اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

إلى أنّ قوله «إلّا إله» خبر المبتدأ ، وتكون المسألة من الاستثناء المفرّغ ، كأنه قيل : ما إله إلّا إله متّصف بالواحد ، لما ظهر له منع ، لكنّي لم أرهم قالوه ، وفيه مجال للنظر.

ثم قال تعالى : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قال الزّجّاج (١) : معناه : ليمسن الذين أقاموا على هذا الدّين ؛ لأنّ كثيرا منهم تابوا عن النّصرانيّة ، فخصّ الذين كفروا لعلمه أنّ بعضهم يؤمن.

قوله : «ليمسّنّ» جواب قسم محذوف ، وجواب الشرط محذوف ؛ لدلالة هذا عليه ، والتقدير : والله ، إن لم ينتهوا ليمسّنّ ، وجاء هذا على القاعدة التي قرّرتها : وهو أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب سابقهما ما لم يسبقهما ذو خبر ، وقد يجاب الشرط مطلقا ، وقد تقدّم أيضا : أن فعل الشرط حينئذ لا يكون إلا ماضيا لفظا ومعنى لا لفظا كهذه الآية ، فإن قيل : السابق هنا الشرط ؛ إذ القسم مقدّر ، فيكون تقديره متأخّرا ، فالجواب أنه لو قصد تأخّر القسم في التقدير ، لأجيب الشرط ، فلمّا أجيب القسم ، علم أنه مقدّر التقديم ، وعبّر بعضهم عن هذا ، فقال : لام التوطئة للقسم قد تحذف ويراعى حكمها ؛ كهذه الآية ؛ إذ التقدير : (وَلَئِنْ لَمْ) كما صرّح بهذا في غير موضع ؛ كقوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) [الأحزاب : ٦٠] ؛ ونظير هذه الآية قوله : (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَ) [الأعراف : ٢٣] (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] ، وتقدّم أنّ هذا النوع من جواب القسم يجب أن يتلقّى باللام وإحدى النونين عند البصريّين ، إلّا ما استثني ، كما تقدّم ، قال الزمخشريّ : «فإنّ قلت : فهلّا قيل : ليمسّهم عذاب ، قلت : في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة ، وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر».

وقوله : «منهم» في محلّ نصب على الحال ، قال أبو البقاء (٢) : إمّا من «الّذين» ، وإمّا من ضمير الفاعل في «كفروا» ، قلت : لم يتغيّر الحكم في المعنى ؛ لأن الضمير الفاعل هو نفس الموصول ، وإنما الخلاف لفظيّ ، وقال الزمخشريّ (٣) : «من» في قوله تعالى : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) للبيان كالتي في قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] قال شهاب الدين (٤) : فعلى هذا يتعلق «منهم» بمحذوف ، فإن قلت : هو على جعله حالا متعلق أيضا بمحذوف ، قلت : الفرق بينهما أنّ جعله حالا يتعلّق بمحذوف ، ذلك المحذوف هو الحال في الحقيقة ، وعلى هذا الوجه يتعلّق بفعل مفسّر للموصول الأول ، كأنه قيل : أعني منهم ، ولا محلّ ل «أعني» ؛ لأنها جملة تفسيرية ، وقال أبو حيان (٥) : «و «من» في «منهم» للتبعيض ، أي : كائنا منهم ، والربط

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٤.

٤٦١

حاصل بالضمير ، فكأنه قيل : كافرهم ، وليسوا كلهم بقوا على الكفر». انتهى ، يعني : هذا تقدير لكونها تبعيضية ، وهو معنى كونها في محلّ نصب على الحال.

وقوله تعالى : (أَفَلا يَتُوبُونَ:) تقدّم نظيره مرارا ، وأنّ فيه رأيين : رأي الجمهور : تقديم حرف العطف على الهمزة تقديرا ، ورأي أبي القاسم : بقاؤه على حاله وحذف جملة معطوف هذا عليها ، والتقدير : أيثبتون على كفرهم ، فلا يتوبون ، والاستفهام فيه قولان :

أظهرهما : أنه للتعجب من حالهم : كيف لا يتوبون ويستغفرون من هذه المقالة الشّنعاء؟

والثاني : أنه بمعنى الأمر ، وهو رأي ابن زياد الفرّاء ؛ كأنه قال : توبوا واستغفروا من هاتين المقالتين ؛ كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١]. وكلام ابن عطيّة (١) يفهم أنه للتحضيض ، قال : «رفق جلّ وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة» ، يعني بذلك من حيث المعنى ، وإلّا ففهم التحضيض من هذا اللفظ غير مسلّم ، وكيف يعقل أنّ حرف العطف فصل بين الهمزة و «لا» المفهمة للتحضيض؟ [فإن قلت] :

هذا إنما يشكل على قولنا : إنّ «ألا» التحضيضية بسيطة غير مركّبة ، فلا يدّعى فيها الفصل بحرف العطف ، أما إذا قلنا : إنها همزة الاستفهام دخلت على «لا» النافية ، وصار معناهما التحضيض ، فلا يضرّ الفصل بحرف العطف ؛ لأنه عهد في «لا» النافية الداخل عليها همزة الاستفهام ، فالجواب : أنه لا يجوز مطلقا ؛ لأنّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدث معنى آخر ، وهو التحضيض ؛ فلا يلزم من الجواز في الأصل الجواز بعد حدوث معنى جديد.

قوله تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(٧٥)

وهذا كقوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) [آل عمران : ١٤٤]. و «قد خلت» صفة له كما في الآية الأخرى ، وتقدّم معنى الحصر أي : ما هو إلّا رسول من جنس الذين مضوا من قبله ، وليس بإله ، كما أنّ الرّسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة ، وجاء بالبيّنات من الله كما أتوا بأمثالها ، وإنّ إبراء عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى فبإذن الله على يده من الله ، كما أحيا موسى العصا ، وجعلها حيّة تسعى ، وفلق له البحر ، وضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وإن كان خلقه من غير ذكر ، فقد خلق الله ـ تعالى ـ آدم من غير ذكر ولا أنثى.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٢.

٤٦٢

وقوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) ابتداء وخبر ، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب ، و «صدّيقة» تأنيث «صدّيق» ، وهو بناء مبالغة ك «فعّال» و «فعول» ، إلا أنه لا يعمل عمل أمثلة المبالغة ، فلا يقال : «زيد شرّيب العسل» ؛ كما يقال : «شرّاب العسل» ، وإن كان القياس إعماله ، وهل هو من «صدق» الثلاثيّ ، أو من «صدّق» مضعّفا؟ القياس يقتضي الأول ، لأنّ أمثلة المبالغة تطّرد من الثلاثي دون الرباعيّ ، فإنه لم يجىء منه إلا القليل ، وقال الزمخشري (١) : «إنه من التّصديق» ، وكذا ابن عطية (٢) ، إلا أنّه جعله محتملا ، وهذا واضح لقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) [التحريم : ١٢] ، فقد صرّح بالفعل المسند إليها مضعّفا ، وعلى الأول معناه أنّها كثيرة الصّدق.

وقوله تعالى : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) لا محلّ له ؛ لأنه استئناف وبيان لكونهما كسائر البشر في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلّ جسم مولد ، والإله الحقّ سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك ، وقال بعضهم : «هو كناية عن احتياجهما إلى التّغوّط» وهو ضعيف من وجوه :

الأول : أنّه ليس كلّ من أكل أحدث ، فإنّ أهل الجنّة يأكلون ولا يحدثون.

الثاني : أنّ الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطّعام ، وهذه الحاجة من أقوى الدّلائل على أنّه ليس بإله ، فأي حاجة إلى جعله كناية عن شيء آخر؟

الثالث : أنّ الإله هو القادر على الخلق والإيجاد ، فلو كان إلها لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطّعام ، فلمّا لم يقدر على دفع الضّرر عن نفسه ، كيف يعقل أن يكون إلها للعالمين؟!

والمقصود من هذا : الاستدلال على فساد قول النّصارى ، فإنّ من كان له أمّ فقد حدث بعد أن لم يكن ، وكلّ من كان كذلك كان مخلوقا لا إلها ، وكلّ من احتاج إلى الطّعام أشدّ الحاجة لم يكن إلها ؛ لأنّ الإله هو الّذي يكون غنيّا عن جميع الأشياء ، وبالجملة فساد قول النّصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل.

قوله تعالى : (كَيْفَ) منصوب بقوله : «نبيّن» بعده ، وتقدم ما فيه في قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) [البقرة : ٢٨] وغيره ، ولا يجوز أن يكون معمولا لما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب ؛ لأنها معلّقة للفعل قبلها ، وقوله : (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كالجملة قبلها ، و «أنّى» بمعنى «كيف» ، و «يؤفكون» ناصب ل «أنّى» ويؤفكون : بمعنى يصرفون.

وفي تكرير الأمر بقوله : «انظر» «ثمّ انظر» دلالة على الاهتمام بالنظر ، وأيضا : فقد اختلف متعلّق النظرين ؛ فإنّ الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات ، وبيانها ؛ بحيث إنه لا شكّ فيها ولا ريب ، والأمر الثاني بالنّظر في كونهم صرفوا عن

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٢.

٤٦٣

تدبّرها والإيمان بها ، أو بكونهم قلبوا عمّا أريد بهم ، قال الزمخشريّ (١) : «فإن قلت : ما معنى التراخي في قوله : (ثُمَّ انْظُرْ)؟ قلت : معناه ما بين التعجّبين ، يعني : أنه بيّن لهم الآيات بيانا عجبا ، وأنّ إعراضهم عنها أعجب منه». انتهى ، يعني : أنه من باب التراخي في الرّتب ، لا في الأزمنة ، ونحوه (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] وسيأتي.

فصل في معنى الإفك

يقال : أفكه يأفكه إفكا إذا صرفه ، والإفك : الكذب ؛ لأنّه صرف عن الحقّ ، وكلّ مصروف عن الشّيء مأفوك عنه.

وقد أفكت الأرض ، إذا صرف عنها المطر.

والمعنى : كيف يصرفون عن الحقّ؟

قال أهل السّنّة (٢) : دلّت الآية على أنّهم مصروفون عن تأمّل الحقّ ، والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحقّ والصّدق إلى الباطل والجهل والكذب ، لأنّ العاقل لا يختار لنفسه ذلك ، فعلمنا أنّ الله تعالى صرفهم عن ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦)

وهذا دليل أيضا على فساد قول النّصارى وذلك من وجوه :

الأوّل : أنّ اليهود كانوا يعادون عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، ويقصدونه بالسّوء ، فما قدر على إضرارهم ، وكان له أيضا أنصار وصحابة يحبّونه ، فما قدر على إيصال نفع من منافع الدّنيا إليهم ، والعاجز عن الإضرار والنّفع كيف يعقل أن يكون إلها؟!

الثاني : أن مذهب النّصارى ـ لعنهم الله ـ : أنّ اليهود صلبوه ومزّقوا أضلاعه ، ولما عطش وطلب الماء منهم صبّوا الخلّ في منخريه ، ومن كان في الضّعف هكذا ، كيف يعقل أن يكون إلها؟!

الثالث : أنّ إله العالم يجب أن يكون غنيّا عن كل ما سواه محتاجا إليه ، فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى ؛ لأنّ الإله لا يعبد شيئا ، إنّما العبد هو الذي يعبد الإله ، فلما عرف بالتّواتر أنّه كان مواظبا على الطّاعات والعبادات ، علمنا أنّه كان يفعلها لكونه محتاجا في تحصيل المنافع ، ودفع المضارّ إلى غيره ، ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ، ودفع المضارّ عنهم؟! وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد ، وهذا هو عين الدّليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم ـ عليه‌السلام

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥٢.

٤٦٤

ـ حيث قال : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢].

قوله تعالى : (ما لا يَمْلِكُ:) يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الّذي» ، وأن تكون نكرة موصوفة ، والجملة بعدها صلة ، فلا محلّ لها ، أو صفة ، فمحلّها النصب ، وفي وقوع «ما» على العاقل هنا ؛ لأنه أريد به عيسى وأمّه وجوه :

أحدها : أنه أتي ب «ما» مرادا بها العاقل ؛ لأنها مبهمة تقع على كل شيء ، كذا قاله سيبويه (١) ، أو أريد به النوع ؛ كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] ، أي : النوع الطّيّب ، أو أريد به العاقل مع غيره ؛ لأنّ أكثر ما عبد من دون الله غير عاقل ؛ كالأصنام والأوثان والكواكب والشّجر ، أو شبهه على أول أحواله ؛ لأنه في أول حاله لا يوصف بعقل ، فكيف يتّخذ إلها معبودا؟

قوله تعالى : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) «هو» : يجوز أن يكون مبتدأ ثانيا ، و «السّميع» خبره ، و «العليم» خبر ثان أو صفة ، والجملة خبر الأوّل ، ويجوز أن يكون فصلا ، وقد عرف ما فيه ، ويجوز أن يكون بدلا ، وهذه الجملة الظاهر فيها : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «تعبدون» ، أي : أتعبدون غير الله ، والحال أن الله هو المستحقّ للعبادة ؛ لأنه يسمع كلّ شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلام الزمخشريّ ؛ فإنه قال : (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) متعلّق ب «أتعبدون» ، أي : أتشركون بالله ولا تخشونه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون؟ أتعبدون العاجز ، والله هو السميع العليم؟. انتهى ، والرابط بين الحال وصاحبها الواو ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة ؛ فإنّ السميع يسمع ما يشكى إليه من الضّرّ وطلب النفع ، ويعلم مواقعهما كيف يكونان؟

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ)(٧٨)

لما تكلّم أوّلا على أباطيل اليهود ، ثم تكلّم ثانيا على أباطيل النّصارى ، وأقام الدّلائل على بطلانها وفسادها ، فعند هذا خاطب مجموع الفريقين ، فقال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) ، أي : لا تتجاوزوا الحدّ ، والغلوّ نقيض التّقصير ، ومعناه : الخروج عن الحدّ.

قوله تعالى : (غَيْرَ الْحَقِّ:) فيه خمسة أوجه :

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٠٩.

٤٦٥

أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : لا تغلوا في دينكم غلوّا غير الحقّ ، أي : غلوّا باطلا ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره.

الثاني : أنه منصوب على الحال من ضمير الفاعل في «تغلوا» ، أي : لا تغلوا مجاوزين الحقّ ، ذكره أبو البقاء (١).

الثالث : أنه حال من «دينكم» ، أي : لا تغلوا فيه وهو باطل ، بل اغلوا فيه وهو حقّ ؛ ويؤيّد هذا ما قاله الزمخشريّ ؛ فإنه قال : «لأنّ الغلوّ في الدين غلوّان : حقّ ؛ وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتّش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيله حججه ، وغلوّ باطل ؛ وهو أن يتجاوز الحقّ ويتخطّاه بالإعراض عن الأدلّة».

الرابع : أنه منصوب على الاستثناء المتّصل.

الخامس : على الاستثناء المنقطع ، ذكر هذين الوجهين أبو حيان (٢) عن غيره ، واستبعدهما ؛ فإنه قال : «وأبعد من ذهب إلى أنها استثناء متّصل ، ومن ذهب إلى أنها استثناء منقطع ، ويقدّره ب «لكن الحق فاتبعوه» قال شهاب الدين (٣) : والمستثنى منه يعسر تعيينه ، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى : (فِي دِينِكُمْ) ؛ كأنه قيل : لا تغلوا في دينكم إلا الدّين الحقّ ، فإنه يجوز لكم الغلوّ فيه ، ومعنى الغلوّ فيه ما تقدّم من تقرير الزمخشريّ له.

وذكر الواحديّ فيه الحال والاستثناء ، فقال : وانتصاب (غَيْرَ الْحَقِّ) من وجهين :

أحدهما : الحال والقطع من الدّين ؛ كأنه قيل : لا تغلوا في دينكم مخالفين للحقّ ؛ لأنهم خالفوا الحقّ في دينهم ، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه.

والثاني : أن يكون منصوبا على الاستثناء ، فيكون «الحقّ» مستثنى من المنهيّ عن الغلوّ فيه ؛ بأن يجوز الغلوّ فيما هو حقّ على معنى اتباعه والثبات عليه ، وهذا نصّ كما ذكرنا من أنّ المستثنى هو «دينكم».

وتقدّم معنى الغلوّ في سورة النساء [الآية ١٧١] فظاهر هذه الأعاريب المتقدّمة : أنّ «تغلوا» فعل لازم ، وكذا نصّ عليه أبو البقاء (٤) ، إلا أن أهل اللغة يفسّرونه بمعنى متعدّ ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجاوزوا الحدّ ، قال الراغب (٥) : الغلوّ تجاوز الحدّ ، يقال ذلك إذا كان في السّعر «غلاء» ، وإذا كان في القدر والمنزلة «غلوّا» ، وفي السهم «غلوا» ، وأفعالها جميعا غلا يغلو ؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب (غَيْرَ الْحَقِّ) مفعولا به ، أي : لا تتجاوزوا في دينكم غير الحقّ ، فإن فسّرنا «تغلوا» بمعنى تتباعدوا من قولهم : «غلا السّهم» ، أي : تباعد كان قاصرا ، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازم ، أخذه من هذا لا من الأوّل.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٧.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٦.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٥) ينظر : المفردات ٣٧٧.

٤٦٦

فصل في معنى الآية

قال بعض المفسّرين (١) : معنى قوله (غَيْرَ الْحَقِّ) أي : في دينكم المخالف للحقّ ؛ لأنّهم خالفوا الحقّ في دينهم ، ثمّ غلوا فيه بالإصرار عليه.

وقال ابن الخطيب (٢) : معنى الغلّو الباطل : أن تتكلّف الشّبه وإخفاء الدّلائل ، وذلك الغلوّ أنّ اليهود ـ لعنهم الله ـ نسبوا سيّدنا عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الزّنا وإلى أنّه كذّاب والنّصارى ـ لعنهم الله ـ ادّعوا فيه الإلهيّة.

قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) الآية.

الأهواء : جمع الهوى ، وهو ما تدعو إليه شهوة النّفس.

والمراد هاهنا : المذاهب الّتي تدعو إليها الشّهوة دون الحجّة.

قال الشّعبيّ (٣) : ما ذكر الله بلفظ الهوى في القرآن إلّا ذمّه.

قال تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦] ، (وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) [طه : ١٦] ، (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] ، (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣].

قال أبو عبيد (٤) : لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشّرّ ، لا يقال : فلان يهوى الخير ، إنما يقال : يريد الخير ويحبّه.

وقال بعضهم (٥) : الهوى إله يعبدونه من دون الله.

وقيل : سمّي الهوى هوى ؛ لأنّه يهوي بصاحبه في النّار وأنشدوا في ذمّ الهوى قوله : [الكامل]

٢٠٢٩ ـ إنّ الهوى لهو الهوان بعينه

فإذا هويت فقد لقيت هوانا (٦)

وقال رجل لابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال ابن عبّاس : «كلّ هوى ضلالة» (٧).

قوله تعالى : (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) في نصب «كثيرا» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ، وعلى هذا أكثر المتأوّلين ؛ فإنهم يفسّرونه بمعنى : وأضلّوا كثيرا منهم أو من المنافقين.

والثاني : أنه منصوب على المصدرية ، أي : نعت لمصدر محذوف ، أي : إضلالا كثيرا ، وعلى هذا ، فالمفعول محذوف ، أي : أضلّوا غيرهم إضلالا كثيرا.

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٥٥.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٥٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٥٣.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) البيت في الرازي الموضع السابق.

(٧) ذكره الفخر الرازي في «تفسيره» (١٢ / ٥٣) عن ابن عباس.

٤٦٧

فصل

اعلم أنّه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضّلال ، فبيّن أنّهم كانوا ضالّين من قبل.

والمراد رؤساء الضّلالة من فريقي اليهود والنّصارى لما تبيّن ، والخطاب للّذين في عصر النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، نهوا عن اتّباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ، فتبيّن أنهم كانوا مضلّين لغيرهم ، ثم ذكروا أنّهم استمرّوا على تلك الحالة ، حتى أنّهم الآن ضالّون كما كانوا ، ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله تعالى ، والقرب من عقاب الله من هذه الحالة ـ نعوذ بالله منها ـ.

ويحتمل أن يكون المراد أنّهم ضلّوا وأضلّوا ، ثمّ ضلّوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنّه إرشاد إلى الحقّ ، ولمّا خاطبهم بهذا الخطاب وصف أسلافهم ، فقال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ).

قال أكثر المفسّرين (١) : يعني أهل «أيلة» لمّا اعتدوا في السّبت قال داود : «اللهمّ العنهم واجعلهم آية» فمسخوا قردة ، وأصحاب المائدة لما أكلوا من المائدة ، ولم يؤمنوا ، قال عيسى ـ عليه‌السلام ـ : اللهمّ العنهم كما لعنت أصحاب السّبت ، فأصبحوا وقد مسخوا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبيّ.

قال بعض العلماء (٢) : إنّ اليهود كانوا يفتخرون بأنّهم من أولاد الأنبياء ، فذكر الله هذه الآية ؛ لتدلّ على أنّهم ملعونين على ألسنة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.

وقيل : إنّ داود وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ بشّرا بمحمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، ولعنا من يكذّبه وهو قول الأصمّ (٣).

قوله تعالى : (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) : في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها : إمّا «الّذين» وإمّا واو «كفروا» وهما بمعنى واحد ، وقوله : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى) المراد باللسان الجارحة ، لا اللغة ، كذا قال أبو حيان (٤) ، يعني : أنّ الناطق بلعن هؤلاء لسان هذين النبيين ، وجاء قوله (عَلى لِسانِ) بالإفراد دون التثنية والجمع ، فلم يقل : «على لساني» ولا «على ألسنة» لقاعدة كلية ، وهي : أن كلّ جزأين مفردين من صاحبيهما ، إذا أضيفا إلى كليهما من غير تفريق ، جاز فيهما ثلاثة أوجه : لفظ الجمع ـ وهو المختار ـ ، ويليه التثنية عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفراد مقدّم على التثنية ، فيقال : «قطعت رءوس الكبشين» ، وإن شئت : رأسي الكبشين ، وإن شئت : رأس الكبشين ، ومنه : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم :٤].

فقولي «جزأين» : تحرّز من شيئين ليسا بجزأين ؛ نحو : «درهميكما» ، وقد جاء :

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٥٤.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٨.

٤٦٨

«من بيوتكما وعمائمكما وأسيافكما» لأمن اللّبس.

وبقولي : «مفردين» : من نحو : «العينين واليدين» ، فأمّا قوله تعالى : (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ، ففهم بالإجماع.

وبقولي : «من غير تفريق» : تحرّز من نحو : قطعت رأس الكبشين : السّمين والكبش الهزيل ؛ ومنه هذه الآية ، فلا يجوز إلا الإفراد ، وقال بعضهم : «هو مختار» ، أي : فيجوز غيره ، وقد مضى تحقيق هذه القاعدة.

قال شهاب الدين (١) : وفي النفس من كون المراد باللسان الجارحة شيء ، ويؤيّد ذلك ما قاله الزمخشريّ (٢) ؛ فإنه قال : «نزّل الله لعنهم في الزّبور على لسان داود ، وفي الإنجيل على لسان عيسى» ، وقوة هذا تأبى كونه الجارحة ، ثم إنّي رأيت الواحديّ ذكر عن المفسّرين قولين ، ورجّح ما قلته ؛ قال ـ رحمه‌الله ـ : «وقال ابن عبّاس : يريد في الزّبور وفي الإنجيل ، ومعنى هذا : أنّ الله تعالى لعن في الزّبور من يكفر من بني إسرائيل ، وكذلك في الإنجيل ، وقيل : على لسان داود وعيسى ؛ لأنّ الزبور لسان داود ، والإنجيل لسان عيسى» ، فهذا نصّ في أن المراد باللسان غير الجارحة ، ثم قال : «وقال الزّجّاج (٣) : «وجائز أن يكون داود وعيسى علما أنّ محمّدا نبيّ مبعوث ، وأنهما لعنا من يكفر به» ، والقول هو الأوّل ، فتجويز الزجّاج لذلك ظاهر أنه يراد باللسان الجارحة ، ولكن ليس قولا للمفسّرين ، و «على لسان» متعلّق ب «لعن» قال أبو البقاء (٤) : «كما يقال : جاء زيد على فرس» ، وفيه نظر ؛ إذ الظاهر أنه حال ، وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا) قد تقدّم نظيره ، وقوله : (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) في هذه الجملة الناقصة وجهان:

أظهرهما : أن تكون عطفا على صلة «ما» وهو «عصوا» ، أي : ذلك بسبب عصيانهم وكونهم معتدين.

والثاني : أنها استئنافية ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك ، قال أبو حيان (٥) : «ويقوّي هذا ما جاء بعده كالشّرح له ، وهو قوله : كانوا لا يتناهون».

قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١)

قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ) التّناهي هاهنا له معنيان :

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٧.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٦.

(٣) ينظر : معاني القرآن ٢ / ٢١٨.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٨.

٤٦٩

أحدهما : الذي عليه الجمهور أنّه تفاعل من النّهي أي : كان لا ينهى بعضهم بعضا.

روى ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ قال : «كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل بالخطيئة نهاه النّاهي تعذيرا ، فإذا كان من الغد جاء له وواكله وشاربه ، كأنّه لم يره على الخطيئة بالأمس ، فلمّا كان ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ، وجعل منهم القردة والخنازير ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد السّفيه ولتأطرنّه على الحقّ أطرا أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم» (١).

المعنى الثاني : التّناهي بمعنى الانتهاء ، يقال : انتهى الأمر ، وتناهى عنه إذا كفّ عنه.

وقوله تعالى : (عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) : متعلّق ب «يتناهون» و «فعلوه» صفة ل «منكر» ، قال الزمخشريّ (٢) : «ما معنى وصف المنكر ب «فعلوه» ، ولا يكون النّهي بعد الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيّأ ، ويجوز أن يراد : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصرّون عليه ويداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه ، إذا امتنع منه».

وقوله تعالى : «لبئسما» : و «بئسما قدّمت» قد تقدّم إعراب نظير ذلك [الآية ٩ في البقرة] ؛ فلا حاجة إلى إعادته ، وهنا زيادة أخرى ؛ لخصوص التركيب يأتي الكلام عليها.

قوله تعالى : (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) قيل : من اليهود كعب بن الأشرف ، (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) مشركي مكّة حين خرجوا إليهم يجيشون على النّبي ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ.

وقال ابن عبّاس والحسن ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ : «منهم» يعني المنافقين يقولون لليهود : «لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم» (٣) ، بئس ما قدّموا من العمل لمعادهم في الآخرة.

قوله تعالى : (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) في محلّه أوجه :

أحدها : أنه مرفوع على البدل من المخصوص بالذمّ ، والمخصوص قد حذف ، وأقيمت صفته مقامه ، فإنك تعرب «ما» اسما تامّا معرفة في محلّ رفع بالفاعلية بفعل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٥٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٣٣) وزاد لنسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود مرفوعا.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٧.

(٣) انظر تفسير القرطبي (٦ / ١٦٠).

٤٧٠

الذمّ ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، و (قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) جملة في محلّ رفع صفة له ، والتقدير : لبئس الشيء شيء قدّمته لهم أنفسهم ، ف (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بدل من «شيء» المحذوف ، وهذا هو مذهب سيبويه (١) ؛ كما تقدّم تقريره.

الثاني : أنه هو المخصوص بالذمّ ، فيكون فيه الثلاثة أوجه المشهورة :

أحدها : أنه مبتدأ ، والجملة قبله خبره ، والرابط على هذا العموم عند من يجعل ذلك ، أو لا يحتاج إلى رابط ؛ لأن الجملة عين المبتدأ.

الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ؛ لأنك لمّا قلت : «بئس الرّجل» قيل لك : من هو؟ فقلت : فلان ، أي : هو فلان.

الثالث : أنه مبتدأ ، خبره محذوف ، وقد تقدّم تحرير ذلك ، وإلى كونه مخصوصا بالذمّ ذهب جماعة كالزمخشريّ ، ولم يذكر غيره ، قال : (أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو المخصوص بالذمّ ؛ كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله تعالى عليهم ، والمعنى : موجب سخط الله» ، قال شهاب الدين (٢) : وفي تقدير هذا المضاف من المحاسن ما لا يخفى على متأمّله ؛ فإنّ نفس السّخط المضاف إلى الباري تعالى لا يقال هو المخصوص بالذمّ ، إنما المخصوص بالذمّ أسبابه ، وذهب إليه أيضا الواحديّ ومكي (٣) وأبو البقاء (٤) ، إلّا أنّ أبا حيان (٥) بعد أن حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريّ قال : «ولم يصحّ هذا الإعراب إلا على مذهب الفرّاء والفارسيّ في جعل «ما» موصولة ، أو على مذهب من يجعل «ما» تمييزا ، و «قدّمت لهم» صفتها ، وأمّا على مذهب سيبويه ، فلا يتأتّى ذلك» ثم ذكر مذهب سيبويه.

والوجه الثالث من أوجه «أن سخط» : أنه في محلّ رفع على البدل من «ما» ، وإلى ذلك ذهب مكي (٦) وابن عطية (٧) ، إلا أن مكّيّا حكاه عن غيره ، قال : «وقيل : في موضع رفع على البدل من «ما» في «لبئس» على أنها معرفة» ، قال أبو حيان (٨) ـ بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيّة ـ : «ولا يصحّ هذا ، سواء كانت «ما» تامّة أو موصولة ؛ لأنّ البدل يحلّ محلّ المبدل منه ، و «أن سخط» لا يجوز أن يكون فاعلا ل «بئس» ؛ لأنّ فاعل «بئس» لا يكون أن والفعل» وهو إيراد واضح كما قاله.

الوجه الرابع : أنه في محلّ نصب على البدل من «ما» ، إذا قيل بأنها تمييز ، ذكر ذلك مكي (٩) وأبو البقاء (١٠) ، وهذا لا يجوز ألبتة ؛ وذلك لأنّ شرط التمييز عند البصريين

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٧٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٨.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٩.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٢.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٥.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٩.

(٩) ينظر : المشكل ١ / ٢٤٢.

(١٠) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

٤٧١

أن يكون نكرة ، و «أن» وما في حيّزها عندهم من قبيل أعرف المعارف ؛ لأنّها تشبه المضمر ، وقد تقدم تقرير ذلك ، فكيف يقع تمييزا ؛ لأنّ البدل يحلّ محلّ المبدل منه؟ وعند الكوفيين أيضا لا يجوز ذلك ؛ لأنّهم لا يجيزون التمييز بكلّ المبدل منه ؛ وعند الكوفيين أيضا لا يجوز ذلك ؛ لأنّهم لا يجيزون التمييز بكلّ معرفة خصوصا أن والفعل.

الخامس : أنه في محلّ نصب على البدل من الضمير المنصوب ب «قدّمت» العائد على «ما» الموصولة أو الموصوفة ؛ على حسب ما تقدّم ، والتقدير : قدّمته سخط الله ؛ كقولك : «الذي رأيت زيدا أخوك» وفي هذا بحث يذكر في موضعه.

السادس : أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض ؛ إذ التقدير : لأن سخط ، وهذا جار على مذهب سيبويه (١) والفراء (٢) ؛ لأنهما يزعمان أنّ محل «أن» بعد حذف الخافض في محلّ نصب.

السابع : أنه في محلّ جرّ بذلك الخافض المقدّر ، وهذا جار على مذهب الخليل والكسائيّ ؛ لأنهما يزعمان أنّها في محل جرّ ، وقد تقدّم تحقيق ذلك غير مرّة ، وعلى هذا ، فالمخصوص بالذمّ محذوف ، أي : لبئسما قدّمت لهم أنفسهم عملهم أو صنعهم ، ولام العلّة المقدّرة معلّقة إمّا بجملة الذمّ ، أي : سبب ذمّهم سخط الله عليهم ، أو بمحذوف بعده ، أي : لأن سخط الله عليهم كان كيت وكيت.

و «ترى» يجوز أن تكون من رؤية البصر ، ويكون الكثير المعاصرين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن تكون العلميّة ، والكثير على هذا أسلافهم ، فمعنى «ترى» : تعلم أخبارهم وقصصهم بإخبارنا إيّاك ، فعلى الأوّل يكون قوله «يتولّون» في محلّ نصب على الحال ، وعلى الثّاني يكون في محلّ نصب على المفعول الثاني.

قوله تعالى : (وَلَوْ كانُوأ :) الظاهر أنّ اسم «كان» وفاعل «اتّخذوهم» عائد على «كثيرا» من قوله : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ) ، والضمير المنصوب في «اتّخذوهم» يعود على (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله : (يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

والمعنى : لو كانوا يؤمنون بالله ، والنّبيّ ، وهو موسى عليه الصلاة والسلام ، وما أنزل إليه ما اتّخذوا المشركين أولياء ؛ لأنّ تحريم ذلك متأكد في التّوراة ، وفي شرع موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا فعلوا ذلك ، ظهر أنّه ليس مرادهم تقرير دين موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بل مرادهم الرّياسة والجاه ، ويسعون في تحصيله بأيّ طريق قدروا عليه ، وبهذا وصفهم الله بالفسق ، فقال تعالى : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

وأجاز القفّال أن يكون اسم «كان» يعود على (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وكذلك الضمير المنصوب في «اتّخذوهم» ، والضمير المرفوع في «اتّخذوهم» يعود على اليهود ، والمراد

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١٧١.

(٢) ينظر : معاني القرآن ١ / ١٤٨ ، ٢ / ٢٣٨.

٤٧٢

بالنبيّ [محمد] صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتقدير : ولو كان الكافرون المتولّون مؤمنين بمحمّد والقرآن ، ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء ، والأول أولى ؛ لأن الحديث عن كثير ، لا عن المتولّين ، وجاء جواب «لو» هنا على الأفصح ، وهو عدم دخول اللام عليه ؛ لكونه منفيّا ؛ ومثله قول الآخر : [البسيط]

٢٠٣٠ ـ لو أنّ بالعلم تعطى ما تعيش به

لما ظفرت من الدّنيا بثفروق (١)

وقوله تعالى : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) هذا الاستدراك واضح بما تقدّم ، وقوله تعالى : (كَثِيراً) هو من إقامة الظاهر مقام المضمر ؛ لأنه عبارة عن (كَثِيراً مِنْهُمْ) المتقدّم ؛ فكأنه قيل : ترى كثيرا منهم ، ولكنّ ذلك الكثير ، ولا يريد : ولكنّ كثيرا من ذلك الكثير فاسقون.

قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٨٦)

لما ذكر عداوة اليهود للمسلمين ، فلذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدّة العداوة ، بل نبّة على أنّهم أشدّ في العداوة من المشركين ، لكونه ـ تعالى ـ قدّم ذكرهم على ذكر المشركين.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما خلا يهوديان بمسلم إلّا همّا بقتله» (٢) ، وذكر تعالى أنّ النّصارى ألين عريكة من اليهود ، وأقرب إلى المسلمين منهم ، والمقصود من بيان هذا التّفاوت تخفيف أمر اليهود على الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ و «اللّام» في قوله : «لتجدنّ» هي لام القسم.

__________________

(١) ينظر : البحر ٣ / ٥٥٠ والدر المصون ٢ / ٥٨٩.

(٢) رواه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في «الضعفاء» عن أبي هريرة مرفوعا وفي رواية ابن حبان يهودي ، وهم بالإفراد ، وأخرجه الديلمي بلفظ : ما خلا قط يهودي بمسلم إلّا حدث نفسه بقتله ، وقد أطال الكلام عليه السخاوي في بعض الحوادث ، فأقول : ويؤيد ذلك ما ذكره شيخنا المرحوم يونس المصري أنه كان يقرأ على يهوديّ يوما في المنطق ، فقال له وقد انفرد به : لا تأتني إلّا ومعك سكين أو نحوها ؛ لأن اليهودي إذا خلا بمسلم ولم يكن معه سلاح ، لزمه التعرض لقتله ، وقال النجم : واشتهر في كلام الناس : أنه ما خلا قط رافضي بسني إلّا حدثته نفسه بقتله ، وهي من الخصال التي شاركت الرافضة فيها اليهود.

٤٧٣

وقد تقدّم إعراب هذا في نحو قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة: ٩٦] ، فأغنى عن إعادته وقال ابن عطيّة (١) : «اللام للابتداء» ، وليس بشيء ، بل هي لام يتلقّى بها القسم ، و (أَشَدَّ النَّاسِ) مفعول أوّل ، و «عداوة» نصب على التمييز ، و «للّذين» متعلّق بها ، قويت باللام ؛ لمّا كانت فرعا في العمل على الفعل ، ولا يضرّ كونها مؤنثة بالتاء ؛ لأنها مبنية عليها ؛ فهي كقوله : [الطويل]

٢٠٣١ ـ ... ورهبة

عقابك ... (٢)

ويجوز أن يكون «للّذين» صفة ل «عداوة» فيتعلّق بمحذوف ، و «اليهود» مفعول ثان ، وقال أبو البقاء (٣) : «ويجوز أن يكون «اليهود» هو الأول ، و «أشدّ» هو الثاني» وهذا هو الظاهر ؛ إذ المقصود أن يخبر الله تعالى عن اليهود والمشركين بأنّهم أشدّ الناس عداوة للمؤمنين ، وعن النصارى بأنهم أقرب الناس مودّة لهم ، وليس المراد أن يخبر عن أشدّ الناس وأقربهم بكونهم من اليهود والنصارى ، فإن قيل : متى استويا تعريفا وتنكيرا ، وجب تقديم المفعول الأول وتأخير الثاني ؛ كما يجب في المبتدأ والخبر ، وهذا من ذاك ، فالجواب : أنه إنما يجب ذلك حيث ألبس ، أما إذا دلّ دليل على ذلك ، جاز التقديم والتأخير ؛ ومنه قول : [الطويل]

٢٠٣٢ ـ بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرّجال الأباعد (٤)

ف «بنو أبناء» هو المبتدأ ، و «بنونا» خبره ؛ لأنّ المعنى على تشبيه أولاد الأبناء بالأبناء (٥) ؛ ومثله قول الآخر : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٥.

(٢) تقدم.

(٣) ذكر في الإملاء ١ / ٢٢٣ أن اليهود : هو المفعول الثاني لتجد.

(٤) البيت للفرزدق ينظر : خزانة الأدب ١ / ٤٤٤ ، الانصاف ١ / ٦٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٨ ، شرح المفصل ١ / ٩٩ ، شرح الأشموني ١ / ٩٩ ، شرح ابن عقيل ١١٩ ، الدرر ٢ / ٢٤ ، الحيوان ١ / ٣٤٦ ، أوضح المسالك ١ / ١٠٦ ، مغني اللبيب ٢ / ٤٥٢ ، همع الهوامع ١ / ١٠٢ ، تخليص الشواهد ١٩٨ ، دلائل الإعجاز ٢٤٠ ، ارتشاف الضرب ٢ / ٤١ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٠.

(٥) الأصل تقديم المبتدأ وتأخير الخبر ؛ لأن المبتدأ محكوم عليه ، فلا بد من تقديمه ليتحقق ، ويجوز تأخيره حيث لا مانع نحو : قائم زيد ، ويجب التزام الأصل ، لأسباب أحدها : أن يوهم التقديم ابتدائية الخبر ، بأن يكونا معرفتين أو نكرتين متساويتين ، ولا قرينة ، نحو : زيد أخوك ، وأفضل منك أفضل مني ، فإن كان قرينة ، جاز التقديم ، نحو : أبو يوسف أبو حنيفة ، وقوله بنونا بنو أبنائنا ؛ حيث قدم الخبر وهو «بنونا» على المبتدأ وهو «بنو أبنائنا» مع استواء المبتدأ والخبر في التعريف ، فإن كلّا منهما مضاف إلى ضمير المتكلم ، وإنما ساغ ذلك ؛ لوجود قرينة معنوية تعين المبتدأ منهما ، فإنك قد عرفت أن الخبر هو محط الفائدة ؛ فما يكون فيه أساس التشبيه ، وهو الذي تذكر الجملة لأجله فهو الخبر ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يكون بنونا هو المبتدأ لأنه يلزم فيه إلّا يكون له بنون إلّا بني أبنائه ، وليس المعنى على ذلك ، فجاز تقديم الخبر هنا مع كونه معرفة ، لظهور المعنى وأمن اللبس. ـ

٤٧٤

٢٠٣٣ ـ قبيلة الأم الأحياء أكرمها

وأغدر النّاس بالجيران وافيها (١)

«أكرمها» هو المبتدأ ، و «الأم الأحياء» خبره ، وكذا «وافيها» مبتدأ و «أغدر النّاس» خبره ، والمعنى على هذا ، والآية من هذا القبيل فيما ذكرنا وقوله : (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على اليهود ، والكلام على الجملة الثانية كالكلام على ما قبلها.

فصل

تقدير الكلام قسما : إنّك تجد اليهود والمشركين أشدّ عداوة مع المؤمنين ، وقد شرحت لك أنّ هذا التّمرّد والمعصية عادة قديمة ، ففرّغ خاطرك عنهم ، ولا تبال بمكرهم وكيدهم (٢).

وقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى).

قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسّدّيّ ـ رضي الله عنهم ـ المراد به : النّجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة ، وآمنوا به ، ولم يرد جميع النّصارى ؛ لأنّهم في عداوتهم للمسلمين ، كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم ، وتخريب بلادهم ، وهدم

__________________

ـ واعترض ابن هشام على ابن الناظم استشهاده بهذا البيت : قد يقال إن هذا البيت لا تقديم فيه ولا تأخير ، وأنه جاء على التشبيه المقلوب ، كقول ذي الرمة : رمل كأوراك العذارى قطعنه.

فكان ينبغي أن يستشهد بما أنشده في «شرح التسهيل» من قول حسان بن ثابت :

قبيلة ألأم الأحياء أكرمها

وأغدر الناس بالجيران وافيها

إذ المراد الإخبار عن أكرمها بأنه ألأم الأحياء ، وعن وافيها بأنه أغدر الناس لا العكس.

ويجاب عنه من وجهين : أحدهما : أن التشبيه المقلوب من الأمور النادرة ، والحمل على ما يندر وقوعه لمجرد الاحتمال مما لا يجوز أن يصار إليه ، وإلا فإن كل كلام يمكن تطرق احتمالات بعيدة إليه ، فلا تكون ثمة طمأنينة على إفادة غرض المتكلم بالعبارة. وثانيهما : أن ما ذكره في بيت حسان من أن الغرض الإخبار عن أكرم هذه القبيلة بأنه ألأم الأحياء ، وعن أوفى هذه القبيلة بأنه أغدر الأحياء ، هذا نفسه يجري في بيت الشاهد ، فيقال : إن غرض المتكلم الإخبار عن أبناء أبنائهم ؛ بأنهم يشبهون أبناءهم وليس الغرض أن يخبر عن بنيهم بأنهم يشبهون بني أبنائهم ، فلما صحّ أن يكون غرض المتكلم معينا للمبتدأ ، صحّ الاستشهاد ببيت الشاهد.

ومنهم من أجاز التقديم مطلقا ، ولم يلتفت إلى إبهام الانعكاس ، وقال : الفائدة تحصل للمخاطب سواء قدم الخبر أم أخر ، وقد أجاز ابن السيد في قوله : «شر النساء البحاتر» ، أن يكون شر النساء مبتدأ و «البحاتر» خبره ، وعكسه ؛ ومنهم من منع التقديم مطلقا ، ولم يفصل بين ما دل عليه المعنى وغيره ، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز تقديم خبر المبتدأ عليه ، وذهب البصريون إلى جواز التقديم ، واستدلوا بقول الشاعر : بنونا بنو أبنائنا. ينظر المصادر السابقة.

(١) البيت لحسان بن ثابت. ينظر : ديوانه (٢١٦) ، الهمع ١ / ١٠٢ ، الدرر ١ / ٧٦ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٥ / ٤) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٣٧) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وذكره البغوي ٢ / ٥٦.

٤٧٥

مساجدهم ، وإحراق مصاحفهم ، ولا كرامة لهم ، بل الآية فيمن أسلم منهم.

وقال آخرون (١) : مذهب اليهود الفاسد ، أنّه يجب إيصال الشّرّ إلى من يخالفهم في الدّين بأيّ طريق كان ، فإن قدروا على القتل فذلك ، وإلّا فنهب المال والسّرقة ، أو بنوع من المكر والكيد والحيلة ، وأمّا النّصارى فليس مذهبهم ذلك ، بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا وجه التّفاوت ، ثمّ ذكر ـ سبحانه ـ سبب التّفاوت ، فقال (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً).

فإن قيل : لم أسند تسمية النّصارى إليهم ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ؛ ولمّا ذكر اليهود سمّاهم بقوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) ولم يسند التّسمية إليهم.

فالجواب : لأنّ تسميتهم باليهود إن كانت لكونهم من أولاد يهوذا بن يعقوب فهي تسمية حقيقة أيضا ، وإن كانت من التّحرّك في دراستهم ، فكذلك أيضا ، والنّصارى فهم الذين سمّوا أنفسهم حين قال لهم عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) [الصف : ١٤] ، فلذلك أسند التّسمية إليهم ، وإن كانوا إنّما سمّوا نصارى ؛ لأنّهم كانوا يسكنون قرية يقال لها : «ناصرة» ، فكلّهم لم يكونوا ساكنين فيها ، بل بعضهم أو أكثرهم ، فالحقيقة لم توجد فيهم.

وقد تقدّم الكلام في تسميتهم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [الآية : ٦٢] في البقرة.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ) مبتدأ وخبر ، وتقدم تقريره ، و «منهم» خبر «أنّ» ، و «قسّيسين» اسمها ، وأن واسمها وخبرها في محلّ جرّ بالباء ، والباء ومجرورها ههنا خبر «ذلك» ، والقسّيسين جمع «قسّيس» على فعّيل ، وهو مثال مبالغة ك «صدّيق» ، وقد تقدّم ، وهو هنا رئيس النصارى وعابدهم ، وأصله من تقسّس الشّيء ، إذا تتّبعه وطلبه باللّيل ، يقال : «تقسست أصواتهم» ، أي : تتبّعتها باللّيل ، ويقال لرئيس النصارى : قسّ وقسّيس ، وللدليل بالليل : قسقاس وقسقس ، قاله الراغب (٢) ، وقال غيره : القسّ بفتح القاف تتبّع الشيء ، ومنه سمّي عالم النصارى ؛ لتتبّعه العلم ، قال رؤبة بن العجّاج : [الرجز]

٢٠٣٤ ـ أصبحن عن قسّ الأذى غوافلا

يمشين هونا خردا بهاللا (٣)

ويقال : قسّ الأثر وقصّه بالصّاد أيضا ، ويقال : قسّ وقسّ بفتح القاف وكسرها ، وقسّيس ، وزعم ابن عطية أنه أعجميّ معرّب ، وقال الواحديّ : «وقد تكلّمت العرب

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ٥٦.

(٢) ينظر : المفردات (٤١٨).

(٣) ينظر : ديوانه ٢ / ١٢١ البحر المحيط ٤ / ٤ الدر المصون ٢ / ٥٩٠ ، اللسان (قسس) ، برواية :

يمسين من قسّ الأذى غوافلا

لا جعبريات ولا طهاملا

٤٧٦

بالقسّ والقسّيس» وأنشد المازنيّ : [الرجز]

٢٠٣٥ ـ لو عرفت لأيبليّ قسّ

أشعث في هيكله مندسّ

حنّ إليها كحنين الطّسّ (١)

وأنشد لأمية بن أبي الصّلت : [البسيط]

٢٠٣٦ ـ لو كان منفلت كانت قساوسة

يحييهم الله في أيديهم الزّبر (٢)

هذا كلام أهل اللغة في القسّيس ، ثم قال : «وقال عروة بن الزّبير : ضيّعت النصارى الإنجيل وما فيه ، وبقي منهم رجل يقال له قسّيس» يعني : بقي على دينه لم يبدّله ، فمن بقي على هديه ودينه ومذهبه ، قيل له : «قسّيس» (٣) ، وقال قطرب : القسّ والقسّيس : العالم بلغة الرّوم ؛ قال ورقة : [الوافر]

٢٠٣٧ أ ـ بما خبّرتنا من قول قسّ

من الرّهبان أكره أن يبوحا (٤)

فعلى هذا : القسّ والقسّيس مما اتفق فيه اللغتان ، قلت : وهذا يقوّي قول ابن عطيّة ، ولم ينقل أهل اللغة في هذا اللفظ «القسّ» بضم القاف ، لا مصدرا ولا وصفا ، فأما قسّ بن ساعدة الإياديّ ، فهو علم ، فيجوز أن يكون ممّا غيّر بطريق العلمية ، ويكون أصله «قسّ» أو «قسّ» بالفتح أو الكسر ؛ كما نقله ابن عطية ، وقسّ بن ساعدة كان أعلم أهل زمانه ، وهو الذي قال فيه عليه‌السلام : «يبعث أمّة وحده» ، وأمّا جمع قسّيس ، فجمع تصحيح ؛ كما في الآية الكريمة ، قال الفراء : «ولو جمع «قسوسا» ، كان صوابا ؛ لأنهما في معنى واحد» ، يعني : قسّا» و «قسّيسا» ، قال : ويجمع القسّيس على «قساوسة» جمعوه على مثال المهالبة ، والأصل : قساسسة ، فكثرت السّينات فأبدلت إحداهنّ واوا ، وأنشدوا لأميّة : [البسيط]

٢٠٣٧ ب ـ لو كان منفلت كانت قساوسة

 ................. (٥)

قال الواحديّ : «والقسوسة مصدر القسّ والقسّيس» ، قلت : كأنه جعل هذا المصدر

__________________

(١) الأبيات للعجاج ينظر : ملحق ديوانه ٢ / ٢٩٥ ، اللسان (قسس) الدر المصون ٢ / ٥٩١.

(٢) ويروى البيت :

لو كان منفلت كانت قساقسة

حيث ورد فيه الحمعان : قساوسة وقساقسة. ينظر : ديوانه ٣٣ ، البحر ٤١٤. اللسان : قسس ، الدر المصون ٢ / ٥٩١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٦٦) عن عروة بن الزبير.

(٤) ينظر : السيرة ١ / ١٩٢. الدر المصون ٢ / ٥٩١.

(٥) تقدم قريبا.

٤٧٧

مشتقّا من هذا الاسم ؛ كالأبوّة والأخوّة والفتوّة من لفظ أب وأخ وفتى ، وتقدم أن القسّ بالفتح في الأصل هو المصدر ، وأنّ العالم سمّي به مبالغة ، قال شهاب الدين : ولا أدري ما حمل من قال: إنه معرّب مع وجود معناه في لغة العرب كما تقدم؟.

والرّهبان : جمع راهب ؛ كراكب وركبان ، وفارس وفرسان ، وقال أبو الهيثم : «إنّ رهبانا يكون واحدا ويكون جمعا» ؛ وأنشد على كونه مفردا قول الشاعر : [الرجز]

٢٠٣٨ ـ لو عاينت رهبان دير في القلل

لأقبل الرّهبان يعدو ونزل (١)

ولو كان جمعا ، لقال : «يعدون» و «نزلوا» بضمير الجمع ، وهذا لا حجّة فيه ؛ لأنه قد عاد ضمير المفرد على الجمع الصريح ؛ لتأوّله بواحد ؛ كقوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [النحل : ٦٦] ، فالهاء في «بطونه» تعود على الأنعام ؛ وقال : [الرجز]

٢٠٣٩ ـ وطاب ألبان اللّقاح وبرد (٢)

في «برد» ضمير يعود على «ألبان» ، وقالوا : «هو أحسن الفتيان وأجمله» ؛ وقال الآخر : [الرجز]

٢٠٤٠ ـ لو أنّ قومي حين أدعوهم حمل

على الجبال الشّمّ لانهدّ الجبل (٣)

إلى غير ذلك ممّا يطول ذكره ، ومن مجيئه جمعا الآية ، ولم يرد في القرآن الكريم إلا جمعا ؛ وقال كثير : [الكامل]

٢٠٤١ ـ رهبان مدين والّذين عهدتهم

يبكون من حذر العقاب قعودا

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا (٤)

قيل : ولا حجّة فيه ؛ لأنه قال : «والّذين» فيحتمل أنّ الضمير إنما جمع ؛ لأجل هذا الجمع ، لا لكون «رهبان» جمعا ، وأصرح من هذا قول جرير : [الكامل]

٢٠٤٢ ـ رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا

والعصم من شعف العقول الفادر (٥)

قال أبو الهيثم : وإن جمع الرّهبان الواحد «رهابين ورهابنة» ، جاز ، وإن قلت : رهبانيّون كان صوابا ؛ كأنك تنسبه إلى الرّهبانيّة ، والرّهبانيّة من الرّهبة ، وهي المخافة ،

__________________

(١) ينظر : الطبري ٥ / ٥ ، القرطبي ٦ / ٢٥٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٦ ، الدر المصون ٢ / ٥٩١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٩٢.

(٣) ينظر : شرح المفصل ٩ / ٨٠ ، وشرح الملوكي ٣٨٧ الدر المصون ٢ / ٥٩٢.

(٤) ينظر : ديوانه ٤٤١ ، ٤٤٢ ، الخصائص ١ / ٢٧ ، شرح ابن عقيل ٢ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٢.

(٥) ينظر : ديوانه ٣٠٥ ، معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٠٤ القرطبي ٦ / ٢٥٨ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٢٦ الطبري ٥ / ٥ ، الدر المصون ٢ / ٥٩٢.

٤٧٨

وقال الراغب : «والرّهبان يكون واحدا وجمعا ، فمن جعله واحدا ، جمعه على رهابين ، ورهابنة بالجمع أليق» ، يعني : أن هذه الصيغة غلبت في الجمع كالفرازنة والموازجة والكيالجة ، وقال الليث : «الرّهبانيّة مصدر الراهب والتّرهّب : التعبّد في صومعة» ، وهذا يشبه الكلام المتقدّم في أن القسوسة مصدر من القسّ والقسّيس ، ولا حاجة إلى هذا ، بل الرّهبانيّة مصدر بنفسها من الترهّب ، وهو التعبّد أو من الرّهب ، وهو الخوف ، ولذلك قال الراغب : «والرهبانيّة غلوّ من تحمّل التعبّد من فرط الرّهبة» ، وقد تقدّم اشتقاق هذه المادة في قوله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

وعلّة هذا التّفاوت : أنّ اليهود مخصوصون بالحرص الشّديد على الدّنيا ، قال : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] لقربهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد ، والحرص معدن الأخلاق الذّميمة ، لأن من كان حريصا على الدّنيا طرح دينه في طلب الدّنيا ، وأقدم على كل محظور منكر بسبب طلب الدّنيا ، فلا جرم تشتدّ عداوته مع كلّ من نال مالا وجاها ، وأمّا النّصارى ، فإنّهم في أكثر الأمر معرضون عن الدّنيا ، مقبلون على العبادة ، وترك طلب الرّياسة والتكبّر والتّرفّع ، وكلّ من كان كذلك ، فإنّه لا يحسد النّاس ولا يؤذيهم ، بل يكون ليّن العريكة في طلب الحقّ ، سهل الانقياد له ، فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين ، وهو المراد بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

وفيه دقيقة نافعة في طلب الدّين ، وهو أنّ كفر النّصارى أغلظ من كفر اليهود ؛ لأنّ النّصارى ينازعون في الإلهيّات والنّبوّات ، واليهود : لا ينازعون إلّا في النّبوّات ، ولا شكّ أن الأوّل أغلظ ؛ لأنّ النّصارى مع غلظ كفرهم ، لم يشتدّ حرصهم على طلب الدّنيا ، بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة ، شرّفهم الله بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى).

وأمّا اليهود مع أنّ كفرهم أخفّ من كفر النّصارى ، طردهم الله وخصّهم بمزيد اللّعنة ، وما ذلك إلّا بسبب تهالكهم على الدّنيا ، ويؤيّد ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة» (١).

__________________

(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (١٠٥٠١) عن الحسن مرسلا وأسنده الديلمي في الفردوس وتبعه ولده بلا إسناد عن علي رفعه به ، وهو عند البيهقي أيضا في الزهد وأبي نعيم في ترجمة الثوري من الحلية من قول عيسى ابن مريم عليه‌السلام وعند ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان له .. من قول مالك بن دينار. وعند ابن يونس في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له ، من قول سعد هذا. وجزم ابن تيمية بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه. وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم عليه بالوضع ، لقول ابن المديني مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها ، وقال أبو زرعة كل شيء يقوله الحسن ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث وليته ذكرها ، وقال الدار قطني في مراسيله ضعف ، وللديلمي عن أبي هريرة رفعه : ـ

٤٧٩

فإن قيل : كيف مدحهم الله تعالى بذلك ، مع قوله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) [الحديد : ٢٧] ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا رهبانيّة في الإسلام» (١) ؛ فالجواب : أنّ ذلك صار ممدوحا في مقابلة اليهود في القساوة ، والغلظة ، ولا يلزم من هذا كونه ممدوحا على الإطلاق.

قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) نسق على «أنّ» المجرورة بالباء ، أي : ذلك بما تقدّم ، وبأنّهم لا يستكبرون.

فصل

المراد بقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) يعني: وفد النّجاشي الذين قدموا مع جعفر ، وهم السّبعون ، وكانوا أصحاب الصّوامع.

وقال مقاتل والكلبي : كانوا أربعين رجلا ، اثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية من الشّام (٢). وقال عطاء : كانوا ثمانين رجلا ، أربعون من أهل نجران من بني الحارث بن كعب ، واثنان وثلاثون من الحبشة ، وثمانية روميّون من أهل الشّام (٣).

وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب ، كانوا على شريعة من الحقّ ممّا جاء به عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، فلمّا بعث محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ صدّقوه ، وآمنوا به (٤) ، فأثنى الله عليهم بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أي : علماء.

قال قطرب : القسّ والقسّيس : العالم بلغة الرّوم.

قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا) «إذا» شرطية جوابها «ترى» ، وهو العامل فيها ، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان :

أظهرهما : أنّ محلّها الرفع ؛ نسقا على خبر «أنّهم» الثانية ، وهو «لا يستكبرون» ، أي : ذلك بأنّ منهم كذا ، وأنهم غير مستكبرين ، وأنهم إذا سمعوا ، فالواو عطفت مفردا على مثله.

والثاني : أنّ الجملة استئنافية ، أي : أنه تعالى أخبر عنهم بذلك ، والضمير في «سمعوا» ظاهره : أن يعود على النصارى المتقدّمين ؛ لعمومهم ، وقيل : إنما يعود لبعضهم ، وهم من جاء من «الحبشة» إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

ـ أعظم الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا ، وجمعهم الدنانير والدراهم ، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق.

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ١٦٦) عن مقاتل.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٦ / ١٦٦) عن مقاتل.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٤٨٠