اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في رواية عطاء : يريد النّجاشي وأصحابه (١) ، قرأ عليهم جعفر بالحبشة «كهيعص» فأخذ النّجاشيّ نبتة من الأرض ، وقال : والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذه مثلا ، فما زالوا يبكون ، حتى فرغ جعفر من القراءة ، واختاره ابن عطيّة (٢) ، قال : «لأنّ كل النصارى ليسوا كذلك».

و «ما» في «ما أنزل» تحتمل الموصولة ، والنكرة الموصوفة ، وقوله تعالى : (تَرى) بصريّة ، فيكون قوله «تفيض من الدّمع» جملة في محلّ نصب على الحال.

وقرىء (٣) شاذّا : «ترى» بالبناء للمفعول ، «أعينهم» رفعا ، وأسند الفيض إلى الأعين ؛ مبالغة ، وإن كان الفائض إنّما هو دمعها لا هي ؛ كقول امرىء القيس : [الطويل]

٢٠٤٣ ـ ففاضت دموع العين منّي صبابة

على النّحر حتّى بلّ دمعي محملي (٤)

والمراد : المبالغة في وصفهم بالبكاء ، أو يكون المعنى أنّ أعينهم تمتلىء حتى تفيض ؛ لأنّ الفيض ناشىء عن الامتلاء ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٤٤ ـ قوارص تأتيني وتحتقرونها

وقد يملأ الماء الإناء فيفعم (٥)

وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريّ ؛ فإنه قال (٦) : «فإن قلت : ما معنى «تفيض من الدّمع»؟ قلت : معناه تمتلىء من الدمع حتّى تفيض ؛ لأنّ الفيض أن يمتلىء الإناء حتّى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، وهو من إقامة المسبّب مقام السّبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء ، فجعلت أعينهم ، كأنها تفيض بأنفسها ، أي : تسيل من الدمع ؛ من أجل البكاء ، من قولك : دمعت عينه دمعا».

قوله تعالى (مِنَ الدَّمْعِ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه متعلّق ب «تفيض» ، ويكون معنى «من» ابتداء الغاية ، والمعنى : تفيض من كثرة الدمع.

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ على أنه حال من الفاعل في «تفيض» قالهما أبو البقاء (٧) ، وقدّر الحال بقولك : «مملوءة من الدمع» ، وفيه نظر ؛ لأنه كون مقيّد ، ولا يجوز ذلك ، فبقي أن يقدّر كونا مطلقا ، أي : تفيض كائنة من الدمع ، وليس المعنى على ذلك ، فالقول بالحالية لا ينبغي ، فإن قيل : هل يجوز عند الكوفيين أن يكون (مِنَ الدَّمْعِ)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨ ، والدر المصون ٢ / ٥٩٣.

(٤) ينظر : ديوانه (٩) ، شرح القصائد للتبريزي ٨٥ ، البحر المحيط ٤ / ٧ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٣.

(٥) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٦٥٧ ، البحر ٤ / ٥ اللسان ، قرص ، ابن يعيش ١ / ٢١ الدر المصون ٢ / ٥٩٣.

(٦) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٩.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.

٤٨١

تمييزا ؛ لأنهم لا يشترطون تنكير التمييز ، والأصل : تفيض دمعا ؛ كقولك : «تفقّأ زيد شحما» ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل : إن ذلك لا يجوز ، لأنّ التمييز ، إذا كان منقولا من الفاعلية ، امتنع دخول «من» عليه ، وإن كانت مقدّرة معه ، فلا يجوز : «تفقأ زيد من شحم» ، وهذا ـ كما رأيت ـ مجرور ب «من» ؛ فامتنع أن يكون تمييزا ، إلا أن الزمخشريّ في سورة براءة [الآية ٩٢] جعله تمييزا في قوله تعالى : (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، ولابدّ من نقل نصّه لتعرفه ؛ قال ـ رحمه‌الله تعالى ـ : (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) كقولك : «تفيض دمعا» ، وهو أبلغ من قولك : يفيض دمعها ؛ لأنّ العين جعلت كأنها دمع فائض ، و «من» للبيان ؛ كقولك : «أفديك من رجل» ، ومحلّ الجارّ والمجرور النصب على التمييز» ، وفيه ما قد عرفته من المانعين ، وهو كونه معرفة ، وكونه جرّ ب «من» وهو فاعل في الأصل ، وسيأتي لهذا مزيد بيان ؛ فعلى هذا : تكون هذه الآية الكريمة كتلك عنده ، وهو الوجه الثالث.

الرابع : أنّ «من» بمعنى الباء ، أي : تفيض بالدمع ، وكونها بمعنى الباء رأي ضعيف ، وجعلوا منه أيضا قوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] أي : بطرف ؛ كما أنّ الباء تأتي بمعنى «من» ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٤٥ ـ شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت

متى لجج خضر لهنّ نئيج (١)

أي : من ماء البحر.

قوله : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) «من» الأولى لابتداء الغاية ، وهي متعلقة ب «تفيض» ، والثانية يحتمل أن تكون لبيان الجنس ، أي : بيّنت جنس الموصول قبلها ، ويحتمل أن تكون للتبعيض ، وقد أوضح الزمخشريّ هذا غاية الإيضاح ؛ قال (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «فإن قلت : أيّ فرق بين «من» و «من» في قوله : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)؟ قلت : الأولى لابتداء الغاية ؛ على أنّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقّ ، وكان من أجله وبسببه ، والثانية : لبيان الموصول الذي هو «ما عرفوا» ، وتحتمل معنى التبعيض ؛ على أنهم عرفوا بعض الحقّ ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كلّه ، وقرءوا القرآن ، وأحاطوا بالسنة». انتهى ، ولم يتعرّض لما يتعلّق به الجارّان ، وهو يمكن أن يؤخذ من قوة كلامه ، ولنزد ذلك إيضاحا ، و «من» الأولى متعلّقة بمحذوف ؛ على أنها حال من «الدّمع» ، أي : في حال كونه ناشئا ومبتدئا من معرفة الحقّ ، وهو معنى قول الزمخشريّ ؛ على أنّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقّ ، ولا يجوز أن يتعلّق ب «تفيض» ؛ لئلا يلزم تعلّق حرفين متّحدين لفظا ومعنى بعامل واحد ؛ فإنّ «من» في (مِنَ الدَّمْعِ) لابتداء الغاية ؛ كما تقدّم ، اللهم إلا أن يعتقد كون «من» في (مِنَ الدَّمْعِ) للبيان ، أو بمعنى الباء ، فقد يجوز ذلك ، وليس معناه في الوضوح

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.

٤٨٢

كالأول ، وأمّا (مِنَ الْحَقِّ) فعلى جعله أنها للبيان تتعلّق بمحذوف ، أي : أعني من كذا ، وعلى جعله أنّها للتبعيض تتعلّق ب «عرفوا» ، وهو معنى قوله : «عرفوا بعض الحق».

وقال أبو البقاء (١) في (مِنَ الْحَقِّ) : إنه حال من العائد المحذوف على الموصول ، أي : ممّا عرفوه كائنا من الحق ، ويجوز أن تكون «من» في قوله تعالى : (مِمَّا عَرَفُوا) تعليلية ، أي : إنّ فيض دمعهم بسبب عرفانهم الحقّ ؛ ويؤيّده قول الزمخشري (٢) : «وكان من أجله وبسببه» ، فقد تحصل في «من» الأولى أربعة أوجه ، وفي الثالثة ضعف ، أو منع ؛ كما تقدّم ، وفي «من» الثانية أربعة أيضا : وجهان بالنسبة إلى معناها : هل هي ابتدائية أو تعليلية؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلّق به : هل هو «تفيض» ، أو محذوف ؛ على أنها حال من الدمع ، وفي الثالثة خمسة : اثنان بالنسبة إلى معناها : هل هي بيانية أو تبعيضية؟ وثلاثة بالنسبة إلى متعلّقها : هل هو محذوف ، وهو «أعني» ، أو نفس «عرفوا» ، أو هو حال ، فتتعلّق بمحذوف أيضا ؛ كما ذكره أبو البقاء.

وقوله تعالى : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) ، يدلّ على أنّ الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول تكون إيمانا.

قوله تعالى : (يَقُولُونَ) الآية. فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مستأنف ؛ فلا محلّ له ، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة الحسنة.

الثاني : أنها حال من الضمير المجرور في «أعينهم» ، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه ؛ لأنّ المضاف جزؤه ؛ فهو كقوله تعالى : (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [الحجر : ٤٧].

الثالث : أنه حال من فاعل «عرفوا» ، والعامل فيها «عرفوا» ، قال أبو حيان (٣) لمّا حكى كونه حالا : «كذا قاله ابن عطية (٤) وأبو البقاء ، ولم يبيّنا ذا الحال ، ولا العامل فيها» ، قال شهاب الدين : أمّا أبو البقاء ، فقد بيّن ذا الحال ، فقال (٥) : «يقولون» حال من ضمير الفاعل في «عرفوا» ، فقد صرّح به ، ومتى عرف ذو الحال ، عرف العامل فيها ؛ لأنّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها ، فالظاهر : أنه اطّلع على نسخة مغلوطة من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك ، ثم إنّ أبا حيان ردّ كونها حالا من الضمير في «أعينهم» ؛ بما معناه : أن الحال لا تجيء من المضاف إليه ، وإن كان المضاف جزأه ، وجعله خطأ ، وأحال بيانه على بعض مصنّفاته ، وردّ كونها حالا أيضا من فاعل «عرفوا» ؛ بأنه يلزم تقييد معرفتهم الحقّ بهذه الحال ، وهم قد عرفوا الحقّ في هذه الحال وفي

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٧.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.

٤٨٣

غيرها ، قال : «فالأولى : أن يكون مستأنفا» ، قال شهاب الدين : أمّا ما جعله خطأ ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوع غير هذا ، وأمّا قوله : «يلزم التقييد» ، فالجواب : أنه إنما ذكرت هذه الحال ؛ لأنّها أشرف أحوالهم ، فخرجت مخرج المدح لهم ، وقوله تعالى : (رَبَّنا آمَنَّا) في محلّ نصب بالقول ، وكذلك : «فاكتبنا» إلى قوله سبحانه : (الصَّالِحِينَ).

فصل

المعنى : يقولون ربّنا آمنّا بما سمعنا وشهدنا بأنّه حقّ ، (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) يريد : أمّة محمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣].

وقيل : كلّ من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنّك لا إله غيرك.

قوله تعالى : (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) : «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و «لنا» جارّ ومجرور خبره ، تقديره : أيّ شيء استقرّ لنا ، و (لا نُؤْمِنُ) جملة حالية ، وقد تقدّم الكلام على نظير هذه الآية ، وأنّ بعضهم قال : إنها حال لازمة لا يتمّ المعنى إلا بها ؛ نحو : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، وتقدّم ما قلته فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته ، وقال أبو حيان (١) هنا : «وهي المقصود وفي ذكرها فائدة الكلام ؛ وذلك كما تقول : «جاء زيد راكبا» لمن قال : هل جاء زيد ماشيا أو راكبا؟».

فصل

قوله : «وما جاءنا» في محلّ «ما» وجهان :

أحدهما : أنه مجرور نسقا على الجلالة ، أي : بالله وبما جاءنا ، وعلى هذا فقوله : «من الحقّ» فيه احتمالان :

أحدهما : أنه حال من فاعل «جاءنا» ، أي : جاء في حال كونه من جنس الحقّ.

والاحتمال الآخر : أن تكون «من» لابتداء الغاية ، والمراد بالحقّ الباري تعالى ، وتتعلّق «من» حينئذ ب «جاءنا» ؛ كقولك : «جاءنا فلان من عند زيد».

والثاني : أنّ محلّه رفع بالابتداء ، والخبر قوله : (مِنَ الْحَقِّ) ، والجملة في موضع الحال ، كذا قاله أبو البقاء (٢) ، ويصير التقدير : وما لنا لا نؤمن بالله ، والحال أنّ الذي جاءنا كائن من الحقّ ، و «الحقّ» يجوز أن يراد به القرآن ؛ فإنه حقّ في نفسه ، ويجوز أن يراد به الباري تعالى ـ كما تقدم ـ والعامل فيها الاستقرار الذي تضمّنه قوله «لنا».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.

٤٨٤

قوله : «ونطمع» في هذه الجملة ستّة أوجه :

أحدها : أنها منصوبة المحلّ ؛ نسقا على المحكيّ بالقول قبلها ، أي : يقولون كذا ويقولون نطمع وهو معنى حسن.

الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارّ الواقع خبرا وهو «لنا» ؛ لأنه تضمّن الاستقرار ، فرفع الضمير وعمل في الحال ، وإلى هذا ذهب الزمخشري (١) ؛ فإنه قال : «والواو في «ونطمع» واو الحال ، فإن قلت : ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت : العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل ؛ كأنه قيل : أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيّدا بالحال الأولى ؛ لأنك لو أزلتها ، وقلت : «ما لنا ونطمع» ، لم يكن كلاما». قال شهاب الدين (٢) : وفي هذا الكلام نظر ، وهو قوله : «لأنك لو أزلته ... إلى آخره» ؛ لأنّا إذا أزلناها وأتينا ب «نطمع» ، لم نأت بها مقترنة بحرف العطف ، بل مجرّدة منه ؛ لنحلّها محلّ الأولى ؛ ألا ترى أنّ النحويين إذا وضعوا المعطوف موضع المعطوف عليه ، وضعوه مجرّدا من حرف العطف ، ورأيت في بعض نسخ الكشّاف : «ما لنا نطمع» من غير واو مقترنة ب «نطمع» ولكن أيضا لا يصحّ ؛ لأنك لو قلت : «ما لنا نطمع» كان كلاما ؛ كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ، ف «نطمع» واقع موقع مفرد هو حال ، كما لو قلت : ما لك طامعا ، وما لنا طامعين ، وردّ عليه أبو حيان (٣) هذا الوجه بشيئين : أحدهما : أن العامل لا يقتضي أكثر من حال واحدة ، إذا كان صاحبه مفردا دون بدل أو عطف ، إلا أفعل التفضيل على الصّحيح.

والثاني : أنه يلزم دخول الواو على مضارع مثبت. وذلك لا يجوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ ، أي : ونحن نطمع.

الثالث : أنها في محل نصب على الحال من فاعل «نؤمن» ، فتكون الحالان متداخلتين ، قال الزمخشريّ (٤) : «ويجوز أن يكون «ونطمع» حالا من «لا نؤمن» على معنى : أنهم أنكروا على أنفسهم ؛ أنهم لا يوحّدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين» ، وهذا فيه ما تقدّم من دخول واو الحال على المضارع المثبت ، وأبو البقاء (٥) لمّا أجاز هذا الوجه ، قدّر مبتدأ قبل «نطمع» ، وجعل الجملة حالا من فاعل «نؤمن» ؛ ليخلص من هذا الإشكال ؛ فقال : ويجوز أن يكون التقدير : «ونحن نطمع» ، فتكون الجملة حالا من فاعل «لا نؤمن».

الرابع : أنها معطوفة على «لا نؤمن» ، فتكون في محلّ نصب على الحال من ذلك

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٤.

٤٨٥

الضمير المستتر في «لنا» ، والعامل فيها هو العامل في الحال قبلها.

فصل

فإن قيل : هذا هو الوجه الثاني المتقدّم ، وذكرت عن أبي حيان هناك ؛ أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة ، وبأنه يلزم دخول الواو على المضارع ، فما الفرق بين هذا وذاك؟ فالجواب : أنّ الممنوع تعدّد الحال دون عاطف ، وهذه الواو عاطفة ، وأنّ المضارع إنما يمتنع دخول واو الحال عليه ، وهذه عاطفة لا واو حال ؛ فحصل الفرق بينهما من جهة الواو ؛ حيث كانت في الوجه الثاني واو الحال ، وفي هذا الوجه واو عطف ، ولمّا حكى الزمخشريّ هذا الوجه ، أبدى له معنيين حسنين ؛ فقال (١) ـ رحمه‌الله ـ : «وأن يكون معطوفا على «لا نؤمن» على معنى : وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطّمع في صحبة الصّالحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدّخول في الإسلام ؛ لأنّ الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصّالحين».

الخامس : أنها جملة استئنافية ، قال أبو حيان (٢) : الأحسن والأسهل : أن يكون استئناف إخبار منهم ؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم ؛ بإدخالهم مع الصالحين ، فالواو عاطفة هذه الجملة على جملة (وَما لَنا لا نُؤْمِنُ) ، قال شهاب الدين (٣) : وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفة على المحكيّ بالقول قبلها ـ شيء واحد ـ فإن [فيه] الإخبار عنهم بقولهم كيت وكيت.

السادس : أن يكون «ونطمع» معطوفا على «نؤمن» ، أي : وما لنا لا نطمع ، قال أبو حيان (٤) هنا : «ويظهر لي وجه غير ما ذكروه ، وهو أن يكون معطوفا على «نؤمن» ، التقدير : وما لنا لا نؤمن ولا نطمع ، فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين : الإيمان والطّمع في الدخول مع الصالحين» ، قال شهاب الدين (٥) : قوله : «غير ما ذكروه» ليس كما ذكره ، بل ذكر أبو البقاء (٦) فقال : «ونطمع» يجوز أن يكون معطوفا على «نؤمن» ، أي : «وما لنا لا نطمع» ، فقد صرّح بعطفه على الفعل المنفيّ ب «لا» ، غاية ما في الباب أن الشيخ زاده بسطا.

والطّمع قال الراغب (٧) : «هو نزوع النّفس إلى الشّيء شهوة له» ، ثم قال : «ولمّا كان أكثر الطّمع من جهة الهوى ، قيل : الطمع طبع والطمع يدنّس الإهاب» ، وقال أبو حيان (٨) : «الطمع قريب من الرّجاء يقال منه طمع يطمع طمعا» ؛ قال تعالى : (خَوْفاً

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩٧.

(٦) ينظر : الإملا ١ / ٢٢٤.

(٧) ينظر : المفردات ٣١٦.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤.

٤٨٦

وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦٥] وطماعة وطماعية كالكراهية ؛ قال : [الطويل]

٢٠٤٦ ـ ................

طماعية أن يغفر الذّنب غافره (١)

فالتشديد فيها خطأ ، واسم الفاعل منه طمع ك «فرح» و «أشر» ، ولم يحك أبو حيان غيره ، وحكى الراغب (٢) : طمع وطامع ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين ؛ كقولهم «فرح» لمن شأنه ذلك ، و «فارح» لمن تجدّد له فرح.

قوله : «أن يدخلنا» ، أي : «في أن» فمحلّها نصب أو جرّ ؛ على ما تقدّم غير مرة.

و «مع» على بابها من المصاحبة ، وقيل : هي بمعنى «في» ولا حاجة إليه ؛ لاستقلال المعنى مع بقاء الكلمة على موضوعها.

فصل

قال المفسّرون (٣) ـ [رحمهم‌الله] ـ إنّ اليهود عيّروهم ، وقالوا لهم : لم آمنتم؟ فأجابوهم بهذا.

والمراد : يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين جنّته ، ودار رضوانه قال ـ تعالى ـ : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) [الحج : ٥٩] ، إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوما.

قوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) [المائدة : ٨٥].

وقرأ الحسن (٤) : «فآتاهم الله» : من آتاه كذا ، أي : أعطاه ، والقراءة الشهيرة أولى ؛ لأنّ الإثابة فيها منبهة على أنّ ذلك لأجل عمل ؛ بخلاف الإيتاء ؛ فإنه يكون على عمل وعلى غيره ، وقوله تعالى : (جَنَّاتٍ) مفعول ثان ل «أثابهم» ، أو ل «آتاهم» على حسب القراءتين. و (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في محلّ نصب صفة ل «جنّات». و «خالدين» حال مقدرة.

فإن قيل : ظاهر الآية يدلّ على أنّهم إنّما استحقّوا ذلك الثّواب بمجرّد القول ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قال : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ) ، وذلك غير ممكن ؛ لأنّ مجرّد القول لا يفيد الثّواب.

فالجواب من وجهين :

الأوّل : أنّه قد سبق من وصفهم ما يدلّ على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة ، وذلك قوله ـ تعالى ـ : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) ، وكلّما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال

__________________

(١) البيت ينظر : اللسان «وبل» الدر المصون ٢ / ٥٩٧.

(٢) ينظر : المفردات ٣٠٧.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٨.

٤٨٧

الانقياد ، ثمّ انضاف إليه القول ، لا جرم كمل الإيمان.

الثاني : روى عطاء عن ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنّه قال : قوله ـ تعالى ـ : (بِما قالُوا) يريد بما سألوا ، يعني قولهم : (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(١).

فصل

دلّت الآية على أنّ المؤمن الفاسق لا يخلّد في النّار من وجهين :

أحدهما : أنّه ـ تعالى ـ قال : (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) ، وهذا الإحسان لا بدّ وأن يكون هو الذي تقدّم ذكره من المعرفة ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) ، ومن الإقرار به ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يقال : إنّ هذه الآية دالّة على أنّ المعرفة ، وهو إقرار يوجب هذا الثّواب ، وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الإقرار ، فوجب أن يحصل له هذا الثّواب ، فإمّا أن ينقل من الجنّة إلى النّار ، وهذا باطل بالإجماع ، أو يقال : يعاقب على ذنبه ، ثمّ ينقل إلى الجنّة ، وهو المطلوب.

الثاني : أنّه ـ تعالى ـ قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ، فقوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) يفيد الحصر ، أي : أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم ، والمصاحب للشّيء الملازم له الذي لا ينفكّ عنه ، وهذا يقتضي تخصيص الكفّار بالدّوام.

قوله تعالى : (وَذلِكَ جَزاءُ) مبتدأ وخبر ، وأشير ب «ذلك» إلى الثواب أو الإيتاء ، و «المحسنين» يحتمل أن يكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، والأصل : «وذلك جزاؤهم» ، وإنما ذكر وصفهم الشريف منبهة على أن هذه الخصلة محصّلة جزائهم بالخير ، ويحتمل أن يراد كلّ محسن ، فيندرجون اندراجا أوليّا.

والمراد بالمحسنين : الموحّدين المؤمنين.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(٨٨)

لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنّصارى ، عاد إلى بيان الأحكام ، وذكر منها جملة :

أوّلها : ما يتعلّق بالمطاعم والمشارب واللّذات ، وهي هذه الآية ، والمراد بالطّيّبات : ما تشتهيه النّفوس ، وتميل إليه القلوب وفيه قولان :

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ١٦٧).

٤٨٨

الأول : قال المفسّرون (١) ـ [رحمهم‌الله] ـ : ذكّر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ النّاس يوما في بيت عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ فوصف القيامة ، وبالغ في الإنذار والتّحذير ، فرقّ له النّاس وبكوا ، فاجتمع عشرة من الصّحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وهم : أبو بكر ، وعليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وأبو ذرّ الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرّن ـ رضي الله عنهم ـ ، وتشاوروا على أن يترهّبوا ، ويلبسوا المسوح ، ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدّهر ، ويقوموا اللّيل ، ولا ينامون على الفرش ، ولا يأكلون اللّحم والودك ، ولا يقربون النّساء والطّيب ، ويسيحوا في الأرض ، وحلفوا على ذلك ، فبلغ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ [ذلك] ، فأتى دار عثمان بن مظعون الجمحي ، فلم يصادفه ، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت أبي أميّة ـ واسمها «الحولاء» ، وكانت عطّارة ـ : أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله : إن كان أخبرك عثمان فقد صدق ، فانصرف رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، فلّما دخل عثمان أخبرته بذلك ، فأتى رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ : ألم أنبّأ أنّكم اتّفقتم على كذا وكذا ، قالوا : بلى يا رسول الله ، ما أردنا إلا الخير ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنّي لم أؤمر بذلك ، ثمّ قال : إنّ لأنفسكم عليكم حقّا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللّحم والدّسم ، وآتي النّساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي. ثمّ جمع إليه النّاس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرّموا النّساء والطّعام ، والطّيب والنّوم ، وشهوات الدّنيا؟! أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين ورهبانا ، فإنّه ليس في ديني ترك اللّحم ، ولا اتّخاذ الصّوامع ، وأنّ سياحة أمّتي الصّوم ، ورهبانيّتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتّشديد ، شدّدوا على أنفسهم ، فشدّد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الدّيار والصّوامع ، فأنزل الله هذه الآية (٢).

وعن عثمان بن مظعون ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنّه أتى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فقال : ائذن لنا في الاختصاء ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم : ليس منا من خصى أو اختصا ، إنّ خصاء أمتّي الصّيام ، فقال يا رسول الله : ائذن لنا في السّياحة ، فقال : إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله ، قال يا رسول الله : ائذن لنا

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٨.

(٢) أخرجه بهذا اللفظ الطبري (٥ / ١١) عن السدي وأخرجه أبو الشيخ من طريق ابن جريج عن المغيرة بن عثمان قال : كان عثمان بن مظعون فذكره.

٤٨٩

في التّرهّب فقال : إنّ ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد ، وانتظار الصّلاة (١).

وعلى هذا ظهر وجه النّظم بين هذه الآية ، وبين ما قبلها ، وذلك أنّه تعالى مدح النّصارى ، بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا ، وعادتهم الاحتراز عن طيّبات الدّنيا ولذّاتها ، فلمّا مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطّريقة ، فذكر تعالى عقيبه هذه الآية ، إزالة لذلك الوهم ؛ ليظهر للمسلمين أنّهم ليسوا مأمورين بتلك الطّريقة ؛ والله أعلم.

فإن قيل : ما الحكمة في هذا النّهي؟ ومن المعلوم أنّ حبّ الدّنيا مستول على الطّباع والقلوب ، فإذا توسّع الإنسان في اللّذّات والطّيّبات ، اشتدّ ميله إليها وعظمت رغبته فيها ، وكلّما أكثر التّنعيم ودام كان ذلك الميل أقوى وأعظم ، وكلّما ازداد الميل قوّة ورغبة ، ازداد حرصه في طلب الدّنيا ، واستغراقه في تحصيلها ، وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله ـ تعالى ـ وطاعته ، ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة ، وأمّا إذا أعرض عن

__________________

(١) أخرجه البغوي بسنده المتصل بهذا اللفظ في شرح السنة ٢ / ٣٧٠ ، كتاب الصلاة ، باب فضل القعود في المسجد ، الحديث (٤٨٤) من حديث سعد بن مسعود الصحابي رضي الله عنه «أن عثمان بن مظعون أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! ائذن لنا في الاختصاء ...» ولم أجده عند أحد من أصحاب الأصول بهذا الإسناد وسنده فيه مقال على ما ذكره ميرك (القاري ، المرقاة ١ / ٤٦١) ويعني ميرك بذلك «رشدين بن سعد» و «ابن أنعم الإفريقي» أما «رشدين بن سعد» فذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٤٩ ونقل قول أحمد : (لا يبالي عمّن روى ، وليس به بأس في الرقاق ، وقال : أرجو أنه صالح الحديث).

وأما «ابن أنعم» فذكره الذهبي أيضا في الميزان ٢ / ٥٦١ وقال : (كان البخاري يقوّي أمره ، ولم يذكره في كتاب الضعفاء).

وحديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه صحيح ومشهور من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أخرجه الشيخان ، وغيرهما ، ولفظه عند البخاري في صحيحه ٩ / ١١٧ ، كتاب النكاح ، باب ما يكره من التبتل والخصاء ، الحديث (٥٠٧٣) و (٥٠٧٤): «ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عثمان بن مظعون التّبتّل ، ولو أذن له لاختصينا». وأخرجه مسلم في صحيحه ٢ / ١٠٢٠ ، كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح ، الحديث (٦ / ١٠٤٢).

ومن رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٢٢٦ ، عن عروة قال : «دخلت امرأة عثمان بن مظعون ـ أحسب اسمها خولة بنت حكيم ـ على عائشة وهي باذّة الهيئة ، فسألتها : ما شأنك؟ فقالت : زوجي يقوم الليل ويصوم النهار ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت عائشة ذلك له ، فلقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان فقال : «يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا ، أفما لك فيّ أسوة؟ فو الله إني أخشاكم لله ، وأحفظكم لحدودة».

ومن رواية أبي أمامة رضي الله عنه أخرجه أبو داود في السنن ٣ / ١٢ ، كتاب الجهاد ، باب في النهي عن السياحة ، الحديث (٢٤٨٦) عن أبي أمامة «أن رجلا قال : يا رسول الله! ائذن لي في السياحة. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله».

ومن رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٧٣ ، عن عبد الله بن عمرو قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! ائذن لي أن أختصي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خصاء أمتي الصيام والقيام».

٤٩٠

لذّات الدّنيا وطيّباتها ، فكلّما كان ذلك الإعراض أتمّ وأدوم ، كان ذلك الميل أضعف ، وحينئذ تتفرّغ النّفس لطلب معرفة الله تعالى ، والاستغراق في خدمته ، وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرّهبانيّة؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّ الرّهبانيّة المفرطة ، والاحتراز التّامّ عن الطّيّبات واللّذّات ، ممّا يوقع الضّعف في الأعضاء الرّئيسيّة ـ التي هي القلب والدّماغ ـ ، وإذا وقع الضّعف فيهما اختلت الفكرة وتشوّش العقل.

ولا شكّ أنّ أكمل السّعادات وأعظم القربات ، إنّما هو معرفة الله سبحانه وتعالى ، فإذا كانت الرّهبانيّة الشّديدة ممّا يوقع الخلل في ذلك ، لا جرم وقع النّهي عنه.

الثاني : سلّمنا أنّ اشتغال النّفس باللّذات يمنعها عن الاشتغال بالسّعادات العقليّة ، ولكن في حقّ النّفوس الضّعيفة أمّا النّفوس المستعلية الكاملة ، فإنّه لا يكون اشتغالها في اللّذات الحسّيّة مانعا من الاشتغال بالسّعادات العقليّة ، فإنّا نشاهد بعض النّفوس قد تكون ضعيفة ، بحيث متى اشتغلت بمهمّ امتنع عليها الاشتغال بمهمّ آخر ، وكلّما قويت النّفس كانت هذه الحالة أكمل ، وإذا كان كذلك ، فالمراد الكمال في الوفاء بالجهتين.

الثالث : أنّ من استوفى اللّذات الحسّيّة ، وكان غرضه بذلك الاستعانة على استيفاء اللّذّات العقليّة ، فإنّ مجاهدته أتّمّ من مجاهدة من أعرض عن اللّذات الحسّيّة.

الرابع : أنّ الرّهبانيّة التّامّة توجب خراب الدّنيا ، وانقطاع الحرث والنّسل.

وأمّا ترك الرّهبانيّة مع المواظبة على المعرفة والمحبّة والطّاعة ، فإنّه عمارة الدّنيا والآخرة ، فكانت هذه الحال أكمل القول.

الثاني في تفسير هذه الآية ذكره القفّال (١) ـ [رحمه‌الله] ـ وهو أنّه تعالى قال في أوّل السّورة : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] فبيّن أنّه لا يجوز استحلال المحرّم ، كذلك لا يجوز تحريم المحلّل ، وكانت العرب تحرّم من الطّيّبات ما لم يحرّمه الله تعالى ، وهو : البحيرة ، والسّائبة ، والوصيلة ، والحام ، وكانوا يحلّلون الميتة والدّم وغيرهما ، فأمر الله تعالى أن لا يحرّموا ما أحلّه الله ، ولا يحلّلوا ما حرّمه الله ، حتى تدخلوا تحت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١].

فقوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) يحتمل وجوها :

الأول : ألا تعتقدوا تحريم ما أحلّ الله لكم.

وثانيها : لا تظهروا باللّسان تحريم ما أحلّ الله لكم.

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٦٠.

٤٩١

وثالثها : لا تجتنبوها اجتنابا يشبه الاجتناب عن المحرّمات ، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل.

ورابعها : لا تحرّموا على غيركم بالفتوى.

وخامسها : لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ، ونظيره قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [التحريم : ١].

وسادسها : أن يخلط المغصوب بالمملوك اختلاطا لا يمكنه التّمييز ، وحينئذ يحرم الكلّ ، فذلك الخلط سبب لتحريم ما كان حلالا ، وكذلك إذا خلط النّجس بالطّاهر ، فالآية محتملة لكلّ هذه الوجوه ، ولا يبعد حملها على الكلّ.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) فقيل : لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : لا تسرفوا وقيل : هو جبّ المذاكير ، وجعل تحريم الطّيّبات اعتداء وتعدّ عما أحلّه الله ، فنهى عن الاعتداء ؛ ليدخل تحت النّهي عن تحريمها.

قوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً).

في نصب «حلالا» : ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه مفعول به ، أي : كلوا شيئا حلالا ، [وعلى هذا الوجه ، ففي الجارّ ، وهو قوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ) وجهان :

أحدهما : أنه حال من «حلالا» ؛] لأنه في الأصل صفة لنكرة ، فلمّا قدّم عليها ، انتصب حالا.

والثاني : أنّ «من» لابتداء الغاية في الأكل ، أي : ابتدئوا أكلكم الحلال من الذي رزقه الله لكم.

الوجه الثاني من الأوجه المتقدّمة : أنه حال من الموصول أو من عائده المحذوف ، أي : «رزقكموه» فالعامل فيه «رزقكم».

الثالث : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : أكلا حلالا ، وفيه تجوّز.

وقال : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ولم يقل : ما رزقكم ؛ لأنّ «من» للتّبعيض ، فكأنّه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقيّة إلى الصّدقات والخيرات ، وأيضا إرشاد إلى ترك الإسراف ، كقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١].

قال عبد الله بن المبارك (١) ـ رضي الله عنه ـ : الحلال ما أخذته من وجهه ، والطّيّب : ما غذّي وأنمي.

فأمّا الجوامد : كالطّين والتّراب وما لا يغذّي ، فمكروه إلّا على وجه التّداوي.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٩.

٤٩٢

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «كان النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يحبّ الحلواء والعسل» (١).

قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ) تأكيد للوصيّة بما أمر به ، وزاده تأكيدا بقوله تعالى : (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ؛) لأنّ الإيمان به يوجب التّقوى في الانتهاء.

قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(٨٩)

وهذا النّوع الثّاني من الأحكام المذكورة ، ووجه المناسبة بين هذا الحكم والّذي قبله حتى حسن ذكره عقيبه ، أنّا ذكرنا أنّ سبب نزول الآية : أنّ قوما من الصّحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ حرّموا على أنفسهم المطاعم والملاذّ ، واختاروا الرّهبانيّة ، وحلفوا على ذلك ، فلما نهاهم الله تعالى عن ذلك قالوا : يا رسول الله ، فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله هذه الآية ، وقد تقدّم إعراب نظيرها في البقرة واشتقاق مفرداتها.

قوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ).

قرأ (٢) حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم : «عقدتم» بتخفيف القاف دون ألف بعد العين ، وابن ذكوان عن ابن عامر : «عاقدتّم» بزنة «فاعلتم» والباقون : «عقّدتّم» بتشديد القاف ، فأمّا التخفيف ، فهو الأصل ، وأمّا التشديد ، فيحتمل أوجها :

أحدها : أنه للتكثير ؛ لأنّ المخاطب به جماعة.

والثاني : أنه بمعنى المجرّد ، فيوافق القراءة الأولى ، ونحوه : قدّر وقدر.

والثالث : أنه يدلّ على توكيد اليمين ؛ نحو : «والله الذي لا إله إلا هو».

والرابع : أنه يدلّ على تأكيد العزم بالالتزام.

الخامس : أنه عوض من الألف في القراءة الأخرى ، وقال شهاب الدين (٣) : ولا أدري ما معناه ، ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين ، فإنّ الكفارة تجب ولو بمرّة واحدة.

وقد تجرّأ أبو عبيد على هذه القراءة وزيّفها ، فقال : «التشديد للتكرير مرة من بعد مرّة ، ولست آمن أن توجب هذه القراءة سقوط الكفّارة في اليمين الواحدة ؛ لأنها لم

__________________

(١) أخرجه البغوي في «شرح السنة» (٦ / ٨٥) وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢١٩) من حديث عائشة.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٧ ، والحجة ٣ / ٢٥١ ، وحجة القراءات ٢٣٤ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٩ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٥ ، وإتحاف ١ / ٥٤٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩٩.

٤٩٣

تكرّر». وقد وهّموه الناس في ذلك ، وذكروا تلك المعاني المتقدّمة.

وأجاب الواحدي (١) بوجهين :

الأول : أنّ بعضهم قال : عقدتم بالتّخفيف وبالتّشديد واحد في المعنى.

والثاني : هب أنّها تفيد التكرير ، كما في قوله تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [يوسف : ٢٣] ، إلّا أنّ هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، ومتى جمع بين القلب واللّسان فقد حصل التّكرير ، أمّا لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن منعقدا لها فسلمت القراءة تلاوة ولله الحمد.

وأمّا «عاقدت» ، فيحتمل أن تكون بمعنى [المجرّد نحو] : «جاوزت الشّيء وجزته» ، وقال الفارسيّ : «عاقدتم» يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون بمعنى «فعل» ، كطارقت النّعل ، وعاقبت اللّصّ.

والآخر : أن يراد به «فاعلت» التي تقتضي فاعلين ؛ كأن المعنى : بما عاقدتّم عليه الأيمان ، عدّاه ب «على» لمّا كان بمعنى عاهد ، قال : (بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) [الفتح : ١٠] ؛ كما عدّى : (نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٥٨] ب «إلى» ، وبابها أن تقول : ناديت زيدا ؛ نحو : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) [مريم : ٥٢] لمّا كانت بمعنى دعوت إلى كذا ، قال : (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] ثم اتّسع فحذف الجارّ ، ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم حذف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول ؛ إذ صار : «بما عاقدتموه الأيمان» ؛ كما حذف من قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] ، قال شهاب الدين : يريد ـ رحمه‌الله ـ أن يبيّن معنى «المفاعلة» ، فأتى بهذه النظائر للتضمين ، ولحذف العائد على التدريج ، والمعنى : بما عاقدتّم عليه الأيمان ، وعاقدتكم الأيمان عليه ، فنسب المعاقدة إلى الأيمان مجازا ، ولقائل أن يقول : قد لا نحتاج إلى عائد حتّى نحتاج إلى هذا التكلّف الكثير ، وذلك بأن نجعل «ما» مصدرية ، والمفعول محذوف ، تقديره : بما عاقدتّم غيركم الأيمان ، أي : بمعاقدتكم غيركم الأيمان ، ونخلص من مجاز آخر ، وهو نسبة المعاقدة إلى الأيمان ؛ فإنّ في هذا الوجه نسبة المعاقدة للغير ، وهي نسبة حقيقة ، وقد نصّ على هذا الوجه ـ جماعة.

قالوا (٢) : «ما» مع الفعل بمنزلة المصدر ، ولكن يؤاخذكم بعقدكم ، أو بتعقيدكم ، أو بمعاقدتكم الأيمان إذا خنتم ، فحذف وقتا لمؤاخذة ؛ لأنّه معلوم ، أو ينكث ما عاقدتم ، فحذف المضاف.

وقد تعقّب أبو حيان على أبي عليّ كلامه ؛ فقال : «قوله : إنّه مثل «طارقت النّعل» و «عاقبت اللّصّ» ، ليس مثله ؛ لأنّك لا تقول : طرقت ولا عقبت ، وتقول : عاقدتّ

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٦٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٦٢.

٤٩٤

اليمين ، وعقدتّها» ، وهذا غير لازم لأبي عليّ ؛ لأنّ مراده أنه مثله من حيث إنّ «المفاعلة» بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفية عنه ؛ كانتفائها من عاقبت وطارقت ، أمّا كونه يقال فيه أيضا كذا ، فلا يضرّه ذلك في التشبيه ، وقال أيضا : «تقديره حذف حرف الجرّ ، ثم الضمير على التدرّج ـ بعيد ، وليس بنظير : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ؛ لأن «أمر» بتعدّى بنفسه تارة ، وبحرف الجرّ أخرى ، وإن كان الأصل الحرف ، وأيضا ف «ما» في (فَاصْدَعْ بِما) لا يتعيّن أن تكون بمعنى «الّذي» بل الظاهر أنها مصدريّة ، [وكذلك ههنا الأحسن : أن تكون مصدرية] لمقابلتها بالمصدر ، وهو اللّغو».

قال الواحدي (١) : يقال : عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقدا ، إذا وكّده وأحكمه ، ومثل ذلك أيضا «عقّد» بالتّشديد إذا وكّد ، ومثله : عاقد بالألف.

وقد تقدم الكلام في سورة النّساء عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) [الآية : ٣٣] و «عاقدت» ، وذكر في هذه ثلاث قراءات في المشهور ، وفي تيك قراءتان ، وقد تقدم في النساء أنه روي عن حمزة : «عقّدت» بالتشديد فيكون فيها أيضا ثلاث قراءات ، وهو اتفاق غريب ، فإنّ حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة ، وقد روي عنه التثقيل في النساء.

والمراد بقوله : «عقّدتم ، وعاقدتم» أي : قصدتم وتعمّدتم ، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة.

قوله تعالى : (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ) مبتدأ وخبر ، والضمير في «فكفّارته» فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه يعود على الحنث الدّالّ عليه سياق الكلام ، وإن لم يجر له ذكر ، أي : فكفّارة الحنث.

الثاني : أنه يعود على «ما» إن جعلناها موصولة اسميّة ، وهو على حذف مضاف ، أي: فكفارة نكثه ، كذا قدّره الزمخشريّ (٢).

والثالث : أنه يعود على اليمين ، وإن كانت مؤنثة ؛ لأنها بمعنى الحلف ، قالهما أبو البقاء (٣) ، وليسا بظاهرين.

و «إطعام» مصدر مضاف لمفعوله ، وهو مقدّر بحرف وفعل مبنيّ للفاعل ، أي : فكفّارته أن يطعم الحانث عشرة ، وفاعل المصدر يحذف كثيرا ، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعل مبنيّ للمفعول ، أي : أن يطعم عشرة ؛ لأنّ في ذلك خلافا تقدّم التنبيه عليه ؛ فعلى

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٦٢.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٣.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

٤٩٥

الأول : يكون محلّ «عشرة» نصبا ؛ وعلى الثاني : يكون محلّها رفعا على ما لم يسمّ فاعله ، ولذلك فائدة تظهر في التابع ، فإذا قلت : «يعجبني أكل الخبز» فإن قدّرته مبنيا للفاعل ، فتتبع «الخبز» بالجرّ على اللفظ ، والنّصب على المحلّ ، وإن قدّرته مبنيّا للمفعول ، أتبعته جرّا ورفعا ، فتقول : «يعجبني أكل الخبز والسّمن والسّمن والسّمن» ، وفي الحديث : «نهى عن قتل الأبتر وذو الطّفيتين» برفع «ذو» على معنى : أن يقتل الأبتر ، قال أبو البقاء (١) : «والجيّد أن يقدّر ـ أي المصدر ـ بفعل قد سمّي فاعله ؛ لأنّ ما قبله وما بعده خطاب» ، يعني : فهذه قرينة تقوّي ذلك ؛ لأنّ المعنى : فكفّارته أن تطعموا أنتم أيها الحالفون ، وقد تقدم أنّ تقديره بالمبنيّ للفاعل هو الراجح ، ولو لم توجد قرينة ؛ لأنه الأصل.

قوله تعالى : (مِنْ أَوْسَطِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ رفع خبرا لمبتدأ محذوف يبيّنه ما قبله ، تقديره : طعامهم من أوسط ، ويكون الكلام قد تمّ عند قوله : «مساكين» ، وسيأتي له مزيد بيان قريبا إن شاء الله تعالى.

والثاني : أنه في موضع نصب ؛ لأنه صفة للمفعول الثاني ، والتقدير : قوتا أو طعاما كائنا من أوسط ، وأما المفعول الأوّل فهو «عشرة» المضاف إليه المصدر ، و «ما» موصولة اسميّة ، والعائد محذوف ، أي : من أوسط الذي تطعمونه ، وقدّره أبو البقاء (٢) مجرورا ب «من» ، فقال : «الذي تطعمون منه» ، وفيه نظر ؛ لأنّ من شرط العائد المجرور في الحذف : أن يتّحد الحرفان والمتعلّقان ، والحرفان هنا ، وإن اتفقا وهما «من» و «من» إلا أنّ العامل اختلف ؛ فإنّ «من» الثانية متعلّقة ب «تطعمون» ، والأولى متعلّقة بمحذوف ، وهو الكون المطلق ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف ، وقد يقال : إنّ الفعل لمّا كان منصبا على قوله : «من أوسط» ، فكأنه عامل فيه ، وإنما قدّرنا مفعولا لضرورة الصّناعة ، فإن قيل : الموصول لم ينجرّ ب «من» إنّما انجرّ بالإضافة ، فالجواب : أنّ المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك ؛ نحو : «مرّ بغلام الّذي مررت».

و «أهليكم» مفعول أول ل «تطعمون» ، والثاني محذوف ؛ كما تقدم ، أي : تطعمونه أهليكم ، و «أهليكم» جمع سلامة ، ونقصه من الشروط كونه ليس علما ولا صفة ، والذي حسّن ذلك : أنه كثيرا ما يستعمل استعمال «مستحقّ لكذا» في قولهم : «هو أهل لكذا» ، أي : مستحقّ له ، فأشبه الصفات ، فجمع جمعها ، وقال تعالى : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) [الفتح : ١١] (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، وفي الحديث : «إنّ لله أهلين» قيل : يا رسول الله : من هم؟ قال : «قرّاء القرآن هم أهلو الله وخاصّته» (٣) ، فقوله : «أهلو الله» جمع حذفت

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٣) أخرجه ابن ماجه (٢١٥) وأحمد (٣ / ١٢٧ ، ١٢٨ ، ٢٤٢) والدارمي (٢ / ٤٣٣) والحاكم (١ / ٥٥٦) وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٦٣) عن أبي سعيد.

٤٩٦

نونه للإضافة ، ويحتمل أن يكون مفردا ، فيكتب : «أهل الله» ، فهو في اللفظ واحد.

وقرأ (١) جعفر الصّادق : «أهاليكم» بسكون الياء ، وفيه تخريجان :

أحدهما : أنّ «أهالي» جمع تكسير ل «أهلة» ، فهو شاذّ في القياس ؛ ك «ليلة وليال» ، قال ابن جني (٢) : «أهال» بمنزلة «ليال» واحدها أهلاة وليلاة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٢٠٤٧ ـ وأهلة ودّ سررت بودّهم

 ................. (٣)

وقياس قول أبي زيد : أن تجعله جمعا لواحد مقدّر ؛ نحو : أحاديث وأعاريض ، وإليه يشير قول ابن جنّي : «أهال بمنزلة ليال واحدها أهلاة وليلاة» ، فهذا يحتمل أن يكون [بطريق] السماع ، ويحتمل أن يكون بطريق القياس ؛ كما يقول [أبو زيد.

والثاني : أنّ هذا اسم جمع ل «أهل» قال الزمخشريّ : «كالليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض»]. قوله «في جمع ليلة ، وجمع أرض» أراد بالجمع اللغويّ ؛ لأنّ اسم الجمع جمع في المعنى ، ولا يريد أنه جمع «ليلة» و «أرض» صناعة ؛ لأنه قد فرضه أنه اسم جمع ، فكيف يجعله جمعا اصطلاحا؟.

وكان قياس قراءة جعفر تحريك الياء بالفتحة ؛ لخفّتها ، ولكنه شبّه الياء بالألف ، فقدّر فيها الحركة ، وهو كثير في النظم ؛ كقول النابغة : [البسيط]

٢٠٤٨ ـ ردّت عليه أقاصيه ولبّده

ضرب الوليدة بالمسحاة في الثّأد (٤)

وقول الآخر : [الرجز]

٢٠٤٩ ـ كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق (٥)

وقد مضى ذلك.

فصل

اختلفوا في قدر هذا الإطعام ، فقال قوم : يطعم كلّ مسكين مدا من طعام بمدّ النّبيّ

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٠ ، والبحر المحيط ٤ / ١٣ ، والدر المصون ٢ / ٦٠١.

(٢) ينظر : المحتسب لابن جني ١ / ٢١٨.

(٣) صدر بيت لأبي الطمحان وعجزه :

وأبليتهم في الحمد جهدي ونائلي

ورواية اللسان : «وأهلة ود قد تبريت ودهم» مادة (أهل) ، ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٠ ، البحر المحيط ٤ / ١٣ ، الدر المصون ٢ / ٦٠١.

(٤) ينظر : ديوانه ٣ ، شرح القصائد ٧٣٨ الدر المصون ٢ / ٦٠٢.

(٥) البيت لرؤبة ينظر : ديوانه ١٧٥ ، الدرر ١ / ٢٩ ، الخصائص ١ / ٣٠٦ المحتسب ١ / ١٢٦ ، ابن الشجري ١ / ١٠٥ الدر المصون ٢ / ٦٠٢.

٤٩٧

ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ وهو رطل وثلث من غالب قوت البلدة ، وكذلك في جميع الكفّارات ، وهو قول زيد بن ثابت ، وابن عبّاس ، وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ ، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن والقاسم ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والشّافعيّ ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وقال أهل العراق : عليه لكلّ مسكين مدّان ـ وهو نصف صاع ، ويروى ذلك عن عمر وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ.

وقال أبو حنيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ : إن أطعم من الحنطة فنصف صاع ، وإن أطعم من غيرها فصاع ، وهو قول الشّعبيّ ، والنّخعيّ ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحكم ـ رحمهم‌الله ـ ولو غدّاهم وعشّاهم لا يجوز ، وجوّزه أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ ، ويروى ذلك عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ ، ولا يجوز الدّراهم والدّنانير ، ولا الخبز ، والدّقيق ، بل يجب إخراج الحبّ إليهم ، وجوّز أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ كلّ ذلك ، ولو صرف الكلّ إلى مسكين واحد لا يجوز ، وجوّز أبو حنيفة أن يصرف طعام عشرة إلى مسكين واحد في عشرة أيام ولا يجوز أن يصرف إلا إلى مسلم حر محتاج ، فإن صرف إلى ذمّيّ أو عبد أو غنيّ لم يجز ، وجوّز أبو حنيفة صرفه إلى أهل الذّمّة ، واتّفقوا على أنّ صرف الزّكاة إلى أهل الذّمّة لا يجوز.

فصل

واختلفوا في الوسط.

فقيل : من خير قوت عيالكم ، والوسط : الخبز [وتقدم في البقرة في] قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

وقال عبيدة (١) السّلمانيّ : الأوسط الخبز والخلّ ، والأعلى الخبز واللّحم ، والأدنى الخبز البحت ، والكلّ يجزىء.

قوله تعالى : (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه نسق على «إطعام» ، أي : فكفارته إطعام عشرة أو كسوة تلك العشرة.

والثاني : أنه عطف على محلّ «من أوسط» ؛ كذا قاله الزمخشريّ (٢) ، وهذا الذي قاله إنما يتمشّى على وجه سبق في قوله «من أوسط» [وهو أن يكون «من أوسط» خبرا لمبتدأ محذوف يدلّ عليه ما قبله ، تقديره : طعامهم من أوسط] ، فالكلام عنده تامّ على قوله (عَشَرَةِ مَساكِينَ) ، ثم ابتدأ إخبارا آخر بأن الطعام يكون من أوسط كذا وأمّا إذا قلنا : إنّ «من أوسط» هو المفعول الثاني ، فيستحيل عطف «كسوتهم» عليه ؛ لتخالفهما إعرابا.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٦٠.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٣.

٤٩٨

وقرأ الجمهور : «كسوتهم» بكسر الكاف. وقرأ (١) إبراهيم النخعيّ وأبو عبد الرحمن السّلميّ وسعيد بن المسيّب بضمّها ، وقد تقدّم في البقرة [الآية ٢٣٣] أنهما لغتان في المصدر ، وفي الشيء المكسوّ ، قال الزمخشريّ (٢) : «كالقدوة في القدوة ، والإسوة في الأسوة» إلا أن الذي قرأ في البقرة بضمّها هو طلحة فلم يذكروه هنا ، ولا ذكروا هؤلاء هناك.

وقرأ (٣) سعيد بن جبير وابن السّميفع : «أو كأسوتهم» بكاف الجر الداخلة على «أسوة» قال الزمخشريّ : «بمعنى : أو مثل ما تطعمون أهليكم ، إسرافا أو تقتيرا ، لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تواسون بينهم ، فإن قلت : ما محلّ الكاف؟ قلت : الرفع ، تقديره : أو طعامهم كأسوتهم ، بمعنى : كمثل طعامهم ، إن لم يطعموهم الأوسط». انتهى ، وكان قد تقدم أنه يجعل (مِنْ أَوْسَطِ) مرفوع المحلّ خبرا لمبتدأ محذوف ، فتكون الكاف عنده مرفوعة ؛ عطفا على (مِنْ أَوْسَطِ) ، وقال أبو البقاء (٤) قريبا من هذا ؛ فإنه قال : «فالكاف في موضع رفع أي : أو مثل أسوة أهليكم» ، وقال أبو حيان : «إنه في موضع نصب عطفا على محلّ : من أوسط» ؛ لأنه عنده مفعول ثان ، إلّا أنّ هذه القراءة تنفي الكسوة من الكفّارة ، وقد أجمع الناس على أنها إحدى الخصال الثلاث ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول : «استفيدت الكسوة من السّنّة» ، أمّا لو قام الإجماع على أن مستند الكسوة في الكفّارة من الآية ؛ فإنه يصحّ الردّ على هذا القارىء.

والكسوة في اللّغة معناه اللّباس ، وهو كلّ ما يكتسى به.

فصل

كلّ من لزمته كفّارة يمين فهو مخيّر إن شاء أطعم عشرة مساكين ، وإن شاء كساهم ، وإن شاء أعتق رقبة ، فإن اختار الكسوة ، فاختلفوا في قدرها ، فذهب قوم إلى أنّه يكسو كلّ مسكين ثوبا واحدا ممّا يقع عليه اسم الكسوة ، إزار ، أو رداء ، أو قميص ، أو سراويل ، أو عمامة مقنّعة ، أو كساء أو نحوها ، وهو قول ابن عبّاس والحسن ومجاهد وعطاء وطاوس ـ رضي الله عنهم ـ ، وإليه ذهب الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ (٥).

وقال مالك ـ رضي الله عنه ـ : يجب لكلّ إنسان ما يجوز فيه صلاته ، فيكسو الرجل ثوبا والمرأة ثوبين درعا وخمارا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٠ ، والبحر المحيط ٤ / ١٣ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٢.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٧٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٣٠ ، والبحر المحيط ٤ / ١٤ ، والدر المصون ٢ / ٦٠٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٥٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لأبي عبيد وابن المنذر. والبغوي ٢ / ٦١.

٤٩٩

وقال سعيد بن المسيّب : «لكلّ مسكين ثوبان» (١).

قوله تعالى : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) عطف على «إطعام» وهو مصدر مضاف لمفعوله ، والكلام عليه كالكلام على [(إِطْعامُعَشَرَةِ) من جواز تقديره بفعل مبنيّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك ، [وقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ) كقوله في النساء : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) [النساء : ٩٢]] ، وقد تقدّم ذلك.

فصل

المراد بالرّقبة الجملة.

قيل : الأصل في هذا المجاز ، أنّ الأسير في العرب كان يجمع إلى رقبته بحبل ، فإذا أطلق حلّ ذلك الحبل ، فسمّي الإطلاق من الرّقبة فكّ رقبة ، وأجاز أبو حنيفة والثّوري إعتاق الرّقبة الكافرة في جميعها ، إلّا كفارة القتل ؛ لأنّ الله تعالى قيّد الرّقبة فيها بالإيمان ، قلنا : المطلق يحمل على المقيّد ، كما أنّ الله تعالى قيّد الشّهادة بالعدالة في موضع فقال تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، وأطلق في موضع فقال تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ، ثم العدالة مشروطة في جميعها حملا للمطلق على المقيّد ، كذلك هذا.

ولا يجوز إعتاق المرتدّ بالاتّفاق عن الكفّارة ، ويشترط أن يكون سليم الرّقّ ، حتّى لو أعتق عن كفّارته مكاتبا ، أو أمّ ولد ، أو عبدا اشتراه بشرط العتق ، أو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنيّة الكفّارة يعتق ، ولا يجوز عن الكفّارة.

وجوّز أصحاب الرّأي عتق المكاتب إذا لم يكن أدّى شيئا من النّجوم ، وعتق القريب عن الكفّارة.

ويشترط أن تكون الرّقبة سليمة من كلّ عيب يضرّ بالعمل ضررا بيّنا ، حتّى لا يجوز مقطوع إحدى اليدين ، أو إحدى الرّجلين ، ولا الأعمى ، ولا الزّمن ، ولا المجنون المطبق ، ويجوز الأعور ، والأصمّ والمقطوع الأذنين ، والأنف ؛ لأنّ هذه العيوب لا تضرّ بالعمل إضرارا بيّنا وعند أبي حنيفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ كلّ عيب يفوّت جنسا من المنفعة يمنع الجواز ، حتّى جوّز مقطوع إحدى اليدين ، ولم يجوّز مقطوع إحدى الأذنين.

فصل

معنى الواجب (٢) المخيّر : هو أنّه لا يجب عليه الإتيان بكلّ واحد من هذه الثلاثة ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٢٥) عن سعيد بن المسيب بمعناه.

(٢) اعلم أن الوجوب قد يتعلق بشيء معين ؛ كالصلاة ، والحج ، وغير ذلك ، ويسمى : واجبا معينا ، وقد يتعلق بواحد مبهم من أمور معينة ، أي : بأحدها ، ويسمى : واجبا مخيرا ، ثم هذا على قسمين :

فقسم يجوز الجمع بين تلك الأمور ، وتكون أفرادها محصورة ؛ كخصال الكفارة ؛ فإن الوجوب تعلق ـ

٥٠٠