥.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٤.

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٥.

١٢٤

الأول : من الحيوانات ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر ، وسائر ما يسبح في الماء ، ويعيش فيه.

والجواب لا يبعد أن يوصف بأنها دابّة ، من حيث إنها تدبّ في الماء ؛ لأن سبحها في الماء كسبح الطير في الهواء ، إلا أن وصفها بالدّبّ أقرب إلى اللّغة من وصفها بالطيران.

السؤال الثاني : ما الفائدة في تقييد الدّابّة بكونها في الأرض؟

والجواب من وجهين :

أحدهما : أنّه خصّ ما في الأرض بالذّكر دون ما في السماء احتجاجا بالأظهر ؛ لأن ما في السماء وإن كان مخلوقا مثلنا فغير ظاهر.

والثاني : أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله لمّا كانت حاصلة في هذه الحيوانات ، فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها ، وهذا المقصود إنما يتمّ بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان ، لا بذكر من كان أعلى حالا منه ، فلهذا المعنى قيّد الدّابّة بكونها في الأرض.

السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) مع أن كل طائر فإنما يطير بجناحيه؟

والجواب : ما تقدّم من ذكر التوكيد أو رفع توهّم المجاز.

وقيل : إنه ـ تعالى ـ [قال](١) في صفة الملائكة (رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] ، فذكر [هاهنا](٢) قوله : «بجناحيه» ليخرج عنه الملائكة ، لما بينّا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتمّ بذكر من كان أدون حالا من الإنسان لا بذكر من كان أعلى منه.

السؤال الرابع : كيف قال : «إلّا أمم» مع إفراد الدّابّة والطائر؟

والجواب : ما تقدّم من إرادة الجنس.

قوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) : في المراد ب «الكتاب» قولان :

الأول : المراد به اللّوح المحفوظ ، قال عليه الصلاة والسلام : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (٣) ، وعلى هذا فالعموم ظاهر ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أثبت ما كان وما يكون فيه.

والثاني : المراد به القرآن ؛ لأنّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المفهوم السّابق ، وهو في هذه الآية القرآن.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ١١ / ٢٢٣ بهذا اللفظ.

١٢٥

وعلى هذا فهل العموم باق؟ منهم من قال : نعم وإن جميع الأشياء مثبتة في القرآن إمّا بالصريح ، وإمّا بالإيماء (١).

فإن قيل : كيف قال الله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وعلم الحساب ، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم ، ولا تفاصيل مذاهب النّاس ، ودلائلهم في علم الأصول والفروع؟

والجواب أن قوله (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) يجب أن يكون مخصوصا ببيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها ، واعلم أن علم الأصول موجود بتمامه في القرآن على أبلغ الوجوه ، وأما تفاصيل الأقاويل والمذاهب ، فلا حاجة إليها.

وأمّا تفاصيل الفروع فالعلماء قالوا : إن القرآن دلّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجّة في الشريعة ، وإذا كان كذلك فكلّ ما دلّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧].

وقال عليه الصلاة والسلام : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» (٢).

وروي أن ابن مسعود كان يقول : «ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه» (٣) يعني : الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة ، وروي أنّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت : يا ابن أمّ عبد ، تلوت البارحة ما بين الدّفّتين ، فلم أجد فيه لعن الواشمة ، والمستوشمة ، فقال : لو تلوتيه لوجدتيه ، قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، وإن مما أتانا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «لعن الله الواشمة والمستوشمة» (٤).

وقال ابن الخطيب (٥) : يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة «النساء» حين عدّد قبائح الشيطان قال : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) [النساء : ١١٩] فظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللّعن.

__________________

(١) الإيماء : هو الاقتران بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل ، كان بعيدا ، فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد ، وعرفه بعض الأصوليين بأنه : ما يدل على علية وصف لحكم بواسطة قرينة من القرائن ، ويسمى بالتنبيه أيضا ، وله ستة أنواع ، وقد جعله بعضهم مسلكا مستقلا ؛ لأنه لا يدل على العلية صراحة ، وبعضهم أدرجه تحت مسلك النص.

ينظر : الإحكام للآمدي (٣ / ٥٦) ، مختصر ابن الحاجب ص (١٨٨) ، العضد (٢ / ٢٣٤). جمع الجوامع (٢ / ٢٦٦) ، نهاية السول (٤ / ٦٣) ، شرح الكوكب المنير ص (٥١١) ، التلويح (٢ / ٦٨) ، إرشاد الفحول ص (٢١٢).

(٢) تقدم.

(٣) ذكره الرازي في تفسيره ١٢ / ١٨٠.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.

١٢٦

وذكر الواحدي (١) أن الشّافعي جلس في المسجد الحرام فقال : لا تسألوني عن شيء إلّا أجبتكم فيه من كتاب الله ، فقال رجل : ما تقول في المحرم إذا قتل الزّنبور؟ ، فقال : لا شيء عليه ، فقال : أين هذا في كتاب الله؟ ، فقال : قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) [الحشر : ٧] ، ثم ذكر سندا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» (٢) ، ثم ذكر إسنادا إلى عمر أنه قال : «للمحرم قتل الزّنبور» (٣).

قال الواحدي (٤) : فأجابه من كتاب الله مستنبطا بثلاث درجات ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث العسيف : «والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (٥) ثم قضى بالجلد والتّغريب على العسيف ، وبالرجم على المرأة إذا اعترفت.

قال الواحدي (٦) : وليس للجلد والتّغريب ذكر في نصّ الكتاب (٧) ، وهذا يدلّ على

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٧٨).

(٤) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.

(٥) أخرجه مالك (٢ / ٨٢٢) كتاب الحدود : باب ما جاء في الرجم حديث والبخاري (١٢ / ١٧٩) كتاب الحدود : باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا حديث (٦٨٤٢ ، ٦٨٦٣) ومسلم (٣ / ١٣٢٤ ـ ١٣٢٥) كتاب الحدود : باب من اعترف على نفسه بالزنى حديث (٢٥ / ١٦٩٧ ـ ١٦٩٨) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.

(٦) ينظر : الرازي ١٢ / ١٧٨.

(٧) حدّ البكر جلد مائة وتغريب عام ، ويكون كل واحد منهما حدا ، فيجمع عليه بين حدّين ، رجلا كان الزاني أو امرأة.

وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة : ليس عليه إلّا حدّ واحد وهو الجلد ، فأما التغريب فهو تعزير غير مقدر ، يرجع فيه إلى رأي الإمام في فعله ، وتركه ، أو العدول إلى تعزيره.

وقال مالك : يجمع بينهما في حد الرجل ، ولا يجمع بينهما في حد المرأة ، وتجلد ولا تغرب ؛ لأنها عورة.

واستدلوا على أن التغريب ليس بحدّ في الزنا بقول الله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] فكان الدليل فيه من وجهين :

أحدهما : أنه اقتصر في حدها على الجلد ، ولو وجب التغريب لقرنه به ؛ لأن تأخير البيان عن وقته لا يجوز.

والثاني : أن وجوب التغريب زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، ونسخ القرآن لا يجوز بأخبار الآحاد ، قالوا ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد منع من سفر المرأة إلّا مع ذي محرم ، فإن غربت مع غير ذي محرم ، أسقطتم الخبر ، وإن غربت مع ذي محرم أوجبتم التغريب على من ليس بزان ، ولأنه سبب يوجب الحد فلم يجب به التغريب كالقذف وشرب الخمر ؛ ولأنه زنا يوجب عقوبة فلم يجمع فيه بين حدين كزنا الثيب.

ودليلنا حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خذوا عنّي قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثّيب بالثّيب جلد مائة والرّجم». أخرجه مسلم في صحيحه ٣ / ٣٢٤ حديث رقم (٢٤ ب / ١٦٩٦).

فإن قيل : لما كان ما اقترن برجم الثيب من الجلد منسوخا اقتضى أن يكون ما اقترن بجلد البكر من التغريب منسوخا؟ قيل : نسخ أحدهما لا يوجب نسخ الآخر ؛ لأن النسخ يؤخذ من النصّ دون القياس ، وحديث أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للرجل : «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» ، بعد قول الرجل : ـ

١٢٧

أن ما جاءكم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو عين كتاب الله. قال تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] ، وعند هذا يصحّ قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) والله أعلم.

وقال بعضهم : إن هذا عامّ أريد به الخصوص ، والمعنى ما فرّطنا في الكتاب من شيء يحتاج إليه المكلّفون.

__________________

ـ وسألت رجالا من أهل العلم فقالوا : على ابنك جلد مائة وتغريب عام ، فصار هذا الخبر يجمع نصّا ووفاقا ؛ ولأنه إجماع الصحابة. وروي أن أبا بكر رضي الله عنه جلد وغرب إلى «فدك».

وجلد عمر وغرب إلى «الشام» ، وجلد عثمان وغرب إلى «مصر».

وجلد علي وغرب من «الكوفة» إلى «البصرة» ، وليس لهم في الصحابة مخالف.

فإن قيل : فقد قال عمر حين غرب لا أنفي بعده أحدا.

وقال علي : كفى بالنفي فتنة ، فدلّ على أنهم غربوا تعزيرا يجوز لهم تركه ، ولم يكن حدّا محتوما.

قيل : أما قول عمر : «لا أنفي بعده أحدا» ، فإنما كان ذلك منه في شارب خمر نفاه ، فارتد ولحق بالروم ، والنفي في شرب الخمر تعزير يجوز تركه ، وهو في الزنا حد لا يجوز تركه.

وأما قول علي : «كفى بالنفي فتنة» فيعني : عذابا كما قال الله تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أي يعذبون ، ولأن التغريب عقوبة تقدرت على الزاني شرعا ، فوجب أن يكون حدا كالجلد ؛ ولأن الزنا معصية توجب حدا أعلى ؛ وهو الجلد ، فوجب أن يقترن بأدناها غيرهما ؛ كالقتل يوجب أعلى ؛ وهو القود ؛ وأدنى ، وهو الدية واقترن بها الكفارة.

فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

أحدهما : أنها تضمنت كل ما وجب بالقرآن ، والتغريب واجب بالسنّة دون القرآن.

والثاني : أن الزيادة على النص عندنا لا تكون نسخا ، ولو كانت نسخا ، لم تكن زيادة التغريب هاهنا نسخا لأمرين :

أحدهما : أننا قد اتفقنا عليها ، وإن اختلفنا في حكمها ، فجعلوها تعزيرا وجعلناها حدا.

والثاني : أنها تكون نسخا إذا تأخرت ، والتغريب هاهنا تفسير لقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥] فكان مقدّما عن قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] فخرج عن حكم النسخ.

وأما الجواب عن تغريبها مع ذي المحرم فمن وجهين :

أحدهما : أنه لما لم يمنع ذلك من تغريبها تعزيرا ، لم يمنع من تغريبها حدا.

والثاني : أن المحرم شرط عندنا في مباح السفر دون واجبه ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصومنّ امرأة وزوجها حاضر ، إلّا بإذنه» محمولا على تطوع الصوم دون مفروضه ، وهذا واجب كالحج فلم يفتقر إلى ذي محرم.

وأما الجواب عن قياسهم على حد القذف ، وشرب الخمر ـ فمن وجهين :

أحدهما : أنه قياس يدفع النص ، فكان مطرحا.

والثاني : أنه لما لم يجز أن يغرب في غير الزنا تعزيرا وجاز في الزنا لم يمنع من وجوبه في الزنا حدا ، وإن لم يجب في غير الزنا.

وأما الجواب عن قياسهم على الثّيب فمن وجهين :

أحدهما : أن حد الثيب أغلظ العقوبات ، فسقط به ما دونه.

والثاني : أن الرجم فيه قد منع من حد يتعقبه ، والجلد لا يمنع والله أعلم.

ينظر : الحاوي بتحقيقنا ١٣ / ١٩٣ ـ ١٩٥.

١٢٨

قوله : (مِنْ شَيْءٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن «من» زائدة في المفعول به ، والتقدير : ما فرّطنا شيئا ، وتضمن «فرطنا» معنى تركنا وأغفلنا ، والمعنى : ما أغفلنا ، ولا تركنا شيئا.

والثاني : أن «من» تبعيضيّة ، أي : ما تركنا ولا أغفلنا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المكلّف.

الثالث : أن (مِنْ شَيْءٍ) في محلّ نصب على المصدر ، و «من» زائدة فيه أيضا.

ولم يجز أبو البقاء (١) غيره ، فإنه قال : «من» زائدة ، و «شيء» هنا واقع موقع المصدر ، أي تفريطا.

وعلى هذا التّأويل لا يبقى في الآية حجّة لمن ظنّ أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء صريحا ، ونظير ذلك : (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) [آل عمران : ١٢٠].

ولا يجوز أن يكون مفعولا به ؛ لأن «فرّطنا» لا يتعدّى بنفسه ، بل بحرف الجرّ ، وقد عدّيت إلى «الكتاب» ب «في» ، فلا يتعدّى بحرف آخر ، ولا يصحّ أن يكون المعنى : ما تركنا في الكتاب من شيء ؛ لأن المعنى على خلافه ، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى.

قوله : «يحتوي على ذكر كل شيء صريحا» لم يقل به أحد ؛ لأنه مكابرة في الضروريات(٢).

وقرأ الأعرج وعلقمة : «فرطنا» مخفّفا ، فقيل : هما بمعنى وعن النقاش : فرطنا : أخّرنا ، كما قالوا : «فرط الله عنك المرض» أي : أزاله.

قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : قال ابن عبّاس ، والضحاك : حشرها موتها (٣).

وقال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة الإنس والجن والبهائم والدّوابّ والطير وكلّ شيء ، فيأخذ للجمّاء من القرناء ، ثم يقول : كوني ترابا (٤) ، فحينئذ يتمنّى الكافر ويقول : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ، ويتأكّد هذا بقوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥].

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٣٩)

قوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) مبتدأ ، وما بعده الخبر.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٣ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ١٨٧) عن ابن عباس والضحاك وذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٧١).

(٤) أخرجه الطبري (٥ / ١٨٧) والحاكم (٢ / ٣١٦) من حديث أبي هريرة وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢٠ ـ ٢١) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٢٩

ويجوز أن يكون «صمّ» خبر مبتدأ محذوف ، والجملة خبر الأوّل ، والتقدير : والذين كذّبوا بعضهم صمّ ، وبعضهم بكم.

وقال أبو البقاء (١) : (صُمٌّ وَبُكْمٌ) الخبر مثل : «حلو حامض» ، والواو لا تمنع من ذلك».

وهذا الذي قاله لا يجوز من وجهين :

أحدهما : أن ذلك إنما يكون إذا كان الخبران في معنى خبر واحد ، لأنهما في معنى : «مزّ» ، وهو «أعسر يسر» بمعنى «أضبط» ، وأمّا هذان الخبران فكل منهما مستقلّ بالفائدة.

والثاني : أن «الواو» لا تجوز في مثل هذا إلا عند أبي عليّ الفارسي وهو وجه ضعيف.

والمراد بالآيات ، قيل : جميع الدّلائل والحجج.

وقيل : القرآن ومحمد عليه‌السلام.

قوله : (فِي الظُّلُماتِ) فيه أوجه :

أحدها : أن يكون خبرا ثانيا لقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) ويكون ذلك عبارة عن العمى ويصير نظير الآية الأخرى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] فعبّر عن العمى بلازمه ، والمراد بذلك عمى البصيرة.

الثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنّ في الخبر ، تقديره : ضالون حال كونهم مستقرّين في الظلمات.

الثالث : أنه صفة ل «بكم» ، فيتعلّق أيضا بمحذوف ، أي : بكم كائنون في الظلمات.

الرابع : أن يكون ظرفا على حقيقته ، وهو ظرف ل «صم» ، أو ل «بكم».

قال أبو البقاء (٢) : أو لما ينوب عنهما من الفعل ، أي : لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل.

فصل في بيان نظم الآية

في وجه النّظم قولان :

الأول : أنه ـ تعالى ـ لما بيّن من حال الكفّار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كانت قلوبهم قد صارت ميّتة عن قبول الإيمان بقوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) فذكر هذه الآية تقريرا لذلك المعنى (٣).

الثاني : أنه ـ تعالى ـ لمّا ذكر في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في كونها دالّة على كونها تحت تدبير مدبّر قديم ، وتحت تقدير مقدّر حكيم ، وفي أنّ عناية الله محيطة بهم ، ورحمته واصلة إليهم ـ قال بعده : والمكذّبون بهذه الدّلائل

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤١.

(٣) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨١.

١٣٠

والمنكرون لهذه العجائب صمّ لا يسمعون كلاما ، بكم لا ينطقون بالحق ، خائضون في ظلمات الكفر ، غافلون عن تأمّل هذه الدلائل (١).

قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) في «من» وجهان :

أحدهما : أنها مبتدأ ، وخبرها ما بعدها ، وقد عرف غير مرّة.

ومفعول «يشأ» محذوف ، أي : من يشأ الله إضلاله.

والثاني : أنه منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده من حيث المعنى ، ويقدّر ذلك الفعل متأخّرا عن اسم الشّرط لئلا يلزم خروجه عن الصّدر.

وقد تقدّم التّنبيه على ذلك ، وأن فيه خلافا ، والتقدير : من يشق الله يشأ إضلاله ، ومن يسعد يشأ هدايته.

فإن قيل : هل يجوز أن تكون «من» مفعولا مقدّما ل «يشاء»؟

فالجواب : أن ذلك لا يجوز لفساد المعنى.

فإن قيل : أقدّر مضافا هو المفعول حذف وأقيمت «من» مقامه ، تقديره : إضلال من يشاء ، وهداية من يشاء ، ودلّ على هذا المضاف جواب الشرط.

فالجواب أن الأخفش حكى عن العرب أنّ اسم الشّرط غير الظرف ، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجزاء ضمير يعود عليه ، أو على ما أضيف إليه ، فالضّمير في «يضلله» و «يجعله» : إمّا أن يعود على المضاف المحذوف ، ويكون كقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) [النور : ٤٠].

فالهاء في «يغشاه» تعود على المضاف ، أي : كذي ظلمات يغشاه.

وإمّا أن يعود على اسم الشرط [والأول ممتنع ؛ إذ يصير التقدير : إضلال من يشأ الله يضلله ، أي : يضلّ الإضلال ، وهو فاسد.

والثاني أيضا ممتنع لخلو الجواب من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط](٢).

فإن قيل : يجوز أن يكون المعنى : من يشأ الله بالإضلال ، وتكون «من» مفعولا مقدّما ؛ لأن «شاء» بمعنى «أراد» ، و «أراد» يتعدّى بالباء.

قال الشاعر : [الطويل]

٢١٥٧ ـ أرادت عرارا بالهوان ومن يرد

عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم (٣)

قيل : لا يلزم من كون «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدّى تعديته ، ولذلك نجد اللفظ

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

١٣١

الواحد تختلف تعديته باختلاف متعلّقه ، تقول : دخلت الدّار ، ودخلت في الأمر ، ولا تقول : دخلت الأمر ، فإذا كان ذلك في اللّفظ الواحد فما بالك بلفظين؟ ولم يحفظ عن العرب تعدية «شاء» بالباء ، وإن كانت في معنى أراد.

فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى

احتج أهل السّنّة بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليسا إلّا من الله ـ تعالى ـ لتصريح الآية بذلك.

وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه :

الأول : قال الجبّائي (١) : معناه أنّه ـ تعالى ـ يجعلهم صمّا وبكما وعميا يوم القيامة عند الحشر ، ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صمّا وبكما في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجنّة ، وعن طريقها ، ويصيرهم إلى النار ، وأكّد القاضي هذا بأنه ـ تعالى ـ بيّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوههم عميا وبكما وصمّا مأواهم جهنّم.

الثاني : قال الجبائي (٢) أيضا : ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا ، فيكون توسّعا من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدنيا فشبّههم من هذا الوجه بهم وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التّشبيه.

الثالث : قال الكعبي (٣) : قوله : (صُمٌّ وَبُكْمٌ) قائم على الشّتم والإهانة ، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة.

أمّا قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) فقال الكعبي (٤) : ليس هذا على سبيل المجاز لأنه ـ تعالى ـ وإن أجمل القول فيه هاهنا فقد فسّره في سائر الآيات ، وهو قوله : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧] وقوله : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ، وقوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) [المائدة : ١٦].

وقوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم : ٢٧] وقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩].

فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال ، وإن كانت مجملة في هذه الآية ، إلّا أنها [مخصصة](٥) مفصلة في سائر الآيات ، فيحمل هذا المجمل على تلك المفصّلات. ثم إن المعتزلة ذكروا في تأويل هذه الآية وجوها :

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٢.

(٢) ينظر : الرازي ١٢ / ١٨٢.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) سقط في أ.

١٣٢

أحدها : قوله : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ) [الآية : ٣٩] محمول على منع الألطاف ، فصاروا عندها كالصّمّ والبكم.

وثانيها : يضلله يوم القيامة عن طريق (١) الجنة ، وعن وجدان الثواب ؛ لأنه ثبت بالدليل أنه ـ تعالى ـ لا يشاء هذا الإضلال إلّا لمن يستحقه عقوبة ، كما لم يشأ الهدى إلّا للمؤمنين.

واعلم أن هذه الوجوه التي تكلّفها المعتزلة إنما تحسن لو ثبت في العقل أنه لا يمكن إجراء هذا الكلام على ظاهره ، وقد دللنا على أنّ هذا الفعل لا يحصل إلّا عند حصول الداعي ، وبيّنّا أنّ خالق ذلك الداعي هو الله تعالى ، وبيّنّا أن عند حصوله يجب الفعل في هذه المقدّمات الثلاث ، فوجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله تعالى ، وبتخليقه وتقديره وتكوينه ، وقد تقدّم إبطال هذه الوجوه عند قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] وغيرها من الآيات ، فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)(٤١)

يجوز نقل همزة حركة الاستفهام إلى لام «قل» ، وتحذف الهمزة تخفيفا وهي قراءة (٢) ورش ، وهو تسهيل مطّرد ، و «أرأيتكم» هذه بمعنى «أخبرني» ، ولها أحكام تختصّ بها ، اضطربت أقوال الناس فيها ، وانتشر خلافهم ، ولا بدّ من التّعرّض لذلك ، فنقول : أرأيت إن كانت البصرية ، أو العلمية الباقية على معناها ، أو التي لإصابة الرئة كقولهم : «رأيت الطّائر» ، أي ، أصبت رئته لم يجز فيها تخفيف الهمزة التي هي عينها ، بل تحقّق ليس إلّا ، أو تسهّل بين بين من غير إبدال ولا حذف ، ولا يجوز أن تلحقها كاف على أنها حرف خطاب ، بل إن لحقها كاف كانت ضميرا مفعولا أوّل ، ويكون مطابقا لما يراد به من تذكير وتأنيث ، وإفراد وتثنية وجمع ، وإذا اتّصلت بها تاء الخطاب لزم مطابقتها لما يراد بها ممّا ذكر ، ويكون ضميرا فاعلا ، نحو : أرأيتم ، أرأيتما أرأيتنّ ، ويدخلها التّعليق والإلغاء ، وإن كانت العلميّة التي ضمّنت معنى «أخبرني» اختصّت بأحكام أخر.

منها : أنه يجوز تسهيل همزتها بإبدالها ألفا ، وهي مرويّة عن نافع (٣) من طريق

__________________

(١) في أ : دخول.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٩ ، حجة القراءات ص (٢٥٠) السبعة ص (٢٥٧) ، النشر ١ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٥ ، البحر المحيط ٤ / ١٢٩ ، حجة القراءات ص (٢٥٠).

١٣٣

ورش ، والنّحاة يستضعفون إبدال هذه الهمزة ألفا ، بل المشهور عندهم تسهيلها بين بين ، وهي الرواية (١) المشهورة عن نافع ، لكنّه قد نقل الإبدال المحض (٢) قطرب وغيره من اللغويين قال بعضهم : «هذا غلط غلّط عليه» ، أي : على نافع ، وسبب ذلك أنه يؤدّي إلى الجمع بين ساكنين ، فإن «الياء» بعدها ساكنة.

ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر (٣) ونافع ، وغيرهما من أهل «المدينة» أنهم يسقطون الهمزة ، ويدّعون أن الألف خلف منها.

قال شهاب الدين : وهذه العبارة تشعر بأنّ هذه الألف ليست بدلا من الهمزة ، بل جيء بها عوضا عن الهمزة السّاقطة.

وقال مكّيّ بن أبي طالب : «وقد روي عن ورش إبدال الهمزة ألفا ؛ لأن الرّواية عنه أنه يمدّ الثانية ، والمدّ لا يتمكن إلّا مع البدل ، وحسّن جواز البدل في الهمزة وبعدها ساكن أنّ الأوّل حرف مدّ ولين ، فإن هذا الذين يحدث مع السكون يقوم مقام حركة يتوصّل بها إلى النّطق بالساكن».

وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦].

ومنها : أن تحذف الهمزة التي هي عين الكلمة ، وبها قرأ الكسائي (٤) ، وهي فاشية نظما ونثرا فمن النظم قوله : [الرجز]

٢١٥٨ ـ أريت ما جاءت به أملودا

مرجّلا ويلبس البرودا

أقائلنّ أحضروا الشّهودا (٥)

وقال الآخر : [الطويل]

٢١٥٩ ـ أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف

رقيبا وحولي من عدوّك حضّر (٦)

وأنشد الكسائي لأبي الأسود : [المتقارب]

٢١٦٠ ـ أريت امرأ كنت لم أبله

أتاني فقال : اتّخذني خليلا (٧)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٥ ، حجة القراءات ص (٢٥٠).

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٥.

(٣) ينظر : حجة القراءات ص (٢٥٠) ، السبعة ٣ / ٣٠٦ ، إعراب القراءات السبع ١ / ١٥٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٧٥٥ إتحاف فضلاء البشر ٢ / ١١ ، حجة القراءات ص (٢٥٠).

(٥) البيت لرؤبة أو لرجل من هذيل. ينظر : أشعار الهذليين ٢ / ٦٥١ والمغني ٢ / ٣٣٩ ، الخصائص ١ / ١٣٦ ، اللسان (رأى) الدر المصون ٣ / ٥٥.

(٦) البيت لعمر بن أبي ربيعة وهو في ديوانه ص (٩٦) ، الدر المصون ٣ / ٥٥.

(٧) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص (٥٣) ، الأغاني ١٢ / ٣١٥ ، خزانة الأدب ١ / ٢٨٣ ، ١١ / ٣٧٩ ، شرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٣٧ ، شرح شواهد الشافية ص (٣١٤) ، الدر المصون ٣ / ٥٥.

١٣٤

وزعم الفرّاء أن هذه اللّغة لغة أكثر العرب. قال : «في أرأيت لغتان ومعنيان :

أحدهما : أن يسأل الرجل : أرأيت زيدا ، أي : أعلمت ، فهذه مهموزة.

وثانيهما : أن تقول : أرأيت بمعنى «أخبرني» ، فهاهنا تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب تؤمىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين». انتهى.

وفي كيفية حذف هذه الهمزة ثلاثة أوجه :

أحدها : ـ وهو الظّاهر ـ أنه استثقل الجمع بين همزتين في فعل اتّصل به ضمير ، فخفّفه بإسقاط إحدى الهمزتين ، وكانت الثانية أولى ، لأنها حصل بها الثّقل (١) ؛ ولأنّ حذفها ثابت في مضارع هذا الفعل ، نحو : أرى ، ويرى ، ونرى ، وترى ، ولأنّ حذف الأولى يخلّ بالتّفاهم ، إذ هي للاستفهام.

والثاني : أنه أبدل الهمزة ألفا ، كما فعل نافع في رواية ورش ، فالتقى ساكنان ، فحذف أولهما وهو الألف.

والثالث : أنه أبدلها ياء ، ثم سكّنها ، ثم حذفها لالتقاء الساكنين ، قاله أبو البقاء (٢) ، وفيه بعد ، ثم قال : «وقرّب ذلك فيها حذفها في مستقبل هذا الفعل» يعني في يرى وبابه ، ورجّح بعضهم مذهب الكسائي بأن الهمزة قد اجترىء عليها بالحذف ، وأنشد : [الرجز]

٢١٦١ ـ إن لم أقاتل فالبسوني برقعا (٣)

وأنشد لأبي الأسود : [الكامل]

٢١٦٢ ـ يا با المغيرة ربّ أمر معضل

فرّجته بالمكر مني والدّها (٤)

[وقولهم : «ويلمّه»](٥).

وقوله : [البسيط]

٢١٦٣ ـ ويلمّها خلّة قد سيط من دمها

فجع وولع وإخلاف وتبديل (٦)

وأنشد أيضا : [الوافر]

٢١٦٤ ـ ومن را مثل معدان بن سعد

إذا ما النّسع طال على المطيّه (٧)

أي : ومن رأى.

__________________

(١) في ب : النقل.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤١.

(٣) تقدم.

(٤) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ملحق ديوانه ص (٣٧٨) ، المقرب ٢ / ٢٠٠ ، الممتع في التصريف ٢ / ٦٢٠ ، خزانة الأدب ١٠ / ٣٤١ ، رصف المباني ص ٤٤. الدر المصون ٣ / ٥٦.

(٥) سقط في ب.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : اللسان (رأى) الدر المصون ٣ / ٥٦.

١٣٥

ومنها : أنه لا يدخلها تعليق ، ولا إلغاء ؛ لأنها [بمعنى](١) «أخبرني» و «أخبرني» لا يعلّق عند الجمهور.

قال سيبويه (٢) : «وتقول : أرأيتك زيدا أبو من هو؟ لا يحسن فيه إلّا النّصب في «زيد» ، ألا ترى أنّك لو قلت : «أرأيت أبو من أنت؟» لم يحسن ؛ لأن فيه معنى أخبرني عن زيد ، وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غيره من النحويين وقالوا : كثيرا ما تعلّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثير ، واستدلّوا بهذه الآية التي نحن فيها ، وبقوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١٣ ، ١٤] ، وبقوله :

٢١٦٥ ـ أريت ما جاءت به أملودا (٣)

وهذا لا يرد على سيبويه ، وسيأتي تأويل ذلك قريبا.

ومنها : أنها تلحقها «التاء» ، فيلتزم إفرادها وتذكيرها ، ويستغنى عن لحاق علامة الفروع بها بلحاقها بالكاف ، بخلاف التي لم تضمّن معنى «أخبرني» فإنها تطابق فيها ، كما تقدّم ما يراد بها.

ومنها : أنه يلحقها «كاف» هي حرف خطاب تطابق ما يراد بها من إفراد وتذكير وضدّيهما ، وهل هذه «التّاء» فاعل ، و «الكاف» حرف خطاب [تبيّن أحوال التاء ، كما تبينه إذا كانت ضميرا ، أو التاء حرف خطاب](٤) و «الكاف» هي الفاعل ، واستعير ضمير النّصب في مكان ضمير الرفع ، أو «التاء» فاعل أيضا ، و «الكاف» ضمير في موضع المفعول الأول؟

ثلاثة مذاهب مشهورة ، الأوّل : قول البصريين ، والثاني : قول الفراء (٥) ، والثالث : قول الكسائي ، ولنقتصر على بعض أدلّة كلّ فريق.

قال أبو علي : «قولهم : «أرأيتك زيدا ما فعل» بفتح «التاء» في جميع الأحوال ، فالكاف لا يخلو أن يكون للخطاب مجرّدا ، ومعنى الاسمية مخلوع منه ، أو يكون دالا على الاسم مع دلالته على الخطاب ، ولو كان اسما لوجب أن يكون الاسم الذي بعده هو هو ؛ لأن هذه الأفعال مفعولها الثّاني هو الأوّل في المعنى ، لكنه ليس به ، فتعيّن أن يكون مخلوعا منه الاسميّة ، وإذا ثبت أنه للخطاب معرى من الاسمية ثبت أن «التاء» لا تكون لمجرّد الخطاب ، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يلحق الكلمة علامتا خطاب ، كما لا يلحقها علامتا تأنيث ولا علامتا استفهام ، فلمّا لم يجز ذلك أفردت «التاء» في جميع الأحوال لمّا كان الفعل لا بدّ من فاعل ، وجعل في جميع الأحوال على لفظ واحد استغناء بما

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٢٢.

(٣) تقدم.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٣٣.

١٣٦

يلحق «الكاف» ، ولو لحق «التاء» علامة الفروع لاجتمع علامتان للخطاب مما كان يلحق «التاء» ، وممّا كان يلحق «الكاف» ، فلما كان ذلك يؤدّي إلى ما لا نظير له رفض ، وأجري على ما عليه سائر كلامهم».

وقال الزّجّاج (١) بعد حكايته مذهب الفراء : «وهذا القول لم يقبله النحويون القدماء وهو خطأ ؛ لأنّ قولك : «أرأيت (٢) زيدا ما شأنه» لو تعدّت الرؤية إلى «الكاف» وإلى زيد لصار المعنى : أرأت نفسك زيدا ما شأنه وهذا محال» ثم ذكر مذهب البصريين.

وقال مكّي بن أبي طالب (٣) بعد حكايته مذهب الفرّاء : «وهذا محال ، لأنّ «التاء» هي «الكاف» في «أرأيتكم» ، فكان يجب أن تظهر علامة جمع «التاء» ، وكان يجب أن يكون فاعلان لفعل واحد وهما لشيء واحد ، ويجب أن يكون معنى قولك : «أرأيتك زيدا ما صنع» : أرأيت نفسك زيدا ما صنع ؛ لأن «الكاف» هو المخاطب ، وهذا محال في المعنى ، ومتناقض في الإعراب والمعنى ؛ لأنك تستفهم عن نفسه في صدر السّؤال ، ثم ترد السؤال إلى غيره في آخره وتخاطبه أولا ، ثم تأتي بغائب آخر ، أو لأنه يصير ثلاثة مفعولين ل «رأيت» ، وهذا كله لا يجوز. ولو قلت : «أرأيتك عالما بزيد» لكان كلاما صحيحا ، وقد تعدّى «رأى» إلى مفعولين».

وقال أبو البقاء (٤) بعد ما حكى مذهب البصريين : «والدّليل على ذلك أنها ـ أي «الكاف» ـ لو كانت اسما لكانت : إمّا مجرورة ـ وهو باطل إذ لا جارّ هنا ـ وإمّا مرفوعة ، وهو باطل أيضا لأمرين :

أحدهما : أن «الكاف» ليست من ضمائر الرفع.

والثاني : أنها لا رافع لها ؛ إذ ليست فاعلا ؛ لأن «التاء» فاعل ، ولا يكون لفعل واحد فاعلان ، وإمّا أن تكون منصوبة ، وذلك باطل لثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذا الفعل يتعدّى إلى مفعولين كقولك : «أرأيت زيدا ما فعل» فلو جعلت «الكاف» مفعولا لكان ثالثا.

والثاني : أنه لو كان مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى ، وليس المعنى على ذلك ، إذ ليس الغرض أرأيت نفسك ، بل أرأيت غيرك ، ولذلك قلت : أرأيتك زيدا ، وزيد غير المخاطب ، ولا هو بدل منه.

والثالث : أنه لو كان منصوبا على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتّأنيث في «التاء» فكنت تقول : أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنّ». ثم ذكر مذهب الفرّاء ثم قال : «وفيما ذكرنا إبطال لمذهبه».

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٧٠.

(٢) في ب : أرأيتك.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٦٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٤٢.

١٣٧

وقد انتصر أبو بكر بن الأنباريّ لمذهب الفرّاء بأن قال : «لو كانت «الكاف» توكيدا لوقعت التّثنية والجمع بالتاء ، كما يقعان بها عند عدم «الكاف» ، فلمّا فتحت «التاء» في خطاب الجمع ووقع ميسم الجمع لغيرها كان ذلك دليلا على أن «الكاف» غير توكيد.

ألا ترى أن «الكاف» لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة : أرأيت ، فوضح بهذا انصراف الفعل إلى «الكاف» ، وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها».

وهذا الذي قاله أبو بكر باطل بالكاف اللاحقة لاسم الإشارة ، فإنها يقع عليها ميسم الجمع ، ومع ذلك هي حرف.

وقال الفراء (١) : «موضع «الكاف» نصب ، وتأويلها رفع ؛ لأن الفعل يتحوّل عن «التاء» إليها ، وهي بمنزلة «الكاف» في «دونك» إذا أغري بها ، كما تقول : «دونك زيدا» فتجد «الكاف» في اللفظ خفضا ، وفي المعنى رفعا ؛ لأنها مأمورة ، فكذلك هذه «الكاف» موضعها نصب ، وتأويلها رفع».

قال شهاب الدين (٢) : «وهذه الشّبهة باطلة لما تقدّم ، والخلاف في «دونك» و «إليك» وبابهما مشهور تقدّم التّنبيه عليه مرارا».

وقال الفرّاء أيضا كلاما حسنا [رأيت أن أذكره فإنه مبين نافع](٣) قال : للعرب في «أرأيت» لغتان ومعنيان :

أحدهما : رؤية العين ، فإذا رأيت هذا عدّيت الرؤية بالضمير إلى المخاطب ، ويتصرّف تصرّف سائر الأفعال ، تقول للرجل : «أرأيتك على غير هذه الحال» ، تريد : هل رأيت نفسك ، ثم تثنّي وتجمع فتقول : «أرأيتماكما ، أرأيتموكم ، أرأيتكنّ».

والمعنى الآخر : أن تقول : «أرأيتك» وأنت تريد معنى «أخبرني» ، كقولك : أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل ، أي : أخبرني ، وتترك «التاء» إذا أردت هذا المعنى موحّدة على كل حال تقول : «أرأيتكما ، أرأيتكم ، أرأيتكنّ» ، وإنما تركت العرب «التاء» واحدة ؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفعل واقعا من المخاطب على نفسه ، فاكتفوا من علامة المخاطب بذكره في المكان ، وتركوا «التاء» على التذكير والتوحيد إذا لم يكن الفعل واقعا ، والرّؤية من الأفعال الناقصة التي يعدّيها المخاطب إلى نفسه بالمكنى مثل : ظننتني ورأيتني ، ولا يقولون ذلك في الأفعال التّامة ، لا يقولون للرجل : قتلتك بمعنى : قتلت نفسك ، ولا أحسنت إليك ، كما يقولون : متى تظنّك خارجا؟ وذلك أنّهم أرادوا الفصل بين الفعل الذي قد يلغى ، وبين الفعل الذي لا يجوز إلغاؤه ، ألا ترى أنك تقول : «أنا أظنّ خارج» فتلغي «أظن» وقال الله تعالى (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٧] ولم يقل : رأى نفسه.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٣٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٣ / ٥٨.

(٣) سقط في أ.

١٣٨

وقد جاء في ضرورة الشعر إجراء الأفعال التامة مجرى النواقص ؛ قال جران العود : [الطويل]

٢١٦٦ ـ لقد كان لي عن ضرّتين عدمتني

وعمّا ألاقي منهما متزحزح (١)

والعرب تقول : «عدمتني ووجدتني وفقدتني» وليس بوجه الكلام. انتهى.

واعلم أنّ النّاس اختلفوا في الجملة الاستفهاميّة الواقعة بعد المنصوب ب «أرأيتك» [نحو : أرأيتك](٢) زيدا ما صنع؟

فالجمهور على أنّ «زيدا» مفعول أوّل ، والجملة بعده في محلّ نصب سادّة مسدّ المفعول الثاني.

وقد تقدّم أنه لا يجوز التّعليق في هذه ، وإن جاز في غيرها من أخواتها نحو : علمت زيدا أبو من هو.

وقال ابن كيسان : «إن هذه الجملة الاستفهاميّة في أرأيتك زيدا ما صنع بدل من أرأيتك».

وقال الأخفش : «إنه لا بدّ بعد «أرأيت» التي بمعنى «أخبرني» من الاسم المستخبر عنه ، ويلزم الجملة التي بعده الاستفهام ؛ لأن «أخبرني» موافق لمعنى الاستفهام».

وزعم أيضا أنها تخرج عن بابها ، فتكون بمعنى «أما» أو «تنبّه» ، وحينئذ لا يكون لها مفعولان ، ولا مفعول واحد ، وجعل من ذلك : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الكهف : ٦٣].

وهذا ينبغي ألّا يجوز ؛ لأنه إخراج للّفظة عن موضوعها من غير داع إلى ذلك.

إذا تقرّر هذا فيلرجع إلى الآية الكريمة فنقول ، وبالله التوفيق : اختلف النّاس في هذه الآية على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن المفعول الأول ، والجملة الاستفهامية التي سدّت مسدّ الثاني محذوفان لفهم المعنى ، والتقدير : أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم؟ أو اتّخاذكم غير الله إلها هل يكشف ضركم؟ ونحو ذلك ، ف «عبادتكم» أو «اتّخاذكم» مفعول أوّل ، والجملة الاستفهامية سادّة مسدّ الثّاني ، و «التاء» هي الفاعل ، و «الكاف» حرف خطاب.

الثاني : أن الشّرط وجوابه ـ وسيأتي بيانه ـ قد سدّا مسدّ المفعولين ؛ لأنهما قد حصّلا المعنى المقصود ، فلم يحتج هذا الفعل إلى مفعول ، وليس بشيء ؛ لأن الشّرط وجوابه لم يعهد فيهما أن يسدّا مسدّ مفعولي «ظنّ» ، وكون الفاعل غير محتاج لمفعول

__________________

(١) البيت لجران العود ينظر : ديوانه ص (٤٠) وينظر : شرح المفصل ٧ / ٨٨ ، وينظر : تذكرة النحاة ص (٤٢١). ابن يعيش ٧ / ٨٨ ، معاني الفراء ٢ / ١٠٦ ، ابن الشجري ١ / ٣٩ ، الدر المصون ٣ / ٥٨.

(٢) سقط في ب.

١٣٩

إخراج له عن وضعه ، فإن عنى بقوله : «سدّا مسدّه» أنّهما دالّان عليه فهو المدّعى.

والثالث : أن المفعول الأوّل محذوف ، والمسألة من باب التّنازع بي ن «أرأيتكم وأتاكم» ، والمتنازع فيه هو لفظ «العذاب» وهذا اختيار أبي حيّان ، ولنورد كلامه ليظهر فإنه كلام حسن قال : «فنقول : الذي نختاره أنها باقية على حكمها في التعدّي إلى اثنين ، فالأوّل منصوب ، والثاني لم نجده بالاستقراء إلّا جملة استفهامية أو قسميّة.

فإذا تقرّر هذا فنقول : المفعول الأول في هذه الآية محذوف ، والمسألة من باب التّنازع ، تنازع «أرأيتكم» والشرط على «عذاب الله» فأعمل الثّاني ، وهو «أتاكم» ، فارتفع «عذاب» به ، ولو أعمل الأوّل لكان التّركيب : «عذاب» بالنّصب ، ونظير ذلك «اضرب إن جاءك زيد» على إعمال «جاءك» ، ولو نصب لجاز ، وكان من إعمال الأوّل.

وأمّا المفعول الثّاني ، فهو الجملة من الاستفهام (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) والرّابط لهذه الجملة بالمفعول الأوّل المحذوف محذوف تقديره : أغير الله تدعون لكشفه ، والمعنى : قل : أرأيتكم عذاب الله إن أتاكم ـ أو السّاعة إن أتتكم ـ أغير الله تدعون لكشفه ، أو لكشف نوازلها». انتهى.

والتقدير الإعرابيّ الذي ذكره يحتاج إلى بعض إيضاح ، وتقديره : قل : أرأيتكموه أو أرأيتكم إيّاه إن أتاكم عذاب الله ، فذلك الضمير هو ضمير العذاب لمّا عمل الثّاني في ظاهره أعطي الملغى ضميره ، وإذا أضمر في الأوّل حذف ما لم يكن مرفوعا ، أو خبرا في الأصل ، وهذا الضمير ليس مرفوعا ، ولا خبرا في الأصل ، فلأجل ذلك حذف ولا يثبت إلّا ضرورة.

وأمّا جواب الشّرط ففيه خمسة أوجه :

أحدها : أنه محذوف ، فقدّره الزمخشري : «إن أتاكم عذاب الله من تدعون».

قال أبو حيّان : «وإصلاحه أن تقول : «فمن تدعون» بالفاء ؛ لأن جواب الشّرط إذا وقع جملة استفهاميّة فلا بدّ فيه من الفاء».

الثاني : أنه «أرأيتكم» ، قاله الحوفي ، وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أنّ جواب الشرط لا يتقدّم عند جمهور البصريين ، إنما جوّزه الكوفيون ، وأبو زيد ، والمبرّد.

والثاني : أن الجملة المصدّرة بالهمزة لا تقع جوابا للشّرط ألبتّة ، إنما يقع من الاستفهام ما كان ب «هل» أو اسم من أسماء الاستفهام ، وإنما لم تقع الجملة المصدّرة بالهمزة جوابا ؛ لأنه لا يخلو : أن تأتي معها بالفاء ، أو لا تأتي بها ، لا جائز ألّا تأتي بها ؛ لأن كلّ ما لا يصلح شرطا يجب اقترانه بالفاء إذا وقع جوابا.

ولا جائز أن تأتي بها ؛ لأنك : إمّا أن تأتي بها قبل الهمزة ، نحو : «إن قمت فأزيد

١٤٠