اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

بمعنى البلوغ ، ويكون المعنى : ما عليه إلا البلوغ بتبليغه ، فالبلوغ مستلزم للتبليغ ، فعبّر باللّازم عن الملزوم.

قوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) لمّا رغّب ـ سبحانه وتعالى ـ في الطّاعة ، والتّنزّه عن المعصية بقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، ثمّ أتبعه بالتّكليف بقوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) ، أتبعه بنوع آخر من التّرغيب في الطّاعة وترك المعصية ، فقال : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ).

قال المفسّرون (١) : أي : الحلال والحرام.

وقال السدّيّ : المؤمن والكافر (٢) ، وقيل : المطيع والعاصي ، وقيل : الرّديء والجيّد.

قال القرطبي (٣) : وهذا على ضرب المثال ، والصّحيح أنّه عامّ ، فيتصوّر في المكاسب ، والأعمال ، والنّاس ، والمعارف من العلوم وغيرها ، فالخبيث [من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ، ولا تحسن له عاقبة](٤) وإن كثر ، والطّيّب وإن قلّ نافع.

[قوله تعالى](٥) : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

نزلت في شريج بن ضبيعة البكري ، وحجّاج بن بكر بن وائل ، (فَاتَّقُوا اللهَ) ولا تتعرّضوا للحجّاج وإن كانوا مشركين ، وقد مضت القصّة أوّل السّورة (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وجواب (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ) : محذوف ، أي : ولو أعجبك كثرة الخبيث ، لما استوى مع الطّيّب ، أو : لما أجدى شيئا في المساواة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)(١٠٢)

في اتّصال [هذه الآية](٦) بما قبلها وجوه :

أحدها : أنّه تعالى لمّا قال (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) كأنّه قال : ما بلّغه الرّسول إليكم ، فخذوه وكونوا منقادين له ، وما لم يبلّغه إليكم ، فلا تسألوا عنه ، ولا تخوضوا فيه ، فإنّكم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم ، فربّما جاءكم بسبب ذلك الخوض من التّكليف ما يثقل عليكم ويشقّ.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٨١) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩٠) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١١.

(٤) في أ : ما يقع فيه.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

٥٤١

وثانيها : أنّه تعالى لما قال (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) وهذا ادعاء منه للرّسالة ، ثمّ الكفّار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر على سبيل التّعنّت ، كما حكى عنهم قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ، إلى قوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣] ، والمعنى : أنّي رسول أمرت بتبليغ الشّرائع والأحكام إليكم ، والله تعالى قد أقام الدلالة على صحّة دعوى الرّسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات ، وطلب الزّيادة بعد ذلك من باب التّعنّت ، وذلك ليس في وسعي ، ولعلّ إظهارها يوجب ما يسوؤكم ، مثل أنّها لو ظهرت فكلّ من خالف بعد ذلك ، استوجب العقاب في الدّنيا ، ثمّ إنّ المسلمين لمّا سمعوا مطالبة الكفّار للرّسول بهذه المعجزات ، وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها ، فعرفوا في هذه الآية أنّهم لا ينبغي أن يطالبوا ذلك ، فربما كان ظهورها يوجب ما يسوؤهم.

وثالثها : أنّ هذا متّصل بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) ، فاتركوا الأمور على ظواهرها ، ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم.

قوله تعالى : (عَنْ أَشْياءَ:) متعلق ب «تسألوا». واختلف النحويّون في «أشياء» على خمسة مذاهب :

أحدها ـ وهو رأي الخليل وسيبويه (١) والمازنيّ وجمهور البصريين ـ : أنها اسم جمع من لفظ «شيء» ، فهي مفردة لفظا جمع معنى ؛ ك «طرفاء» ، و «قصباء» ، وأصلها : «شيئاء» بهمزتين بينهما ألف ، ووزنها فعلاء ؛ ك «طرفاء» ، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألف ، لا سيما وقد سبقها حرف علّة ، وهي الياء ، وكثر دور هذه اللفظة في لسانهم ، فقلبوا الكلمة بأن قدّموا لامها ، وهي الهمزة الأولى على فائها ، وهي الشين ؛ فقالوا «أشياء» فصار وزنها «لفعاء» ، ومنعت من الصرف ؛ لألف التأنيث الممدودة ، ورجّح هذا المذهب بأنه لم يلزم منه شيء غير القلب ، والقلب في لسانهم كثير ك «الجاه ، والحادي ، والقسيّ ، وناء ، وآدر ، وآرام ، وضئاء في قراءة قنبل ، وأيس» ، والأصل : «وجه ، وواحد ، وقووس ، ونأى ، وأدور ، وأرام ، وضياء ، ويئس» ، واعترض بعضهم على هذا بأن القلب على خلاف الأصل ، وأنه لم يرد إلا ضرورة ، أو في قليل من الكلام ، وهذا مردود بما قدّمته من الأمثلة ، ونحن لا ننكر أنّ القلب غير مطّرد ، وأما الشاذّ القليل ، فنحو قولهم : «رعملي» في «لعمري» ، و «شواعي» في «شوائع» ؛ قال : [الكامل]

٢٠٥٥ ـ وكأنّ أولاها كعاب مقامر

ضربت على شزن فهنّ شواعي (٢)

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٧٩.

(٢) البيت للأجدع بن مالك. ينظر : المقتضب ١ / ١٤٠ ، المنصف ٢ / ٥٧ ، اللسان «شزن» الدر المصون ٢ / ٦١٥ ، ويروى «صرعاها» بدل «أولاها».

٥٤٢

[يريد شوائع].

وأمّا المذاهب الآتية ، فإنه يرد عليها إشكالات ، هذا المذهب سالم منها ؛ فلذلك اعتبره الجمهور دون غيره.

وقال ابن الخطيب (١) : منع الصّرف لثلاثة أوجه :

أحدها : ما تقدّم ، وهو أنّ هذه الكلمة لمّا كانت في الأصل على وزن «فعلاء» مثل «حمراء» ، فلم يتصرّف كحمراء.

وثانيها : لمّا كانت في الأصل «شيآء» ، ثمّ جعلت أشياء منع ذلك الصّرف.

وثالثها : أنّا لمّا قطعنا الحرف الأخير منه ، وجعلناه أوّله ، والكلمة إذا قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف كلمة ، ونصف الكلمة لا تقبل الإعراب ، ومن حيث إنّ ذلك الحرف الذي قطعناه ، لم نحذفه بالكلّيّة ، بل ألصقناه بأوّل الكلمة ، فكأنّها باقية بتمامها ، فلا جرم منعناه في بعض وجوه الإعراب دون البعض (٢).

الثاني ـ وبه قال الفراء (٣) ـ : أن «أشياء» جمع ل «شيء» ، والأصل في «شيء»: «شيّىء» على «فيعل» ك «ليّن» ، ثم خفّف إلى «شيء» ؛ كما خففوا لينا ، وهيّنا ، وميّتا إلى لين ، وهين ، وميت ، ثم جمعه بعد تخفيفه ، وأصله «أشيئاء» بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة «أفعلاء» ، فاجتمع همزتان : لام الكلمة والتي للتأنيث ، والألف تشبه الهمزة والجمع ثقيل ، فخفّفوا الكلمة ؛ بأن قلبوا الهمزة الأولى ياء ؛ لانكسار ما قبلها ، فيجتمع ياءان ، أولاهما مكسورة ، فحذفوا الياء التي هي عين الكلمة تخفيفا ، فصارت «أشياء» ، ووزنها الآن بعد الحذف «أفلاء» فمنع الصرف ؛ لأجل ألف التأنيث ، وهذه طريقة بعضهم في تصريف هذا المذهب ؛ كمكي (٤) بن أبي طالب ، وقال بعضهم كأبي البقاء (٥) : لمّا صارت إلى أشيئاء ، حذفت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة ؛ لأنّها بها حصل الثّقل ، وفتحت الياء المكسورة ؛ لتسلم ألف الجمع ، فصار وزنها : أفعاء.

المذهب الثالث ـ وبه قال الأخفش ـ : أنّ أشياء جمع «شيء» [بزنة فلس ، أي : ليس مخفّفا من «شيّىء» ، كما يقوله الفرّاء ، بل جمع «شيء»] ، وقال : إنّ فعلا يجمع على أفعلاء ، فصار أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ، ثم عمل فيه ما عمل في مذهب الفرّاء ، والطريقان المذكوران عن مكّيّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا ، وأكثر المصنّفين يذكرون مذهب الفرّاء عنه وعن الأخفش ، قال مكي (٦) : «وقال الفرّاء والأخفش ؛ والزياديّ : «أشياء» وزنها «أفعلاء» ، وأصلها «أشيئاء» ؛ ك «هيّن وأهوناء» ،

__________________

(١) ينظر تفسير الفخر الرّازي ١٢ / ٨٧.

(٢) في ب : دون بعض المذاهب.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢١.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٧.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٧.

٥٤٣

لكنه خفّف». ثم ذكر تصريف الكلمة إلى آخره ، وقال أبو البقاء (١) : «وقال الأخفش والفراء : أصل الكلمة «شيّىء» مثل «هيّن» ، ثم خفّف بالحذف» ، وذكر التصريف إلى آخره ، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئا واحدا ، والحقّ ما ذكرته عنهما ؛ ويدلّ على ما قلته ما قاله الواحديّ ؛ فإنه قال : «وذهب الفرّاء في هذ الحرف مذهب الأخفش» ، غير أنه خلط حين ادّعى أنها كهين ولين حين جمعا على أهوناء وأليناء ، وهين تخفيف «هيّن» ؛ فلذلك جاز جمعه على أفعلاء ، وشيء ليس مخفّفا من «شيّىء» حتى يجمع على أفعلاء ، وهذان المذهبان ـ أعني مذهب الفراء والأخفش ـ وإن سلما من منع الصّرف بغير علّة ، فقد ردّهما الناس ، قال الزجّاج (٢) : «وهذا القول غلط ؛ لأنّ «شيئا» فعل ، وفعل لا يجمع على أفعلاء ، فأما هيّن وليّن ، فأصله : هيين وليين ، فجمع على أفعلاء ، كما يجمع فعيل على أفعلاء ؛ مثل : نصيب وأنصباء» قال شهاب الدين : وهذا غريب جدّا ، أعني كونه جعل أنّ أصل «هيّن» «هيين» بزنة فعيل ، وكذا ليّن وليين ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيب ، والناس يقولون : إنّ هيّنا أصله هيون ، كميّت أصله ميوت ، ثم أعلّ الإعلال المعروف ، وأصل ليّن : ليين بياءين ، الأولى ساكنة والثانية مكسورة ، فأدغمت الأولى ، والاشتقاق يساعدهم ؛ فإن الهيّن من هان يهون ، ولأنّهم حين جمعوه على أفعلاء أظهروا الواو ، فقالوا : أهوناء. وقال الزجّاج (٣) : «إنّ المازنيّ ناظر الأخفش في هذه المسألة ، فقال له : كيف تصغّر أشياء؟ قال : أقول فيها أشيّاء. فقال المازنيّ : لو كانت أفعالا ، لردّت في التصغير إلى واحدها ، وقيل : شييئات ، مثل شعيعات ، وإجماع البصريّين أن تصغير «أصدقاء» إن كان لمؤنث «صديّقات» ، وإن كان لمذكر : «صديقون» فانقطع الأخفش» ، وبسط هذا أنّ الجمع المكسّر ، إذا صغّر : فإمّا أن يكون من جموع القلّة ، وهي أربع على الصحيح : أفعلة وأفعل وأفعال وفعلة ، فيصغّر على لفظه ، وإن كان من جموع الكثرة فلا يصغّر على لفظه على الصحيح ، وإن ورد منه شيء ، عدّ شاذّا ك «أصيلان» تصغير «أصلان» جمع «أصيل» ، بل يردّ إلى واحده ؛ فإن كان من غير العقلاء ، صغّر وجمع بالألف والتاء ، فتقول في تصغير حمر جمع حمار : «حميرات» ، وإن كان من العقلاء صغّر وجمع بالواو والنون ، فتقول في تصغير «رجال» : «رجيلون» ، وإن كان اسم جمع ك «قوم» و «رهط» أو اسم جنس ، ك «قمر» و «شجر» صغّر على لفظه كسائر المفردات ، رجعنا إلى «أشياء» ، فتصغيرهم لها على لفظها يدلّ على أنها اسم جمع ؛ لأنّ اسم الجمع يصغّر على لفظه ، نحو : «رهيط» و «قويم» ، وليست بجمع تكسير ؛ إذ هي من جموع الكثرة ، ولم تردّ إلى واحدها ، وهذا لازم للأخفش ؛ لأنه بصريّ ، والبصريّ لا بدّ وأن يفعل ذلك ، وأصيلان عنده شاذّ ، فلا يقاس عليه ، وفي عبارة مكّيّ قال (٤) : «وأيضا فإنه

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٧.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٣ / ٢٣٣.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٤.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٧.

٥٤٤

يلزمهم أن يصغّروا «أشياء» على «شويّات» ، أو على «شييئات» ، وذلك لم يقله أحد». قال شهاب الدين (١) : قوله «شويّات» ليس بجيّد ؛ فإن هذا ليس موضع قلب الياء واوا ، ألا ترى أنك إذا صغّرت بيتا ، قلت : بييتا لا بويتا ، إلّا أن الكوفيّين يجيزون ذلك ، فيمكن أن يرى رأيهم ، وقد ردّ مكيّ (٢) أيضا مذهب الفراء والأخفش بشيئين :

أحدهما : أنه يلزم منه عدم النظير ؛ إذ لم يقع «أفعلاء» جمعا ل «فيعل» فيكون هذا نظيره ، وهيّن وأهوناء شاذّ لا يقاس عليه.

والثاني : أن حذفه واعتلاله مجرى على غير قياس ، فهذا القول خارج في جمعه واعتلاله عن القياس والسّماع.

المذهب الرابع ـ وهو قول الكسائي وأبي حاتم ـ : أنها جمع شيء على أفعال ك «بيت» و «أبيات» و «ضيف» و «أضياف» ، واعترض الناس هذا القول ؛ بأنه يلزم منه منع الصرف بغير علته ؛ إذ لو كان على «أفعال» ، لانصرف كأبيات ، قال الزجّاج (٣) : «أجمع البصريّون وأكثر الكوفيّين على أن قول الكسائيّ خطأ ، وألزموه ألّا يصرف أنباء وأسماء». قال شهاب الدين (٤) : والكسائيّ قد استشعر بهذا الردّ ، فاعتذر عنه ، ولكن بما لا يقبل ، قال الكسائيّ ـ رحمه‌الله ـ : «هي ـ أي أشياء ـ على وزن أفعال ، ولكنها كثرت في الكلام ، فأشبهت فعلاء ، فلم تصرف كما لم يصرف حمراء» ، قال : «وجمعوها أشاوى ، كما جمعوا عذراء وعذارى ، وصحراء وصحارى ، وأشياوات كما قيل حمراوات» ، يعني أنهم عاملوا «أشياء» ، وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح ، إلا أن الفرّاء والزجّاج اعترضا على هذا الاعتذار ، فقال الفرّاء (٥) : «لو كان كما قال ، لكان أملك الوجهين أن تجرى ؛ لأن الحرف إذا كثر في الكلام ، خفّ وجاز أن يجرى كما كثرت التسمية ب «يزيد» ، وأجروه في النّكرة ، وفيه ياء زائدة تمنع من الإجراء». والمراد بالإجراء الصرف ، وقال الزجّاج : «أجمع البصريون وأكثر الكوفيّين» وقد تقدّم آنفا ، وقال مكي (٦) : «وقال الكسائيّ وأبو عبيد: لم تنصرف ـ أي أشياء ـ ؛ لأنها أشبهت «حمراء» ؛ لأن العرب تقول : «أشياوات» كما تقول : «حمراوات» قال : «ويلزمهما ألّا يصرفا في الجمع أسماء وأبناء ؛ لقول العرب فيهمأ : أسماوات وأبناوات» ، وقد تقدّم شرح هذا ، ثم إنّ مكّيّا ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ذكر عن الكسائيّ ما تقدّم ، ونقل مذهب الأخفش والفرّاء ، قال : «قال أبو حاتم : أشياء أفعال جمع شيء كأبيات» فهذا يوهم أن مذهب الكسائيّ المتقدّم غير هذا المذهب ، وليس كذلك ، بل هو هو ، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيّ بأن النحويّين قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظيّ ،

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٧.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٧.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٣.

(٤) ينظر : ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٧.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢١.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٦.

٥٤٥

دون المعنويّ ، يدلّ على ذلك مسألة «سراويل» في لغة من يمنعه ؛ فإنّ فيه تأويلين : أحدهما : أنه مفرد أعجميّ ، حمل على موازنه في العربيّة ، أي صيغة مصابيح مثلا ؛ ويدلّ له أيضا أنهم أجروا ألف الإلحاق المقصورة مجرى ألف التأنيث المقصورة ، ولكن مع العلميّة ، فاعتبروا مجرّد الصّورة.

المذهب الخامس : أنّ وزنها «أفعلاء» أيضا جمعا ل «شييء» بزنة «ظريف» ، وفعيل يجمع على أفعلاء ، ك «نصيب وأنصباء» ، و «صديق وأصدقاء» ، ثم حذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة ، وفتحت الياء ؛ لتسلم ألف الجمع ؛ فصارت أشياء ، ووزنها بعد الحذف أفعاء ، وجعله مكّيّ (١) في التصريف كتصريف [مذهب] الأخفش ؛ من حيث إنه تبدل الهمزة ياء ، ثم تحذف إحدى الياءين ، قال ـ رحمه‌الله ـ : «وحسّن الحذف في الجمع حذفها في الواحد ، وإنما حذفت من الواحد ؛ تخفيفا لكثرة الاستعمال ؛ إذ «شيء» يقع على كل مسمّى من عرض ، أو جوهر ، أو جسم ، فلم ينصرف لهمزة التأنيث في الجمع» ، قال : «وهذا قول حسن جار في الجمع ، وترك الصرف على القياس ، لو لا أنّ التصغير يعترضه ، كما اعترض الأخفش». قال شهاب الدين (٢) : قوله «هذا قول حسن» ، فيه نظر ؛ لكثرة ما يرد عليه ، وهو ظاهر ممّا تقدّم ، ولمّا ذكر أبو حيان هذا المذهب ، قال في تصريفه : «ثمّ حذفت الهمزة الأولى ، وفتحت ياء المدّ ؛ لكون ما بعدها ألفا» ، قال : «وزنها في هذا القول إلى «أفياء» ، وفي القول قبله إلى «أفلاء» ، كذا رأيته «أفياء» ، بالياء ، وهذا غلط فاحش ، ثم إنّي جوّزت أن يكون هذا غلطا عليه من الكاتب ، وإنما كانت «أفعاء» بالعين ، فصحّفها الكاتب إلى «أفياء» ، وقد ردّ الناس هذا القول : بأنّ أصل شيء : «شييء» بزنة «صديق» دعوى من غير دليل ، وبأنه كان ينبغي ألّا يصغّر على لفظه ، بل يردّ إلى مفرده ؛ كما تقدم تحريره.

وقد تلخص القول في «أشياء» : أنها هل هي اسم جمع ، وأصلها «شيئاء» ؛ كطرفاء ، ثم قلبت لامها قبل فائها ، فصار وزنها «لفعاء» أو جمع صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع صريح ، فهل أصلها «أفعلاء» ثم تحذف ، فتصير إلى «أفعاء» أو «أفلاء» ، أو أنّ وزنها «أفعال» ؛ كأبيات.

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدَ) شرط ، وجوابه «تسؤكم» ، وهذه الجملة الشرطية في محلّ جرّ صفة ل «أشياء» ، وكذا الشرطيّة المعطوفة أيضا ، وقرأ ابن عبّاس (٣) : «إنّ تبد لكم تسؤكم» ببناء الفعلين للفاعل ، مع كون حرف المضارعة تاء مثنّاة من فوق ، والفاعل ضمير «أشياء» ، وقرأ الشعبي (٤) ـ فيما نقله عنه أبو محمّد بن عطيّة : «إن يبد» بفتح الياء من

__________________

(١) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٨.

(٣) وقرأ بها مجاهد كما في المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٦ ، والبحر المحيط ٤ / ٣٥ ، وينظر : الدر المصون ٢ / ٦١٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٦.

٥٤٦

تحت ، وضم الدال ، «يسؤكم» بفتح الياء من تحت ، والفاعل ضمير عائد على ما يليق تقديره بالمعنى ، أي : إن يبد لكم جواب سؤالكم أو سؤلكم ، يسؤكم ، ولا جائز أن تعود على «أشياء» ؛ لأنه جار مجرى المؤنّث المجازيّ ، ومتى أسند فعل إلى ضمير مؤنّث مطلقا ، وجب لحاق العلامة على الصحيح ، ولا يلتفت لضرورة الشعر ، ونقل غيره عن الشعبيّ ؛ أنه قرأ (١) : «يبد لكم يسؤكم» بالياء من تحت فيهما ، إلا أنه ضمّ الياء الأولى وفتح الثانية ، والمعنى : إن يبد ـ أي يظهر ـ السؤال عنها ، يسؤكم ذلك السّؤال ، أي : جوابه ، أو هو ؛ لأنه سبب في ذلك والمبديه هو الله تعالى ، والضمير في «عنها» يحتمل أن يعود على نوع الأشياء المنهيّ عنها ، لا عليها أنفسها ، قاله ابن عطيّة (٢) ، ونقله الواحديّ عن صاحب «النّظم» ، ونظّره بقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] يعني آدم ، «ثمّ جعلناه» قال «يعني ابن آدم» فعاد الضمير على ما دلّ عليه الأول ، ويحتمل أن يعود عليها أنفسها ، قاله الزمخشريّ (٣) بمعناه.

قوله : (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) في هذا الظرف احتمالان :

أظهرهما : أنه منصوب ب «تسألوا» ، قال الزمخشريّ : «وإن تسألوا عنها : عن هذه التكاليف الصعبة ، حين ينزّل القرآن : في زمان الوحي ، وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه تبد لكم تلك التكاليف التي تسؤكم وتؤمروا بتحمّلها ، فتعرّضوا أنفسكم لغضب الله ؛ لتفريطكم فيها» ، ومن هنا قلنا : إنّ الضمير في «عنها» عائد على الأشياء الأول ، لا على نوعها.

والثاني : أنّ الظرف منصوب ب «تبد لكم» ، أي : تظهر لكم تلك الأشياء حين نزول القرآن ، قال بعضهم : «في الكلام تقديم وتأخير ؛ لأنّ التقدير : عن أشياء ، إن تسألوا عنها ، تبد لكم حين نزول القرآن ، وإن تبد لكم ، تسؤكم» ، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب ، إلا أنه لا يقال في ذلك تقديم وتأخير ، فإنّ الواو لا تقتضي ترتيبا ، فلا فرق ، ولكن إنما قدّم هذا أولا على قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا) ؛ لفائدة ، وهي الزجر عن السؤال ؛ فإنه قدّم لهم أنّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرت ، أساءتهم قبل أن يخبرهم بأنهم إن سألوا عنها ، بدت لهم لينزجروا ، وهو معنى لائق.

قوله : (عَفَا اللهُ عَنْها) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ جرّ ؛ لأنه صفة أخرى ل «أشياء» ، والضمير على هذا في «عنها» يعود على «أشياء» ، ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير في هذا ؛ كما قاله بعضهم ، قال : «تقديره : لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم إلى آخر الآية» ؛ لأنّ كلّا من الجملتين الشرطيتين وهذه الجملة صفة ل «أشياء» ، فمن أين أنّ هذه الجملة مستحقة للتقديم على ما

__________________

(١) وهو أبو حيان الأندلسي الذي نقل هذه القراءة عن الشعبي في البحر المحيط ٤ / ٣٥ ، وينظر الدر المصون ٢ / ٦١٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٦.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٣.

٥٤٧

قبلها؟ وكأنّ هذا القائل إنّما قدّرها متقدّمة ؛ ليتضح أنها صفة لا مستأنفة.

والثاني : أنها لا محلّ لها ؛ لاستئنافها ، والضمير في «عنها» على هذا يعود على المسألة المدلول عليها ب (لا تَسْئَلُوا) ، ويجوز أن تعود على «أشياء» ، وإن كان في الوجه الأول يتعيّن هذا ؛ لضرورة الربط بين الصفة والموصوف.

فصل في سبب نزول الآية

في سبب نزول الآية : ما روى [قتادة](١) عن أنس : سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى أحفوه بالمسئلة (٢) ، فغضب فصعد المنبر ، قال : «لا تسألوني اليوم عن شيء إلّا بيّنته لكم» ، فجعلت أنظر يمينا وشمالا ، فإذا كلّ رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي ، فإذا [رجل](٣) كان [إذا](٤) لاقى الرّجال يدعى لغير أبيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي؟ قال : «حذافة» ، ثم أنشأ عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا ، وبمحمّد رسولا ، نعوذ بالله من الفتن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما رأيت في الخير والشّرّ كاليوم قطّ ، إنه صوّرت لي الجنّة والنّار حتّى رأيتهما وراء الحائط» وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية (٥).

وقال يونس عن [ابن](٦) شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال : قالت أمّ عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعت بابن قطّ أعقّ (٧) منك أأمنت أن تكون أمّك قد فارقت بعض ما يفارق نساء الجاهليّة ، فتفضحها على أعين النّاس؟ قال عبد الله بن حذافة : «والله لو ألحقني بعبد أسود [للحقته](٨)» (٩).

وروي أنّ عمر قال : «يا رسول الله ، أنا حديث عهد [بجاهلية](١٠) ، فاعف عنّا يعف الله عنك ، فسكن غضبه».

وروى ابن عبّاس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء ، فيقول الرجل من أبي؟ ويقول الرّجل تضلّ ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (١١).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : أخروه المسألة.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

(٥) أخرجه الطبري (٥ / ٨١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩١) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق قتادة عن أنس.

(٦) سقط في أ.

(٧) في أ : أغلق.

(٨) سقط في أ.

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٢١٣).

(١٠) سقط في أ.

(١١) أخرجه البخاري (٨ / ١٣٠) كتاب التفسير باب قوله تعالى : لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ حديث (٤٦٢٢) والطبري (٥ / ٨١) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩١) وزاد نسبته لابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

٥٤٨

وروي عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : لمّا نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ، قال سراقة بن مالك : ـ ويروى عكاشة بن محصن ـ يا رسول الله أفي كلّ عام؟ فأعرض عنه ، فعاد مرّتين أو ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (١) فأنزل الله هذه الآية.

فإنّ من سأل عن الحجّ لم يأمن أن يؤمر به في كلّ عام فيسوؤه (٢) ، ومن سأل عن نسبه لم يأمن أن يلحقه بغيره ، فيفتضح.

وقال مجاهد : نزلت حين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، ألا تراه ذكرها بعد ذلك (٣).

وكان عبيد الله بن عمير (٤) يقول : إنّ الله إن أحلّ أحلّوا ، وإن حرّم اجتنبوا (٥) ، ولو ترك بين ذلك أشياء لم يحلّلها ولم يحرّمها ، فذلك عفو من الله ، ثمّ يتلو هذه الآية.

وقال أبو ثعلبة الخشني (٦) : إنّ الله تعالى بيّن في الآية الأولى فرض فرائض فلا تضيّعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ، ثم إنّ تلك الأشياء التي سألوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم.

وقال ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما ، من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته (٧).

وقوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) معناه : إن صبرتم حتّى [ينزل](٨) القرآن بحكم من فرض أو نهي ، وليس في ظاهره شرح ما بكم فيه حاجة ، ومسّت حاجتكم إليه ، فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم (عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

واعلم أنّ السّؤال على قسمين :

أحدهما : السّؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسّنّة بوجه من الوجوه ، فهذا السّؤال منهيّ عنه لهذه الآية.

__________________

(١) تقدم.

(٢) في أ : فيسره.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٨٥) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩٣) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس.

(٤) ينظر الفخر الرازي ١٢ / ٨٨.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ٨٨).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) أخرجه مسلم كتاب الفضائل (١٣٢) وأبو داود (٤٦١٠) والطحاوي في «مشكل الآثار» (٢ / ٢١٢).

(٨) سقط في أ.

٥٤٩

والقسم الثاني : السّؤال عن شيء نزل به القرآن ، لكنّ السّامع لم يفهمه كما ينبغي ، فههنا يجب السّؤال عنه ، وهو معنى قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ).

والفائدة في ذكر هذا القسم ؛ أنّه لما منع في الآية الأولى من السّؤال ، أوهم أنّ جميع أنواع السّؤال ممنوع منه ، فذكر ذلك تمييزا لهذا القسم عن ذلك.

فإن قيل : قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) ، هذا الضّمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله: (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) ، فكيف يعقل في «أشياء» بأعيانها أن يكون السّؤال عنها ممنوعا وجائزا معا؟.

فالجواب من وجهين :

الأول : جاز أن يكون السّؤال عنها ممنوعا قبل نزول القرآن بها ، ومأمورا بها بعد نزول القرآن بها.

الثاني : أنّهما وإن كانا نوعين مختلفين ، إلّا أنّهما في كون كلّ منهما واحد مسؤول عنه شيء واحد ، فلهذا الوجه حسن اتّحاد الضّمير ، وإن كان في الحقيقة نوعين مختلفين.

فإن قيل : ما ذكر من كراهة السّؤال والنّهي عنه يعارضه قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧] فالجواب : هذا الذي أمر الله به عباده ، هو ما تقرّر وثبت وجوبه ، ممّا يجب عليهم العمل به ، والّذي نهى عنه هو ما لم يقصد الله به عباده ، ولم يذكره في كتابه.

قوله : (قَدْ سَأَلَها) : الضمير في «سألها» ظاهره يعود على «أشياء» ، لكن قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : كيف قال : لا تسألوا عن أشياء ، ثم قال : (قَدْ سَأَلَها) ولم يقل سأل عنها؟ قلت : ليس يعود على أشياء ؛ حتى يتعدّى إليها ب «عن» ، وإنما يعود على المسألة المدلول عليها بقوله : (لا تَسْئَلُوا) ، أي : قد سأل المسألة قوم ، ثم أصبحوا بها ـ أي بمرجوعها ـ كافرين» ، ونحا ابن عطية (٢) منحاه ، قال أبو حيان (٣) : «ولا يتّجه قولهما إلا على حذف مضاف ، وقد صرّح به بعض المفسّرين ، أي : قد سأل أمثالها ، أي : أمثال هذه المسألة ، أو أمثال هذه السؤالات» ، وقال الحوفيّ في «سألها» : «الظاهر عود الضّمير على «أشياء» ولا يتّجه حمله على ظاهره ، لا من جهة اللفظ العربيّ ، ولا من جهة المعنى ، أمّا من جهة اللفظ : فلأنه كان ينبغي أن يعدّى ب «عن» كما عدّي في الأوّل ، وأمّا من جهة المعنى ، فلأنّ المسئول عنه مختلف قطعا ؛ فإنّ سؤالهم غير سؤال من قبلهم ؛ فإنّ سؤال هؤلاء مثل من سأل : أين ناقتي ، وما في بطن ناقتي ، وأين أبي ، وأين مدخلي؟ وسؤال أولئك غير هذا ؛ نحو : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً) [المائدة : ١١٤] (أَرِنَا اللهَ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧.

٥٥٠

جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] (اجْعَلْ لَنا إِلهاً) [الأعراف : ١٣٨] وسؤال ثمود الناقة ، ونحوه». وقال الواحدي ـ ناقلا عن الجرجاني ـ : وهذا السؤال في هذه الآيات يخالف معنى السؤال في قوله : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ«وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها) ؛ ألا ترى أن السؤال في الآية الأولى قد عدي بالجار ، وهاهنا لم يعد بالجار ؛ لأن السؤال هاهنا طلب لعين الشيء ؛ نحو : «سألتك درهما» أي طلبته منك ، والسؤال في الآية الأولى سؤال عن حال الشيء وكيفيته ، وإنما عطف بقوله (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ) على ما قبلها وليست بمثلها في التأويل ؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يكلفوا ، وهو مرفوع عنهم فهما يشتركان في وصف واحد ، وهو أنه خوض في الفضول ، وفيما لا حاجة إليه.

وقيل : يجوز أن يعود على «أشياء» لفظا لا معنى ؛ كما قال النحويون في مسألة : «عندي درهم ونصفه» ، أي : ونصف درهم آخر ، ومنه : [الطويل]

٢٠٥٦ ـ وكل أناس قاربوا قيد فحلهم

ونحن خلعنا قيده فهو سارب (١)

فصل

وقرأ النخعي (٢) : «سالها» بالإمالة من غير همز وهما لغتان ، ومنه يتساولان فإمالته ل «سأل» كإمالة حمزة «خاف» ، وقد تقدم تحقيق ذلك في البقرة عند قوله (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١] و (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١].

قال المفسرون (٣) : يعني قوم صالح ، سألوا الناقة ثم عقروها ، وقوم موسى ، قالوا : أرنا الله جهرة ، فصار ذلك وبالا عليهم ، وبنو إسرائيل قالوا لنبي لهم : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة : ٢٤٦] وقالوا : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) [البقرة : ٢٤٧] فسألوا ثم كفروا ، فكأنه تعالى يقول : أولئك سألوا ، فلما أعطوا سؤلهم ساءهم ذلك ، فلا تسئلوا شيئا فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ، ساءكم ذلك.

قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلق بقوله : «سألها» ، فإن قيل : هل يجوز أن يكون صفة ل «قوم»؟ فالجواب : منع من ذلك جماعة معتلين بأن ظرف الزمان لا يقع خبرا ، ولا صفة ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٦ ، قال ابن عطية : وذلك على لغة من قال : سلت تسال ، وحكي عن العرب : «هما يتساولان» ، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الوا ولا من الهمزة ، فالإمالة إنما أريدت ، وسائغ ذلك لا نكسار ما قبل اللام في سئلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في «خاء» خفت.

وينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٧ ، والدر المصون ٢ / ٦٢٠.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٨٩.

٥٥١

ولا حالا عن الجثة ، وقد تقدم نحو هذا في أول البقرة عند قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة: ٢١] ، فإن الصلة كالصفة ، و «بها» متعلق ب «كافرين» ، وإنما قدم لأجل الفواصل.

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)(١٠٣)

لما منع الناس من البحث عن أمور لم يكلفوا بالبحث عنها ، كذلك منعهم من التزام أمور لم يكلفوا بالتزامها ، ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات ، وإن كانوا في غاية الحاجة إلى الانتفاع بها ، بين الله ـ تعالى ـ أن ذلك باطل.

«جعل» يجوز أن يكون بمعنى «سمى» ويتعدى لمفعولين ، أحدهما محذوف ، والتقدير : ما جعل ـ أي ما سمى ـ الله حيوانا [بحيرة].

قاله أبو البقاء (١). وقال ابن عطية (٢) والزمخشري (٣) وأبو البقاء (٤) : «إنها تكون بمعنى شرع ووضع ، أي : ما شرع الله ولا أمر» ، وقال الواحدي ـ بعد كلام طويل ـ «فمعنى ما جعل الله من بحيرة : ما أوجبها ولا أمر بها» ، وقال ابن عطية : «وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى «خلق» ؛ لأن الله خلق هذه الأشياء كلها ، ولا بمعنى «صير» ؛ لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان ، فمعناه : ما سن الله ولا شرع». ومنع أبو حيان (٥) هذه النقولات كلها بأن «جعل» لم يعد اللغويون من معانيها «شرع» ، وخرج الآية على التصيير ، ويكون المفعول الثاني محذوفا ، أي : ما صير الله بحيرة مشروعة ، وفي قوله لم يعد اللغويون في معانيها «شرع» نظر ؛ لأن الآية المتقدمة تدل على ذلك وهي قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ).

والبحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة ، فدخول تاء التأنيث عليها لا ينقاس ، ولكن لما جرت مجرى الأسماء الجوامد أنثت ، وقد تقدم إيضاح هذا في قوله (وَالنَّطِيحَةُ) [المائدة : ٣] ، واشتقاقها من البحر ، والبحر : السعة ، ومنه «بحر الماء» لسعته وهي الناقة المشقوقة الأذن ، يقال : بحرت (٦) أذن الناقة إذا شققتها شقا واسعا ، والناقة بحيرة ومبحورة.

واختلف أهل اللغة في البحيرة عند العرب ما هي اختلافا كثيرا ، فقال أبو عبيد : «هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر ، فتشق أذنها ، وتترك فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء ، وإذا لقيها المعيي لم يركبها» وروي ذلك عن ابن

__________________

(١) ينظر : الإملا ١ / ٢٢٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٧.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٥.

(٤) ينظر : الإملا ٥ / ٢١١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٣٨.

(٦) في أ : فذلك تحرير.

٥٥٢

عباس (١) ، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكرا ، وقال بعضهم : «إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن ، نظر في الخامس : فإن كان ذكرا ، ذبحوه وأكلوه ، وإن كان أنثى ، شقوا أذنها وتركوها ترعى وترد ولا تركب ولا تحلب فهذه هي البحيرة» ، وروي هذا عن قتادة ، وقال بعضهم : «البحيرة : الأنثى التي تكون خامس بطن ؛ كما تقدم بيانه ، إلا أنها لا يحل للنساء لحمها ولا لبنها ، فإن ماتت حلت لهن» ، وقال بعضهم : «البحيرة : بنت السائبة» ، وسيأتي تفسير «السائبة» ، فإذا ولدت السائبة أنثى شقوا أذنها وتركوها مع أمها ترعى وترد ولا تحلب ولا تركب حتى للمعيي ، وهذا قول مجاهد ، وابن جبير ، وقال بعضهم : «هي التي منع درها ـ أي لبنها ـ لأجل الطواغيت ، فلا يحلبها أحد» وقال بهذا سعيد بن المسيب ، وقيل : هي التي تترك في المرعى بلا راع ، قاله ابن سيدة ، وقيل : إذا ولدت خمس إناث شقوا أذنها وتركوها.

نقل القرطبي عن الشافعي رحمه‌الله ، أنه قال : إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن إناث بحرت أذنها ، فحرمت ، قال : محرمة لا يطعم الناس لحمها وقال بعضهم ـ ويعزى لمسروق ـ : «إنها إذا ولدت خمسا ، أو سبعا ، شقوا أذنها» ، وقيل : «هي الناقة تلد عشرة أبطن ، فتشق أذنها طولا بنصفين ، وتترك ؛ فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء ، وإذا ماتت ، حل لحمها للرجال دون النساء» ، نقله ابن عطية (٢) ، وكذا قاله أبو القاسم الراغب (٣) ، وقيل : البحيرة السقب ، إذا ولد ، نحروا أذنه ، وقالوا : اللهم ، إن عاش ، فقني ، وإن مات ، فذكي ، فإذا مات ، أكلوه ، ووجه الجمع بين هذه الأقوال الكثيرة : أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة.

والسائبة قيل : كان الرجل إذا قدم من سفر أو شكر نعمة ، سيب بعيرا فلم يركب ويفعل به ما تقدم في البحيرة ، وهذا قول أبي عبيد ، وقيل : هي الناقة تنتج عشرة إناث ، قال القرطبي : ليس بينهن ذكر ؛ فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو ولد ، قاله الفراء (٤) ، وقيل : ما ترك لآلهتهم ، فكان الرجل يجيء بماشيته إلى السدنة ، فيتركه عندهم ويسيل لبنه ، وقيل : هي الناقة تترك ليحج عليها حجة ، ونقل ذلك عن الشافعي ، وقيل : هو العبد يعتق على ألا يكون عليه ولاء ، ولا عقل ولا ميراث قاله علقمة.

والسائبة هنا : فيها قولان :

أحدهما : أنها اسم فاعل على بابه ، من ساب يسيب ، أي يسرح ، كسيب الماء ، وهو مطاوع سيبته ، يقال : سيبته فساب وانساب.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٩٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩٦) وزاد نسبته لا بن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٧.

(٣) ينظر : المفردات ٣٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢٢.

٥٥٣

والثاني : أنه بمعنى مفعول ؛ نحو : «عيشة راضية» ، ومجيء فاعل بمعنى مفعول قليل جدا ؛ نحو : «ماء دافق» ، والذي ينبغي أن يقال : إنه فاعل بمعنى ذي كذا ، أي : بمعنى النسب ، نحو قولهم : لابن ، أي : صاحب لبن ، ومنه في أحد القولين : «عيشة راضية ، وماء دافق» ، أي : ذات رضا ، وذو دفق ، وكذا هذا ، أي : ذات سيب.

والوصيلة هنا فعيلة بمعنى فاعلة على ما سيأتي تفسيره ، فدخول التاء قياس ، واختلف أهل اللغة فيها ، هل هي من جنس الغنم ، أو من جنس الإبل؟ ثم اختلفوا بعد ذلك أيضا ، فقال الفراء (١) : «هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين ، فإذا ولدت في آخرها عناقا وجديا ، قيل: وصلت أخاها ، فجرت مجرى السائبة» ، وقال الزجاج (٢) : «هي الشاة إذا ولدت ذكرا ، كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى ، كانت لهم» ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «هي الشاة تنتج سبعة أبطن ، فإذا كان السابع أنثى ، لم تنتفع النساء منها بشيء ، إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء ، وإن كانت ذكرا ذبحوه وأكلوه جميعا ، وإن كان ذكرا وأنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، فيتركونها معه لا تذبح ولا ينتفع بها إلا الرجال ، دون النساء ، فإن ماتت ، اشتركن مع الرجال فيها» (٣) ، وقال ابن قتيبة : إن كان السابع ذكرا ، ذبح وأكله الرجال ، دون النساء ، وقالوا : (خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] وإن كانت أنثى ، تركت في الغنم ، وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس ، وقيل : «هي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن ، ثم ما ولدت [بعد ذلك ، فللذكور دون الإناث» وبهذا قال أبو إسحاق ، وأبو عبيدة (٤) ، إلا أن أبا عبيدة قال : «وإذا ولدت] ذكرا وأنثى معا ، قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوه لمكانها» ، وقيل : هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة ، فإن كان جديا ذبحوه ، وإن كان أنثى أبقوها ، وإن كان ذكرا وأنثى ، قالوا : وصلت أخاها ، هذا كله عند من يخصها بجنس الغنم ، وأما من قال : إنها من الإبل فقال : «هي الناقة تبتكر ، فتلد أنثى ، ثم تثني بولادة أنثى أخرى ، ليس بينهما ذكر ، فيتركونها لآلهتهم ، ويقولون : قد وصلت أنثى بأنثى ، ليس بينهما ذكر».

والحامي : اسم فاعل من حمى يحمي ، أي : منع ، واختلف فيه أهل اللغة ، فعن الفراء (٥) : «هو الفحل يولد لولد ولده ، فيقولون : قد حمى ظهره ، فلا يركب ولا يستعمل ولا يطرد عن ماء ولا شجر» ، وقال بعضهم : «هو الفحل ينتج من بين أولاده ذكورها وإناثها عشر إناث» ، روى ذلك ابن عطية (٦). وقال بعضهم : هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن ، فيقولون قد حمى ظهره ، فيتركونه كالسائبة فيما تقدم ، وهذا قول ابن عباس

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٩٠) عن ابن عباس.

(٤) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٧٨.

(٥) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣٢٢.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٨.

٥٥٤

وابن مسعود ، وإليه مال أبو عبيدة (١) والزجاج (٢) ، وروي عن الشافعي : أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين ، وقال ابن زيد : هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات ، فيحمي ظهره ، فيفعل به ما تقدم ، فهذا منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء ؛ أنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها ، وقد أنشد أهل اللغة في كل واحد من هذه الألفاظ معنى يخصه ؛ فأنشدوا في البحيرة قوله : [الطويل]

٢٠٥٧ ـ محرمة لا يطعم الناس لحمها

ولا نحن في شيء كذلك البحائر (٣)

وأنشدوا في السائبة قوله : [الطويل]

٢٠٥٨ ـ وسائبة لله ما لي تشكرا

إن الله عافى عامرا أو مجاشعا (٤)

وأنشدوا في الوصيلة لتأبط شرا : [الطويل]

٢٠٥٩ ـ أجدك أما كنت في الناس ناعقا

تراعي بأعلى ذي المجاز الوصايلا (٥)

وأنشدوا في الحامي قوله : [الطويل]

٢٠٦٠ ـ حماها أبو قابوس في عز ملكه

كما قد حمى أولاد أولاده الفحل (٦)

فصل

قال سعيد بن المسيب : البحيرة التي يمنح درها للطواغيت (٧) ، فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء (٨).

قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ؛ وكان أول من سيب السوائب (٩).

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي «يا أكثم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه من رجل منك به ، ولا به منك ؛ وذلك لأنه أول من غير دين إسماعيل ، ونصب الأوثان ، وبحر البحائر ، وسيب السائبة ، وو صل الوصيلة ، وحمى الحامي ، ولقد رأيته في النار

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٧٨.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢٣٥.

(٣) ينظر : القرطبي ٦ / ٢١٧ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٢.

(٤) ينظر : القرطبي ٦ / ٢١٧ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٢.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٢.

(٦) ينظر : القرطبي ٦ / ٢١٧ ، الدر المصون ٢ / ٦٢٢.

(٧) في ب : للطواعية.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٩٠) عن سعيد بن المسيب.

(٩) أخرجه البخاري (٨ / ١٠٧) كتاب التفسير : باب سورة المائدة حديث (٤٦٢٣) من حديث أبي هريرة.

٥٥٥

يؤذي أهل النار بريح قصبه» فقال أكثم أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال : «لا. إنك مؤمن وهو كافر» (١).

فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإماء ، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب من وجهين :

الأول : إن الإنسان مخلوق لخدمة الله وعبوديته ، فإذا تمرد عن الطاعة ، عوقب بضرب الرق عليه ، فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى ، وكان ذلك عبادة مستحسنة ، وأما هذه الحيوانات ، فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين ، فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها ، من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة.

والثاني : أن الإنسان إذا أعتق ، قدر على تحصيل مصالح نفسه ، والبهيمة إذا عتقت وتركت ، لم تقدر على تحصيل مصالح نفسها ، بل تقع في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة ، فافترقا.

فصل

قال القرطبي (٢) : تعلق أبو حنيفة في منعه الأحباس ورد الأوقاف ، بأن الله تعالى عاب على العرب أفعالهم في تسييب البهائم وحما يتها ، وحبس أنفسها عنها ، وقاس ذلك على البحيرة والسائبة.

قال القرطبي : والفرق بين ، قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء ، ما تريد إلى شيء كان من عمل الجاهلية؟! وقد ذهب جمهور العلماء على جواز الأحباس والأوقاف ، لما روى نافع ، عن ابن عمر : أنه استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يتصدق بسهمه بخيبر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احبس الأصل أو سبل الثمرة» (٣).

ثم قال تعالى (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

قال ابن عبّاس : يريد عمرو بن لحيّ وأعوانه ، (يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ) هذه الأكاذيب ، ويقولون : أمرنا بها ، قالوا : وساء ما يفترون على الله الكذب ، والأتباع والعوام أكثرهم لا يعقلون.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما

__________________

(١) أخرجه الطبري (٥ / ٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٩٧) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن مردويه.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ٢١٨.

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٤١٨) كتاب الشروط : باب في الوقف حديث (٢٧٣٧) ومسلم (٣ / ١٢٥٥) كتاب الوصية : باب الوقف حديث (١٥ / ١٦٣٢) من حديث ابن عمر.

٥٥٦

وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)(١٠٤)

قوله «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول» أي](١) في تحليل الحرث والأنعام ، وبيان الشرائع والأحكام ، قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وهذا رد على أصحاب التقليد.

قوله تعالى : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) «حسبنا» مبتدأ ، وقد تقدّم أنه في الأصل مصدر ، والمراد به اسم الفاعل ، أي : كافينا ، وتفسير ابن عطية (٢) له ب «كفانا» تفسير معنى ، لا إعراب ، و «ما وجدنا» هو الخبر ، و «ما» ظاهرها أنها موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة ، أي : كافينا الذي وجدنا ، و «وجد» يجوز أن يكون بمعنى المصادفة ، ف «عليه» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «وجدنا» وأنه متعدّ لواحد.

والثاني : أنه حال من «آباءنا» ، أي : وجدناهم مستقرين عليه ، ويجوز أن يكون بمعنى العلم ، فيتعدّى لاثنين ثانيهما «عليه».

وقوله : «أو لو كان» قد تقدّم إعراب هذا في البقرة [الآية ١٧٠] ، وأنّ «لو» هنا معناها الشرط ، وأنّ الواو للحال ، وتقدّم تفسير ذلك كلّه ؛ فأغنى عن إعادته ، إلّا أنّ ابن عطيّة قال هنا (٣) : «ألف التوقيف دخلت على واو العطف» قال شهاب الدين (٤) : تسمية هذه الهمزة للتوقيف فيه غرابة في الاصطلاح ، وجعل الزمخشريّ (٥) هذه الواو للحال ، وابن عطيّة جعلها عاطفة ، وتقدّم الجمع بين كلامهما في البقرة ، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين ـ أعني آية البقرة ، وآية المائدة ـ من نحو قوله هناك : «اتّبعوا» وهنا «تعالوا» وهناك «ألفينا» وهنا «وجدنا» من باب التفنّن في البلاغة.

واعلم : أنّ الاقتداء إنّما يجوز بالعالم المهتدي ، وهو الذي قوله مبنيّ على الحجّة والدّليل ، فإن لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا ، فلا يجوز الاقتداء به.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٠٥)

لمّا بين أنّ هؤلاء الجهّال لم ينتفعوا بشيء ممّا تقدّم من التّرغيب والتّرهيب ، بل بقوا مصرّين على جهلهم وضلالهم ، قال : فلا تبالوا أيّها المؤمنون بجهالاتهم ، بل كونوا منقادين لتكاليف الله تعالى ، فلا يضرّكم ضلالتهم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٤٩.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٢.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٥.

٥٥٧

قوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : الجمهور على نصب «أنفسكم» وهو منصوب على الإغراء ب «عليكم» ؛ لأنّ «عليكم» هنا اسم فعل ؛ إذ التقدير : الزموا أنفسكم ، أي : هدايتها وحفظها ممّا يؤذيها ، ف «عليكم» هنا يرفع فاعلا ، تقديره : عليكم أنتم ؛ ولذلك يجوز أن يعطف عليه مرفوع ؛ نحو : «عليكم أنتم وزيد الخير» ؛ كأنك قلت : الزموا أنتم وزيد الخير ، واختلف النحاة في الضمير المتصل بها وبأخواتها ؛ نحو : إليك ولديك ومكانك ، فالصحيح أنه في موضع جرّ ؛ كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء ، وهذا مذهب سيبويه (١) ، واستدلّ له الأخفش بما حكى عن العرب «على عبد الله» بجرّ «عبد الله» وهو نصّ في المسألة ، وذهب الكسائيّ إلى أنه منصوب المحلّ ، وفيه بعد ؛ لنصب ما بعدهما ، أعني «على» وما بعدها كهذه الآية ، وذهب الفرّاء إلى أنه مرفوعه.

وقال أبو البقاء (٢) ـ بعد أن جعل «كم» في موضع جرّ ب «على» بخلاف «رويدكم» ـ : «فإن الكاف هناك للخطاب ، ولا موضع لها ، فإن «رويد» قد استعملت للأمر المواجه من غير كاف الخطاب ، وكذا قوله تعالى : (مَكانَكُمْ) [يونس : ٢٨] «كم» في محل جرّ» ، وفي هذه المسألة كلام طويل ، صحيحه أنّ «رويد» تارة يكون ما بعدها مجرور المحلّ وتارة منصوبه ، وقد تقدّم في سورة النساء الخلاف في جواز تقديم معمول هذا الباب عليه.

قال ابن الخطيب (٣) : قال النّحويّون : «عليك ، وعندك ، ودونك» من جملة أسماء الأفعال ، فيعدّونها إلى المفعول ، ويقيمونها مقام الفعل ، وينصبون بها ، فإذا قال : «عليك [زيدا]» كأنه قال : خذ زيدا [فقد علاك ، أي أشرف عليك](٤) ، وعندك زيدا ، أي : حضرك فخذه ، و «دونك» أي : قرب منك فخذه ، فهذه الأحرف الثلاثة لا خلاف بين النّحاة في جواز النّصب بها.

وقرأ نافع (٥) بن أبي نعيم : «أنفسكم» رفعا فيما حكاه عنه صاحب «الكشّاف» ، وهي مشكلة ، وتخريجها على أحد وجهين : إمّا الابتداء ، و «عليكم» خبره مقدّم عليه ، والمعنى على الإغراء أيضا ؛ فإنّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيّة ، ومنه قراءة بعضهم (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) [الشمس : ١٣] ، وهذا تحذير نظير الإغراء.

والثاني من الوجهين : أن تكون توكيدا للضمير المستتر في «عليكم» ؛ لأنه كما تقدّم تقديره قائم مقام الفعل ، إلا أنه شذّ توكيده بالنفس من غير تأكيد بضمير منفصل ، والمفعول على هذا محذوف ، تقديره : عليكم أنتم أنفسكم صلاح حالكم وهدايتكم.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١٢٧.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٨.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٣.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٨٥ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٦٢٣.

٥٥٨

قوله : (لا يَضُرُّكُمْ) قرأ الجمهور بضمّ الراء مشددة ، وقرأ الحسن البصريّ (١) : «لا يضركم» بضم الضاد وسكون الراء ، وقرأ (٢) إبراهيم النّخعيّ : «لا يضركم» بكسر الضاد وسكون الراء ، وقرأ أبو حيوة (٣) : «لا يضرركم» بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية.

فأمّا قراءة الجمهور : فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الفعل فيها مجزوما على جواب الأمر في «عليكم» ، وإنما ضمّت الراء إتباعا لضمّة الضّاد ، وضمة الضاد هي حركة الراء الأولى ، نقلت للضّاد [لأجل] إدغامها في الراء بعدها ، والأصل : «لا يضرركم» ، ويجوز أن يكون الجزم لا على وجه الجواب للأمر ، بل على وجه أنه نهي مستأنف ، والعمل فيه ما تقدّم ؛ وينصر جواز الجزم هنا على المعنيين المذكورين من الجواب والنهي : قراءة الحسن والنخعيّ ؛ فإنهما نصّ في الجزم ، ولكنهما محتملتان للجزم على الجواب أو النهي.

والوجه الثاني : أن يكون الفعل مرفوعا ، وليس جوابا ولا نهيا ، بل هو مستأنف سيق للإخبار بذلك ، وينصره قراءة أبي حيوة المتقدّمة.

وأمّا قراءة الحسن : فمن «ضاره يضوره» كصانه يصونه ، وأما قراءة النخعيّ فمن «ضاره يضيره» كباعه يبيعه ، والجزم فيهما على ما تقدّم في قراءة العامة من الوجهين ، وحكى أبو البقاء (٤) : «لا يضرّكم» بفتح الراء ، ووجهها على الجزم ، وأن الفتح للتخفيف ، وهو واضح ، والجزم على ما تقدّم أيضا من الوجهين ، وهذه كلّها لغات قد تقدّم التنبيه عليها في آل عمران [الآية ١٤٤].

و (مَنْ ضَلَّ) فاعل ، و «إذا» ظرف محض ناصبه «يضرّكم» ، أي : لا يضرّكم الذي ضلّ وقت اهتدائكم ، ويجوز أن تكون شرطية ، وجوابها محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، وقال أبو البقاء (٥) : «ويبعد أن تكون ظرفا ل «ضلّ» ؛ لأنّ المعنى لا يصحّ معه» ، قال شهاب الدين (٦) : لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل ممّن يضلّ وقت اهتدائهم ، فقد يتوهّم أنه لا ينتفي عنهم ضرر من ضلّ في غير وقت اهتدائهم ، ولكنّ هذا لا ينفي صحّة المعنى بالكلية كما ذكره.

فصل في سبب نزول الآية

في سبب نزول الآية وجوه :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٥٠ ، والبحر المحيط ٤ / ٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٦٢٤.

(٢) ينظر : القراءة السابقة.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤٢ ، والدر المصون ٢ / ٦٢٤.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٨.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٩.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٦٢٤.

٥٥٩

أحدها : روى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس : أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قبل من أهل الكتاب الجزية ، من بعض الكفّار دون بعض ، نزلت هذه الآية (١) ، والمعنى : لا يضركم ملامة اللّائمين إذا كنتم على الهدى.

وثانيها : أنّ المؤمنين كان يشتدّ عليهم بقاء الكفّار على كفرهم وضلالتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم بإصلاحها ، والمشي بها في طريق الهدى ، لا يضرّكم ضلال الضّالّين ، ولا جهل الجاهلين.

وثالثها : أنّهم كانوا يغتمّون لعشائرهم لمّا ماتوا على الكفر ، فنهوا عن ذلك.

قال ابن الخطيب (٢) : والأقرب عندي ، أنّه تعالى لما حكى عن بعضهم أنّه إذا قيل لهم : (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) بيّن تعالى بهذه الآية ، أنّه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبّهوا بهم في هذه الطّريقة الفاسدة ، بل ينبغي أن يصبروا على دينهم ، وأن يعلموا أنّه لا يضرّهم جهل أولئك.

فصل

روي عن أبي بكر الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : يا أيّها النّاس ، إنّكم تقرؤون هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) فإنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ النّاس إذا رأوا منكرا فلم يغيّروه ، يوشك أن يعمّهم الله بعقابه» (٣).

وفي رواية : «لتأمرنّ بالمعروف ، ولتنهونّ عن المنكر ، أو ليسلّطنّ الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ، ثمّ ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم» (٤).

قال أبو عبيدة (٥) : خاف الصّدّيق أن يتأوّل النّاس الآية غير متأوّلها ، فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف ، فأعلمهم أنّها ليست كذلك ، وأنّ الذي أذن في الإمساك عن تغييره من المنكر ، هو الشّرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنّهم يتديّنون به ، وقد صولحوا عليه ، فأمّا الفسوق والعصيان والذّنب من أهل الإسلام ، فلا يدخل فيه.

وعن ابن مسعود (٦) قال في هذه الآية : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم ، فإن ردّ عليكم فعليكم أنفسكم.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ٩٣) من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٩٣.

(٣) أخرجه أبو داود ٤ / ١٢٢ ، كتاب الملاحم ، باب الأمر والنهي (٤٣٣٨) والترمذي ٤ / ٤٠٦ ، كتاب الفتن : باب ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر (٢١٦٨) ، وابن ماجه ٢ / ١٣٢٧ ، كتاب الفتن : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٥) ، وصححه ابن حبان وذكره الهيثمي في موارد الظمآن (٤٥٥) ، كتاب الفتن : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (١٨٣٧).

(٤) أخرجه الترمذي ٤ / ٤٠٦ ، كتاب الفتن : باب ما جاء في الأمر بالمعروف (٢١٦٩).

(٥) ينظر : البغوي ٢ / ٧٢.

(٦) في ب : ابن عباس.

٥٦٠