اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

فإن كانت الرّؤية بصريّة أو عرفانية ـ فيما نقله أبو البقاء (١) وفيه نظر ـ فتكون الجملة من «يسارعون» في محلّ نصب على الحال من الموصول ، وإن كانت قلبيّة ، فيكون «يسارعون» مفعولا ثانيا.

وقرأ (٢) النّخعي ، وابن وثّاب «فيرى» بالياء وفيها تأويلان :

أظهرهما : أنّ الفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، وقيل : على الرّأي من حيث هو ، و «يسارعون» بحالتها.

والثاني : أن الفاعل نفس الموصول ، والمفعول هو الجملة من قوله : «يسارعون» ، وذلك على تأويل حذف «أن» المصدريّة ، والتقدير : ويرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا ، فلما حذفت : «أن» رفع الفعل ؛ كقوله : [الطويل]

١٩٨٠ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 ................. (٣)

فصل

أجاز ابن عطيّة (٤) حذف «أن» المصدريّة ، إلا أنّ هذا غير مقيس ؛ إذ لا تحذف «أن» عند البصريين إلا في مواضع محفوظة.

وقرأ (٥) قتادة والأعمش : «يسرعون» من أسرع. و «يقولون» في محل نصب [على الحال من فاعل «يسارعون» ، و «نخشى» في محل نصب بالقول ، و «أن تصيبنا» في محلّ نصب](٦) بالمفعول أي : «نخشى إصابتنا» ، والدّائرة صفة غالبة لا يذكر موصوفها ، والأصل : داورة ؛ لأنّها من دار يدور.

قال الواحدي (٧) : الدّائرة من دوائر الزّمن ، كالدّولة والدّوائل تدول قال الشاعر : [الرجز]

١٩٨١ ـ يردّ عنك القدر المقدورا

أو دائرات الدّهر أن تدورا (٨)

يعني بدور الدّهر : هو الدّائرة من قوم إلى قوم.

فصل

المراد بقوله تعالى (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون يعني : عبد الله بن أبيّ

__________________

(١) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٠٤ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٥٤٣ ، والشواذ (٣٩).

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٤.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٠ ، والدر المصون ٢ / ٤٥٣.

(٦) سقط في أ.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٥.

(٨) ينظر : القرطبي ٦ / ١٤١ ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢٠٥.

٣٨١

وأصحابه ـ لعنهم الله (١) ـ (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي : في](٢) مودّة اليهود ونصارى نجران ؛ لأنّهم كانوا أهل ثروة ، وكانوا يعينونهم على مهمّاتهم ، ويقرضونهم.

ويقول المنافقون : إنّما نخالطهم لأنّا نخشى أن تصيبنا دائرة قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والزّجّاج (٣) : أي : نخشى ألا يتمّ الأمر ـ لمحمّد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فيدور الأمر كما كان قبل ذلك. وقيل : نخشى أن يدور الدّهر علينا بمكروه من جدب أو قحط ، فلا يعطون الميرة والقرض.

قوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) ، «أن يأتي» في محلّ نصب إمّا [على](٤) الخبر ل «عسى» ، وهو رأي الأخفش ، وإمّا على أنّه مفعول به ، وهو رأي سيبويه لئلّا يلزم الإخبار عن الجثّة بالحدث في قولك : «عسى زيد أن يقوم».

وأجاز أبو البقاء أن يكون «أن يأتي» في محلّ رفع على البدل من اسم «عسى» ، وفيه نظر.

فصل

قال المفسّرون (٥) ـ رحمهم‌الله ـ : عسى من الله واجب ؛ لأنّ الكريم إذا طمع في خير فعله ، وهو بمنزلة الوعد ؛ لتعلّق النّفس به ورجائها له ، قال قتادة ومقاتل (٦) : فعسى الله أن يأتي بالقضاء الفصل من نصر محمّد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ على من خالفه.

وقال الكلبي والسّدّيّ : فتح «مكّة» (٧) ، وقال الضّحّاك : فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك (٨).

«أو أمر من عنده».

قال السّدّي : هي الجزية (٩) ، وقال الحسن : إظهار أمر المنافقين والأحبار بأسمائهم والأمر بقتلهم (١٠) ، وقيل : الخصب والسّعة للمسلمين ، وقيل : إتمام أمر محمّد ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وقيل : «هذا عذاب أليم».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٨) عن عطية وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥١٦) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٢٤.

(٤) سقط في أ.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٦.

(٦) أخرجه الطبري (٢ / ٦٢٠) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥١٧) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة.

(٧) أخرجه الطبري (٢ / ٦٢٠) عن السدي.

(٨) انظر تفسير الرازي (١٢ / ١٦).

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٠) وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥١٦) عن السدي وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٤١.

(١٠) ينظر : القرطبي ٦ / ١٤١.

٣٨٢

وقيل : إجلاء بني النضير ، «فيصبحوا» أي : هؤلاء المنافقين (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من موالاة اليهود ودس الأخبار إليهم «نادمين» وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ويقولون : الظاهر أنهم لا يتم لهم أمر ، وأن الدولة والغلبة تصير لأعدائه.

قوله تعالى : (فَيُصْبِحُوا) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب عطفا على «يأتي» المنصوب ب «أن» ، والذي يسوغ ذلك وجود «الفاء» السببية ، ولو لا ها لم يجز ذلك ؛ لأن المعطوف (١) على الخبر خبر ، و «أن يأتي» خبر «عسى» ، وفيه راجع عائد على اسمها.

وقوله : «فيصبحوا» ليس فيه ضمير يعود على اسمها ، فكان من حق المسألة الامتناع ، لكن «الفاء» للسببية ، فجعلت الجملتين كالجملة الواحدة ، وذلك جار في الصلة نحو : «الذي يطير فيغضب زيد الذباب».

والصفة نحو : «مررت برجل يبكي فيضحك عمرو» ، والخبر نحو : «زيد يبكي فيضحك خالد» ، ولو كان العاطف غير «الفاء» لم يجز ذلك.

والثاني : أنه منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء في جواب التمني قالوا : «لأن «عسى» تمن وترج في حق البشر».

و (عَلى ما أَسَرُّوا) متعلق ب «نادمين» ، و «نادمين» خبر «أصبح».

قوله تعالى : (وَيَقُولُ:) قرأ أبو عمرو (٢) ، والكوفيون بالواو قبل «يقول» والباقون بإسقاطها ، إلا أن أبا عمرو نصب الفعل بعد «الواو» ، وروى عنه علي بن نصر : الرفع كالكوفيين ، فتحصل فيه ثلاث قراءات : «يقول» من غير واو [«ويقول» بالواو والنصب،](٣) «ويقول» بالواو والرفع ، فأما قراءة من قرأ «يقول» من غير واو فهي جملة مستأنفة سيقت جوابا لسؤال مقدر ، كأنه لما تقدم قوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) إلى قوله : «نادمين» ، سأل سائل فقال : ما ذا قال المؤمنون حينئذ؟ فأجيب بقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخره ، وهو واضح ، و «الواو» ساقطة في مصاحف «مكة» و «المدينة» و «الشام» ، والقارى بذلك هو صاحب هذه المصاحف ، فإن القارئين بذلك ابن كثير المكي ، وابن عامر الشامي ، ونافع المدني ، فقراءتهم موافقة لمصاحفهم [وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط ، بل وافقت روايتهم مصاحفهم](٤) على ما تبين غير مرة ، وأما قراءة «الواو» والرفع فواضحة أيضا ؛ لأنها جملة ابتدى

__________________

(١) في أ : العطف.

(٢) ينظر : السبعة ٢٤٥ ، والحجة ٣ / ٢٢٩ ، وحجة القراءات ٢٢٩ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٠ ، وشرح شعلة ٣٥١ ، وإتحاف ١ / ٥٣٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٣٨٣

بالإخبار بها ، فالواو استئنافية لمجرد عطف جملة على جملة ، و «الواو» ثابتة في مصاحف «الكوفة» و «المشرق» ، والقارى بذلك هو صاحب ذلك المصحف ، والكلام كما تقدم أيضا.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله (١) ـ : وحذف «الواو» هاهنا كإثباتها ، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها ، فإن الموصوفين بقوله تعالى (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ، هم الذين قال فيهم المؤمنون : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) ، فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حسن العطف بالواو وبغير الواو ، ونظيره قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٣] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم ، عنى ذلك أن حذف الواو وذكراها جائز.

وأما قراءة أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فضل نظر.

واختلفوا في ذلك على ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب عطفا على «فيصبحوا» على أحد الوجهين المذكورين في نصب «فيصبحوا» ، وهو الوجه الثاني ، أعني : كونه منصوبا بإضمار في جواب الترجي بعد «الفاء» ، إجراء للترجي مجرى التمني ، وفيه خلاف بين البصريين والكوفيين ، فالبصريون يمنعونه ، والكوفيون يجيزونه مستدلين على ذلك بقراءة (٢) نافع (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) [عبس : ٣ ، ٤] بنصب «تنفعه» وبقراءة عاصم (٣) في روآية حفص : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] بنصب «فأطلع» ، وسيأتي الجواب عن الآيتين في موضعه.

وهذا الوجه ـ أعني : عطف «ويقول» على «فيصبحوا» ـ قاله الفارسي وجماعة ، ونقله ابن عطية ، وذكره أبو عمرو بن الحاجب.

قال شهاب الدين أبو شامة بعد ذكره الوجه المتقدم : «وهذا وجه جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ، ولم أره لغيره ، وذكروا وجوها كلها بعيدة متعسفة» انتهى.

قال شهاب الدين (٤) : وهذا ـ كما رأيت ـ منقول مشهود عن أبي علي الفارسي ، وأما ما استجاد به هذا الوجه فإنما يتمشى على قول الكوفيين ، وهو مرجوح كا تقرر في علم النحو.

الثاني : أنه منصوب عطفا على المصدر قبله ، وهو الفتح كأنه قيل : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) ، وبأن يقول ، أي : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وهذا الوجه ذكره أبو جعفر النحاس (٥) ، ونظروه بقول الشاعر : [الوافر]

__________________

(١) ينظر : الرازي ١٢ / ١٦.

(٢) ستأتي في «عبس» آية (٣ ، ٤).

(٣) ستأتي في «غافر» آية (٣٦ ، ٣٧).

(٤) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤٤.

(٥) ينظر : إعراب القرآن ١ / ٥٠٣.

٣٨٤

١٩٨٢ ـ للبس عباءة وتقر عيني

أحب إلي من لبس الشفوف (١)

وقول الآخر : [الطويل]

١٩٨٣ ـ لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضي لبانات ويسأم سائم (٢)

وهذا مردود من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يؤدي ذلك إلى الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي ، وذلك لأن الفتح على قول مؤل ب «أن» والفعل تقديره : أن يأتي بأن يفتح ، وبأن يقول ، فيقع الفصل بقوله «فيصبحوا» وهو أجنبي ؛ لأنه معطوف على «يأتي».

الثاني : أن هذا المصدر ـ وهو الفتح ـ ليس يراد به انحلاله لحرف مصدري وفعل ، بل المراد به مصدر غير مراد به ذلك ، نحو : يعجبني ذكاؤك وعلمك.

الثالث : أنه وإن سلم انحلاله لحرف مصدري وفعل ، فلا يكون المعنى على : «فعسى الله أن يأتي بأن يقول الذين آمنوا» ، فإنه ناب عنه نبوا ظاهرا.

الثالث ـ من أوجه نصب «ويقول» ـ : أنه منصوب عطفا على قوله : «يأتي» أي : فعسى الله أن يأتي ويقول ، وإلى هذا ذهب الزمخشري ، ولم يعترض عليه بشيء.

وقد رد ذلك بأنه يلزم عطف ما لا يجوز أن يكون خبرا على ما هو خبر ، وذلك أن قوله : (أَنْ يَأْتِيَ) خبر «عسى» وهو صحيح ؛ لأن فيه رابطا عائدا على اسم «عسى» [وهو ضمير الباري تعالى ، وقوله : «ويقول» ليس فيه ضمير يعود على اسم «عسى»](٣) فكيف يصح جعله خبرا؟ وقد اعتذر من أجاز ذلك عنه بثلاثة أوجه :

أحدها : أنه من باب العطف على المعنى ، والمعنى : فعسى أن يأتي الله بالفتح ، وبقول الذين آمنوا ، فتكون «عسى» تامة ؛ لإسنادها إلى «أن» وما في حيزها ، فلا تحتاج حينئذ إلى رابط ، وهذا قريب من قولهم : «العطف على التوهم» نحو : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠].

الثاني : أن «أن يأتي» بدل من اسم الله ـ تعالى ـ لا خبر ، وتكون «عسى» حينئذ تامة ، وكأنه قيل : فعسى أن يقول الذين آمنوا ، وهذان الوجهان منقولان عن أبي علي الفارسي ، إلا أن الثاني لا يصح ؛ لأنهم نصوا على أن «عسى» و «اخلولق» و «أوشك» من بين سائر أخواتها يجوز أن تكون تامة ، بشرط أن يكون مرفوعها : «أن يفعل» ، قالوا : ليوجد في الصورة مسند ومسند إليه ، كما قالوا ذلك في «ظن» وأخواتها : إن «أن» و «أن» تسد مسد مفعوليها.

والثالث : أن ثم ضميرا محذوفا هو مصحح لوقوع «ويقول» خبرا عن «عسى» ،

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) سقط في أ.

٣٨٥

والتقدير : ويقول الذين آمنوا به ، أي : بالله ، ثم حذف للعلم به ، ذكر ذلك أبو البقاء (١).

وقال ابن عطية (٢) بعد حكايته نصب «ويقول» عطفا على «يأتي» : «وعندي في منع «عسى الله أن يقول المؤمنون» نظر ؛ إذ الله ـ تعالى ـ يصيرهم يقولون ذلك بنصره وإظهار دينه».

قال شهاب الدين (٣) : قول ابن عطية في ذلك ، قول أبي البقاء في كونه قدره ضميرا عائدا على اسم «عسى» يصح به الربط ، ويعض الناس يكثر هذه الأوجه ، ويوصلها إلى سبعة وأكثر ، وذلك باعتبار تصحيح كل وجه من الأوجه الثلاثة التي تقدمت ، ولكن لا يخرج حاصلها عن ثلاثة ، وهو النصب : إما عطفا على (أَنْ يَأْتِيَ) ، وإما على «فيصبحوا» ، وإما على «بالفتح» وقد تقدم تحقيقها.

قوله ـ تعالى ـ : (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في انتصابه وجهان :

أظهرهما : أنه مصدر مؤكد ناصبه «أقسموا» فهو من معناه ، والمعنى : أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين.

والثاني : ـ أجازه أبو البقاء (٤) وغيره ـ أنه منصوب على الحال كقولهم : «افعل ذلك جهدك» أي : مجتهدا ، ولا يبالى بتعريفه لفظا ، فإنه مؤل بنكرة على ما تقدم ذكره ، والمعنى هنا : «وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم».

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) هذه الجملة لا محل لها من الإعراب ، فإنها تفسير وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظهم ؛ إذ لو كانت حكاية لألفاظهم لقيل : إنا معكم ، وفيه نظر ؛ إذ يجوز لك أن تقول : «حلف زيد لأفعلن» أو «ليفعلن» ، فكما جاز أن تقول : ليفعلن جاز أن يقال : «إنهم لمعكم» على الحكاية.

فإن قيل : الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول : هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين ، عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى ، وقالوا : إنهم كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم معنا ومن أنصارنا ، والآن كيف صاروا موالين لأعدا انا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟

قوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فيها أوجه :

أحدها : أنها جملة مستأنفة ، والمقصود بها الإخبار من الباري ـ تعالى ـ بذلك.

الثاني : أنها دعاء عليهم بذلك ، وهو قول الله ـ تعالى ـ نحو : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧].

__________________

(١) ينظر : الإملا ١ / ٢١٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤٥.

(٤) ينظر : الإملا ١ / ٢١٩.

٣٨٦

الثالث : أنها في محل نصب ؛ لأنها من جملة قول المؤمنين ، ويحتمل معنيين كالمعنيين في الاستئناف ، أعني : كونه إخبارا أو دعاء.

الرابع : أنها في محل رفع على أنها خبر المبتدأ ، وهو «هؤلاء» ، وعلى هذا فيحتمل قوله (الَّذِينَ أَقْسَمُوا) وجهين :

أحدهما : أنه صفة لا سم الإشارة ، والخبر : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ).

والثاني : أن «الذين» خبر أول ، و «حبطت» خبر ثان عند من يجيز ذلك ، وجعل الزمخشري (١)(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) مفهمة للتعجب.

قال : وفيه معنى التعجب كأنه قيل : «ما أحبط أعمالهم ما أخسرهم» ، وأجاز مع كونه تعجبا أن يكون من قول المؤمنين ، فيكون في محل نصب ، وأن يكون من قول الباري ـ تعالى ـ لكنه أول التعجب في حق الله ـ تعالى ـ بأنه تعجيب ، قال : «أو من قول الله ـ عزوجل ـ شهادة لهم بحبوط الأعمال ، وتعجيبا من سوء حالهم» والمعنى : ذهب ما أظهروه من الإيمان ، وبطل كل خير عملوه ؛ لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة ، [أما في الدنيا فلذهاب ما عملوا ولم يحصل لهم شيء من ثمرته ، وأما في الآخرة](٢) فلاستحقاقهم اللعن والعذاب الدائم ، وقرأ (٣) أبو واقد والجراح «حبطت» بفتح «الباء» ، وهما لغتان ، وقد تقدم ذلك.

وقوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا) وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)(٥٤)

قوله : «من يرتد» «من» شرطية فقط لظهور أثرها.

وقوله تعالى : (فَسَوْفَ) جوابها وهي مبتدأة ، وفي خبرها الخلاف المشهور وبظاهره يتمسّك من لا يشترط عود الضّمير على اسم الشّرط من جملة الجواب ، ومن التزم ذلك قدّر ضميرا محذوفا تقديره : «فسوف يأتي الله بقوم غيرهم» ، ف «هم» في «غيرهم» يعود على«من» على معناها.

وقرأ (٤) ابن عامر ، ونافع : «يرتدد» بدالين.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٣.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٧ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٢ ، والدر المصون ٥٤٦ ، والشواذ ٣٩.

(٤) ينظر : السبعة ٢٤٥ ، والحجة ٣ / ٢٣٢ ، وحجة القراءات ٢٣٠ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح شعلة ٣٥٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، وإتحاف ١ / ٥٣٨.

٣٨٧

قال الزّمخشري : «وهي في الإمام ـ يعني رسم المصحف ـ كذلك» ، ولم يتبين ذلك ، ونقل غيره أنّ كل قارىء وافق مصحفه ، فإنّها في مصاحف «الشّام» و «المدينة» : «يرتدد» بدالين ، وفي الباقية : «يرتدّ» ، وقد تقدّم أنّ الإدغام لغة «تميم» ، والإظهار لغة «الحجاز» ، وأن وجه الإظهار سكون الثّاني جزما أو وقفا ، ولا يدغم إلا في متحرّك ، وأنّ وجه الإدغام تحريك هذا السّاكن في بعض الأحوال نحو : ردّا ، وردّوا ، وردّي ، ولم يردّا ، ولم يردّوا ، واردد القوم ، ثم حمل «لم يردّ» ، و «ردّ» على ذلك ، فكأنّ التميميّين (١) اعتبروا هذه الحركة العارضة ، والحجازيّين لم يعتبروها.

و «منكم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يرتدّ» ، و «عن دينه» متعلّق ب «يرتدّ».

قوله : «يحبّهم» في محلّ جر ؛ لأنها صفة ل «قوم» ، و «يحبّونه» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه معطوف على ما قبله ، فيكون في محلّ جرّ أيضا ، فوصفهم بصفتين : وصفهم بكونه تعالى يحبّهم ، وبكونهم يحبّونه.

والثاني : أجازه أبو البقاء (٢) أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضّمير المنصوب في «يحبّهم» ، قال : تقديره : «وهم يحبونه».

قال شهاب الدّين (٣) : وإنما قدّر أبو البقاء لفظة «هم» ليخرج بذلك من إشكال ، وهو أنّ المضارع المثبت متى وقع حالا ، وجب تجرّده من «الواو» نحو : «قمت أضحك» ولا يجوز: «وأضحك» وإن ورد شيء أوّل بما ذكره أبو البقاء ، كقولهم : «قمت وأصكّ عينه».

وقوله : [المتقارب]

١٩٨٤ ـ ................

نجوت وأرهنهم مالكا (٤)

أي : وأنا أصكّ ، وأنا أرهنهم ، فتؤوّل الجملة إلى جملة اسميّة ، فيصحّ اقترانها بالواو ، ولكن لا ضرورة في الآية الكريمة تدعو إلى ذلك حتّى يرتكب ، فهو قول مرجوح.

وقدمت محبّة الله ـ تعالى ـ على محبتهم لشرفها وسبقها ؛ إذ محبّته ـ تعالى ـ لهم عبارة عن إلهامهم فعل الطّاعة ، وإثابته إيّاهم عليها.

فصل

روى الزّمخشري (٥) : أنّه كان أهل الرّدّة إحدى عشرة فرقة في عهد رسول الله ـ

__________________

(١) في أ : التحيين.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤٧.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٤.

٣٨٨

صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بنو مدلج [ورئيسهم](١) وهو «عيهلة بن كعب» لقبه «ذو الخمار» وهو الأسود العنسي وكان كاهنا ـ ادّعى النّبوّة باليمن ، واستولى [على بلادها](٢) وأخرج عمّال رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ مثل معاذ بن جبل وسادات اليمن ، فأهلكه الله على يد «فيروز الدّيلمي» ، فقتله وأخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ [بقتله ليلة قتل فسرّ المسلمون ، وقبض رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ](٣) من الغد ، وأتى خبره في آخر ربيع الأوّل ، وبنو حنيفة : قوم «مسيلمة الكذّاب» ادّعى النّبوّة ، وكتب إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ : «من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرض نصفها لك ونصفها لي» ، فأجاب ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب أما بعد : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] فحاربه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بجنود المسلمين رضي الله عنهم ـ وقتل على يد وحشيّ قاتل حمزة وقال : قتلت خير النّاس في الجاهليّة ، وشرّ النّاس في الإسلام (٤) أراد في جاهليّته وفي إسلامه.

وبنو أسد : قوم طليحة بن خويلد ادّعى النّبوة ، فبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشّام ، ثمّ أسلم ، وحسن إسلامه في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وفزارة : قوم عيينة بن حصن ، وغطفان : قوم قرّة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم : قوم فجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع : قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم : قوم سجاح بنت المنذر التي ادّعت النّبوّة ، وزوجت نفسها من مسيلمة الكذّاب ، وكندة : قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل ب «البحرين» ، وقوم الحطم ابن زيد ، وكفي أمرهم على يد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وفرقة واحدة على عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ غسان قوم جبلة بن الأيهم ، وذلك أنّ جبلة أسلم على يد عمر رضي الله عنه كان يطوف ذات يوم جارّا رداءه ، فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه ، فتظلّم إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ ، فقضى بالقصاص عليه ، فقال : أنا أشتريها بألف ، فأبي الرّجل ، فلم يزل يزيد في الفداء حتى بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلا القصاص ، فاستنظره [عمر](٥) فأنظره فهرب إلى الرّوم وارتد.

ومعنى الآية : يا أيّها الذين آمنوا من يتول منكم الكفّار ، فيرتدّ عن دينه ، فليعلم : أنّ الله تعالى يأتي بقوم آخرين يتدينوا بهذا الدّين على أبلغ الوجوه.

وقال الحسن : علم الله أنّ قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم ، فأخبرهم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

(٤) تقدم.

(٥) سقط في أ.

٣٨٩

بأنه سيأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه (١). وعلى هذا التقدير : تكون هذه الآية إخبارا عن الغيب ، وقد وقع المخبر على وفقه ، فيكون معجزا.

واختلفوا في القوم من هم؟

فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضّحّاك وابن جريج : أبو بكر وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ الّذين قاتلوا أهل الرّدّة (٢) ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ مات رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وارتدّ من العرب قوم [واشتهر](٣) النّفاق ، ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الرّاسيات لهاضها ، وذلك بأن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ لما قبض ارتدّ عامّة العرب إلا أهل مكّة والمدينة. والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزّكاة ، وهمّ أبو بكر بقتالهم ، فكره ذلك أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ.

وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : كيف نقاتل النّاس ، وقد قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلا الله محمّد رسول الله ، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه ، إلا بحقّه ، وحسابه على الله» فقال أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ : «والله لأقاتلنّ من فرق بين الصّلاة والزّكاة ، فإن الزّكاة حقّ المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقاتلتهم على منعها» (٤).

قال أنس ـ رضي الله عنه ـ : كرهت الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ قتال مانعي الزّكاة ، وقالوا أهل القبلة ، فتقلّد أبو بكر سيفه ، وخرج وحده ، فلم يجدوا بدّا من الخروج على (٥) أثره.

قال ابن مسعود : كرهنا ذلك في الابتداء ، ثم حمدناه عليه في الانتهاء ، قال أبو بكر ابن عيّاش : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النّبيّين مولود أفضل من أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ، لقد قام مقام نبيّ من الأنبياء في قتال أهل الرّدّة.

وقال السّديّ : نزلت الآية في الأنصار ؛ لأنّهم الذين نصروا الرّسول وأعانوه على إظهار الدّين (٦).

وقال مجاهد : نزلت في أهل «اليمن» (٧).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٢ / ١٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٣ ـ ٦٢٤) عن الحسن والضحاك وابن جريج وعلي بن أبي طالب.

وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥١٧) عن الحسن وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وخيثمة الاترابلسي في «فضائل الصحابة» والبيهقي في الدلائل.

(٣) في أ : وإشراب.

(٤) تقدم.

(٥) تقدمت هذه الآثار في سورة آل عمران في قتال مانعي الزكاة.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٥) عن السدي.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٥) عن مجاهد. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٨) عن ابن عباس وعزاه للبخاري في «تاريخه» وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٣٩٠

وقال الكلبي : هم أحياء من اليمن ، ألفان من النّخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء النّاس ، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسيّة في أيّام عمر ـ رضي الله عنه ـ ، وروي مرفوعا أن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ لما نزلت هذه الآية ، أشار إلى أبي موسى الأشعريّ وقال : «هم قوم هذا» (١) ، وقال آخرون : هم الفرس ؛ لأنه روي أنّ النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ لمّا سئل عن هذه الآية ضرب يده على عاتق سلمان الفارسيّ وقال : هذا وذووه (٢) ، ثمّ قال : لو كان الدّين معلّقا بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس (٣).

وقال قوم :

إنّها نزلت في عليّ ـ رضي الله عنه ـ (٤) ؛ لأنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما دفع الراية إلى عليّ قال : لأدفعنّ الرّاية إلى رجل يحبّ الله ورسوله (٥).

قوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ).

هاتان أيضا صفتان ل «قوم» ، واستدلّ بعضهم على جواز تقديم الصّفة غير الصّريحة على الصّفة الصّريحة بهذه الآية ، فإن قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ) صفة وهي غير صريحة ؛ لأنّها جملة مؤوّلة بمفرد ، وقوله : «أذلّة ـ أعزّة» صفتان صريحتان ؛ لأنّهما مفردتان ، وأما غيره من النّحويّين فيقول : متى اجتمعت صفة صريحة ، وأخرى مؤوّلة وجب تقديم الصّريحة ، إلّا في ضرورة شعر ، كقول امرىء القيس : [الطويل]

١٩٨٥ ـ وفرع يغشّي المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النّخلة المتعثكل (٦)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٤ / ٦٢٤) والحاكم (٢ / ٣١٣) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٣٥٢) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٩) عن عياض الأشعري.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.

وذكره السيوطي في «الدر» (٢ / ٥١٨) وزاد نسبته لابن سعد وابن أبي شيبة في «مسنده» وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٢) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ١٨).

(٣) أخرجه البخاري ٨ / ٥١٠ في تفسير سورة الجمعة : باب قوله تعالى : وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ (٤٨٩٧) وطرقه في (٤٨٩٨) ومسلم ٤ / ١٩٧٢ ، في فضائل الصحابة : باب فضل فارس (٢٣١ ـ ٢٥٤٦) والترمذي ٥ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦ ، كتاب تفسير القرآن باب «من سورة الجمعة» (١٣١٠).

(٤) ينظر : تفسير الرازي (١٢ / ١٨).

(٥) أخرجه البخاري ٧ / ٨٧ ، كتاب فضائل الصحابة : باب مناقب علي بن أبي طالب (٣٧٠١) ومسلم ٤ / ١٨٧٢ كتاب فضائل الصحابة : باب من فضائل علي بن أبي طالب (٣٤ ـ ٢٤٠٦) ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٣٣.

(٦) ينظر البيت في ديوانه (١٦) شرح القصائد العشر (٩٢) ، ومعاهد التنصيص ١ / ٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٤ وروح المعاني ١ / ٢٠٤ والدر المصون ٢ / ٥٤٧.

٣٩١

فقدّم قوله : «يغشّي» ـ وهو جملة ـ على «أسود» وما بعده ، وهنّ مفردات ، وعند هذا القائل أنه يبدأ بالمفرد ، ثم بالظّرف أو عديله ، ثم بالجملة ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٨] (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ١٥٥].

قال أبو حيّان (١) : وفيها دليل على بطلان من يعتقد وجوب تقديم الوصف بالاسم على الوصف بالفعل إلا في ضرورة ، ثمّ ذكر الآية الآخرى.

قال شهاب الدين (٢) : وليس في هاتين الآيتين الكريمتين ما يردّ قول هذا القائل ، أمّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) جملة اعتراض ، لأنّ فيها تأكيدا وتشديدا للكلام.

وجملة الاعتراض تقع بين الصّفة وموصوفها ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ف «عظيم» صفة ل «قسم» ، وقد فصل بينهما بقوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) ، فكذلك فصل هنا بين «بقوم» ، وبين صفتهم وهي «أذلّة ـ أعزّة» بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، فعلى هذا لا يكون لها محلّ من الإعراب.

وأمّا (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ١٥٥] فلا نسلّم أن «مبارك» صفة ، ويجوز أن يكون [خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو مبارك](٣) ولو استدلّ على ذلك بآيتين غير هاتين لكان أقوى ، وهما قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] ، (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [الشعراء : ٥] فقدّم الوصف بالجار على الوصف بالصّريح ، وكذا يحتمل أن يقال : لا نسلّم أن (مِنْ رَبِّهِمْ) و (مِنَ الرَّحْمنِ) صفتان لجواز أن يكونا حالين مقدّمين من الضّمير المستتر في «محدث» أي : محدث إنزاله حال كونه من ربّهم.

و «أذلّة» جمع ذليل بمعنى متعطّف ، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مهان ، ولا يجوز أن يكون جمع «ذلول» ؛ لأن ذلولا يجمع على «ذلل» لا على أذلّة ، وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك.

قال الزّمخشري (٤) : ومن زعم أنّه من «الذّل» الذي هو نقيض الصّعوبة ، فقد غبي عن أن «ذلولا» لا يجمع على «أذلّة».

و «أذلّة» و «أعزّة» جمعان ل «ذليل» و «عزيز» وهما مثالا مبالغة ، وعدّى «أذلّة» ب «على» وإن كان أصله أن يتعدّى باللّام لما ضمّن من معنى الحنوّ والعطف ، والمعنى : عاطفين [على المؤمنين](٥) على وجه التّذلّل والتّواضع ، ويجوز أن يكون المعنى أنّهم مع

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤٨.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٨.

(٥) سقط في أ.

٣٩٢

شرفهم وعلو طبقتهم (١) وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ؛ كقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ذكر هذين الوجهين الزّمخشري.

قال أبو حيّان (٢) : قيل : «أو لأنّه على حذف مضاف ، التّقدير : على فضلهم على المؤمنين ، والمعنى : أنّهم يذلّون ، ويخضعون لمن فضّل عليه مع شرفهم وعلو مكانتهم».

وذكر آية الفتح ، وهذا هو قول الزّمخشري بعينه ، إلا أن قوله : «على حذف مضاف» يوهم حذفه ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، وهنا حذف «على» الأولى ، وحذف المضاف إليه ، والمضاف معا.

قال شهاب الدّين (٣) : ولا أدري ما حمله على ذلك؟ ووقع الوصف في جانب المحبّة بالجملة الفعليّة ، لأنّ الفعل يدلّ على التّجدد والحدوث وهو مناسب ، فإن محبّتهم لله ـ تعالى ـ تجدّد طاعاته وعبادته كلّ وقت ، ومحبّة الله إياهم تجدد ثوابه وإنعامه عليهم كلّ وقت ، ووقع الوصف في جانب التّواضع للمؤمنين والغلظة على الكافرين بالاسم الدّال على المبالغة ، دلالة على ثبوت ذلك واستقراره ، وأنه عزيز فيهم ، والاسم يدلّ على الثّبوت والاستقرار ، وقدم الوصف بالمحبّة منهم ولهم على وصفهم ب «أذلّة ـ وأعزّة» ؛ لأنّهما ناشئتان عن المحبتين ، وقدّم وصفهم المتعلّق بالمؤمنين على وصفهم المتعلّق بالكافرين ؛ لأنه آكد وألزم منه ، ولشرف المؤمن (٤) أيضا ، والجمهور على جرّ «أذلّة» ـ «أعزّة» على الوصف كما تقدّم.

قال الزّمخشري : «وقرىء (٥) «أذلّة وأعزّة» بالنّصب على الحال».

قلت : الذي قرأ «أذلّة» ، هو عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، إلا أنّه قرأ (٦) بدل «أعزّة» : «غلظاء على الكافرين» وهو تفسير ، وهي حال من «قوم» ، وجاز ذلك ، وإن كان «قوم» نكرة لقربه من المعرفة ؛ إذ قد تخصّص بالوصف.

فصل

معنى «أذلّة» أي : أرقّاء رحماء (٧) ، كقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء : ٢٤] من قولهم دابّه ذلول ، أي : تنقاد سهلة ، وليس من الذّل في شيء (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) يعادونهم ويغالبونهم ، من قولهم : عزّه إذا غلبه.

__________________

(١) في أ : طبعهم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٤٨.

(٤) في أ : المؤمنين.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٨.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٤٩.

(٧) أخرجه الطبري (٤ / ٦٢٧) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٨) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.

٣٩٣

قال عطاء : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) كالولد لوالده والعبد لسيّده ، أعزّة على الكافرين كالسّبع على فريسته (١).

قوله تعالى : (يُجاهِدُونَ) يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون صفة أخرى ل «قوم» ، ولذلك جاء بغير واو ، كما جاءت الصّفتان قبله بغيرها.

الثاني : أنه في محلّ نصب على الحال من الضّمير المستكنّ في «أعزّة» ، أي : يعزّون مجاهدين.

قال أبو البقاء (٢) : وعلى هذا فيجوز أن تكون من الضّمير في «أذلّة» ، أي : يتواضعون للمؤمنين حال كونهم مجاهدين ، أي : لا يمنعهم الجهاد في سبيل الله من التّواضع للمؤمنين ، وحاليّتها من ضمير «أعزّة» أظهر من حاليّتها ممّا ذكرت ، وذلك لم يسغ أن يجعل المسألة من التّنازع.

الثالث : أن يكون مستأنفا ، سيق للإخبار بأنّهم يجاهدون في نصرة دين الله تعالى.

قوله تعالى : (وَلا يَخافُونَ) فيه أوجه :

أحدها : أن يكون معطوفا على «يجاهدون» فتجري فيه الأوجه السّابقة فيما قبله.

الثاني : أن تكون «الواو» للحال ، وصاحب الحال فاعل «يجاهدون» ، قال الزّمخشري (٣) : «أي : يجاهدون» وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين».

وتبعه أبو حيّان (٤) ولم ينكر عليه ، وفيه نظر ؛ لأنهم نصّوا على أن المضارع المنفي ب «لا» أو «ما» كالمثبت في أنّه [لا يجوز أن](٥) تباشره واو الحال ، وهذا كما ترى مضارع منفيّ ب «لا» ، إلّا أن يقال : إن ذلك الشّرط غير مجمع عليه ، ولكن العلّة التي منعوا لها مباشرة «الواو» للمضارع المثبت موجودة في المضارع المنفي ب «لا» و «ما» ، وهي أنّ المضارع المثبت بمنزلة الاسم الصّريح ، فإنّك إذا قلت : «جاء زيد يضحك» كان في قوة «ضاحكا» و «ضاحكا» لا يجوز دخول «الواو» عليه (٦) ، فكذلك ما أشبهه وهو في قوّته ، وهذه موجودة في المنفي ، فإن قولك : «جاء زيد يضحك» في قوّة «غير ضاحك» و «غير ضاحك» لا تدخل عليه الواو [إلّا أن هذا يشكل بأنّهم نصّوا على أنّ المنفي ب «لم» و «لمّا» يجوز فيه دخول الواو ، مع أنّه في قولك : «قام زيد لم يضحك» بمنزلة «غير ضاحك»](٧) ومن دخول الواو ، وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] ونحوه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٦ / ١٤٣) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٩.

(٣) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٨.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٥.

(٥) سقط في أ.

(٦) سقط في أ.

(٧) سقط في أ.

٣٩٤

الثالث : أن تكون «الواو» للاستئناف ، فيكون ما بعدها جملة مستأنفة مستقلّة بالإخبار ، وبهذا يحصل الفرق بين هذا الوجه ، وبين الوجه الذي جوّزت فيه أن تكون «الواو» عاطفة ، مع اعتقادنا أن «يجاهدون» مستأنف ، وهو واضح.

و «اللّومة» : المرّة من اللّوم.

قال الزمخشري (١) : «وفيها وفي التّنكير مبالغتان ، كأنّه قيل : «لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللّوّام» ، و «لومة» مصدر مضاف لفاعله في المعنى.

فإن قيل : هل يجوز أن يكون فاعله محذوفا ، أي : لا يخافون لومة لائم إيّاهم؟

فالجواب أنّ ذلك لا يجوز عند الجمهور ؛ لأنّ المصدر المحدود بتاء التّأنيث لا يعمل ، فلو كان مبنيّا على التّاء عمل ، كقوله : [الطويل]

١٩٨٦ ـ فلو لا رجاء النّصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا بالموارد (٢)

فأعمل «رهبة» ؛ لأنه مبنيّ على «التّاء» ، ولا يجوز أن يعمل المحدود بالتّاء إلا في قليل في كلامهم ؛ كقوله : [الطويل]

١٩٨٧ ـ يحايي به الجلد الّذي هو حازم

بضربة كفّيه الملا وهو راكب (٣)

يصف رجلا سقى رجلا ماء فأحياه به ، وتيمّم بالتّراب.

والملا : التّراب ، فنصب «الملا» ب «ضربة» ، وهو مصدر محدود بالتّاء وأصل «لائم» : لاوم ؛ لأنه من اللّوم ، فأعلّ ك «قائم».

فصل في معنى الآية

المعنى لا يخافون في نصرة دين الله لومة النّاس ، وذلك [أنّ](٤) المنافقين يراقبون الكفّار ويخافون لومهم.

وروى عبادة بن الصّامت ، قال : بايعنا رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ على السّمع والطّاعة ، وأن نقوم لله وأن نقول الحقّ حيث ما كنّا لا نخاف في الله لومة لائم.

قوله تعالى : «وذلك» في المشار إليه ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه جميع ما تقدّم من الأوصاف التي وصف بها القوم ، من المحبّة ، والذّلّة ، والعزّة ، والمجاهدة في سبيل الله ، وانتفاء خوف اللّائمة من كل أحد ، واسم الإشارة يسوغ فيه ذلك ، أعني : أنه يقع بلفظ الإفراد مشارا به لأكثر من واحد ، وقد تقدّم تحقيقه في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٨.

(٢) تقدم

(٣) تقدم

(٤) سقط في أ.

٣٩٥

والثاني : أنّه مشار به إلى حبّ الله لهم ، وحبّهم له.

والثالث : أنّه مشار به إلى قوله : «أذلّة» ، أي : لين الجانب ، وترك التّرفّع ، وفي هذين تخصيص غير واضح ، وكأنّ الحامل على ذلك من مجيء اسم الإشارة مفردا.

و «ذلك» مبتدأ ، و (فَضْلُ اللهِ) خبره.

و «يؤتيه» يحتمل ثلاثة أوجه :

أظهرها : أنه خبر ثان.

والثاني : أنه مستأنف.

والثالث : أنّه في محلّ نصب على الحال ، كقوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢].

فصل

ومعنى الكلام : أنّ الوصف بالمحبّة ، والذلّة ، والعزّة ، والمجاهدة ، وانتفاء خوف اللّائمة حصل بفضل الله ـ تعالى ـ ، وهذا يدلّ على أنّ طاعات العباد مخلوقة لله تعالى ، والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف وهو بعيد ؛ لأنّ فعل الألطاف عامّ في حقّ الكلّ ، فلا بدّ في التّخصيص من مزيد فائدة.

ثم قال ـ عزوجل ـ : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ، قالوا : فالواسع إشارة إلى كمال المقدرة.

والعليم إشارة إلى كمال العلم ، ومن هذا صفته ـ سبحانه وتعالى ـ ، فلا يعجزه أنّه سيجيء بأقوام هذا شأنهم.

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٥٥)

لمّا نهى عن موالاة الكفّار في الآيات المتقدّمة بيّن هاهنا من يجب موالاته.

قوله (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) مبتدأ وخبر.

و «رسوله» و «الّذين» عطف على الخبر.

قال الزّمخشري (١) : قد ذكرت جماعة فهلّا قيل : «إنما أولياؤكم»؟

وأجاب أنّ الولاية بطريق الأصالة لله ـ تعالى ـ ثم نظم في سلك إثباتها لرسوله وللمؤمنين ، ولو جيء به جمعا ، فقيل : «إنما أولياؤكم» لم يكن في الكلام أصل وتبع.

قال شهاب الدّين (٢) : ويحتمل وجها آخر ، وهو أن «ولي» بزنة «فعيل» ، و «فعيل» قد نصّ عليه أهل اللّسان أنّه يقع للواحد والاثنين والجماعة تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد ، يقال : «الزّيدون صديق» و «هند صديق» ، وهذا مثله غاية ما فيه أنّه مقدّم في التّركيب ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥١.

٣٩٦

وقد أجاب الزّمخشري وغيره في قوله تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩] وذكر وجه ذلك ، وهو شبهه بالمصادر ، وسيأتي تحقيقه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

وقرأ ابن (١) مسعود : «إنّما مولاكم الله» ، وهي تفسير لا قراءة.

فصل في سبب نزول الآية

روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّها نزلت في عبادة بن الصّامت ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن أبيّ ابن سلول ـ لعنه الله ـ ، حين تبرأ عبادة من اليهود وقال : أتولّى الله ورسوله والذين آمنوا ، فنزل فيهم من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ، إلى قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني : عبادة بن الصّامت وأصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ، وقال جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ : جاء عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فقال : يا رسول الله : «إن قومنا قريظة والنّضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا ألّا يجالسونا» فنزلت هذه الآية الكريمة ، فقرأها عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ فقال : يا رسول الله رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء (٢) ، وعلى هذا التّأويل أراد بقوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ راكِعُونَ) صلاة التّطوّع باللّيل والنّهار.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والسّديّ ـ رحمه‌الله ـ : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ، أراد به على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ مرّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه (٣) ، وقال جويبر عن الضّحّاك في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض ، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) نزلت](٤) في

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٨ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٥١.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢٠) وعزاه لابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩) عن ابن عباس والسدي ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٩) عن ابن عباس وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد وأبي الشيخ وابن مردويه.

وعزاه أيضا للخطيب في «المتفق والمفترق» عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني في الأوسط كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٢٠) عن عمار بن ياسر وقال الهيثمي : وفيه من لا أعرفهم.

وأخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن علي كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٩).

وذكره السيوطي في «الدر» عن سلمة بن كهيل (٢ / ٥٢٠) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر بلفظ : تصدق علي بخاتمه وهو راكع.

(٤) سقط في أ.

٣٩٧

المؤمنين ، فقيل له : إن ناسا يقولون : إنّها نزلت في عليّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : هو من المؤمنين (١).

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) فيه خمسة أوجه :

أحدها : أنّه مرفوع على الوصف ، لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا).

وصف المؤمنين بإقام الصلاة ، وإيتاء الزّكاة ، وذكر هاتين العبادتين دون سائر فروع الإيمان ؛ لأنّهما أفضلهما.

الثاني : أنّه مرفوع على البدل من (الَّذِينَ آمَنُوا).

الثالث : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين.

الرابع : أنه عطف بيان لما قبله ؛ فإنّ كل ما جاز أن يكون بدلا جاز أن يكون بيانا ، إلا فيما استثني كما تقدّم.

الخامس : أنه منصوب بإضمار فعل ، وهذا الوجه والّذي قبله من باب القطع عن التّبعيّة.

قال أبو حيّان (٢) ـ بعد أن نقل عن الزّمخشري وجهي البدل ، وإضمار المبتدأ فقط ـ : «ولا أدري ما الّذي منعه من الصّفة ، إذ هو المتبادر إلى الذّهن ، ولأنّ المبدل منه على نيّة الطّرح ؛ وهو لا يصحّ هنا ؛ لأنّه هو الوصف المترتّب عليه صحّة ما بعده من الأوصاف».

قال شهاب الدّين (٣) : لا نسلّم أنّ المتبادر إلى الذّهن الوصف ، بل البدل هو المتبادر ، وأيضا فإن الوصف بالموصول على خلاف الأصل ؛ لأنّه مؤوّل بالمشتقّ وليس بمشتقّ ، ولا نسلّم أن المبدل منه على نيّة الطّرح ، وهو المنقول عن سيبويه (٤).

قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنّها معطوفة على ما قبلها من الجمل ، فتكون صلة للموصول ، وجاء بهذه الجملة اسميّة دون ما قبلها ، فلم يقل : «يركعون» اهتماما بهذا الوصف ، لأنّه أظهر أركان الصلاة.

والثاني : أنّها «واو» الحال ، وصاحبها هو واو «يؤتون».

والمراد بالرّكوع الخضوع أي : يؤتون الصّدقة ، وهم متواضعون للفقراء الّذين يتصدّقون عليهم.

ويجوز أن يراد به الرّكوع حقيقة ؛ كما تقدّم عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩) عن أبي جعفر.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥٢٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٥١.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٣٧٢.

٣٩٨

وقال أبو مسلم (١) : المراد من الرّكوع : الخضوع ، أي : يصلّون ويركعون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)(٥٦)

(وَمَنْ يَتَوَلَّ) «من» شرط في محلّ رفع بالابتداء.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) جملة واقعة خبر المبتدأ ، والعائد غير مذكور لكونه معلوما ، والتّقدير : فهو غالب لكونه من جند الله ، فيحتمل أن يكون جوابا للشّرط ، وبه يحتجّ من لا يشترط عود ضمير على اسم الشّرط إذا كان مبتدأ.

ولقائل أن يقول : إنّما جاز ذلك ؛ لأنّ المراد بحزب الله هو نفس المبتدأ ، فيكون من باب تكرار المبتدأ بمعناه ، وفيه خلاف ، فالأخفش يجيزه ، فإن التقدير : ومن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنه غالب ، فوضع الظّاهر موضع المضمر لفائدة ، وهي التّشريف بإضافة الحزب إلى الله ـ تعالى ـ ، ويحتمل أن يكون الجواب محذوفا ، لدلالة الكلام عليه ، أي : ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا يكن من حزب الله الغالب ، أو ينصر ونحوه ويكون قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) دالّا عليه ، وعلى هذين الاحتمالين ، فلا دلة في الآية على عدم اشتراط عود ضمير على اسم الشرط.

وقوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) في محلّ جزم إن جعلناه جوابا للشّرط ، ولا محلّ له إن جعلناه دالّا على الجواب.

وقوله «هم» يحتمل أن يكون فصلا ، وأن يكون مبتدأ.

و «الغالبون» خبره والجملة خبر «إن» ، وقد تقدّم الكلام على ضمير الفصل.

و «الحزب» : الجماعة فيها غلظة وشدّة ، فهو جماعة خاصّة ، وهو في اللّغة : أصحاب الرّجل الّذين يكونون معه على رأيه ، وهم القوم الّذين يجتمعون لأمر حزبهم ، وللمفسرين فيه عبارات (٢) ، فقال الحسن : جند الله (٣) وقال أبو روق : أولياء الله (٤) ، وقال أبو العالية : شيعته (٥) ، وقال بعضهم : أنصار الله (٦) ، وقال الأخفش : حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه وينصرونه (٧).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٥٧)

لما نهى في الآية الأولى عن اتّخاذ اليهود والنّصارى أولياء ، نهى هنا عن جميع

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٢٣.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٢٨.

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ١٤٤) والرازي (١٢ / ٢٨).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٣٩٩

موالاة الكفّار على العموم ، ف «الّذين» وصلته هو المفعول الأوّل لقوله (لا تَتَّخِذُوا) ، والمفعول الثاني : هو قوله «أولياء» ، و «دينكم» مفعول ل «اتّخذوا» ، و «هزوا» مفعول ثان ، وتقدّم ما في «هزءا» من القراءات والاشتقاق.

قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه في محلّ نصب على الحال ، وصاحبها فيه وجهان :

أحدهما : أنّه الموصول الأوّل.

والثاني : أنّه فاعل «اتّخذوا» والثاني من الوجهين الأوّلين : أنه بيان للموصول الأوّل ، فتكون «من» لبيان الجنس.

وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِكُمْ) متعلّق ب «أوتوا» ؛ لأنّهم أوتوا الكتاب قبل المؤمنين ، والمراد بالكتاب : الجنس.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ كان رفاعة بن زيد بن التّابوت ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية (١) ، ومعنى تلاعبهم واستهزائهم ، إظهار ذلك باللّسان مع الإصرار على الكفر في القلب ، ونظيره قوله في ذلك في سورة «البقرة» : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) إلى قوله: (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [آية : ١٤] ، والمعنى : أنّ القوم لمّا (٢) اتّخذوا دينكم هزوا ولعبا وسخرية ، فلا تتّخذوهم أولياء وأنصارا وأحبابا ، فإن ذلك الأمر خارج عن العقل والمروءة.

قوله تعالى : (وَالْكُفَّارَ) قرأ أبو عمرو (٣) والكسائي : «والكفّار» بالخفض ، والباقون بالنّصب ، وهما واضحتان ، فقراءة الخفض عطف على الموصول المجرور ب «من» ، ومعناها : أنّه نهاهم أن يتّخذوا المستهزئين أولياء ، وبيّن أن المستهزئين صنفان : أهل كتاب متقدّم ، وهم اليهود والنّصارى ، وكفار عبدة أوثان ، وإن كان اسم الكفر ينطلق على الفريقين ، إلا أنّه غلب على عبدة الأوثان : الكفّار ، وعلى اليهود والنّصارى : أهل الكتاب.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٣٠) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥٢١) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) في أ : إنما.

(٣) وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو «والكفّار» بالنصب.

ينظر : الحجة ٣ / ٢٣٤ ، والسبعة ٢٤٥ ، وحجة القراءات ٢٣٠ ، والعنوان ٨٨ ، وشرح شعلة ٣٥٢ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٢ ، وإتحاف ١ / ٥٣٩.

٤٠٠