اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٧

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٤٠

وينبغي إذا جعلا مفعولا من أجله أن يقدّر إسنادهما إلى الله ـ تعالى ـ لا إلى الإنجيل ليصح النصب ، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلا وزمانا ، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) عدّي إليه باللام ، ولأنه خالفه أيضا في الزمان ، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماض ، بخلاف الهداية والموعظة ، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء.

و «للمتقين» يجوز أن يكون صفة ل «موعظة» ، ويجوز أن تكون «اللام» زائدة مقوية ، و «المتقين» مفعول ب «موعظة» ، ولم تمنع تاء التأنيث من عمله ؛ لأنه مبنيّ عليها ؛ كقوله : [الطويل]

١٩٧٠ ـ ... ورهبة

عقابك ... (١)

وقد تقدم الكلام على «الإنجيل» واشتقاقه وقراءة الحسن فيه بما أغنى عن إعادته.

وقرأ الضّحّاك بن مزاحم (٢) : «وهدى وموعظة» بالرفع ، ووجهها أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : وهو هدى وموعظة.

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : هنا سؤالات :

الأول : أنه ـ تعالى ـ وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان [عمله على شريعة التوراة ، ومعلوم أنه لم يكن](٤) كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما‌السلام ، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧] فكيف الجمع بينهما؟

والجواب : كون عيسى عليه الصلاة والسلام مصدقا للتوراة ، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى ، وأنه كان حقّا واجب العمل به قبل ورود النّسخ.

الثاني : لم كرر كونه مصدقا لما بين يديه؟

والجواب : ليس فيه تكرار ، إلا أنّ في الأول أنّ المسيح يصدق التوراة ، وفي الثاني : الإنجيل يصدق التوراة.

الثالث : ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال «[فيه](٥) هدى ونور ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين»؟

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥١١ ، والدر المصون ٢ / ٥٣٥.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ٩.

(٤) سقط في أ.

(٥) سقط في أ.

٣٦١

والجواب : [أن قوله](١) «هدى» بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدّالة على التوحيد والتنزيه ، وبراءة الله عن الصاحبة والولد ، والمثل والضد ، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى.

وأما كونه نورا [فالمراد به كونه بيانا للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف](٢).

وأما كونه هدى مرة أخرى ، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيها على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجا إلى البيان والتقرير.

وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة ، وإنما خصها بالمتقين ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٤٧)

قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ) قرأ الجمهور بسكون «اللام» وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سكّنت تشبيها ب «كتف» وإن كان أصلها الكسر ، وقد قرأ بعضهم (٣) بهذا الأصل.

وقرأ حمزة والأعمش (٤) ، بكسرها ونصب الفعل بعدها ، جعلها لام «كي» ، فنصب الفعل بعدها بإضمار «أن» على ما تقرر غير مرّة ، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة.

وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق «اللام» ب «آتينا» ، أو ب «قفّينا» إن جعلنا (هُدىً وَمَوْعِظَةً) مفعولا لهما ، أي : قفّينا للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم ، وإن جعلناهما حالين معطوفين على «مصدقا» تعلّق «وليحكم» في قراءته بمحذوف دلّ عليه اللفظ ، كأنه قيل : «وللحكم آتيناه ذلك».

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : إنما هو فالمراد بكونه بيانا مبشرا مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدمه.

(٣) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٥.

(٤) ينظر : السبعة ٢٤٤ ، والحجة ٣ / ٢٢٧ ، وحجة القراءات ٢٢٧ ، والعنوان ٨٧ ، وشرح شعلة ٢٥١ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٠ ، وإتحاف ١ / ٥٣٦.

٣٦٢

قال الزمخشري (١) : فإن قلت : فإن نظمت «هدى موعظة» في سلك «مصدقا» فما تصنع بقوله : «وليحكم»؟

قال شهاب الدين (٢) : أصنع به ما صنعت ب (هُدىً وَمَوْعِظَةً) حيث جعلتهما مفعولا لهما فأقدّر : «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه».

وقال ابن عطية (٣) قريبا من الوجه الأول ، أعني كون (٤) «وليحكم» مفعولا له عطفا على «هدى» والعامل «آتيناه» الملفوظ به ، فإنه قال : وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل.

قال أبو حيان (٥) : فعطف «وليحكم» على توهّم علة ، ولذلك قال : «ليتضمن» وذكر أبو حيان قول الزمخشري السّابق ، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية.

قال : لأنّ الهدى الأول ، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة ، إنما جيء بقوله : (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) على معنى كائنا فيه ذلك ومصدقا ، وهذا معنى الحال ، والحال لا تكون علة ، فقوله : «ليتضمّن كيت وكيت وليحكم» بعيد.

واختلف المفسرون (٦) في هذه الخواتم الثلاثة أعني : الكافرون الظالمون الفاسقون.

فقال القفال (٧) : صفات لموصوف واحد ، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى ، بل كما يقال : من أطاع الله فهو البرّ ، ومن أطاع الله فهو المؤمن ، ومن أطاع الله فهو المتّقي ؛ لأنّ كلّ ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد وقال آخرون (٨) : الأوّل في الجاحد ، والثاني والثالث : في المقرّ التارك ، وقال الأصم (٩) : الأوّل والثاني في اليهود ، والثالث في النّصارى.

وقال الشّعبيّ : الأولى في المسلمين والثانية في اليهود ، والثالثة : في النصارى ، لأنّ قبل الأولى (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ) ، و (كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) ، و (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) وقبل الثانية (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) وهم اليهود ، وقبل الثّالثة (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) وهم النّصارى ، فكأنّه خصّ كلّ واحدة بما يليه وهذا أحسنها.

وقرأ أبيّ (١٠) : «وأن ليحكم» بزيادة «أن» وليس موضع زيادتها.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ١ / ٦٣٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٩.

(٤) في ب : كرب.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥١٢.

(٦) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ١٩٩ ، والبحر المحيط ٣ / ٥١١ ، والدر المصون ٢ / ٥٣٦.

وينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠.

(٩) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٠.

(١٠) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥١١.

٣٦٣

فصل

من قرأ بكسر اللام وفتح الميم جعل اللّام متعلقة بقوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) فيكون المعنى: آتيناه الإنجيل ليحكم ، ومن قرأ بجزم اللام والميم على سبيل الأمر ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون التقدير : وقلنا : ليحكم أهل الإنجيل ، فيكون هذا إخبارا عمّا فرض الله عليهم في ذلك الوقت ، وحذف القول كثير كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] أي : يقولون سلام عليكم.

والثاني : أن يكون قوله : «وليحكم» ابتدأ الأمر للنّصارى بالحكم بما في الإنجيل.

فإن قيل : كيف يجوز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟

فالجواب من وجوه :

[الأول : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخا بالقرآن.

الثالث : المراد وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه](١) زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره كما فعله اليهود من إخفاء أحكام التّوراة ، والمعنى : وليقرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله من غير تحريف ولا تبديل ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(٤٨)

(٢) وهذا خطاب مع النّبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ والمراد بالكتاب القرآن العظيم.

والباء [في «بالحقّ»](٣) يجوز أن تكون للحال من «الكتاب» أي : ملتبسا بالحقّ والصّدق ، وهي حال مؤكدة ، ويجوز أن تكون حالا من الفاعل أي : مصاحبين للحقّ ، أو حالا من «الكاف» في «إليك» أي : وأنت ملتبس بالحقّ.

و «من الكتاب» تقدم نظيره ، و «أل» في الكتاب الأول للعهد ، وهو القرآن بلا خلاف ، وفي الثاني : يحتمل أن تكون للجنس ، إذ المراد الكتب السماويّة [كما تقدم](٤).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

٣٦٤

وجوّز أبو حيان (١) : أن تكون للعهد ؛ إذ المراد نوع معلوم من الكتاب ، لا كل ما يقع عليه هذا الاسم ، والفرق بين الوجهين أنّ الأول يحتاج إلى حذف [صفة] أي : من الكتاب الإلهي ، وفي الثاني لا يحتاج إلى ذلك ؛ لأن العهد في الاسم يتضمنه بجميع صفاته.

قوله تعالى : (وَمُهَيْمِناً) الجمهور على كسر الميم الثانية ، اسم فاعل ، وهو حال من «الكتاب» الأول لعطفه على الحال منه وهو «مصدّقا» ، ويجوز في «مصدّقا» و «مهيمنا» أن يكونا حالين من كاف «إليك» ، وسيأتي تحقيق ذلك عند قراءة مجاهد رحمه‌الله.

«وعليه» متعلق ب «مهيمن».

و «المهيمن» : الرّقيب قال حسّان : [الكامل]

١٩٧١ ـ إنّ الكتاب مهيمن لنبيّنا

والحقّ يعرفه ذوو الألباب (٢)

والحافظ أيضا قال : [الطويل]

١٩٧٢ ـ مليك على عرش السّماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد (٣)

وعن ابن عباس (٤) ـ رضي الله عنهما ـ «شاهدا» وهو قول مجاهد وقتادة والسديّ والكسائي ، وقال عكرمة : دالا ، وقال سعيد بن جبير ، وأبو عبيدة : مؤتمنا عليه (٥). وقاله الكسائيّ والحسن.

واختلفوا : هل هو أصل بنفسه ، أي : أنه ليس مبدلا من شيء ، يقال : «هيمن يهيمن فهو مهيمن» ك «بيطر يبيطر فهو مبيطر».

وقال أبو عبيدة : لم تجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة ألفاظ : «مبيطر ، ومسيطر ، ومهيمن ، ومحيمر».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥١٢.

(٢) ينظر : البحر ٣ / ٥١٣ ، القرطبي ٦ / ٢١٠ ، الدر المصون ٢ / ٥٣٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٥١٣ ، الدر المصون ٢ / ٥٣٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٠٦) عن ابن عباس والسدي وقتادة ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور «(٢ / ٥١٣) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن المندر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا (٢ / ٥١٣) عن مجاهد وزاد نسبته لآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦٠٦ ـ ٦٠٧) عن ابن عباس وسعيد بن جبير.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٢) عن ابن عباس وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات» وأخرجه أبو الشيخ عن عطية كما في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٣).

٣٦٥

وزاد أبو القاسم الزّجّاجيّ في شرحه لخطبة «أدب الكاتب» لفظا خامسا ، وهو مبيقر ، اسم فاعل من : بيقر يبيقر أي : خرج من أفق إلى أفق ، أو لعب (١) البقّيرى وهي لعبة معروفة للصّبيان.

وقيل : إنّ هاءه مبدلة من همزة ، وأنه اسم فاعل من آمن غيره من الخوف ، والأصل «مأأمن» بهمزتين أبدلت الثانية ياء كراهية اجتماع همزتين ، ثمّ أبدلت الأولى هاء ك «هراق وهراح ، وهبرت الثوب» في : «أراق وأراح وأبرت الثوب» و «أيهات وهيهات» ونحوها ، وهذا ضعيف فيه تكلّف لا حاجة إليه ، مع أنّ له أبنية يمكن إلحاقه بها ك «مبيطر» وإخوانه ، وأيضا فإنّ همزة «مأأمن» اسم فاعل من «آمن» قاعدتها الحذف فلا يدّعى فيها أنها أثبتت ، ثم أبدلت هاء ، هذا ما لا نظير له.

وقد سقط ابن قتيبة سقطة فاحشة حيث زعم أن «مهيمنا» مصغّر ، وأنّ أصله «مؤيمن» تصغير «مؤمن» اسم فاعل ، ثم قلبت همزته هاء ك «هراق» ، ويعزى ذلك لأبي العبّاس المبرّد أيضا ، إلّا أنّ الزّجّاج (٢) قال : «وهذا حسن على طريق العربية [وهو موافق لما جاء في التفسير من أنّ معنى «مهيمن» : مؤمن». وهذا الذي قاله الزّجّاج واستحسنه](٣) أنكره الناس عليه ، وعلى المبرد ، وعلى من تبعهما.

ولما بلغ أبا العباس ثعلبا هذا القول أنكره أشدّ إنكار ، وأنحى على ابن قتيبة ، وكتب إليه : أن اتّق الله فإن هذا كفر أو ما أشبهه ، لأنّ أسماء الله ـ تعالى ـ لا تصغّر ، وكذلك كل اسم معظّم شرعا.

وقال ابن عطيّة (٤) : «إنّ النقّاش حكى أنّ ذلك لمّا بلغ ثعلبا فقال : إنّ ما قال ابن قتيبة رديء باطل ، والوثوب على القرآن شديد ، وهو ما سمع الحديث من قويّ ولا ضعيف ، وإنّما جمع الكتب من هوس غلبه» (٥).

وقرأ ابن محيصن ومجاهد (٦) : «ومهيمنا» بفتح الميم الثانية على أنّه اسم مفعول.

وقال أبو البقاء (٧) : وأصل «مهيمن» : مؤيمن ؛ لأنه مشتقّ من «الأمانة» ؛ لأنّ المهيمن الشاهد ، وليس في الكلام «هيمن» حتى تكون «الهاء» أصلا ، وهذا الذي قاله ليس بشيء لما تقدّم من حكاية أهل اللّغة «هيمن» ، وغاية ما في الباب أنهم لم يستعملوه إلّا مزيدا فيه الياء ك «بيطر» وبابه ، بمعنى أنّه حوفظ عليه من التّبديل والتّغيير ، والفاعل هو الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] أو الحافظ له في كلّ

__________________

(١) في ب : أحب.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٢ / ١٩٧.

(٣) سقط في أ.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٠.

(٥) في ب : مؤمن عليه.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٠ ، البحر المحيط ٣ / ٥١٣ ، والدر المصون ٢ / ٥٣٧.

(٧) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

٣٦٦

بلد ، حتّى إنّه إذا غيّرت منه الحركة تنبّه لها الناس ، وردّوا على قارئها بالصواب.

والضمير في «عليه» على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول ، وعلى القراءة المشهورة عائد على الكتاب الثاني.

وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح ، وقال : «معناه : محمد مؤتمن على القرآن».

قال الطّبريّ : فعلى هذا يكون «مهيمنا» حالا من «الكاف» في «إليك» ، وطعن على هذا القول لوجود «الواو» [في] «ومهيمنا» ؛ لأنها عطف على «مصدّقا» ، و «مصدّقا» حال من «الكتاب» لا حال من «الكاف» ؛ إذ لو كان حالا منها لكان التركيب : «لما بين يديك» بالكاف.

قال أبو حيّان (١) : وتأويله على أنّه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقدير : «وجعلناك يا محمّد مهيمنا» أبعد يعني : أنّ هذين التّأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد ، لكنّ الأول بعيد ، والثّاني أبعد منه.

وقال ابن عطيّة (٢) هنا بعد أن حكى قراءة مجاهد وتفسيره محمدا ـ عليه‌السلام ـ أنّه أمين على القرآن : قال الطبري وقوله : «ومهيمنا» على هذا حال من «الكاف» في قوله : «إليك» قال : «وهذا تأويل بعيد المفهوم» قال : «وغلط الطبريّ في هذه اللّفظة على مجاهد ، فإنه فسّر تأويله على قراءة النّاس «مهيمنا» بكسر الميم الثانية ، فبعد التأويل ، ومجاهد رحمه‌الله إنّما يقرأ هو وابن محيصن : «مهيمنا» بفتح الميم الثّانية فهو بناء اسم المفعول ، وهو حال من «الكتاب» معطوف على قوله : «مصدّقا» ، وعلى هذا يتجه أنّ المؤتمن عليه هو محمد ـ عليه‌السلام ـ».

قال : «وكذلك مشى مكيّ ـ رحمه‌الله ـ».

قال شهاب الدّين (٣) : وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يردّ على الطّبريّ ، [فإنّ الطبري] استشكل كون «مهيمنا» حالا من «الكاف» على قراءة مجاهد ، وأيضا فقد قال ابن عطية بعد ذلك : ويحتمل أن يكو ن «مصدقا ومهيمنا» حالين من «الكاف» في «إليك» ، ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكّي ، فالناس إنما استشكلوا كونهما حالين من كاف «إليك» لقلق التركيب ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبو حيّان من التّأويلين.

وقوله : «ولا يخص ذلك» كلام صحيح ، وإن كان مكّيّ التزمه ، وهو الظّاهر.

و «عليه» في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ، ومجاهد لقيامه مقام الفاعل ، كذا قاله ابن عطيّة.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٥١٣.

(٢) ينظر : الدر المصون (٢ / ٥٣٢).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٠.

٣٦٧

قال شهاب الدين (١) : هذا إذا جعلنا «مهيمنا» حالا من «الكتاب» ، أمّا إذا جعلناه حالا من كاف «إليك» ، فيكون القائم مقام الفاعل ضميرا مستترا يعود على النبي ـ عليه‌السلام ـ ، فيكون «عليه» أيضا في محلّ نصب ، كما لو قرىء به اسم الفاعل انتهى.

فصل معنى أمانة القرآن

ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم ، فإن كان في القرآن فصدّقوه ، وإلّا فكذّبوه.

قال سعيد بن المسيّب والضّحاك : قاضيا (٢) ، وقيل : إنّما كان القرآن مهيمنا على الكتب ؛ لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخا ألبتّة ، ولا يتطرّق إليه التّبديل والتّحريف ؛ لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

وإذا كان كذلك كان شهادة القرآن على التّوراة والإنجيل والزّبور حقّ وصدق باقية أبدا ، [وكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبدا](٣).

ومن قرأ بفتح الميم الثّانية ، فالمعنى أنه مشهود عليه من عند الله تعالى بأنّه يصونه عن التّحريف والتّبديل لقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، والآيات المتقدّمة.

قوله تعالى (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) : يا محمد (بِما أَنْزَلَ اللهُ) بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك بالقرآن ، والوحي ينزل عليك ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) ، أي : ولا تتحرف ، ولذلك عدّاه ب «عن» كأنّه قيل : ولا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم.

روي أنّ جماعة من اليهود قالوا : تعالوا [نذهب](٤) إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه ، ثمّ دخلوا عليه وقالوا : يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم ، وأنّا إن اتّبعناك اتّبعك كلّ اليهود ، وإنّ بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك ، فاقض لنا ونحن نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية (٥) ـ والله أعلم ـ.

فصل

تمسّك من طعن في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآية ، وقال : لو لا جواز المعصية عليهم لما قال الله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٨.

(٢) ينظر : البغوي ٢ / ٤٣ والرازي ١٢ / ١١.

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٦١٤) عن ابن عباس وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.

٣٦٨

والجواب : أنّ ذلك مقدور له (١) ، ولكنّه لا يفعله لمكان النّهي ، وقيل : الخطاب له والمراد غيره.

قوله تعالى : (عَمَّا جاءَكَ) فيه وجهان :

أحدهما ـ وبه قال أبو البقاء (٢) ـ أنّه حال ، أي : عادلا عمّا جاءك ، وهذا فيه نظر من حيث إنّ «عن» حرف جرّ ناقص لا يقع خبرا عن الجثّة ، فكذا لا يقع حالا عنها ، وحرف الجر النّاقص إنّما يتعلّق بكون مطلق لا بكون مقيّد ، لكن المقيّد لا يجوز حذفه.

الثاني : أن «عن» على بابها من المجاوزة ، لكن بتضمين [«تتّبع»] معنى «تتزحزح وتنحرف» ، أي : لا تنحرف متّبعا كما تقدم.

قوله تعالى : (مِنَ الْحَقِّ) فيه أيضا وجهان :

أحدهما : أنّه حال من الضّمير المرفوع في «جاءك».

والثاني : أنّه حال من نفس «ما» الموصولة ، فيتعلّق بمحذوف ، ويجوز أن تكون للبيان.

قوله [تعالى] : «لكلّ» : «كلّ» مضافة لشيء محذوف ، وذلك المحذوف يحتمل أن يكون لفظة «أمّة» ، أي (٣) : لكل أمة ، ويراد بهم : جميع النّاس من المسلمين واليهود والنّصارى.

ويحتمل أن يكون ذلك المحذوف «الأنبياء» أي : لكلّ الأنبياء المقدّم ذكرهم.

و «جعلنا» يحتمل أن تكون متعدّية لاثنين بمعنى صيّرنا ، فيكون «لكلّ» مفعولا مقدّما ، و «شرعة» مفعول ثان.

وقوله : «منكم» متعلّق بمحذوف ، أي : أعني منكم ، ولا يجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنّه صفة ل «كلّ» لوجهين :

أحدهما : أنّه يلزم منه الفصل بين الصّفة والموصوف بقوله : «جعلنا» ، وهي جملة أجنبيّة ليس فيها تأكيد ولا تسديد ، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصل به.

والثاني : أنه يلزم منه الفصل بين «جعلنا» ، وبين معمولها وهو «شرعة» قاله أبو البقاء (٤) ، وفيه نظر ، فإنّ العامل في «لكلّ» غير أجنبيّ ، ويدلّ [على ذلك] قوله : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ) [الأنعام : ١٤] ، ففصل بين الجلالة وصفتها بالعامل في المفعول الأوّل ، وهذا نظيره.

وقرأ إبراهيم النّخعي ، ويحيى بن وثّاب (٥) : «شرعة» بفتح الشّين ، كأن المكسور للهيئة ، والمفتوح مصدر.

__________________

(١) في ب : عليه.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

(٣) في ب : ويجوز أي.

(٤) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠١ ، والبحر المحيط ٣ / ٥١٤ ، والدر المصون ٢ / ٥٣٩ ، والشواذ (٣٩).

٣٦٩

والشّرعة في الأصل «السّنّة» ، ومنه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ) [الشورى : ١٣] ، أي : سن [لكم وبيّن ووضّح](١).

والشّارع : الطريق ، وهو من الشّريعة التي هي في الأصل : الطّريق الموصّل إلى الماء ، وقال ابن السّكّيت (٢) : الشّرع مصدر شرعت الإهاب ، أي : شققته وسلخته ، وقيل : مأخوذ من الشّروع في الشّيء : وهو الدّخول فيه.

ومنه قول الشاعر : [البسيط]

١٩٧٣ ـ وفي الشّرائع من جلّان مقتنص(٣)

بالي الثّياب خفيّ الصّوت منزرب (٤)(٥)

والشّريعة : فعيلة بمعنى المفعولة : وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلّفين أن يشرعوا فيها ، والمنهاج مشتقّ من الطّريق النّهج وهو الواضح.

ومنه قوله : [الرجز]

١٩٧٤ ـ من يك ذا شكّ فهذا فلج

ماء رواء وطريق نهج (٦)

أي : واضح ، يقال : طريق منهج ونهج. وقال ابن عطية (٧) : منهاج مثال مبالغة ، يعني قولهم : «إنّه لمنحار بوائكها» (٨) وهو حسن ، [وهل الشّرعة](٩) والمنهاج بمعنى كقوله : [الطويل]

١٩٧٥ ـ ................

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (١٠)

وكقوله : [الوافر]

١٩٧٦ ـ ...............

وألفى قولها كذبا ومينا (١١)

أو مختلفان؟

فالشّرعة : ابتداء الطّريق ، والمنهاج الطّريق المستمرّ ، قاله المبرّد ، أو الشّرعة : الطّريق واضحا كان أو غير واضح ، والمنهاج : الطريق الواضح فقط ، فالأوّل أعمّ. قاله ابن الأنباري ، أو الدّين والدّليل؟ خلاف مشهور.

فصل في معنى الآية

قال ابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ـ رضي الله عنهم ـ معنى قوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٢.

(٣) في ب : حلال مقتصر.

(٤) في ب : ميروب.

(٥) البيت لذي الرمة. ينظر : ديوانه ٦٤ ، اللسان (زرب) ، والمحرر الوجيز ٢ / ٢٠١.

(٦) ينظر : مجاز القرآن ١ / ١٦٨ ، واللسان (روى) ، والمقتضب ٣ / ٢٥٩.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠١.

(٨) في ب : لمسخنا وموانكها.

(٩) في أ : وهو الشريعة.

(١٠) تقدم.

(١١) تقدم.

٣٧٠

مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) أي : سبيلا وسنّة (١) ، وأراد بهذا أن الشّرائع مختلفة ولكلّ أمّة شريعة.

قال قتادة : الخطاب للأمم الثّلاث : أمّة موسى ، وأمّة عيسى ، وأمّة محمد ـ صلوات الله وسلامه عليهم (٢) ـ لتقدّم ذكرهم.

فإن قيل : قد وردت آيات تدلّ على عدم التّباين في طريقة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣] إلى قوله تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] وقال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] ، وآيات دلّت على التّباين في هذه الآية فكيف الجمع؟

فالجواب : أنّ الأوّل ينصرف إلى أصول الدّيانات.

والثاني ينصرف إلى الفروع.

واحتجّ أكثر العلماء (٣) بهذه الآية على أنّ شرع من قبلنا لا يلزمنا ؛ لأنّها تدلّ على أنّ لكلّ رسول شريعة خاصّة.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ، أي : جماعة متّفقة على شريعة واحدة ، أو ذوي أمة واحدة ، أو دين واحد لا اختلاف فيه.

قال أهل السّنّة (٤) : وهذا يدلّ على أن الكلّ بمشيئة الله ـ تعالى ـ ، والمعتزلة : حملوه على مشيئة الإلجاء.

قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ) متعلّق بمحذوف ، فقدّره أبو البقاء (٥) : «ولكن فرّقكم ليبلوكم».

وقدّره غيره «ولكن لم يشأ جعلكم أمّة واحدة».

قال شهاب الدين (٦) : وهذا أحسن ؛ لدلالة اللّفظ والمعنى عليه.

ومعنى «ليبلولكم» : ليختبركم ، «فيما آتاكم» : من الكتب وبيّن لكم من الشّرائع ، فبيّن المطيع من العاصي ، والموافق من المخالف ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فبادروا إلى الأعمال الصّالحة قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) استئناف في معنى التّعليل لاستباق الخيرات.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١١ ـ ٦١٢) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٣) عن ابن عباس وزاد نسبته لعبد بن حميد وسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

(٢) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (١٢ / ١٢).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٢.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٧.

(٦) ينظر : الدر المصون ٢ / ٥٣٩.

٣٧١

وهذه الجملة تحتمل أن تكون من باب الجملة الفعليّة أو الجملة الاسميّة ، كما تقدّم في نظائره.

و «جميعا» حال من «كم» في «مرجعكم» ، والعامل في هذه الحال ، إمّا المصدر المضاف إلى «كم» ، فإنّ «كم» يحتمل أن تكون فاعلا ، والمصدر ينحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل مبنيّ للفاعل ، والأصل : «ترجعون جميعا» ، ويحتمل أن تكون مفعولا لم يسمّ فاعله ، على أنّ المصدر ينحلّ لفعل مبني للمفعول ، أي : «يرجعكم الله» ، وقد صرّح بالمعنيين في مواضع.

وإما أن يعمل فيها الاستقرار المقدّر في الجارّ وهو «إليه» [و (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) يحتمل أن يكون من باب الجمل الفعليّة ، أو الجمل الاسميّة ، وهذا واضح بما تقدّم في نظائره](١) و «فينبّئكم» هنا من «نبّأ» غير متضمّنة معنى «أعلم» ، فلذلك تعدّت لواحد بنفسها ، وللآخر بحرف الجرّ.

والمعنى : فيخبركم بما لا تشكّون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم ، والمراد : أنّ الأمر سيؤول إلى ما يزيل الشّكوك.

قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٥٠)

قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ) : فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنّ محلّها النّصب عطفا على «الكتاب» ، أي : «وأنزلنا إليكم الحكم».

والثاني : أنّها في محلّ جرّ عطفا على «بالحقّ» ، أي : «أنزلناه بالحق وبالحكم» وعلى هذا الوجه فيجوز في محلّ «أن» النّصب والجرّ على الخلاف المشهور.

والثالث : أنّها في محلّ رفع على الابتداء ، وفي تقدير خبره احتمالان :

أحدهما : أن تقدّره متأخّرا ، أي : حكمك بما أنزل الله أمرنا أو قولنا.

والآخر : أن تقدّره متقدّما أي : ومن الواجب أن احكم أي : حكمك.

والرابع : أنّها تفسيريّة.

قال أبو البقاء (٢) : «وهو بعيد ؛ لأنّ «الواو» تمنع من ذلك ، والمعنى يفسد ذلك ؛ لأنّ «أن» التّفسيريّة ينبغي أن يسبقها قول يفسّر بها» ، أما ما ذكره من منع «الواو» أن تكون «أن» تفسيريّة فواضح.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : الإملاء ١ / ٢١٨.

٣٧٢

وأمّا قوله : «يسبقها قول» إصلاحه أن يقول : «ما هو بمعنى القول لا حروفه» ، ثم قال : ويمكن تصحيح هذا القول بأن يكون التّقدير : وأمرناك ، ثم فسّر هذا الأمر ب «احكم» ، ومنع الشّيخ من تصحيح هذا القول بما ذكره أبو البقاء ، قال : لأنّه لم يحفظ من لسانهم حذف الجملة المفسّرة ب «أن» وما بعدها ، وهو كما قال. وقراءتا ضمّ نون «أن» وكسرها واضحتان ممّا تقدّم في البقرة : الضمّة للإتباع ، والكسر على أصل التقاء السّاكنين.

والضّمير في «بينهم» : إمّا لليهود خاصّة ، وإمّا لجميع المتحاكمين.

فإن قيل : قالوا : هذه الآية ناسخة للتّخيير في قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة : ٤٢] ، وأعاد ذكر الأمر بالحكم بعد ذكره أوّلا : إما للتّأكيد ، وإمّا لأنّهما حكمان أمر بهما جميعا ؛ لأنّهم احتكموا إليه في زنا المحصن ، ثمّ احتكموا إليه في قتل كائن فيهم.

قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : يردّوك إلى أهوائهم (١).

وقد ذكرنا أنّ اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله عن ذلك ، فإن كلّ من صرف من الحقّ إلى الباطل فقد فتن ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) والفتنة هاهنا : الميل عن الحقّ والإلقاء في الباطل ، وكان ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ يقول : «أعوذ بك من فتنة المحيا» (٢) ، قال : هو أن يعدل عن الطّريق.

قال العلماء (٣) ـ رضي الله عنهم ـ : هذه الآية تدلّ على أنّ الخطأ والنّسيان جائز على الرّسل ؛ لأن الله قال : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) ، والتّعمّد في مثل هذا غير جائز على الرّسل فلم يبق إلا الخطأ والنسيان (٤).

قوله تعالى : (أَنْ يَفْتِنُوكَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنّه مفعول من أجله ، أي : احذرهم مخافة أن يفتنوك.

والثاني : أنّها بدل من المفعول على جهة الاشتمال ، كأنّه [قال] : واحذرهم فتنتهم ، كقولك : «أعجبني زيد علمه».

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا).

قال ابن عطيّة (٥) : قبله محذوف يدلّ عليه الظّاهر ، تقديره : «لا تتّبع واحذر ، فإن حكّموك مع ذلك ، واستقاموا لك فنعمّا ذلك وإن تولّوا فاعلم».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٣.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٣.

(٤) في أ : والرسل.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢.

٣٧٣

ويحسن أن يقدّر هذا المحذوف المعادل بعد قوله : «لفاسقون» ، والذي ينبغي ألّا يقال : في هذا النّوع ثمّ حذف ؛ لأنّ ذلك من باب فحوى الخطاب ، والأمر فيه واضح.

فصل

المعنى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوا حكمك ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ) أي : فاعلم أن إعراضهم من أجل أن يريد الله أن يعجّل لهم العقوبة في الدّنيا ، بأن يسلّط عليهم ويعذّبهم في الدّنيا [بالقتل والجلاء](١) ، وخصّ تعالى بعض الذّنوب ؛ لأنّ القتل جوزوا به في الدّنيا ببعض ذنوبهم ، وكانت مجازاتهم بالبعض كافيا في إهلاكهم ، (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) ، يعني : اليهود. «لفاسقون» لمتمرّدون في الكفر ومعتدون فيه.

قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ) : الجمهور على ضمّ الحاء ، وسكون الكاف ونصب الميم ، وهي قراءة واضحة.

و «حكم» مفعول مقدّم ، و «يبغون» فعل وفاعل ، وهو المستفهم عنه في المعنى.

و «الفاء» فيها القولان المشهوران : هل هي مؤخّرة عن الهمزة وأصلها التّقديم ، أو قبلها جملة عطفت ما بعدها عليها تقديره : أيعدلون عن حكمك فيبغون حكم الجاهليّة؟

وقرأ (٢) ابن وثّاب ، والأعرج ، وأبو رجاء ، وأبو عبد الرّحمن برفع الميم ، وفيها وجهان :

أظهرهما ـ وهو المشهور عند المعربين ـ : أنه مبتدأ ، و «يبغون» خبره ، وعائد المبتدأ محذوف تقديره : «يبغونه» حملا للخبر على الصّلة ، إلا أنّ بعضهم جعل هذه القراءة خطأ ، حتى قال أبو بكر بن مجاهد : «هذه القراءة خطأ» ، وغيره يجعلها ضعيفة ، ولا تبلغ درجة الخطأ.

قال ابن جنّي (٣) في قول ابن مجاهد : ليس كذلك ، ولكنّه وجه غيره أقوى منه ، وقد جاء في الشّعر ، قال أبو النّجم : [الرجز]

١٩٧٧ ـ قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع (٤)

__________________

(١) في أ : بالعلل والجلد.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢ ، والبحر المحيط ٣ / ١٦ ، والدر المصون ٢ / ٥٤١ والشواذ ٣٩.

(٣) ينظر المحتسب ١ / ٢١١.

(٤) ينظر البيت في ديوانه ١٣٢ ، سيبويه ١ / ٨٥ ، ١٢٧ ، ١٣٧ ، معاني القرآن ١ / ١٤٠ ، ٢٤٢ ، مجاز القرآن ٢ / ٨٤ ، الخصائص ١ / ٢٩٢ ، ٣ / ٦١ ، المحتسب ١ / ٢١١ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ٦٦ ، ضرائر الشعر ١٧٦ ، شرح الجمل لابن عصفور ١ / ٣٥٠ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٨ ، ٩٣ ، ٣٢٦ ، مغني اللبيب ٢٦٥ ، ٦٤٧ ، ٧٩٦ ، ٨٢٩ ، شرح شواهده ٢ / ٥٤٤ ، همع الهوامع ١ / ٩٧ ، ٢ / ١٦ ، الكافية ١ / ٩٢ ، ـ

٣٧٤

أي : لم أصنعه (١).

قال ابن عطيّة (٢) : وهكذا الرّواية ، وبها يتمّ المعنى الصّحيح ؛ لأنّه أراد التبرّؤ من جميع الذّنوب ، ولو نصب «كل» لكان ظاهر قوله أنّه صنع بعضه ، وهذا الذي ذكره ابن عطيّة معنى صحيح نصّ عليه أهل علم المعاني والبيان ، واستشهدوا على ذلك بقوله ـ عليه‌السلام ـ حين سأله ذو اليدين ، فقال : «أقصرت الصّلاة أم نسيت؟ فقال : «كلّ ذلك لم يكن» (٣) أراد ـ عليه‌السلام ـ انتفاء كلّ فرد فرد ، وأفاد هذا المعنى تقديم «كلّ» ، قالوا : ولو قال : «لم يكن كلّ ذلك» لاحتمل الكلام أنّ البعض غير منفي ، وهذه المسألة تسمّى عموم السّلب ، وعكسها نحو : «لم أصنع كلّ ذلك» يسمّى سلب العموم ، وهذه مسألة مفيدة ، وإن كان بعض النّاس قد فهم عن سيبويه غير ما [ذكرت لك](٤).

ثمّ قال ابن عطيّة (٥) : وهو قبيح ـ يعني : حذف العائد من الخبر ـ وإنّما يحذف الضّمير كثيرا من الصّلة ، ويحذف أقلّ من ذلك من الصّفة ، وحذفه من الخبر قبيح.

ولكنّه رجّح البيت على هذه القراءة بوجهين :

أحدهما : أنّه ليس في صدر قوله [ألف] استفهام تطلب الفعل ، كما هي في «أفحكم».

__________________

ـ ابن يعيش ٢ / ٣٠ ، ٦ / ٩٠ ، البسيط في شرح جمل الزجاجي ١ / ٥٦٥ الإفصاح للفارقي ٢٠٥ ، الخزانة ١ / ٣٥٩ ، المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢ ، الدر المصون ٢ / ٥٤١.

(١) يحذف الضمير العائد من جملة الخبر إلى المبتدأ بشرطين :

١ ـ أن يكون في الكلام ما يدل عليه أو قرينة حال ، فإن لم يكن معنا ما يدل عليه ، فلا يجوز حذفه ، وهذا بلا شك بين ؛ لأن العرب لا تحذف الشيء حتى يكون معها ما يدل عليه.

٢ ـ ألا يكون في الكلام ما يصحّ أن يعمل في المبتدأ ، نحو : زيد ضربت ، فإن (ضربت) يصح أن يعمل في زيد ؛ لأنه لم يشتغل عنه بضميره ، ولا بغير ضميره في اللفظ ، وقد جاء في الشعر وفي قليل من الكلام ، واستدل بالشاهد السابق ، على أن حذف الضمير من الفعل ، والأصل : «كله لم أصنعه» وقالوا : شهر ثرى ، وشهر ترى ، وشهر مرعى. المعنى : ترى فيه.

قال الفراء ويحذف أيضا قياسا إذا كان الضمير منصوبا مفعولا به ، والمبتدأ «كل» كما في البيت السابق.

فإن «كل» إذا وقعت في حيز النفي ، كان النفي موجها إلى الشمول خاصة ، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد ، نحو : ما جاء كل القوم. وإن وقع النفي في حيزها ، اقتضى السلب عن كل فرد ؛ كقوله ـ عليه‌السلام ـ لما قال له ذو اليدين : أنسيت أم قصرت الصلاة؟ : «كل ذلك لم يكن».

واستشهد بالبيت السابق :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

ويعني بالذنب : الشيب والصلع والشيخوخة وهي أشياء لم يصنعها هو. ينظر : المراجع السابقة.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢.

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ٩٤ كتاب المساجد : باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا وأخرجه البخاري ٣ / ١٦٦ ، كتاب السهو : باب إذا سلم في ركعتين (١٢٢٧) ، ومسلم ١ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤ ، كتاب المساجد : باب السهو في الصلاة والسجود له (٩٩ / ٥٧٣).

(٤) في أ : ذكرنا لك.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٢.

٣٧٥

والثاني : أن في البيت عوضا من «الهاء» المحذوفة ، وهو حرف الإطلاق أعني «الياء» في «اصنعي» ، فتضعف قراءة من قرأ (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، وهذا الّذي ذكره ابن عطيّة في الوجه الثّاني كلام لا يعبأ به.

وأمّا الأوّل فقريب من الصّواب ، لكنه لم ينهض في المنع ولا في التّقبيح ، وإنّما ينهض دليلا على الأحسنيّة ، أو على أنّ غيره [أولى](١).

وهذه المسألة ذكر بعضهم الخلاف فيها بالنّسبة إلى نوع ، ونفي الخلاف عنها ، بل حكي الإجماع على الجواز بالنّسبة إلى نوع آخر ، فحكي الإجماع فيما إذا كان المبتدأ لفظ «كل» ، أو ما أشبهها في العموم والافتقار ، فأمّا «كل» فنحو : «كلّ رجل ضربت» ، ويقوّيه قراءة (٢) ابن عامر : «وكل وعد الله الحسنى» [النساء : ٩٥] ويريد بما أشبه «كلّا» نحو : «رجل يقول الحقّ انصر» ، أي : انصره ، فإنه عامّ يفتقر إلى صفة ، كما أنّ «كلا» عامة ، وتفتقر إلى مضاف إليه.

قال : «وإذا لم يكن المبتدأ كذلك ، فالكوفيّون يمنعون حذف العائد ، بل ينصبون المتقدّم مفعولا به ، والبصريّون يجيزون : «زيد ضربت» أي : ضربته» ، وذكر القراءة.

وتعالى بعضهم فقال : «لا يجوز ذلك» ، وأطلق ، إلا في ضرورة شعر كقوله : [السّريع]

١٩٧٨ ـ وخالد يحمد ساداتنا

بالحقّ ، لا يحمد بالباطل (٣)

قال : «لأنّه يؤدّي إلى تهيئة العامل للعمل ، وقطعه عنه».

والوجه الثاني من التوجيهين المتقدّمين : أن يكون «يبغون» ليس خبرا للمبتدأ ، بل هو صفة لموصوف محذوف ، وذلك المحذوف هو الخبر ، والتّقدير : «أفحكم الجاهلية حكم يبغون» ، وحذف العائد هنا أكثر ، لأنه كما تقدّم يكثر حذفه من الصّلة ، ودونه من الصّفة ، ودونه من الخبر ، وهذا ما اختاره ابن عطيّة ، وهو تخريج ممكن ، ونظّره بقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ) ، أي : «قوم يحرّفون» يعني : في حذف موصوف ، وإقامة صفته مقامه وإلا فالمحذوف في الآية المنظّر بها مبتدأ ، ونظّرها أيضا بقوله : [الطويل]

١٩٧٩ ـ وما الدّهر إلّا تارتان : فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (٤)

أي : تارة أموت فيها.

وقال الزّمخشري (٥) : وإسقاط الرّاجع عنه كإسقاطه في الصّلة ، كقوله : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] ، وعن الصّفة «في النّاس رجلان : [رجل] أهنت ، ورجل أكرمت» أي : رجل أهنته ورجل أكرمته.

__________________

(١) في أ : أهل.

(٢) ينظر : السبعة ٦٢٥ ، والدر المصون ٢ / ٥٤١.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الكشاف ١ / ٦٤١.

٣٧٦

وعن الحال في نحو : «مررت بهند يضرب زيد».

قال أبو حيّان (١) : «إن عنى التّشبيه في الحذف والحسن ، فليس كذلك لما تقدّم [ذكره] ، وإن عنى في مطلق الحذف فمسلّم».

وقرأ الأعمش (٢) وقتادة : «أفحكم» بفتح الحاء والكاف ، ونصب الميم ، وهو مفرد يراد به الجنس ؛ لأنّ المعنى : أحكّام الجاهليّة ، ولا بدّ من حذف مضاف في هذه القراءة ، هو المصرّح به في المتواترة تقديره : أفحكم حكّام الجاهليّة.

والقرّاء غير ابن عامر على «يبغون» بياء الغيبة نسقا على ما تقدّم من الأسماء الغائبة ، وقرأ (٣) هو بتاء الخطاب على الالتفات ؛ ليكون أبلغ في زجرهم وردعهم ومباكتته لهم ، حيث واجههم بهذا الاستفهام الذي يأنف منه ذوو البصائر.

والمعنى أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنّما يحكم به حكّام الجاهليّة.

فصل

وفي الآية وجهان :

الأول : قال مقاتل (٤) : كان بين قريظة والنّضير دم في الجاهليّة ، فلما بعث النّبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ واحتكموا إليه ، فقال بنو قريظة [يا رسول الله إن](٥) بني النّضير إخواننا ، أبونا واحد وكتابنا واحد ونبيّنا واحد ، فإن قتل بنو النّضير منّا قتيلا ، أعطونا سبعين وسقا من تمر ، وإنّا إن قتلنا واحدا أخذوا منّا مائة وأربعين وسقا ، وأروش جراحاتنا على النّصف من أروش جراحاتهم ، فاقض بيننا وبينهم ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «وإنّي أحكم [أنّ دماء القرظي](٦) وفاء من دم النّضري ، والنّضري وفاء من دم القرظي ، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة». فغضب بنو النّضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنّك عدوّ (٧) لنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل : إنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه ، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم الله من ذلك بهذه الآية.

والثاني : أنّهم يبغون حكم الجاهليّة ، الّتي هي محض الجهل وصريح الهوى.

__________________

(١) ينظر : البحر ٣ / ٥١٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٢٠٣ ، والبحر المحيط ٣ / ٥١٦ ، والدر المصون ٢ / ٥٤٢ والتخريجات النحوية ٢٨٣.

(٣) ينظر : السبعة ٢٤٤ ، والحجة ٢ / ٢٢٨ ، وحجة القراءات ٢٢٨ ، والعنوان ٨٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ٢٣٠ ، وشرح شعلة ٣٥١ ، وإتحاف ١ / ٥٣٧.

(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٢ / ١٤.

(٥) سقط في أ.

(٦) في أ : القرظي.

(٧) تقدم.

٣٧٧

ثم قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، فقوله ـ سبحانه وتعالى ـ «حكما» نصب على التّمييز ، و «اللّام» في قوله تعالى : (لِقَوْمٍ) فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلّق بنفس «حكما» ؛ إذ المعنى : أنّ حكم الله للمؤمن على الكافر.

والثاني : أنّها للبيان فتتعلّق بمحذوف ، كهي في «سقيا لك» و «هيت لك» ، وهو رأي الزّمخشري ، وابن عطيّة قال شيئا قريبا منه ، وهو أنّ المعنى : «يبيّن ذلك ويظهره لقوم».

الثالث : أنّها بمعنى «عند» ، أي : عند [قوم] ، وهذا ليس بشيء. ومتعلّق «يوقنون» يجوز أن يراد ، وتقديره : يوقنون بالله وبحكمه ، أو بالقرآن ، ويجوز ألّا يراد على معنى [وقوع الإيقان](١) ، وإليه ميل الزّجّاج ، فإنّه قال : «يوقنون» : «يتبيّنون عدل الله في حكمه» فإنّهم [هم الذين](٢) يعرفون أنّه لا أحد أعدل من الله حكما ، ولا أحسن منه بيانا.

فصل

قال القرطبيّ (٣) : روى سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن طاووس قال : كان إذا سألوه عن الرّجل يفضّل بعض ولده على بعض يقرأ هذه الآية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) ، فكان طاووس يقول : ليس لأحد أن يفضّل بعض ولده على بعض ، فإن فعل لا ينفذ ويفسخ ، وبه قال أهل الظّاهر ، وهو مرويّ عن أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ ، وكرهه الثّوري ، وابن المبارك وإسحاق فإن فعل ذلك أحد نفّذ ولم يردّ ، وأجاز ذلك مالك والثّوري واللّيث والشّافعي وأصحاب الرّأي ، واستدلّوا بفعل الصّدّيق ـ رضي الله عنه ـ في نخلة عائشة دون سائر ولده ، واستدلّ الأوّلون بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لبشير : [«ألك ولد سوى هذا»؟ قال : نعم ، فقال «أكلّهم وهبت له مثل هذا» ، فقال : لا ، قال](٤) «فلا تشهدني إذن فإنّي لا أشهد على جور» ، وفي رواية «إنّي لا أشهد إلّا على حقّ».

قالوا : وما كان جورا وغير حقّ فهو باطل لا يجوز ، وقوله : «أشهد على هذا غيري» ليس إذنا في الشّهادة ، وإنّما هو زجر عنها ؛ لأنّه ـ عليه‌السلام ـ قد سمّاها [جورا](٥) وامتنع من الشّهادة فيه ، فلا يمكن أن يشهد أحد من المسلمين ، وأمّا فعل أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فلا يعارض به قول النّبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ ولعلّه كان [قد](٦) نحل أولاده كلّهم مثل ذلك.

__________________

(١) في ب : قوة الإيمان.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي ٦ / ١٣٩.

(٤) في أ : بعثت هذا بولدك قالا : لا مال.

(٥) في أ : زجر.

(٦) سقط في أ.

٣٧٨

فإن قيل : الأصل تصرّف الإنسان في ماله مطلقا ، قيل له : الأصل الكلّي والواقعة المعيّنة المخالفة لذلك الأصل لا تعارض بينهما كالعموم والخصوص.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١)

اختلفوا في نزول هذه الآية ، وإن كان حكمها عامّا لجميع المؤمنين ، فقال قوم : نزلت في عبادة بن الصّامت ـ رضي الله عنه ـ ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ـ لعنه الله ـ ، وذلك أنّهما اختصما ، فقال عبادة : إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم ، وإنّي أبرأ إلى الله ـ تعالى ـ وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ، ولا مولى لي إلا الله ـ عزوجل ـ ورسوله. فقال عبد الله ـ لعنه الله ـ : لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود لأنّي أخاف الدّوائر ولا بدّ لي منهم فقال النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ : يا أبا الحباب ما نفذت من ولاية اليهود على عبادة بن الصّامت فهو لك دونه قال : إذن أقبل. فأنزل الله ـ تعالى ـ (١) هذه الآية.

وقال السّدّيّ : لمّا كانت وقعة [أحد](٢) اشتدّت على طائفة من النّاس ، وتخوّفوا أن يدال عليهم الكفّار ، فقال [رجل](٣) من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهوديّ ، وآخذ منه أمانا إنّي أخاف أن يدال علينا اليهود.

وقال رجل آخر : أما أنا فألحق بفلان النّصرانيّ من أهل الشّام ، وآخذ منه أمانا ، فأنزل الله هذه الآية نهيا لهما (٤).

وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بعثه النّبيّ ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ إلى بني قريظة حين حاصرهم ، فاستشاروه في النّزول ، وقالوا : ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه أنّه الذّبح ، أي : يقتلكم ، فنزلت هذه الآية (٥) ؛ ومعنى لا تتّخذوهم أي : لا تعتمدوا على استنصارهم ، ولا تتودّدوا إليهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٥) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٣ / ١٧٥) عن عبادة بن الوليد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٥) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

والخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام (٢ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩).

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن السدي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٦) عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٥١٥) وزاد نسبته لابن المنذر.

٣٧٩

قوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة لا محلّ لها ؛ لأنها مستأنفة ، سيقت تعليلا للنّهي المتقدّم.

وزعم الحوفيّ أنها في محلّ نصب نعتا ل «أولياء» ، والأوّل هو الظّاهر ، والضّمير في «بعضهم» يعود على اليهود والنّصارى على سبيل الإجمال ، والقرينة تبين أن بعض اليهود أولياء بعض ، وأن بعض النصارى أولياء بعض [وبهذا التقرير لا يحتاج كما زعم بعضهم إلى تقدير محذوف يصح به المعنى ، وهو : بعض اليهود أولياء بعض ، وبعض النصارى أولياء بعض](١).

قال : لأن اليهود لا يتولّون النصارى ، والنصارى لا يتولّون اليهود ، وقد تقدم جوابه.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) فيوافقهم ويعينهم ، (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ : يعني كانوا مثلهم (٢) فهذا تغليظ من الله وتشديد في [وجوب](٣) مجانبة المخالف في الدّين ، ونظيره قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) [البقرة : ٢٤٩] ، وهذه الآية تدلّ على منع إثبات الميراث للمسلم من المرتدّ.

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) روي عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال : قلت لعمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ إن [لي كاتبا](٤) نصرانيا. قال : ما لك قاتلك الله؟ ألا اتّخذت حنيفا ، أما سمعت قول الله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

قلت : له دينه ولي كتابته قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزّهم إذ أذلّهم ، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله.

قلت : لا يتمّ النّصرة إلّا به ، فقال : مات النّصرانيّ والسّلام ، يعني : هب أنّه مات فما تصنع بعده ، فما تعمله بعد موته فاعمله الآن ، واستعن عنه بغيره (٥).

قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)(٥٣)

قوله تعالى : (فَتَرَى الَّذِينَ) : الجمهور على «ترى» بتاء الخطاب ، و «الذين» مفعول ،

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٦١٨) عن ابن عباس.

(٣) سقط في أ.

(٤) في أ : في كتابنا.

(٥) تقدم في تفسير سورة البقرة وهو في ابن أبي حاتم والشعب.

٣٨٠