اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين ما روي أنّه شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيّته ، وأوذي بضروب من الأذى.

فالجواب من وجوه :

فقيل : يعصمك من القتل ، فلا يصلوا إلى قتلك.

وقيل : نزلت هذه الآية بعد ما شجّ رأسه يوم أحد ؛ لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.

والمراد ب «النّاس» هاهنا : الكفار لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

وعن أنس رضي الله عنه :

كان رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية ، فأخرج رأسه من قبّة أديم فقال : «انصرفوا أيّها النّاس فقد عصمني من النّاس» (١).

وقيل : المراد والله يخصّك بالعصمة من بين النّاس ؛ لأنّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ معصوم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٦٨)

لمّا أمره الله بالتّبليغ فقال : قل يا أهل الكتاب من اليهود والنّصارى لستم على شيء من الدّين ، ولا في أيديكم شيء من الحقّ والصّواب ، كما تقول : هذا ليس بشيء ، إذا أردت تحقيره.

وقوله تعالى : (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) ، وقد تقدّم الكلام على نظيره ، والتّكرير للتّأكيد.

وقوله : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فيه وجهان :

أحدهما : لا تأسف عليهم بسبب طغيانهم وكفرهم ، فإنّ ضرر ذلك راجع إليهم ، لا إليك ولا إلى المؤمنين.

والثاني : لا تأسف بسبب نزول اللّعن والعذاب عليهم فإنّهم من الكافرين المستحقّين لذلك.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٣٥) رقم (٣٠٤٦) والطبري (٤ / ٦٤٧) عن عائشة.

وقال الترمذي هذا حديث غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٩) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في «الدلائل» وابن مردويه.

٤٤١

وروى ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنّ جماعة من اليهود قالوا : يا محمّد ألست تقرّ أنّ التّوراة حقّ من عند الله تعالى؟ قال : بلى ، قالوا : فإنّا مؤمنون بها ، ولا نؤمن بغيرها ، فنزلت هذه الآية (١).

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(٦٩)

قرأ الجمهور : «والصّابئون» بالواو ، وكذلك هو في مصاحف الأمصار ، وفي رفعه تسعة أوجه :

أحدها : وهو قول جمهور أهل البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف ؛ لدلالة خبر الأول عليه ، والنية به التأخير ، والتقدير : إنّ الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم إلى آخره والصّابئون كذلك ، ونحوه : «إنّ زيدا وعمرو قائم» ، [أي : إنّ زيدا قائم وعمرو قائم] ، فإذا فعلنا ذلك ، فهل الحذف من الأول أي : [يكون] خبر الثاني مثبتا ، والتقدير : إنّ زيدا قائم وعمرو قائم ، فحذف «قائم» الأول ، أو بالعكس؟ قولان مشهوران ، وقد ورد كلّ منهما ؛ قال : [المنسرح]

٢٠٠٩ ـ نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف (٢)

أي : نحن راضون ، وعكسه قوله : [الطويل]

٢٠١٠ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٣)

التقدير : وقيار بها كذلك ، فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الحذف من الأول أيضا؟ فالجواب : أنه يلزم من ذلك دخول اللام في خبر المبتدأ غير المنسوخ ب «إنّ» ، وهو قليل لا يقع إلا في ضرورة شعر ، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على هذا التخريج ، قال الزمخشريّ (٤) : «والصّابئون : رفع على الابتداء ، وخبره محذوف ، والنية به التأخير عمّا في حيّز «إنّ» من اسمها وخبرها ؛ كأنه قيل : إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى حكمهم كذلك والصّابئون كذلك ؛ وأنشد سيبويه شاهدا على ذلك : [الوافر]

٢٠١١ ـ وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق (٥)

أي : فاعلموا أنّا بغاة وأنتم كذلك» ثم قال بعد كلام : «فإن قلت : فقوله «والصّابئون» معطوف لا بدّ له من معطوف عليه ، فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره ، ولا محلّ لها ؛ كما لا محلّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٣١) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٠.

(٥) تقدم.

٤٤٢

للتي عطفت عليها ، فإن قلت : فالتقديم والتأخير لا يكون إلا لفائدة ، فما هي؟ قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم ، إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظنّ بغيرهم؟ وذلك أنّ الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم عتيّا ، وما سمّوا صابئين إلا أنهم صبئوا عن الأديان كلّها ، أي : خرجوا ؛ كما أن الشاعر قدّم قوله : «وأنتم» ؛ تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو «بغاة» ؛ لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما ، فإن قلت : فلو قيل : «والصابئين وإياكم» ، لكان التقديم حاصلا ، قلت : لو قيل هكذا لم يكن من التقديم في شيء ؛ لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال مقدّم ومؤخّر للمزال لا للقارّ في مكانه ، وتجري هذه الجملة مجرى الاعتراض».

الوجه الثاني : أنّ «إنّ» بمعنى «نعم» فهي حرف جواب ، ولا محلّ لها حينئذ ، وعلى هذا فما بعدها مرفوع المحلّ على الابتداء ، وما بعده معطوف عليه بالرفع ، وخبر الجميع قوله : (مَنْ آمَنَ) إلى آخره ، وكونها بمعنى «نعم» قول مرجوح ، قال به بعض النحويّين ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] في قراءة (١) من قرأه بالألف ، وفي الآية كلام طويل يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في موضعه ، وجعل منه أيضا قول عبد الله بن الزّبير : «إن وصاحبها» جوابا لمن قال له : «لعن الله ناقة حملتني إليك» ، أي : نعم وصاحبها ، وجعل منه قول الآخر : [الكامل]

٢٠١٢ ـ برز الغواني في الشّبا

ب يلمنني وألومهنّه

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه (٢)

أي : نعم ، والهاء للسكت ، وأجيب : بأنّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزّبير ، وبقي المعطوف على الاسم دليلا عليه ، والتقدير : إنّها وصاحبها ملعونان ، وتقدير البيت : إنّه كذلك ، وعلى تقدير أن تكون بمعنى «نعم» ، فلا يصحّ هنا جعلها بمعناها ؛ لأنها لم يتقدّمها شيء تكون جوابا له ، و «نعم» لا تقع ابتداء كلام ، إنما تقع جوابا لسؤال ، فتكون تصديقا له ، ولقائل أن يقول : يجوز أن يكون ثمّ سؤال مقدّر ، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرة منها قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ) [القيامة : ١] (لا جَرَمَ) [هود : ٢٢] ، قالوا : يحتمل أن يكون ردّا لقائل كيت وكيت.

الوجه الثالث : أن يكون معطوفا على الضّمير المستكنّ في «هادوا» أي : هادوا هم

__________________

(١) ستأتي في «طه» آية ٦٣.

(٢) البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيّات ينظر : ديوانه ص ٦٦ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٧٥ ، شرح المغني ١ / ١٢٦ ، لسان العرب «أنن» ، الأزهية ص ٢٥٨ ، الأغاني ٤ / ٢٩٦ ، خزانة الأدب ١١ / ٢١٦ ، ٢١٧ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٦١ ، سمط اللآلى من ٩٣٩ ، الكتاب ٣ / ١٥١ اللمع ص ١٢٦ ، شرح المفصل ٣ / ١٣٠ ، ٨ / ٦ ، ٧٨ ، ١٢٥ الدر المصون ٢ / ٥٧٣.

٤٤٣

والصّابئون ، وهذا قول الكسائيّ ، وردّه تلميذه الفرّاء (١) والزّجّاج (٢). قال الزّجّاج : «هو خطأ من جهتين» :

إحداهما : أن الصابىء في هذا القول يشارك اليهوديّ في اليهوديّة ، وليس كذلك ، فإن الصابىء هو غير اليهوديّ ، وإن جعل «هادوا» بمعنى «تابوا» من قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] لا من اليهوديّة ، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسير قد جاء بغير ذلك ؛ لأنّ معنى (الَّذِينَ آمَنُوا) في هذه الآية ؛ إنما هو إيمان بأفواههم ؛ لأنه يريد به المنافقين ؛ لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ثم ذكر اليهود والنصارى ، فقال : من آمن منهم بالله ، فله كذا ، فجعلهم يهودا ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين ، لم يحتج أن يقال : «من آمن ، فلهم أجرهم» ، وأجيب بأن هذا على أحد القولين ، أعني : أنّ (الَّذِينَ آمَنُوا) مؤمنون نفاقا ، وردّه أبو البقاء (٣) ومكي (٤) بن أبي طالب بوجه آخر ، وهو عدم تأكيد الضمير المعطوف عليه ، قال شهاب الدين : هذا لا يلزم الكسائيّ ؛ لأنّ مذهبه عدم اشتراط ذلك ، وإن كان الصحيح الاشتراط ، نعم ، يلزم الكسائيّ من حيث إنه قال بقول تردّه الدلائل الصحيحة ، والله أعلم ، وهذا القول قد نقله مكيّ عن الفرّاء ، كما نقله غيره عن الكسائيّ ، وردّ عليه بما تقدّم ، فيحتمل أن يكون الفرّاء كان يوافق الكسائيّ ، ثم رجع ، ويحتمل أن يكون مخالفا له ، ثم رجع إليه ، وعلى الجملة ، فيجوز أن يكون له في المسألة قولان.

الوجه الرابع : أنه مرفوع نسقا على محلّ اسم «إنّ» ؛ لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء ، فلمّا دخلت عليه ، لم تغيّر معناه ، بل أكدته ، غاية ما في الباب : أنها عملت فيه لفظا ، ولذلك اختصّت هي و «أنّ» بالفتح ، ولكن على رأي بذلك ، دون سائر أخواتها ؛ لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلاف «ليت ولعلّ وكأنّ» ، فإنه خرج إلى التمنّي والتّرجّي والتشبيه ، وأجرى الفراء (٥) الباب مجرى واحدا ، فأجاز ذلك في ليت ولعلّ ، وأنشد : [الرجز]

٢٠١٣ ـ يا ليتني وأنت يا لميس

في بلد ليس بها أنيس (٦)

فأتى ب «أنت» ، وهو ضمير رفع نسقا على الياء في «ليتني» ، وهل يجري غير العطف من التوابع مجراه في ذلك؟ فذهب الفرّاء ويونس إلى جواز ذلك ، وجعلا منه قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سبأ : ٤٨] فرفع «علّام» عندهما على النعت ل

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١٢.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٢ / ٢١٣.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٢٢٢.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٣٧.

(٥) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١١ ، ٢ / ٣٦٤.

(٦) البيت لجران العود. ينظر : ديوانه (٥٢) ، الهمع ٢ / ١٤٤ ، العين ٢ / ٣٢١ ، الدرر ٢ / ٢٠٢ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٤.

٤٤٤

«ربّي» على المحلّ ، وحكو ا «إنهم أجمعون ذاهبون» ، وغلّط سيبويه (١) من قال من العرب : «إنهم أجمعون ذاهبون» ، فقال : «واعلم أنّ قوما من العرب يغلطون ، فيقولون : إنّهم أجمعون ذاهبون» ، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غلّط أهل اللسان ، وهم الواضعون أو المتلقّون من الواضع ، وأجيب بأنهم بالنسبة إلى عامّة العرب غالطون ، وفي الجملة : فالناس قد ردّوا هذا المذهب ، أعني : جواز الرفع عطفا على محلّ اسم «إنّ» مطلقا ، أعني قبل الخبر وبعده ، خفي إعراب الاسم أو ظهر ، ونقل بعضهم الإجماع على جواز الرفع على المحلّ بعد الخبر ، وليس بشيء ، وفي الجملة : ففي المسألة أربعة مذاهب : مذهب المحقّقين : المنع مطلقا ، ومذهب بعضهم : التفصيل قبل الخبر ؛ فيمتنع ، وبعده ؛ فيجوز ، ومذهب الفراء (٢) : إن خفي إعراب الاسم ، جاز ذلك ؛ لزوال الكراهية اللفظية ، وحكي من كلامهم : «إنّك وزيد ذاهبان» ، الرابع : مذهب الكسائيّ : وهو الجواز مطلقا ؛ ويستدلّ بظاهر قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية ، وبقول ضابىء البرجميّ : [الطويل]

٢٠١٤ ـ فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب (٣)

وبقوله : [البسيط]

٢٠١٥ ـ يا ليتنا وهما نخلو بمنزلة

حتّى يرى بعضنا بعضا ونأتلف (٤)

وبقوله : [الوافر]

٢٠١٦ ـ وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

 ................. (٥)

وبقوله : [الرجز]

٢٠١٧ ـ يا ليتني وأنت يا لميس (٦)

وبقولهم : «إنّك وزيد ذاهبان» ، وكلّ هذه تصلح أن تكون دليلا للكسائيّ والفراء معا ، وينبغي أن يورد الكسائيّ دليلا على جواز ذلك مع ظهور إعراب الاسم ؛ نحو : «إنّ زيدا وعمرو قائمان» ، وردّ الزمخشريّ الرفع على المحلّ ؛ فقال : «فإن قلت : هلّا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محلّ «إنّ» واسمها ، قلت : لا يصحّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : «إنّ زيدا وعمرو منطلقان» ، فإن قلت : لم لا يصحّ والنية به التأخير ، وكأنك قلت : إنّ زيدا منطلق وعمرو؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعته على محلّ «إنّ» واسمها ، والعامل في محلّهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر ؛ لأنّ الابتداء

__________________

(١) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٢٩٠.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١١.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣١١ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٤.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

٤٤٥

ينتظم الجزأين في عمله ، كما تنتظمها «إنّ» في عملها ، فلو رفعت «الصّابئون» المنويّ به التأخير بالابتداء ، وقد رفعت الخبر ب «إنّ» ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين» ، وهو واضح فيما ردّ به ، إلّا أنه يفهم كلامه أنه يجيز ذلك بعد استكمال الخبر ، وقد تقدّم أنّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه.

وضعّف ابن الخطيب (١) ما قاله الزّمخشريّ ، قال : هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه :

الأوّل : أنّ هذه الأشياء التي يسمّيها النّحويّون : رافعة وناصبة ، ليس معناه أنّها كذلك لذواتها ولأعيانها ، فإنّ هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنّهما معرّفان بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات ، واجتماع المعرّفات الكثيرة على الشّيء والواحد غير محال ، ألا ترى أنّ جميع أجزاء المحدثات دالّة على وجود الله تعالى؟

الثاني : أنّ هذا الجواب بناء على أنّ كلمة «إنّ» مؤثّرة في نصب الاسم ورفع الخبر ، والكوفيّون ينكرون ذلك ، ويقولون : لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتّة.

الثالث : أنّ الأشياء الكثيرة إذا عطفت بعضها على بعض ، فالخبر الواحد لا يكون خبرا عنهم ؛ لأنّ الخبر عن الشّيء إخبار عن تعريف حاله وبيان صفته ، ومن المحال أن يكون حال الشّيء وصفته عين حال الآخر وعين صفته ، لامتناع قيام الصّفة الواحدة للذّوات المختلفة ، وإذا ثبت هذا ظهر أنّ الخبر ، وإن كان في اللّفظ واحدا ، لكنّه في التقدير متعدّد ، وإذا حصل التّعدّد في الحقيقة ، لم يمتنع كون البعض مرتفعا بالخبر ، وبعض بالابتداء بهذا التّقدير ، ولم يلزم اجتماع الرّافعين على مرفوع واحد.

والذي يحقّق ذلك أنّه سلّم أنّ بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرّفع والنّصب في المعطوف عليه ، ولا شكّ أنّ هذا المعطوف إنّما جاز ذلك فيه ؛ لأنّا نضمر له خبرا ، وحكمنا بأنّ ذلك الخبر المضمر مرتفع بالابتداء.

وإذا ثبت هذا فنقول : إن قبل ذكر الخبر إذا عطفنا اسما على اسم ، حكم صريح العقل ، بأنّه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر ، وذلك إنّما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة ، وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الإلزام.

الوجه الخامس : قال الواحديّ : «وفي الآية قول رابع لهشام بن معاوية : وهو أن تضمر خبر «إنّ» ، وتبتدىء «الصّابئون» ، والتقدير : «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا يرحمون» على قول من يقول : إنّهم مسلمون ، و «يعذّبون» على قول من يقول : إنهم كفّار ، فيحذف الخبر ؛ إذ عرف موضعه ؛ كما حذف من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) [فصلت : ٤١] ، أي: يعاقبون» ثم قال الواحديّ : وهذا القول قريب من قول البصريّين ، غير أنّهم

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٥.

٤٤٦

يضمرون خبر الابتداء ، ويجعلون (مَنْ آمَنَ) خبر «إنّ» ، وهذا على العكس من ذلك ؛ لأنه جعل (مَنْ آمَنَ) خبر الابتداء ، وحذف خبر «إنّ» ، قال شهاب الدين : هو كما قال ، وقد نبّهت على ذلك في قولي أولا : إنّ منهم من يقدّر الحذف من الأوّل ، ومنهم من يعكس.

الوجه السادس : أنّ «الصّابئون» مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ؛ كمذهب سيبويه والخليل ، إلا أنه لا ينوى بهذا المبتدأ التأخير ، فالفرق بينه وبين مذهب سيبويه نية التأخير وعدمها ، قال أبو البقاء (١) : «وهو ضعيف أيضا ؛ لما فيه من لزوم الحذف والفصل» ، أي : لما يلزم من الجمع بين الحذف والفصل ، ولا يعني بذلك ؛ أنّ المكان من مواضع الحذف اللازم ؛ لأنّ القرآن يلزم أن يتلى على ما أنزل ، وإن كان ذلك المكان في غيره يجوز فيه الذكر والحذف.

الوجه السابع : أنّ «الصّابئون» منصوب ، وإنما جاء على لغة بني الحرث وغيرهم الذين يجعلون المثنّى بالألف في كل حال ؛ نحو : «رأيت الزّيدان ، ومررت بالزّيدان» نقل ذلك مكي (٢) بن أبي طالب وأبو البقاء (٣) ، وكأنّ شبهة هذا القائل على ضعفها ؛ أنه رأى الألف علامة رفع المثنّى ، وقد جعلت في هذه اللغة نائبة رفعا ونصبا وجرّا ، وكذا الواو هي علامة رفع المجموع سلامة ، فيبقى في حالة النصب والجرّ ؛ كما بقيت الألف ، وهذا ضعيف ، بل فاسد.

الوجه الثامن : أنّ علامة النصب في «الصّابئون» فتحة النون ، والنون حرف الإعراب ، كهي في «الزّيتون» و «عربون» ، قال أبو البقاء (٤) : «فإن قيل : إنما أجاز أبو عليّ ذلك مع الياء ، لا مع الواو ، قيل : قد أجازه غيره ، والقياس لا يدفعه» ، قال شهاب الدين : يشير إلى مسألة ، وهو : أن الفارسيّ أجاز في بعض جموع السّلامة ، وهي ما جرت مجرى المكسّر كبنين وسنين ؛ أن يحلّ الإعراب نونها ؛ بشرط أن يكون ذلك مع الياء خاصّة دون الواو ، فيقال : «جاء البنين» ؛ قال : [الوافر]

٢٠١٨ ـ وكان لنا أبو حسن عليّ

أبا برّا ونحن له بنين (٥)

وفي الحديث : «اللهمّ ، اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف» (٦) ؛ وقال : [الطويل]

٢٠١٩ ـ دعاني من نجد فإنّ سنينه

لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا (٧)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٣٨.

(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه البخاري (٢ / ٧٤) كتاب الاستسقاء : باب دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث (١٠٠٦) من حديث أبي هريرة.

(٧) البيت للصمة بن عبد الله القشيري ينظر : شرح التصريح ١ / ٧٧ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٥٩٧ ، شرح المفصل ٥ / ١١ ، ١٢ ، المقاصد النحوية ١ / ١٦٩ ، تخليص الشواهد ص ٧١ خزانة الأدب ٨ / ـ

٤٤٧

فأثبت النون في الإضافة ، فلمّا جاءت هذه القراءة ؛ ووجّهت بأن علامة النصب فتحة النون ، وكان المشهور بهذا القول إنما هو الفارسيّ ، سأل أبو البقاء (١) هذه المسألة ، وأجاب بأنّ غيره يجيزه حتّى مع الواو ، وجعل أنّ القياس لا يأباه ، قال شهاب الدين : القياس يأباه ، والفرق بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواو ظاهر قد حقّقته في «شرح التّسهيل» ، نعم ، إذا سمّي بجمع المذكر السالم ، جاز فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يعرب بالحركات مع الواو ، ويصير نظير «الذون» ، فيقال : «جاء الزّيدون ورأيت الزّيدون ومررت بالزّيدون» ، ك «جاء الذون ورأيت الذون ومررت بالذون» ، هذا إذا سمّي به ، أمّا ما دام جمعا ، فلا أحفظ فيه ما ذكره أبو البقاء ، ومن أثبت حجة على من نفى ، لا سيما مع تقدّمه في العلم والزمان.

الوجه التاسع : قال مكيّ (٢) : «وإنما رفع «الصّابئون» ؛ لأن «إنّ» لم يظهر لها عمل في «الّذين» فبقي المعطوف على رفعه الأصليّ قبل دخول «إنّ» على الجملة» ، قلت : وهذا هو بعينه مذهب الفراء (٣) ، أعني : أنه يجيز العطف على محلّ اسم «إنّ» إذا لم يظهر فيه إعراب ، إلا أن عبارة مكيّ لا توافق هذا ظاهرا.

قال ابن الخطيب (٤) معلّلا قول الفرّاء : أن «إنّ» ضعيفة في العمل هاهنا ، وبيانه من وجوه :

الأوّل : أنّ كلمة «إنّ» لم تعمل إلّا لكونها مشابهة للفعل ، ومعلوم أنّ المشابهة بين الفعل والحرف ضعيفة.

الثاني : أنّها ، وإن كانت تعمل في الاسم فقط ، أمّا الخبر ، فإنّه يبقى مرفوعا ، لكونه خبر المبتدأ ، وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير ، وهذا مذهب الكوفيّين.

والثالث : أنّها إنما يظهر أثرها في تغيير الأسماء أمّا الأسماء الّتي لا تتغيّر عند اختلاف العوامل ، فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها ، والأمر هاهنا كذلك ؛ لأنّ الاسم هاهنا هو قوله «الّذين» وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر النّصب والرّفع والخفض.

وإذا ثبت هذا فنقول : إذا كان اسم «إنّ» بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب ، فالّذي يعطف عليه يجوز النّصب فيه على إعمال هذا الحرف ، والرّفع على إسقاط عمله ، فلا يجوز أن يقال : «إنّ زيدا وعمرا قائمان» لأنّ زيدا ظهر فيها أثر الإعراب ، ويجوز أن يقال : «إنّ هؤلاء إخوتك يكرموننا ، وإنّ قطام وهند عندنا» والسّبب في جواز ذلك أنّ

__________________

ـ ٥٨ ، ٥٩ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٧٦. شرح ابن عقيل ص ٣٩ ، شرح الأشموني ١ / ٣٧ ، أوضح المسالك ١ / ٥٧ لسان العرب (نجد) ، (سند) مجالس ثعلب ص ١٧٧ ، ٣٢٠. الدر المصون ٢ / ٥٧٦.

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.

(٢) ينظر : المشكل ١ / ٢٣٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن ١ / ٣١١.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٤.

٤٤٨

كلمة «إنّ» كانت في الأصل ضعيفة العمل ، فإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضّعف ، فجاز الرّفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه ، وهو كونه مبتدأ ، فهذا تقرير قول الفرّاء ، وهو مذهب حسن ، وأولى من مذهب البصريّين ؛ لأن الّذي قالوه يقتضي أنّ كلام الله على التّرتيب الّذي ورد عليه ليس بصحيح ، وإنّما تحصل الصّحّة عند تفكيك هذا النّظم ، وعلى قول الفرّاء فلا حاجة إليه ، فكان ذلك أولى.

وقرأ أبيّ (١) بن كعب ، وعثمان بن عفان ، وعائشة ، والجحدريّ وسعيد بن جبير ، وجماعة : «والصّابئين» بالياء ، ونقلها صاحب «الكشّاف» عن ابن كثير ، وهذا غير مشهور عنه ، وهذه القراءة واضحة التخريج ؛ عطفا على لفظ اسم «إنّ» ، وإن كان فيها مخالفة لسواد المصحف ، فهي مخالفة يسيرة ، ولها نظائر كقراءة قنبل عن ابن كثير : سراط [الفاتحة : ٥] وبابه بالسين ، وكقراءة حمزة إيّاه في رواية بالزّاي ، وهو مرسوم بالصّاد في سائر المصاحف ، ونحو قراءة الجميع : (إِيلافِهِمْ) [قريش : ١] بالياء ، والرسم بدونها في الجميع ، وقرأ الحسن البصريّ والزهريّ (٢) : «والصّابيون» بكسر الباء بعدها ياء خالصة ، وهو تخفيف للهمزة ، كقراءة من قرأ : «يستهزيون» [الأنعام : ٥] بخلوص الياء ، وقد تقدّم قراءة نافع في البقرة [الآية ٦٢].

وأما «النّصارى» ، فهو منصوب عطفا على لفظ اسم «إنّ» ، ولا حاجة إلى ادّعاء كونه مرفوعا على ما رفع به «الصابئون» ؛ لكلفة ذلك.

قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أنها شرطية ، وقوله : (فَلا خَوْفٌ) إلى آخره جواب الشرط ، وعلى هذا ف «آمن» في محل جزم بالشرط ، و (فَلا خَوْفٌ) في محلّ جزم بكونه جوابه ، والفاء لازمة.

والثاني : أن تكون موصولة والخبر (فَلا خَوْفٌ) ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط ، ف «آمن» على هذا لا محلّ له ؛ لوقوعه صلة ، و (فَلا خَوْفٌ) محلّه الرفع لوقوعه خبرا ، والفاء جائزة الدخول ، لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين ، فمحلّ «من» رفع بالابتداء ، ويجوز على كونها موصولة : أن تكون في محلّ نصب بدلا من اسم «إنّ» وما عطف عليه ، أو تكون بدلا من المعطوف فقط ، وهذا على الخلاف في (الَّذِينَ آمَنُوا) : هل المراد بهم المؤمنون حقيقة ، أو المؤمنون نفاقا؟ وعلى كلّ تقدير من التقادير المتقدّمة ، فالعائد من هذه الجملة على «من» محذوف ، تقديره : «من آمن منهم» ؛ كما صرّح به في موضع آخر ، وتقدّم إعراب باقي الجملة فيما مضى.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٢ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢١٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٤١ ، والدر المصون ٢ / ٥٧٦.

(٢) ينظر : السابق.

٤٤٩

فصل في معنى الآية

معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : باللّسان وقوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) بالقلب ، وعلى هذا فالمراد بهم : المنافقون ، وقيل : إنّ الذين على حقيقة الإيمان (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي : ثبت على الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ولهذا التكرير فائدتان :

الأولى : أن المنافقين كانوا يزعمون أنّهم مؤمنون ، فأخرجهم بهذا التكرير عن [وعد] عدم الخوف ، وعدم الحزن.

والثاني : أنّه تعالى ذكر لفظ الإيمان ، والإيمان يدخل تحته أقسام : فأشرفها : الإيمان بالله واليوم الآخر ، فكرره تنبيها على أنّ هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان.

وقد تقدّم في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كلام يناسب هذا الموضع.

واعلم أنّه لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أنّ هذا الحكم عامّ في الكلّ ، وأنّه لا يحصل لأحد فضيلة إلّا إذا آمن بالله واليوم الآخر ، وعمل صالحا.

قالت المعتزلة (١) : إنّه تعالى شرط عدم الخوف والحزن بالإيمان والعمل الصّالح ، والمشروط بالشّيء عدم عند عدم الشّرط ، فإن لم يأت مع الإيمان بالعمل الصّالح ، فإنّه يحصل له الخوف والحزن ، وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة.

والجواب : أنّ صاحب الكبيرة لا يقطع بأنّ الله يعفو عنه لا محالة ، فكان الخوف والحزن حاصلا قبل إظهار العفو والله أعلم.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (٧٠)

والمقصود : بيان عيوب بني إسرائيل ، وشدّة تمرّدهم عن الوفاء بعهد الله ، وهذا متعلّق بأوّل السّورة ، وهو قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١].

قوله تعالى : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) : قد تقدّم الكلام [الآية ٢٠ من البقرة] على «كلّما» مشبعا ، فأغنى عن إعادته ، وقال الزمخشريّ : (كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ) جملة شرطية وقعت صفة ل «رسلا» ، والراجع محذوف ، أي : «رسول منهم» ، ثم قال : «فإن قلت : أين جواب الشرط ، فإنّ قوله : «فريقا كذّبوا وفريقا يقتلون» ناب عن الجواب ؛ لأنّ الرسول الواحد لا يكون فريقين ؛ ولأنه لا يحسن أن تقول : «إن أكرمت أخي ، أخاك

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٤٦.

٤٥٠

أكرمت»؟ قلت : هو محذوف ؛ يدلّ عليه قوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ، كأنه قيل : كلما جاءهم رسول ، ناصبوه ، وقوله : (فَرِيقاً كَذَّبُوا) جواب مستأنف لقائل يقول : كيف فعلوا برسلهم؟» قال أبو حيان (١) : «وليس «كلّما» شرطا ، بل «كلّ» منصوب على الظرف و «ما» مصدرية ظرفية ، ولم يجزم العرب ب «كلّما» أصلا ، ومع تسليم أن «كلّما» شرط ؛ فلا يمتنع ؛ لما ذكر ، أمّا الأول ؛ فلأنّ المراد ب «رسول» الجنس لا واحد بعينه ، فيصحّ انقسامه إلى فريقين ؛ نحو : «لا أصحبك ما طلع نجم» أي : جنس النجوم ، وأما الثاني ؛ فيعني أنه لا يجوز تقديم معمول جواب الشرط عليه». وهذا الذي منعه إنما منعه الفرّاء وحده ، وأما غيره ، فأجاز ذلك ، وهذا مع تسليم أنّ «كلّما» شرط ، وأمّا إذا مشينا على أنّها ظرفية ، فلا حاجة إلى الاعتذار عن ذلك ، ولا يمتنع تقديم معمول الفعل العامل في «كلّما» تقول : «كلما جئتني أخاك أكرمت» ، قال شهاب الدين : هذا واضح من أنها ليست شرطا ، وهذه العبارة تكثر في عبارة الفقهاء دون النّحاة ، وفي عبارة أبي البقاء (٢) ما يشعر بما قاله الزمخشريّ ، فإنه قال : «وكذّبوا» جواب «كلّما» و «فريقا» مفعول ب «كذّبوا» ، و «فريقا» منصوب ب «يقتلون» ، وإنما قدّم مفعول «يقتلون» لتواخي رؤوس الآي ، وقدّم مفعول «كذّبوا» مناسبة لما بعده.

قال الزمخشريّ (٣) : «فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضيا ، وبالآخر مضارعا؟ قلت : جيء ب «يقتلون» على حكاية الحال الماضية ؛ استفظاعا للقتل ، واستحضارا لتلك الحال الشنيعة ؛ للتعجّب منها». انتهى ، وقد يقال : فلم لا حكيت حال التكذيب أيضا ، فيجاء بالفعل مضارعا لذلك؟ ويجاب بأنّ الاستفظاع في القتل وشناعته أكثر من فظاعة التكذيب ، وأيضا ؛ فإنه لمّا جيء به مضارعا ناسب رؤوس الآي.

قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٧١)

قرأ حمزة والكسائيّ وأبو عمرو «تكون» برفع النون (٤) ، والباقون بنصبها ، فمن رفع ف «أن» عنده مخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف ، تقديره : أنه ، و «لا» نافية ، و «تكون» تامة ، و «فتنة» فاعلها ، والجملة خبر «أن» ، وهي مفسّرة لضمير الأمر والشأن ، وعلى هذا ، ف «حسب» هنا لليقين ، لا للشكّ ؛ ومن مجيئها لليقين قول الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤١.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٢.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٢.

(٤) ينظر : السبعة ٢٤٧ ، والحجة ٣ / ٢٤٦ ، وحجة القراءات ٢٣٣ ، وإعراب القراءات ١ / ١٤٨ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٤ ، وشرح شعلة ٣٥٣ ، وإتحاف ١ / ٥٤١.

٤٥١

٢٠٢٠ ـ حسبت التّقى والجود خير تجارة

رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا (١)

أي : تيقّنت ؛ لأنه لا يليق الشكّ بذلك ، وإنما اضطررنا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين ؛ لأنّ «أن» المخففة لا تقع إلا بعد يقين ، فأمّا قوله : [البسيط]

٢٠٢١ ـ أرجو وآمل أن تدنو مودّتها

وما إخال لدينا منك تنويل (٢)

فظاهره : أنها مخفّفة ؛ لعدم إعمالها ، وقد وقعت بعد «أرجو» و «آمل» وليسا بيقين ، والجواب من وجهين :

أحدهما : أنّ «أن» ناصبة ، وإنما أهملت ؛ حملا على «ما» المصدريّة ؛ ويدلّ على ذلك أنها لو كانت مخفّفة ، لفصل بينها وبين الجملة الفعلية بما سنذكره ، ويكون هذا مثل قول الله تعالى : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] ؛ وكقوله : [البسيط]

٢٠٢٢ ـ يا صاحبيّ فدت نفسي نفوسكما

وحيثما كنتما لقّيتما رشدا

أن تحملا حاجة لي خفّ محملها

تستوجبا نعمة عندي بها ويدا

أن تقرآن على أسماء ويحكما

منّي السّلام وألّا تشعرا أحدا (٣)

فقوله : «أن تقرآن» بدل من «حاجة» ، وقد أهمل «أن» ؛ ومثله قوله : [مجزوء الكامل]

٢٠٢٣ ـ إنّي زعيم يا نوي

قة إن نجوت من الرّزاح

ونجوت من وصب العدو

ومن الغدو إلى الرّواح

أن تهبطين بلاد قو

م يرتعون من الطّلاح (٤)

وكيفما قدّر فيما ذكرته من الأبيات ، يلزم أحد شذوذين قد قيل باحتمال كلّ منهما : إمّا إهمال «أن» ، وإمّا وقوع المخفّفة بعد غير علم ، وعدم الفصل بينها ، وبين الجملة الفعليّة.

والثاني من وجهي الجواب : أنّ رجاءه وأمله قويا حتّى قربا من اليقين ، فأجراهما مجراه في ذلك.

وأما قول الشاعر : [الخفيف]

٢٠٢٤ ـ علموا أن يؤمّلون فجادوا

قبل أن يسألوا بأعظم سؤل (٥)

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لكعب بن زهير ، ينظر : ديوانه (٥٩) ، الأشموني ٢ / ٢٩ ، الخزانة ٤ / ٧ ، التصريح ١ / ٢٥٨ ، الدرر ١ / ٣١ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٨.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : أوضح المسالك ١ / ٣٧٣ ، شرح التصريح ١ / ٢٣٣ ، الدرر ٢ / ١٩٧ ، تخليص الشواهد ٣٨٣ شرح ابن عقيل ١٩٦ ، قطر الندى ١٥٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ٢٩٤ ، همع الهوامع ١ / ١٤٣ ، الجنى الداني ص ٢١٩ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٩.

٤٥٢

فالظاهر أنها المخفّفة ، وشذّ عدم الفصل ، ويحتمل أن تكون الناصبة شذّ وقوعها بعد العلم ، وشذّ إهمالها ، ففي الأوّل شذوذ واحد ، وهو عدم الفصل ، وفي الثاني شذوذان : وقوع الناصبة بعد العلم ، وإهمالها حملا على «ما» أختها.

وجاء هنا على الواجب ـ عند بعضهم ـ أو الأحسن ـ عند آخرين ـ وهو الفصل بين «أن» الخفيفة وبين خبرها ، إذا كان جملة فعلية متصرفة غير دعاء ، والفاصل : إمّا نفي كهذه الآية ، وإمّا حرف تنفيس ؛ كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] ، ومثله : «علمت أن سوف تقوم» ، وإمّا «قد» ؛ كقوله تعالى : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) [المائدة : ١١٦] ، وإمّا «لو» ـ وهي غريبة ـ ؛ كقوله : وألو (اسْتَقامُوا) [الجن : ١٦] (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) [سبأ : ١٤]. وتحرّزت بالفعلية من الاسمية ؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل ؛ كقوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] ، وكقوله : [البسيط]

٢٠٢٥ ـ في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كلّ من يحفى وينتعل (١)

وبالمتصرّفة من غير المتصرّفة ؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصل ؛ كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] (وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ) [الأعراف : ١٨٥] ، وبغير دعاء من الواقعة دعاء ؛ كقوله تعالى : (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) [النور : ٩] في قراءة نافع.

ومن نصب «تكون» ف «أن» عنده هي الناصبة للمضارع ، دخلت على فعل منفيّ ب «لا» ، و «لا» لا يمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها من ناصب ، ولا جازم ، ولا جارّ ، فالناصب كهذه الآية ؛ والجازم كقوله تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٧٣] (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) [التوبة : ٤٠] ، والجارّ نحو : «جئت بلا زاد».

و «حسب» هنا على بابها من الظّنّ ، فالناصبة لا تقع بعد علم ، كما أنّ المخففة لا تقع بعده غيره ، وقد شذّ وقوع الناصبة بعد يقين ، وهو نصّ فيه كقوله : [البسيط]

٢٠٢٦ ـ نرضى عن النّاس إنّ النّاس قد علموا

ألّا يدانينا من خلقه بشر (٢)

وليس لقائل أن يقول : العلم هنا بمعنى الظّنّ ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه ، والأكثر بعد أفعال الشكّ النصب ب «أن» ، ولذلك أجمع على النصب في قوله تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ١] ، وأمّا قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) [طه : ٨٩] فالجمهور على الرفع ؛ لأن الرؤية تقع على العلم.

والحاصل أنه متى وقعت بعد علم ، وجب أن تكون المخفّفة ، وإذا وقعت بعد ما

__________________

(١) البيت للأعشى ميمون. ينظر : ديوانه (١٠٩) ، الكتاب ٢ / ١٣٧ ، الخصائص ٢ / ٤٤١ ، الهمع ١ / ١٤٢ ، شرح القصائد العشر (٤٩٤) ، الإنصاف ١ / ١٩٩ ، الدرر ١ / ١١٩ ، الخزانة ٥ / ٤٤٦ ، رصف المباني ١١٥ ، شرح الرضي ٢ / ٣٥٩ ، أوضح المسالك ١ / ١٧١ ، الدر المصون ٢ / ٥٧٩.

(٢) تقدم.

٤٥٣

ليس بعلم ولا شكّ ، وجب أن تكون الناصبة ، وإن وقعت بعد فعل يحتمل اليقين والشك جاز فيها وجهان باعتبارين : إن جعلناه يقينا ، جعلناها المخففة ورفعنا ما بعدها ، وإن جعلناه شكّا جعلناها الناصبة ونصبنا ما بعدها ، والآية الكريمة من هذا الباب ، وكذلك قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ) [طه : ٨٩] وقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) [العنكبوت : ١] لكن لم يقرأ في الأولى إلا بالرفع ، ولا في الثانية إلا بالنصب ، لأن القراءة سنة متبعة ، وهذا تحرير العبارة فيها ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأن بعضهم يقول : يجوز فيها بعد أفعال الشكّ وجهان ، فيوهم هذا أنه يجوز فيها أن تكون المخفّفة ، والفعل قبلها باق على معناه من الشكّ ، لكن يريد ما ذكرته لك من الصلاحية اللفظية بالاعتبارين المتقدمين ، ولهذا قال الزمخشريّ : «فإن قلت : كيف دخل فعل الحسبان على «أن» التي هي للتحقيق؟ قلت : نزّل حسبانهم ؛ لقوّته في صدورهم منزلة العلم» والسبب المقتضي لوقوع المخفّفة بعد اليقين ، والناصبة بعد غيره ، وجواز الوجهين فيما تردّد بين الشّكّ واليقين : ما ذكروه ، وهو «أن» المخفّفة تدلّ على ثبات الأمر واستقراره ؛ لأنها للتوكيد كالمشدّدة ، والعلم وبابه كذلك ، فناسب أن توقعها بعد اليقين للملاءمة بينهما ، ويدلّ على ذلك وقوعها مشدّدة بعد اليقين ؛ كقوله تعالى : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور : ٢٥] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٠٧] إلى غير ذلك ، والنوع الذي لا يدلّ على ثبات واستقرار تقع بعده الناصبة ؛ كقوله تعالى : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي) [الشعراء : ٨٢] (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) [المائدة : ٥٢] (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) [الكهف : ٨٠] (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) [المجادلة : ١٣] إلى غير ذلك ، والنوع المحتمل للأمرين تقع بعده تارة المخففة ، وتارة الناصبة ؛ كما تقدّم من الاعتبارين ، وعلى كلا التقديرين ، أعني : كونها المخففة أو الناصبة ، فهي سادّة مسدّ المفعولين عند جمهور البصريين ، ومسدّ الأول ، والثاني محذوف عند أبي الحسن ، أي : حسبوا عدم الفتنة كائنا أو حاصلا ، وحكى بعض النحويّين أنه ينبغي لمن رفع أن يفصل «أن» من «لا» في الكتابة ؛ لأنّ الهاء المضمرة حائلة في المعنى ، ومن نصب ، لم يفصل لعدم الحائل بينهما ، قال أبو عبد الله : «هذا ربّما ساغ في غير المصحف ، أمّا المصحف ، فلم يرسم إلا على الاتّصال». انتهى ، وفي هذه العبارة تجوّز ؛ إذ لفظ الاتصال يشعر بأن تكتب «أنلا» فتوصل «أن» ب «لا» في الخطّ ، فينبغي أن يقال : لا تثبت لها صورة ، أو تثبت لها صورة منفصلة.

فصل

اختلفوا في الفتنة فقيل : هي العذاب أي : وظنّوا ألا يكون عذاب ، وقيل : هي الابتلاء والاختبار بالقحط ، والوباء ، والقتل والعداوة ، والبغضاء فيما بينهم ، وكلّ ذلك قد وقع بهم ، وكلّ واحد من المفسّرين (١) حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٨ ، البغوي ٢ / ٥٣ ، والقرطبي ٦ / ١٦٠.

٤٥٤

واعلم أنّ حسبانهم ألّا تقع فتنة يحتمل وجهين :

إمّا أنهم كانوا يعتقدون أنّ الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر ، أنّه يجب عليهم قتله وتكذيبه.

وإمّا أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التّكذيب والقتل ، إلّا أنّهم كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وكانوا يعتقدون أنّ نبوّة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العذاب الذي يستحقّونه بسبب ذلك القتل والتّكذيب.

قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي : فعموا عن الحقّ فلم يبصروا «وصمّوا» بعد موسى «ثمّ تاب الله عليهم» ببعث عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وقيل : عموا وصمّوا في زمان زكريّا ، ويحيى ، وعيسى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، ثم تاب الله على بعضهم ، حيث آمن بعضهم به ثمّ عموا وصمّوا كثير منهم في زمان محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، بأن أنكروا نبوّته ورسالته ، وإنّما قال (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ؛ لأنّ أكثر اليهود وإن أصرّوا على الكفر بمحمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، إلّا أنّ جمعا آمنوا به كعبد الله بن سلام وأصحابه.

وقيل : عموا حين عبدوا العجل ، ثمّ تابوا عنه فتاب الله عليهم ، ثمّ عموا وصمّوا كثير منهم بالتعنّت ، وهو طلبهم رؤية الله جهرة ، ونزول الملائكة.

وقال القفّال (١) : ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية ، فقال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) [الإسراء : ٤ ، ٥ ، ٦] ، فهذا في معنى (فَعَمُوا وَصَمُّوا) ثم قال تعالى (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) [الإسراء : ٧] فهذا في معنى قوله (فَعَمُوا وَصَمُّوا).

قوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) في هذا التركيب خمسة أوجه :

أحدها : أنّ الواو علامة جمع الفاعل ، كما يلحق الفعل تاء التأنيث ؛ ليدلّ على تأنيث الفاعل ، ك «قامت هند» ، وهذه اللغة جارية في المثنى وجمع الإناث أيضا ، فيقال : «قاما أخواك ، وقمن أخواتك» ؛ كقوله : [الطويل]

٢٠٢٧ ـ ................

وقد أسلماه مبعد وحميم (٢)

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٤٩.

(٢) البيت لعبيد الله بن قيس الرقيّات ينظر : ديوانه ١٩٦ ، المقاصد النحوية ٢ / ٤٦١ ، شرح التصريح ١ / ٢٧٧ ، تخليص الشواهد ص ٣٧٣ ، الدرر ٢ / ٢٨٢ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧٨٤ ، ٧٩٠ ، أوضح ـ

٤٥٥

وقوله : [الطويل]

٢٠٢٨ ـ ولكن ديافيّ أبوه وأمّه

بحوران يعصرن السّليط أقاربه (١)

واستدلّ بعضهم بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «يتعاقبون فيكم ملائكة» (٢) ، ويعبّر النحاة عن هذه اللغة بلغ ة «أكلوني البراغيث» ، ولكنّ الأفصح ألّا تلحق الفعل علامة ، وفرّق النحويّون بين لحاقه علامة التأنيث ، وعلامة التثنية والجمع ؛ بأنّ علامة التأنيث ألزم ؛ لأن التأنيث في ذات الفاعل بخلاف التثنية والجمع ؛ فإنه غير لازم.

الوجه الثاني : أنّ الواو ضمير عائد على المذكورين العائد عليهم واو «حسبوا» ، و «كثير» بدل من هذا الضمير ، كقولك : «إخوتك قاموا كبيرهم وصغيرهم» ونحوه. والإبدال كثير في القرآن قال تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧].

وقال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧].

الوجه الثالث : أن الواو ضمير أيضا ، و «كثير» بدل منه ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله : أن الضمير في الوجه الأوّل مفسّر بما قبله وهم بنو إسرائيل ، وأمّا في هذا الوجه ، فهو مفسّر بما بعده ، وهذا أحد المواضع التي يفسّر فيها الضمير بما بعده ، وهو أن يبدل منه ما يفسره ، وهي مسألة خلاف ، وقد تقدّم تحريرها.

الوجه الرابع : أن الضمير عائد على من تقدّم ، و «كثير» خبر مبتدأ محذوف ، وقدّره مكي (٣) تقديرين : أحدهما : قال : «تقديره العمي والصّمّ كثير منهم» ، والثاني : العمى والصّمم كثير منهم ؛ ودلّ على ذلك قوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ، فعلى تقديره الأوّل : يكون «كثير» صادقا عليهم و «منهم» صفة ل «كثير» ؛ وعلى التقدير الثاني : يكون «كثير» صادقا على العمى والصّمم لا عليهم ، و «منهم» صفة له بمعنى أنه صادر منهم ، وهذا الثاني غير ظاهر ، وقدّره الزمخشريّ فقال : «أولئك كثير منهم».

الوجه الخامس : أنّ «كثير» مبتدأ والجملة الفعليّة قبله خبر ، ولا يقال : إنّ الفعل متى وقع خبرا ، وجب تأخيره ؛ لأنّ ذلك مشروط بكون الفاعل مستترا ؛ نحو : «زيد قام» ؛

__________________

ـ المسالك ٢ / ١٠٦ الجنى الداني ١٧٥ ، جواهر الأدب ص ١٠٩ ، شرح الأشموني ١ / ١٧٠ ، همع الهوامع ١ / ١٦٠ شرح ابن عقيل ص ٢٣٩ ، مغني اللبيب ٢ / ٣٦٧ ، ٣٧١ ، شذور الذهب ٢٢٧ الدر المصون ٢ / ٥٨٠.

(١) البيت للفرزدق. ينظر : الهمع ١ / ١٦٠ ، ابن الشجري ١ / ١٣٣ ، الخصائص ٢ / ١٩٤ ، ابن يعيش ٧ / ٧ الدرر اللوامع ١ / ١٤٢ ، الدر المصون ٢ / ٥٨١.

(٢) متفق عليه ، من روابه أبي هريرة رضي الله عنه ، أخرجه : البخاري في الصحيح ٢ / ٣٣ ، كتاب مواقيت الصلاة : باب فضل صلاة العصر الحديث (٥٥٥) ومسلم في الصحيح ١ / ٤٣٩ ، كتاب المساجد : باب فضل صلاة الصبح والعصر الحديث (٢١٠ / ٦٣٢).

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٣١.

٤٥٦

لأنه لو قدّم ، فقيل : «قام زيد» ، لألبس بالفاعل ، فإن قيل : وهذا أيضا يلبس بالفاعل في لغ ة «أكلوني البراغيث» ، فالجواب : أنها لغة ضعيفة لا نبالي بها ، وضعّف أبو البقاء (١) هذا الوجه بمعنى آخر ، فقال : «لأنّ الفعل قد وقع في موضعه ، فلا ينوى به غيره» ، وفيه نظر ؛ لأنّا لا نسلّم أنه وقع موقعه ، وإنما كان واقعا موقعه لو كان مجرّدا من علامة ، ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣].

والجمهور على «عموا وصمّوا» بفتح العين والصاد ، والأصل : عميوا وصمموا ؛ كشربوا ، فأعلّ الأول بالحذف ، والثّاني بالإدغام ، وقرأ يحيى (٢) بن وثّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عموا» ، قال الزمخشريّ : «على تقدير عماهم الله وصمّهم ، أي : رماهم وضربهم بالعمى والصّمم ؛ كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنّيزك ، وركبته إذا ضربته بركبتك» ، ولم يعترض عليه أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة : «جرت مجرى زكم الرجل ، وأزكمه الله ، وحمّ وأحمّه الله ، ولا يقال : زكمه الله ولا حمّه ؛ كما لا يقال : عميته ولا صممته ، وهي أفعال جاءت مبنيّة للمفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وهي متعدّية ثلاثية ، فإذا بنيت للفاعل ، صارت قاصرة ، فإذا أردت بناءها للفاعل متعدّية ، أدخلت همزة النقل ، وهي نوع غريب في الأفعال». انتهى ، فقوله : «كما لا يقال عميته ولا صممته» يقتضي أن الثلاثيّ منها لا يتعدّى ، والزمخشريّ قد قال على تقدير : «عماهم الله وصمّهم» فاستعمل ثلاثيّة متعدّيا ، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحا ، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريّ فاسدا أو بالعكس.

وقرأ ابن أبي عبلة (٣) «كثيرا» نصبا ؛ على أنه نعت لمصدر محذوف ، وتقدم غير مرّة أنه عند سيبويه حال ، وقال مكي (٤) : «ولو نصبت «كثيرا» في الكلام ، لجاز أن تجعله نعتا لمصدر محذوف ، أي : عمى وصمما كثيرا» ، قلت : كأنه لم يطّلع عليها قراءة ، أو لم تصحّ عنده ؛ لشذوذها.

وقوله : «فعموا» عطفه بالفاء ، وقوله : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) عطفه ب «ثمّ» ، وهو معنى حسن ؛ وذلك أنهم عقيب الحسبان ، حصل لهم العمى والصّمم من غير تراخ ، وأسند الفعلين إليهم ، بخلاف قوله : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) [محمد : ٢٣] ، لأنّ هذا فيمن لم يسبق له هداية ، وأسند الفعل الحسن لنفسه في قوله : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، وعطف قوله: (ثُمَّ عَمُوا) بحرف التراخي ؛ دلالة على أنهم تمادوا في الضّلال إلى وقت التوبة.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٣٢٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٢١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٥٨١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٤٣ ، والدر المصون ٢ / ٥٨٢.

(٤) ينظر : المشكل ١ / ٢٤١.

٤٥٧

فصل في معنى العمى والصّمم

المراد بهذا العمى والصّمم الجهل والكفر ، وإذا كان كذلك فنقول : فاعل هذا الجهل إمّا أن يكون هو الله ـ تعالى ـ أو العبد.

فالأول : يبطل قول المعتزلة.

والثاني : باطل ؛ لأنّ الإنسان لا يختار ألبتّة تحصيل الجهل والكفر لنفسه.

فإن قيل : إنّما اختاروا ذلك ؛ لأنّهم ظنّوا أنّه علم.

قلنا : هذا الجهل يسبقه جهل آخر ، إلّا أنّ الجهالات لا تتسلسل ، بل لا بد من انتهائها إلى الجهل الأوّل ، ولا يجوز أن يكون هو العبد لما ذكرنا فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى.

ثمّ قال تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي : من قتل الأنبياء وتكذيب الرّسل المقصود منه التّهديد.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)(٧٢)

لمّا تكلم مع اليهود شرع في الكلام هاهنا مع النّصارى.

فحكى عن فريق منهم أنّهم قالوا : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذا قول الملكانيّة واليعقوبيّة ؛ لأنهم يقولون : إنّ مريم ولدت إلها ، ولعلّ معنى هذا المذهب أنّهم يقولون : إنّ الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بذات عيسى ، ثم حكى ـ سبحانه وتعالى ـ عن المسيح أنّه قال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، وهذا تنبيه على ما هو الحجّة القاطعة على فساد قول النّصارى ؛ وذلك لأنّه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ لم يفرّق بينه وبين غيره ، في أنّ دلائل الحدوث ظاهرة عليه ، ثم قال تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ومعناه ظاهر واحتجّ أهل السّنّة (١) بهذا على أنّ عقاب الفسّاق لا يكون مخلّدا قالوا : لأنّه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتّهديد في حقّ المشركين ، وهو أنّ الله ـ تعالى ـ حرّم عليهم الجنّة ومأواهم النّار ، وأنّه ليس لهم ناصر ينصرهم ، ولا شافع يشفع لهم ، فلو كان حال الفسّاق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥٠.

٤٥٨

أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧٤)

معناه أحد الثلاثة ، ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده ، لا تقول : ثالث ثلاثة ، ولا رابع أربعة ؛ قالوا : لأنه اسم فاعل ، ويعمل عمل فعله ، وهنا لا يقع موقعه فعل ؛ إذ لا يقال : ربّعت الأربعة ، ولا ثلّثت الثلاثة ، وأيضا : فإنه أحد الثلاثة ؛ فيلزم أن يعمل في نفسه ، وأجاز النصب بمثل هذا ثعلب ، وردّه عليه الجمهور بما ذكر ، أمّا إذا كان من غير لفظ ما بعده ، فإنه يجوز فيه الوجهان : النصب ، والإضافة ؛ نحو : رابع ثلاثة ، وإن شئت : ثلاثة ، واعلم : أنه يجوز أن يشتقّ من واحد إلى عشرة صيغة اسم فاعل ؛ نحو : «واحد» ، ويجوز قلبه فيقال : حادي وثاني وثالث إلى عاشر ، وحينئذ : يجوز أن يستعمل مفردا ؛ فيقال : ثالث ورابع ؛ كما يقال : ثلاثة وأربعة من غير ذكر مفسّر ، وأن يستعمل استعمال أسماء الفاعلين ؛ إن وقع بعده مغايره لفظا ، ولا يكون إلا ما دونه برتبة واحدة ؛ نحو عاشر تسعة ، وتاسع ثمانية ، فلا يجامع ما دونه برتبتين ؛ نحو : عاشر ثمانية ، ولا ثامن أربعة ، ولا يجامع ما فوقه مطلقا ، فلا يقال : تاسع عشرة ولا رابع ستّة.

إذا تقرّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل ؛ فلا يعمل إلا بشروطه ، وأمّا إذا جامع موافقا [له لفظا] وجبت إضافته ؛ نحو : ثالث ثلاثة ، وثاني اثنين ، وتقدّم خلاف ثعلب ، ويجوز أن يبنى أيضا من أحد عشر ، إلى تسعة عشر ، فيقال : حادي عشر وثالث عشر ، ويجوز أن يستعمل مفردا ؛ كما ذكرنا ، ويجوز أن يستعمل مجامعا لغيره ، ولا يكون إلا موافقا ، فيقال : حادي عشر أحد عشر ، وثالث عشر ثلاثة عشر ، ولا يقال : ثالث عشر اثني عشر ، وإن كان بعضهم خالف ، وحكم المؤنث كحكمه في الصفات الصريحة ، فيقال : ثالثة ورابعة ، وحادية عشرة ، وثالثة عشرة ثلاث عشرة ، وله أحكام كثيرة مذكورة في كتب النّحو.

فصل في تفسير قول النصارى (ثالِثُ ثَلاثَةٍ)

هذا قول المرقوسيّة : وفيه طريقان :

أحدهما : قول المفسّرين (١) : وهو أنّ النّصارى يقولون : الإلهيّة مشتركة بين الله ومريم وعيسى ، وكلّ واحد من هؤلاء إله.

ويؤكد ذلك قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] فقوله : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي : أحد ثلاثة ، وواحد من ثلاثة آلهة ، يدلّ عليه قوله تعالى في الرّدّ عليهم : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ).

قال الواحديّ والبغوي (٢) : من قال : إنّ الله تعالى ثالث ثلاثة ، هو لم يرد ثالث

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٥١.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٢ / ٥١ ، والبغوي ٢ / ٥٤.

٤٥٩

ثلاثة آلهة ، فإنّه ما من شيء إلّا والله ثالثه بالعلم ، قال تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٧].

وقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ لأبي بكر : «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما»(١).

الطريق الثاني : أنّ المتكلّمين حكوا عن النّصارى أنّهم يقولون : جوهر واحد : ثلاثة أقسام: أب ، وابن ، وروح القدس ، وهذه الثّلاثة إله واحد ، كما أنّ الشّمس اسم يتناول القرص والشّعاع والحرارة ، وعنوا بالأب الذّات ، وبالابن الكلمة ، وبالرّوح الحياة ، وأثبتوا الذّات والكلمة والحياة.

وقالوا : إنّ الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسم عيسى اختلاط الماء بالخمر ، واختلاط الماء باللّبن.

وزعموا أنّ الأب إله ، والابن إله ، والرّوح إله ، والكلّ إله وهذا باطل بيديهة العقل ، فإنّ الإله لا يكون إلّا واحدا ، والواحد لا يكون ثلاثة ، وليس في الدّنيا مقالة أشدّ فسادا ، وأظهر بطلانا من مقالة النّصارى ـ لعنهم الله تعالى ـ.

قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ) «من» زائدة في المبتدأ ؛ لوجود الشرطين ، وهما كون الكلام غير إيجاب ، وتنكير ما جرّته ، و «إله» بدل من محلّ «إله» المجرور ب «من» الاستغراقية ؛ لأن محلّه رفع كما تقدّم ، وما إله في الوجود إلّا إله متّصف بالوحدانية ، قال الزمخشريّ (٢) : «من» في قوله : (مِنْ إِلهٍ) للاستغراق ، وهي المقدّرة مع «لا» التي لنفي الجنس في قولك : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) والمعنى : وما من إله قطّ في الوجود إلّا إله متّصف بالوحدانيّة ، وهو الله تعالى» ، فقد تحصّل من هذا أنّ (مِنْ إِلهٍ) مبتدأ ، وخبره محذوف ، و (إِلَّا إِلهٌ) بدل على المحلّ ، قال مكي (٣) : «ويجوز في الكلام النصب : «إلّا إلها» على الاستثناء» ، قال أبو البقاء (٤) : «ولو قرىء بالجرّ بدلا من لفظ «إله» ، لكان جائزا في العربيّة» ، قال شهاب الدين (٥) : ليس كما قال ؛ لأنه يلزم زيادة «من» في الواجب ؛ لأن النفي انتقض ب «إلّا» ، لو قلت : «ما قام إلّا من رجل» ، لم يجز فكذا هذا ، وإنما يجوز ذلك على رأي الكوفيين والأخفش ؛ فإنّ الكوفيين يشترطون تنكير مجرورها فقط ، والأخفش لا يشترط شيئا ، قال مكي (٦) : «واختار الكسائيّ الخفض على البدل من لفظ «إله» ، وهو بعيد ؛ لأنّ «من» لا تزاد في الواجب» ، قال شهاب الدين (٧) : ولو ذهب ذاهب

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ١ / ٦٦٤.

(٣) ينظر : المشكل ١ / ٢٥١.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢٢٣.

(٥) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٣.

(٦) ينظر : المشكل ١ / ٢٤١.

(٧) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٨٣.

٤٦٠